الدرس الأول

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2071 11
الدرس الأول

العقيدة الطحاوية (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرحب بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزاء الكرام، وباسمي واسمكم جميعًا أرحب بضيف هذه الحلقة، فضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
الله يحييكم.
{استكمالًا لما بدأتموه في الفصل الماضي نستكمل شرح متن العقيدة الطَّحاوية، هذا المتن المبارك، لعل الله أن ينفع به، لعل الله ييسر أن نختم هذا المتن في هذا الفصل إن شاء الله}.
إن شاء الله تعالى، نسأل الله أن يرزقنا جميعًا الإخلاص والتوفيق، ويتقبل منا ومنكم ومن جميع المسلمين.
 
{في هذا الفصل -بإذن الله- نبتدئ من قول المؤلف -رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ، وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْعَرْضِ، وَالْحِسَابِ، وَقِرَاءَةِ الْكِتَابِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله رَبِّ العَالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أمَّا بعد،، فالحمد لله على تيسير هذه الدروس، ونسأل الله-سبحانه وتعالى- أن يجعلها خالصةً لوجهه الكريم، ونافعةً لعباده، ونسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يَجزي خيرًا كل مَن ساهم وشارك لتصل هذه الدروس إلى إخواننا المسلمين وإلى طلبة العلم، إنه -سبحانه وتعالى- جواد مجيب كريم.
قبل أن نبدأ في قراءة المتن المقرر في هذا الدرس؛ أُحِبُّ أن أُذكر إخواني بالفقرة السَّابقة حتى نربطها بالفقرة اللاحقة.
في آخر ما قرأنا من الدروس المتقدمة من متن العقيدة الطحاوية، قال الطحاوي: (وَنُؤْمِنُ بِمَلَكِ الْمَوْتِ الْمُوَكَّلِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِ الْعَالَمِينَ.
وَبِعَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ لِمَنْ كَانَ لَهُ أَهْلًا. وَسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ لِلْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ عَنْ: رَبِّهِ، وَدِينِهِ، وَنَبِيِّهِ، عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وَعَنِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَالْقَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النِّيرَانِ)
.
هذه الجملة تقدم شرحها -ولله الحمد- ولكن بعد هذه الجملة مباشرةً بدأ الطحاوي فقال: (وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ، وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْعَرْضِ، وَالْحِسَابِ، وَقِرَاءَةِ الْكِتَابِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ).
هذه المسائل كلها من أمور القيامة واليوم الآخر، والله -عزَّ وجلَّ- وصف أهل الإيمان بأنهم يؤمنون بالله وباليوم الآخر، ووصف أهل النفاق والكفر بأنهم لا يؤمنونبالله ولا باليوم الآخر، وذلك في مواضعِ كثيرةٍ من القرآن، قال تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(6)خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [البقرة:6-7]، ثم قال عن المنافقين:﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة:8-9]، بينما أول الآيات في سورة البقرة ذَكَرَ اللهُ -عزَّ وجلَّ- صفة أهل الإيمان فقال:﴿الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة:1-2]، بدأ بالإيمان بالغيب، ويدخل فيه: الإيمان بالله، والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بكل ما أخبر به الرسول-صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى:﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة:2-5].
فهذه الأمور يؤمن بها أهل الإيمان وأهل الإسلام، ويكذِّب بها أهل الكفر والشِّرك والنِّفاق قديمًا وحديثًا.
هذه الأمور العظيمة؛ أمور البعث بعد الموت، وأمور الجزاء والحساب إلى آخر ما ذكر الله -عزَّ وجلَّ- وذكر رسوله -صلى الله عليه وسلم- دَلَّ عليها الكتابُ والسُّنة، وَدَلَّ عليها العقلُ الصحيح، ودَلَّتْ عليها الفطرةُ، وأجمعت عليها الرُّسل والأنبياء، فكلُّ الرسل والأنبياء جاؤوا بها، وأخبروا بهذه الأصول العظيمة؛ لأنَّ الرسل اتفقوا على أصول الإيمان وأصول الدين، فكل الرسل متفقون على البعث بعد الموت، ومعادِ الأجسام والأرواح، وأنَّ النَّاس يُحشرون ويُحاسبون، ثم مآلهم إلى جنة أو إلى نار.
هذا الأمر العظيم جاء تكراره وذكره في كتاب الله، وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- في مواضع كثيرة جدًا جدًا، ولهذا لا يوجد مثل ما جاء في القرآن والسنة من تفاصيل ذكر البَعثِ بعد الموت، حتى في كتب الأنبياء السَّابقين جاء ذكرها ولكن ليس بمثل ما جاء به الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- ولهذا في الواسطية يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وفي العلم المأثور عن الأنبياء، وفيما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم- ما يكفي ويشفي"، أو نحو هذه العبارة.
المقصود أنَّ هذا الأمر العظيم -الإيمان بالمعادِ- أنكره المشركون، وأنكره الكافرون والمنافقون.
ويجدر التنبيه إلى مسألةٍ مُهمةٍ في الإيمان بالله واليوم الآخر: الإيمانُ بالله فطري فُطرَت عليه الخلائق، حتى فرعون وحتى الجاحدين في قرارة أنفسهم يُقرون بالخالق، لكنَّ الإيمان باليوم الآخر منكروه أكثر، وسبق أن قلنا: إنَّ الفِطْرةَ دَلَّت على الإيمان باليوم الآخر أيضًا، لكن فَطرُ الخلائق على الاعتراف بخالقها أظهر وأعظم، ولهذا كثُرَ -كما قال أهل العلم- المنكرون من الكفار ومن المشركين ومن المنافقين؛ كثر المنكرون باليوم الآخر.
وبعض الفلاسفة قديمًا وحديثًا، وعنهم نشأ الملاحدة الذين ينشرون الآن ضلالاتهم؛ يظنون أن لا بَعثَ بعد الموتِ، فينكرون البعث، وهذا أصلهم قائم على إنكار الخالق، فمن أنكر الخالق أنكر البعث بعد الموت، وهذا أصل الملاحدة كلهم. فكثيرٌ مِنَالفلاسفة وافقهم في هذا الإلحاد.
ومنهم مَن يُقرُّ بالخالقِ، ولكن يُنكر البعث بعد الموت، ولهذا فلا تستغرب من كفرة الأوروبيين وكفرة الأمريكان وكفرة الصين الذين يَسيرون على نهجِ الفلاسفة، وليسوا على هُدى من ربهم، أعرضوا عن الهُدَى الذي جاءت به الرسل -عليهم الصلاة والسلام.
ولهذا جاء القرآن العظيم ببيان هذه المسألة وإيضاحها في مواضع كثيرةٍ مِن كتابِ الله -عزَّ وَجَلَّ
وهنا نقول لإخواننا خصوصًا مَن وفقه الله لطلب العلم: عليك أن تعتني بهذه المواضع في كتاب الله، وأن تتدبرها جيدًا، وأن تُمِرَّهَا على قلبك، وتُمِرَّهَا على إخوانك وتذكرهم بها، وَتَرُدُّ بها على أعداءِ الله الملاحدة.
ونأخذ من ذلك أمثلة، وأنا أُحيلكم بحكم أنكم طلبة في هذه الأكاديمية المباركة، الإخوة الذين يشاركون معنا الآن ويستمعون أحيلكم إلى شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز، حيث ذكر جملة في هذا الأمر، إذا رجعت إليها وجدتها مفيدة جدًّا، وهناك كتاب آخر مشهور وهو البداية والنهاية لابن كثير جمع جملة عظيمة فيما يتعلق باليوم الآخر في النهاية، كذلك أهل العلم كتبوا في هذا مؤلفاتٍ كثيرةٍ، منهم القرطبي في كتابه: "التذكرة في أحوال الآخرة"، وغيره كثير، ومن المعاصرين من جَمَعَ جمعًا طيبًا في هذه المسألة، منهم الدكتور/ عمر بن سليمان الأشقر -رحمه الله- والذي له مؤلفات طيبة نافعة في الإيمان باليوم الآخر، وفي الجنة والنار، نسأل الله أن يجزيه خيرًا على هذه المؤلفات.
 
{سؤال يا الشيخ:
(ألا يدخل في إنكار البعث من يرى من الفلاسفة أنَّ العذاب والنَّعيم في القبر هو نفسي؟)}
لا شك أنَّ هذا إنكار وجحود، وليس فقط الفلاسفة، بل حتى بعض العقلانيين الذين يَدَّعون الإسلام وينتسبون إلى الإسلام يَقعون في هذه المزالق الخطيرة -نسأل الله العافية- وينتهون إلى التَّكذيبِ، وإن كانوا لا يُصَرِّحون بالتكذيب بما أخبر الله به وبما أخبر به رسول -صلى الله عليه وسلم- فالله -جلَّ وعَلا- قال عن قوم فرعون: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر:46]، فالذي أخبر أنَّ النَّار تُعرض عليهم هو رَبُّ العَالمين، فكيف تقولون إن هذا شيء نفسي؟!
وقال الله عن آل فرعون: ﴿مِّمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارً﴾ [نوح:25]، والفاء تدل على التعقيب، فبعد الغرق دخلوا النار مباشرة، فكيف نقول: إن هذا شيء نفسي!
هذا شيء حقيقي ولكنَّ الله أخفاه عن العباد، فلا نُنكره، فالذي أخفاه الله عنَّا أكثر مما نعلمه بآلاف المرات، فنحن عِلْمُنَا قليل، قال تعالى:﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً﴾ [الإسراء:85].
 
وَمِن أعظم الجهل أن تُنكر الحقائق التي أخبر الله بها، وأخبر بها رسوله -صلى الله عليه وسلم.
ومما يدل على أنَّ كل الأنبياء جاؤوا بهذا، قال الله -عزَّ وجلَّ- لما أهبط آدم:﴿وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ﴾ [البقرة:36]، فهذا هوالبعث بعد الموت.
أمَّا نوحٌ فقال:﴿وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتً(17)ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجً﴾ [نوح:17].
وأمَّا إبراهيم فقال:﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴾ [الشعراء:82].
وكذلك موسى -عليه الصلاة والسلام- قال الله -جلَّ وعَلا- عنه لما نجا:﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَىٰ (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَىٰ﴾ [طه:15].
ومؤمنُ آل فرعون الذي هو قريب من أقارب فرعون، أنبت الله-عزَّ وجلَّ-في قلبه الإيمان، انظر إلى المحيط الكافر الملحد قد يُولَدُ فيه مُؤمن إذا فتح الله على قلبه، فمؤمنُ آل فِرعون قال لقومه: ﴿قوَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُم مِّنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ۗ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [غافر:32]، إلى آخر الآيات في سورة غافر.
والله -عزَّ وجلَّ-أقام الحجج الحسية والبراهين الشرعية والعقلية على إحياء الموتى.
فأما الحسية: فذكر في سورة البقرة في خمسة مواضع:
﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة:73].
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة:56].
﴿فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ﴾ [البقرة:243].
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [البقرة:260].
﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِي هَٰذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا ۖ فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ ۖ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ ۖ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ۖ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ ۖ وَانظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ ۖ وَانظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا ۚ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة:259].
هذه المواضع في سورة البقرة تعرفونها، والله أخبر عنها، ومن أصدق من الله قيلًا.
وكذلك أصحاب الكهف، جعل الله -عزَّ وجلَّ- هؤلاء حجَّة على العباد، أن جعلهم الله -عزَّ وجلَّ- ينامون ثلاثمائة وتسع سنين، وخرجوا على الناس بعد أجيال ذهبت؛ ليجعلهم برهان على قدرته-سبحانه وتعالى- على البعث بعد الموت.
والكفار يوم القيامة إذا دخلوا النار، يقول لهم الخزنة:﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا ۖ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ﴾ [الأنعام:130].
فالرُّسل كلهم أنذروا قومهم هذا اليوم، فبشروهم وأنذروهم، يبشرون المؤمن وينذرون الكافر، فمن آمن يبشرونه، ومن كفر ينذرونه من عذاب الله -عزَّ وجلَّ.
ولهذا فإنَّ كل من دخل النار يعترف، قال الله -عزَّ وجلَّ- في سورة تبارك:﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك:11]. نسأل الله العافية والسلامة.
فالكفار بجميع أصنافهم إذا دخلوا النار ورأوا الحقائق التي أخبر الرسل بها اعترفوا بهذا وأقروا به﴿قَالُوا بَلَىٰ وَلَٰكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ﴾ [الزمر:71]، نسأل الله العافية والسلامة، وأن يُثبتنا على الإسلام والسُّنة.
والنبي -صلى الله عليه وسلم-أَمَرَه اللهُ -عزَّ وجلَّ- أن يُقسِمَ أثناء محاججته للكفار، فقال تعالى:﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا ۚ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ ۚ وَذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [التغابن:7].
وفي سورة سبأ:﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ۖ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ ۖ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ:3].
وفي سورة يونس: ﴿وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ ۖ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ ۖ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ﴾ [يونس:53].
فأمر الله نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يُقسم، وهو الصادق البار -صلى الله عليه وسلم- وإن لم يقسم، ولكن الأمر عظيم، فكيف تنكرون هذا الشيء، والنبي -صلى الله عليه وسلم- هو الصادق الأمين، فقبل أن ينزل عليه الوحي كانوا يعرفونه بالصدق.
هذا الأمر عظيم ويدل على وجب الرد على هؤلاء الملاحدة المنكرين للبعث، ورب العالمين يقول:﴿ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ﴾ [القمر:1-3]، كذبوا لما عِندَهُم مِنَ الهَوى، مَا عِندهم بصيرة.
هذا داورين تصدقونه وتكذبون محمدًا -صلى الله عليه وسلم؟!
داورين هذا ضالٌّ مُضِل لا يَعرف شيئًا حتى وإن كان عنده بعض المعلومات، يكفي تفاهة هذه النظرية وسخافتها، كانت تُمجَّد هذه النظرية، والذي يؤمن بهذه النظرية هو الذي يُنكر البعث؛ لأنهم يقولون: لا خالق، إنما هو انفجار وخلايا تطورت!
فهؤلاء كفار ملاحدة، كيف تصدقهم وتكذب محمدًا -صلى الله عليه وسلم؟!
ولهذا حذاري حذاري يا شباب الإسلام ويا شابات الإسلام من القناعة بهذه النظرية الخبيثة الباطلة، احذروا منها وممن يروج لها، اعرفوا دينكم وخذوه من القرآن ومن السنة، لا تأخذونه من هؤلاء السفهاء الضالين، قال تعالى:﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة:130]، فهؤلاء سفَّهوا أنفسهم، صاروا ينكرون الحقائق، وكما سمعتم الآية في سورة القمر﴿وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ۚ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ﴾ [القمر:3]، فلا تتبع أهل الأهواء.
 
{سؤال يا شيخ:
(يقول بعضهم: نحن نؤمن بهذه النظريات دون إنكار الكتاب والسنة. فما قولكم؟)}
لو أنك فهمت مُرادهم وعرفت حقيقة قولهم؛ عرفت أنهم مبطلون، فمن اقتنع بها ولم يدرك أبعادها،لا نقول:إنه كافر إذا ما كان ينكر البعث ولا يُصرح بهذه؛ ولكن جهل منه؛ ولكن نقول: إنه على خطر، إذا كان سيلتزم بلوازم ما قرره الكفار فهو مثلهم.
أمَّا إذا قال: أنا أؤمن بالله واليوم الآخر، وأؤمن بالبعثِ بعد الموتِ؛ وكان صادقًا في هذا فهو مؤمن، لكنه يجب عليه أن ينبذ هذه الضلالات.
أول من خلقه الله من البشر هو آدم، وخلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وهذا داروين وأتباعه من الكفرة يُنكرون هذا، يقولون: الأصل الخلية، ثم تطورت ملايين ملايين ملايين...، خزعبلات، أكاذيب! يخترع ما يشاء من ملايين السنيين!
تصدقه وتترك القرآن؟!
أول مَن خلقه الله مِن البشر هو آدم، لم يكن أصله قرد ولا شيء! فأصله من التراب ومن الطين، فكيف تصدق هذا الكلام؟!
فَمَنْ فَهِمَ حقائقَ نظريات الكفرة مجَّها وعرف بطلانها، وعرف أنها تنقض الإسلام، ولكن يأتي بالفعل بعض الشباب ولا يتصور الكفر العظيم الذي تتضمنه مقالات الفلاسفة ومقالات الملاحدة، والله -عزَّ وجلَّ- ذمَّ هؤلاء ذمًّا عظيمًا، قال تعالى: ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [يونس:45]، وقال تعالى:﴿أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ [الشورى:18]،﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ۙ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ ۚ بَلَىٰ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّ﴾ [النحل:38]، وقال تعالى:﴿إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الحج:7]، وقال في سورة الإسراء:﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ۖ مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)ذَٰلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) ۞ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَّا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورً﴾ [الإسراء:97-99].
فذكر الله براهين عقلية في القرآن على البعث بعد الموت.
 
أيهما أعظم؟!
أنت أيُّها الإنسان حجمك في ملكوت الله -عزَّ وجلَّ- أقل من عُشر مِعشار النقطة، فملكوت الله عظيم، السماوات العظيمة والأرضين العظيمة، الله -عزَّ وجلَّ- خلقها من عدم، أيعجز عن خلقك أنت أيُّها الضَّعيفُ وإعادتك؟!
قال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَّا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورً﴾ [الإسراء:99]، وفي نفس السورة قال الله -عزَّ وجلَّ- عن الكفار المكذبين للبعث: ﴿وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدً﴾ [الإسراء:49]، ينكرون أنهم يُبعثون مرة أخرى.
قال الله تعالى:﴿قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ﴾ [الإسراء:50-51]، فإذا كنتم أعظم من الشحم واللحم والغضاريف؛ فإذا كنتم من حجارة أو من حديد أو أَعْظَم من ذلك ﴿أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الإسراء:51]، فهذا يُنهي الشبهة تمامًا، فإذا أنت أقررت بِأَنَّه خَلَقَك؛ فهذا أهون من البدء، فالآن أغلق عليهم، قال: ﴿فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ﴾ [الإسراء:51]، انتقلوا الآن من الإنكار إلى السؤال عن الموعد، قال الله تعالى: ﴿قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيل﴾ [الإسراء:51-52].
 
{سؤال يا شيخ:
(بعض من يُنكر البعث؛ بل يصل الأمر إلى الإلحاد، يأتون إلى آيات وأحاديث البعث والنشور، ويقولون: هذه من ألف وربعمائة سنة أو أكثر من ذلك، وحتى الآن لم تقم الساعة!)}.
هذا أمر واضح، وهو أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- أخفى عِلم السَّاعة حتى عن الأنبياء والرُّسل، قال تعالى: ﴿إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى﴾ [طه:15]، وهذه السنوات التي مَرَّت قَد مَرَّت على مَعشر البشر كالبرق، وهذا يدل على قُربِ السَّاعة، فانظر إلى سرعة الأيام وسرعة الزمان، فهذا الأمر عند الله -سبحانه وتعالى- وليس عند العباد، وقد سمعت أحد هؤلاء الزنادقة الكفرة من العرب يقول: إذا أنا مت فضعوني في الثلاجة المجمِّدة للجسم حتى إذا وجدوا علاجًا يردوني إلى الحياة! انظر كيف الإنكار!
هذا يسير على طريقة الملاحدة والفلاسفة تمامًا، ومكذب لما أخبر به الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى لو ادعى أنَّه مسلم، فهذا إنسان في غاية الانحراف والضلال والتهوُّك والحيرة، وفي غاية الغباء البشري، فالبشر كلهم يعرفون أنَّه إِذا مات الإنسان لن يعود إلى الدنيا، وهذا يقول: ضعوني في الثلاجة!
فالحمد لله الذي فضحهم، وكشف عورتهم، وكشف سوءتهم.
وهنا في الآيات التي مرت معنا رد على هذا وأمثاله، أنت خلق ضعيف أيُّها الإنسان، فحتى لو قال: إنه قوي؛ فقال الله له: ﴿قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدً(50) أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ﴾ ، فهل تقدر أن تمتنع عن الموت! كل الناس يعرفون أنَّ الموت حق، وأنهم قادمون عليه، ما أحد يستطيع أن يدفع الموت؛ لأنَّ الموت آية من رَبِّ العَالمين، لا أحد يقدر على دفع الموت، ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران:185].
فإذا قال: نحن خلق على صفةٍ ضعيفة تأتي عليها الأمراض، وتأتي علينا الظروف الجوية وتؤثر فينا، والأتربة والأطعمة تؤثر فينا، فنتعرض للفناء بسبب هذا الخلق الضعيف!
فإذا كان هذا جوابه، فنقول: فما الذي يحول بينكم وبين خالقكم ومنشئكم أن يُعيدكم مرة أخرى يوم القيامة؟!
أنت اعترفت الآن بضعفك، وأنك متعرض للموت، حتى لو لم تعترف فالناس يعرفون أنك ستموت، وأنك لن تعود للدنيا، ولهذا جاء في الحديث العظيم من حديث جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري -رضي الله عنه- وأبوه عبد الله الأنصاري استُشهد في أحد، فلقي النبي -صلى الله عليه وسلم- جابرٌ وهو متأثر ويبكي، فسأله النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "إن أبي توفي وعليه دين، وترك أولادًا". فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ: الرَّبُّ سُبْحَانَهُ إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ »[1]، فهو في الجنة -رضي الله عنه- ولكن تمنى أن يرجع إلى الدنيا؛ ليُقتل في سبيل الله -رضي الله عن عبد الله بن حرام الأنصاري.
فقال الله -عزَّ وجلَّ: «إني قَضَيْتُ الحكمَ، أنهم إليها لا يُرْجَعون»[2]، أو كما قال في الحديث، وهو مخرَّج في الترمذي وغيره.
فالذي يُعيد العباد بعدما أفناهم وأماتهم هو الله -سبحانه وتعالى- قال: ﴿قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ [الإسراء:51].
فصاروا يتعللون بعلل أخرى، فقالوا: ﴿فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ﴾ [الإسراء:51]، انقطعوا! وهذه حيلة المنقطع العاجز.
فقال الله: ﴿قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبً﴾ [الإسراء:51].
انظر الآيات في سورة يس، فهذه السورة فيها براهين عظيمة من براهين البعث، قال الله -عزَّ وجلَّ: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَل﴾ [يس77، 78]، يعني: هذا الكافر ضرب للنبي -صلى الله عليه وسلم- مثلًا، والمثل: هو الشُّبهة.
ما هي الشبهة التي عرضها الكافر؟
جاء بعظم من العظام البالية -إمَّا عظم بهيمة أو شيء- ففتَّته أمام الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال: يا محمد، كيف يحيي ربك هذ؟!
فقبل أن يَذْكر الشُّبهة جاء الرد، وهذا مِن بَديعِ الحِجج القُرآنية، ولهذا يجب على طالب العلم؛ بل على كل مسلم أن يتعلم من القرآن أسلوب الحجج، أحيانا لا تَسُق الشبهة كما هي، قبل أن تسوق الشبهة سُق الرد عليها، قال تعالى:﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ﴾ ، هنا ينتبه المستمع ويقول: كان نطفة إذا نزلت في الثوب سيتقذرها الإنسان ويزيلها، فهذا أصل كل إنسان إلا آدم وحواء، والبقية كلهم من نطفة.
قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ ، وهذا رد ثانٍ، فالذي أنشأها أول مرة هو الله -سبحانه وتعالى- وهذا باعتراف الخلق كلهم حتى الملاحدة،فالخلق لابد له من خالق.
قال تعالى: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ ، ألا ترى أنَّ خلق الله محكم متقن لا اضطراب فيه! هذه الشمس منذ أن خلقها الله تعالى وهي في انتظام، والقمر في انتظام، وهذه النجوم في انتظام، وهذه البحار في انتظام!
فهذا يدل على علمه تعالى، ومَن كان بهذه العظمة والجلال فإنه هلى كل شيء قدير ﴿وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾ .
ثم جاء برد ثالث، قال: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ﴾ [يس:80]، يبيِّن الله -عزَّ وجلَّ- أنك إذا تحولت أنت من حال الحياة إلى حال الموت وصرت في القبر، ثم بعد ذلك تُبعث، انظر إلى الأشجار فأول ما تنبت تكون غضة خضراء رطبة مليئة بالماء، هذه الأشجار تتحول إلى شيءٍ حار أحمر مليء بالنار ليس فيه من الرطوبة شيء، ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ﴾ .
ثم جاء الرد الرابع: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ﴾ [يس:81]، ولله المثل الأعلى، تعالى الله أن يكون مِثل خلقه.
الناس يعرفون هذا: إذا جاء رجل نجَّار، وصنع بيتًا كاملًا من خشب بأبوابه، ومجالسه، وآرائكه، ومنافذه، وكل شيء؛ فقلت له: اصنع لي مطرقة من الخشب. فهل يقول: هذا لا يمكن! بل يقول: المطرقة أسهل عليَّ.
ولله المثل الأعلى، فالله لا يُعجزه شيءٌ في السماوات ولا في الأرض، فهذه من الحجج الظاهرة البيِّنة الباهرة، قال تعالى: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [يس:81-83]، فكل الخلق يموتون، ويصيرون إلى مصير واحدٍ.
قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ [القيامة:36-39].
وهذا كثير في القرآن، وسورة الحج مليئة ببراهين البعث، في أولها وأوسطها، وكذلك سورة المؤمنون، وفي سورة البقرة، وأغلب السور المكية مليئة بهذا؛ فتدبر القرآن تجد براهين البعث ظاهرة جدًا.
قال تعالى في سورة الواقعة: ﴿فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الواقعة:86-87].
وانظر إلى الذي يحتضر أيًّا كان، مسلم أو كافر، لو جاء أطباء الدنيا، وأدوية الدنيا كلها؛ هل يستطيعون أن يمسكوا روحه؟! ما يستطيعون، سواء كان مريضًا أو غير مريض، فتأتيه السكتة أو الموت الفجأة، فاللهم أحسن خاتمتنا وجميع إخواننا المسلمين.
فقوله:﴿فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ﴾ ، هذا خطاب للكفار ومنكري البعث، أي: لو كنتم بالفعل غير مبعوثين، ولن تُعادوا ليوم القيامة.
﴿ترجعونه﴾ أي: أَرْجِعُوا أرواحكم وأمسكوها فلا تخرج من أبدانكم.
قال: ﴿فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ ، وهذه البراهين عند أهل الإيمان مثل الشمس، وكلما زاد اليقين بيوم القيامة زاد العمل، وكلما نقص العمل دلَّ على نقص اليقين، والدليل على هذا في سورة القيامة، قال: ﴿فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ [الواقعة:86-87]، فهذا كافر لقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْعَهْدَ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ»[3]، هذا مربوط بهذا، لا يمكن أن يقول واحد: أنا مؤمن وأنا مسلم وهو لا يصلي ولا يعمل لله عملًا! فهذا كذاب.
ولهذا فالله رب العالمين قال:﴿فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى﴾ ثم قال: ﴿وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾ ، ولهذا فإن أعظم الإعراض هو الإعراض عن الصلاة.
ومثله في سورة الليل، قال تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ ثم شرح وفصل فقال: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾ يعني صدق بالجنة، قال: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ .
 
ثم قال: ﴿وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ ، فانظر كيف ربط التصديق بالعمل "أعطى - واتقى - وصدق"، وربط التكذيب بالعمل "بخل - واستغنى - وكذب".
ولهذا فإنَّ الإيمان: قولٌ واعتقادٌ وعملٌ؛ فلا يصلح الإيمان بدون عمل -كما تقدم معنا- فهذه دعوة فارغة، ولذلك فإذا قويَ تصديقك بيوم القيامة اجتهد في العمل، وأهل الجنة -نرجوا الله أن نكون منهم- لما يدخلون الجنة ذَكَرَ الله حالهم في سورة الطور:﴿وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ﴾ أي: مُشفقين من يوم القيامة، يتذكرون أحوال القيامة، ويتذكرون الجنة والنار، ويخافون -اللهم اجعلنا منهم.
قال: ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ ، هكذا كنْ أيُّها المسلم -اللهم اجعلنا من هؤلاء.
فلابد من عمل، ولابد من اجتهاد.
فالاحتجاج بالأدلة العقلية في القرآن كثير، فأصح الأدلة العقلية وأقواها ما ذكر في القرآن، بل يعتبر هذا أصول الأدلة العقلية؛ لأنَّ بعض الناس يقول: الأدلة في القرآن أدلة شرعية!
وهذا خطأ ولا شك فالقرآن دليل شرعي، فهو من الله -عزَّ وجلَّ- وتلاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المسلمين، وحفظه الله إلى يوم القيامة، ولكنه متضمن لأفضل وأصح الأدلة العقلية على قضايا الإيمان بشكل عام، وعلى قضايا البعث بعد الموت.
قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾ [الحج: 5]، إلى آخر الآية، فَيُذَكِّر بالبعث والحق، وكون الإنسان يمر بهذه المراحل، ثم يهرم ويموت، فهكذا كما تقلب في الدنيا سينتقل إلى البرزخ، ثم إلى الدار الآخرة إمَّا إلى جنةٍ وإمَّا إلى نَار.
فيه برهان آخر في سورة الحج وفي غيرها ذكر في مواضع كثيرة، وهو: إحياء الأرض بعد موتها ﴿وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: 5]، من الذي أحياها؟
الله -سبحانه وتعالى- هو الذي أحياها، فكما ترى أنت بعينيك هذه الصحراء القاحلة، وإذا جاء الربيع بعد الأمطار تغدو رياضًا ناضرة غضَّة مليئة بالطيوة والحشرات والخيرات والزهور والخضرة والماء، وهذه الأشياء التي خلقها الله -عزَّ وجلَّ- ما كانت موجودة، مَن أحياها وأوجده؟! إنه الله!
فهكذا أنت سيحيك الله بعدما تموت، فاستعد واثبت على الدين، ولا تبدل ولا تغير، نسأل الله أن يثبتنا على دينه.
هذا الموضوع -أيها الإخوة الكرام- موضوع عظيم، ويحتاجه المسلم دائمًا، فتذكر اليوم الآخر والاستعداد له هذا علامة الإيمان، والإعراض عن تذكر اليوم الآخر والغفلة عنه علامة الخذلان، ولذلك يضعف الإنسان، فإذا تذكر الإنسان الآخرةابتعد عن ظلم الناس؛ لأنه يتذكر أن هناك حساب، وهذا من الأدلة العقلية، قال تعالى:﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ [التين:8].
فهذه حكمة الله -سبحانه وتعالى- فكيف يسوي بين المحسن والمسيء!
قال تعالى: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص:28]، وهذا في القرآن أيضًا دليل عقلي يشير إلى حكمة الله -عزَّ وجلَّ، وأن الله تعالى تأبى حكمته أن يسوي بين المحسن والفاجر، وحتى الجبارين والظَّلمَة قد يطول بقاؤهم وضررهم؛ فلا يمكن أن يُترك ويموت دون حساب، بل الله -عزَّ وجلَّ- سيحاسبهم، وهذا الأصل العظيم مذكور في سورة الفاتحة ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة:4]، وهو يوم الحساب والجزاء.
فهذا الأمر العظيم يورث الإنسان الخوف من الله -عزَّ وجلَّ- ورجاء فضله ورحمته -سبحانه وتعالى.
وهذا الأمر العظيم يبعث على الاجتهاد في العمل وعلى الإحسان، ويبعث على الإخلاص ودفع الرياء، يعني: هؤلاء النَّاس التجار والوزراء والمسؤولين الذين لهم الأبَّهة؛ إذا لم يقدموا شيئًا لله تعالى فلن تنفعهم مناصبهم. فالإنسان يُخلص لله تعالى ويُراقبه، ويخافه، ويرجوه، ويتوكل عليه.
والإيمان باليوم الآخر ثمراته كثيرة جدًا، ومن ثمرات الإيمان باليوم الآخر:
- الاجتهاد في العمل الصالح -كما تقدم: ﴿فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى﴾ ، فلما صدَّق صلَّى، ولهذا قال الله تعالى عن الصلاة ﴿وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ *الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة:45-46]، فربط بين المحافظة على الصلاة واستعذابها والشعور باللذة فيها بتذكر يوم القيامة، ولهذا فكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ»[4]، وقال: «أَقِمِ الصَّلَاةَ يَا بِلَالُ! أَرِحْنَا بِهَ»[5]؛ لأن هذه الصلاة هي معينة لأهل الإيمان، وموصلة لرضا الرحمن -سبحانه وتعالى.
هذا موضوع الجملة الأولى التي قال فيها المؤلف: (وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ، وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، فالله -عزَّ وجلَّ- يجزي المحسن بالإحسان والمسيء بالإساءة.
قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ﴾ [آل عمران:185]، الشاهد قوله:﴿وإنما توفون أجوركم يوم القيامة﴾ ، وفي سورة النجم قال: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ﴾ [النجم:31-32]، وقال تعالى: ﴿مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ [الأنعام:160]، وجزاء الأعمال كثير ذكره في الكتاب والسنة.
وجاء في الحديث القدسي من حديث أبي ذر المشهور: «يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ»[6]. هذا موضوع جزاء الأعمال يوم القيامة.
 
هل الإنسان يدخل الجنة بعمله؟
بالطبع لا، بل يدخل الجنة برحمة الله، ولكن العمل سبب، فلابد من الأعمال، ولو تركنا الأعمال هلكنا كلنا وما نجونا، فالأعمال لابد منها، فهي ليست مقابل رحمة الله تعالى وجنته، فجنة الله وفضله أعظم بكثير من أعمال العباد.
 
قال: (وَالْعَرْضِ، وَالْحِسَابِ، وَقِرَاءَةِ الْكِتَابِ).
الْعَرْضِ: يعني أنَّ العباد تُعرض عليهم أعمالهم، قال تعالى: ﴿يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ﴾ [الحاقة:18]، وقال تعالى: ﴿اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبً﴾ [الإسراء:14]، فالعرض يقال للإنسان فيه: ألم تفعل كذا يوم كذا!
وهذا حديث عبد الله بن عمر في صحيح البخاري، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «يُدْنِي اللَّهُ الْعَبْدَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، ثُمَّ يُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، حَتَّى إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ»[7]، اللهم اغفر لنا ولإخواننا المسلمين.
والحساب: يعني نوقش، ومَن نوقش الحساب عُذِّب.
أما العرض فيسمى حسابًا، ولكن ليس فيه مناقشة، فالمناقشة هي المؤاخذة، والحديث «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ»[8]، يعني حوسِبَ وأُخِذَ عليه ولم يُغفر له -نسأل الله العافية والسلامة.
 
قال: (وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ).
الثواب: يكون بدخول الجنة، وكذلك يجعله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ويجوز الصراط، ونحو ذلك؛ كل هذا من الثواب، وأعلى الثواب وأعظمه الجنة، وأعلى نعيم الجنة هو رؤية الله -عزَّ وجلَّ- في الجنة.
والعقاب: دخول جهنم -أعاذنا الله وإياكم منها وإخواننا المسلمين.
 
قال: (وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ).
الصراط نؤمن به، وهو على متن جهنم -أعاذنا الله وإياكم من النار- فهو جسر موضوع على متن جهنم، يعبر عليه أهل الإيمان، فهذا الجسر لا نعلم كيف هو، ولكن جاء في الأحاديث أنه: «أَدَقَّ مِنَ الشَّعْرِ وَأَحَدَّ مِنَ السَّيْفِ»، «وأن الناس يمرون عليه بقدر أعمالهم»، «فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ»[9]، فالصراط عليه كلاليب مثل: شوك السَّعدان، تختطف الناس، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم.
ودعوة الرسل في هذاالمقام إذا مرَّ الناس «اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ»، فالأمر عظيم جدًّا -نسأل الله أن ينجينا وإياكم- قال تعالى: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) جثيا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّ﴾ [مريم:71-72].
 
كيف يَرِدُ الناس كلهم جهنم؟
- القول الأول: هو العبور فوق الصراط دون أن يدخل النار، وهذا هو أصح القولين، وهو المشهور عند أهل العلم.
- والقول الثاني: أن المؤمنين يدخلون النار، وتكون عليهم بردًا وسلامًا، ثم يخرجون منه، نُقل هذا عن ابن عباس وجماعة، لكن هذا يكون عندهم آية عظيمة من آيات الله، وهي أن الله -عزَّ وجلَّ- يحميهم من النار، وتكون عليهم بردًا وسلامًا، فهذا معنى قوله:﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ كَانَ عَلَىٰ رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) جثيا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّ﴾ [مريم:71-72].
ولكن أصح القولين: أن الورود هو العبور فوق الصراط، فمن جاز الصراط نجا ودخل الجنة، ومن لم يتجاوز الصراط سقط في جهنم؛ فيعذب بمقدار ذنوبه، ثم يكون مآله إلى الجنة كما تقدم القول في مرتكبي الكبائر.
 
هذه الجملة وهي قول المؤلف: (وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ، وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْعَرْضِ، وَالْحِسَابِ، وَقِرَاءَةِ الْكِتَابِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ).
الميزان: هو الميزان الذي توزن به أعمال العباد.
ولعلنا نجعل موضوع الميزان في الدرس القادم؛ لأن فيه بعض التفاصيل وإيضاح بعض الأمور، ولكن نحن نؤمن بأن هذه الأمور حقيقة، وليست خيالًا، ولا يجوز أن نقول بتأويلها كما فعلت المعتزلة والمدرسة العقلانية الذين أوَّلوا هذه النصوص، وخرجوا بها عن مقصودها، وعن حقيقتها، فهذا منهج خاطئ، لا نسلكه ولا نرضاه؛ لأنَّ منهج أهل السنة والجماعة هو الإيمان بهذه الأمور كما جاء عن الله وعن رسوله -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف ومن غير تبديل.
أسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يجعلنا وإياكم وجميع إخواننا المسلمين ممن آمن بالله وباليوم الآخر، وثبت على الإسلام والسنة، إنه -سبحانه وتعالى- سميع مجيب الدعاء، والحمد لله رب العالمين.
 
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما أجدتم به وأفدتم، ولا أنسى أن أشكركم أنتم أيها المشاهدون على حسن إنصاتكم واستماعكم، إلى أن نلقاكم في الحلقة القادم، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------
[1]روى الترمذي (3010)، وحسنه ، وابن ماجه (190) عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ
[2]روى الترمذي (3010)، وحسنه ، وابن ماجه (190) عن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ، ونصه: «مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَكَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ، قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلُ فِيكَ ثَانِيَةً، فَقَالَ: الرَّبُّ سُبْحَانَهُ إِنَّهُ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ، قَالَ: يَا رَبِّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، قَالَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ »
[3]رواه احمد وابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه
[4]أحمد والنسائي والحاكم
[5]رواه أبو داود (1253)
[6]رَوَاهُ مُسْلِمٌ
[7]رواه البخاري
[8]رواه البخاري 6171
[9]مسلم (182)

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك