الدرس السابع

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2072 11
الدرس السابع

العقيدة الطحاوية (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المُشاهدين الأَعِزَّاءِ في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة الكرام.
{في هذه الحلقة -بإذن الله- نقرأ مِن قول أبي جعفر الطحاوي -رحمه الله: (وَمَنْ أَحْسَنَ الْقَوْلَ فِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ، وَذُرِّيَّاتِهِ الْمُقَدَّسِينَ مِنْ كُلِّ رِجْسٍ، فَقَدَ بَرِئَ مِنَ النِّفَاقِ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسولِ الله، وعلى آلهِ وأصحابِهِ ومَن اهتدَى بِهُداه، أمَّا بعدُ:
فبعدما ذَكَرَ أبو جعفر الطَّحاوي –رحمه الله- فَضَائِلَ الصَّحابةِ ومكانَتِهِم ومَنزلَتِهِم، والخلفاءَ الرَّاشدين، والعشَرةَ المبشَّرينَ بالجنَّةِ، ووجوبَ الإمساكِ عمَّا شَجرَ بينَ الصَّحابةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- نبَّهَ على مَسألةٍ مُهمَّةٍ، وهي أنَّ:
علامَة الإيمان وعلامَة البراءة من النِّفاق هي: ذِكْرُ الصَّحابةِ بالخيرِ والحسن.
وعلامة النِّفاق هي: الكلام في الصَّحابةِ بالقدحِ فيهم.
وهذا مأخوذ من الحديث الذي مَرَّ معنا في صحيح البخاري: أنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «آيَةُ الْإِيمَانِ حُبُّ الْأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الْأَنْصَارِ»[82]، فإذا أحسنَ القولَ في أصحابِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي أزواجِه وفي ذرِّيَّاته؛ فقد برئ من النِّفاق، وأمَّا إذا أساءَ القول في أَحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ أو واحدةٍ مِن أمهاتِ المؤمنينَ أو مِن ذريَّةِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فهو مُنَافقٌ -نسأل الله العافية والسَّلامة.
وأصحابُ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يجبُ إحسان القول فيهم؛ لأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- أَثْنَى عليهم؛ ولأنَّ الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَثْنَى عليهم؛ ولأنَّهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- خير القُرون.
قال المؤلف عن أُمَّهَاتِ المُؤمنين أزواج النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَأَزْوَاجِهِ الطَّاهِرَاتِ مِنْ كُلِّ دَنَسٍ).
قال الله تعالى في سورة الأحزاب: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرً﴾ [الأحزاب: 33]، فالله -عَزَّ وَجلَّ- أرادَ أن يُذهب عنهم الرِّجسَ، وَيُطهرَهم بما أنزلَ عليهم مِنَ الشَّرائع والوحي والخير الذي جاء به الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم قال: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: 34]، هؤلاء هُنَّ أمهات المؤمنين، أزواج النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ﴿وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرً﴾ [الأحزاب: 34].
إذن أوَّلُ مَن يدخل في هذا الوصف: أمهات المؤمنين أزواج النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولهذا فإنَّ مَن قَدَحَ في أَحدٍ من نِساءِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كعائشة أو غيرها؛ فهذا زنديقٌ كافرٌ مُرتدٌّ بإجماعِ المسلمين، وقد حكى الإجماع جمعٌ غفيرٌ من أهلِ العلمِ، مثل:
ابن كثير الدمشقي في تفسيره المشهور "تفسير ابن كثير"، حيث ذكر هذه المسألة في سورة النور عند قوله تعالى: ﴿الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ [النور: 26]، فالله -عَزَّ وَجلَّ- جعل أطيب البَشَر وأزكاهم محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يكون مَعَهُ إِلَّا طَيِّبَة، قال تعالى: ﴿وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ﴾ .
الذين يَقدحون في الصَّحابةِ أصنافٌ، أشهرهم الرَّافضة، ولهذا كثُرَ فيهم القَدح في أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولهذا يقول أهل العلم: "يكثر فيهم النِّفاق"، بل قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "فَإِنَّ رُؤَسَاءَهُمْ كَانُوا مُنَافِقِينَ زَنَادِقَةً"[83] نسأل الله العافية والسلامة.
وذكر الشَّارح ابن أبي العز الحنفي بعدما أورد حديثًا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا، بِمَاءٍ يُدْعَى: خُمًّا، بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَقَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، أَلَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَ رَسُولُ رَبِّي، فأجيب، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثَقَلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ، فِيهِ الْهُدَى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّهِ وَاسْتَمْسِكُوا بِهِ، فَحَثَّ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: وَأَهْلُ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، ثَلَاثً»[84]، بل جاء عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "ارْقُبُوا مُحَمَّدًا فِي أَهْلِ بَيْتِهِ"[85].
والشَّاهدُ: أنَّ الشَّارحَ أوردَ هذا، ثم قال: "لِأَنَّ أَصْلَ الرَّفْضِ إِنَّمَا أَحْدَثَهُ مُنَافِقٌ زِنْدِيقٌ، قَصْدُهُ إِبْطَالُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالْقَدْحُ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ"، وذكر قصَّة عبد الله بن سبأ فقال: "فَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَبَأٍ لَمَّا أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ، أَرَادَ أَنْ يُفْسِدَ دِينَ الْإِسْلَامِ بِمَكْرِهِ وخبثه، كما فعل بولس بِدِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، فَأَظْهَرَ التَّنَسُّكَ، ثُمَّ أَظْهَرَ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ -وهذا يُستمال به كثير من الأغرار- حَتَّى سَعَى فِي فِتْنَةِ عُثْمَانَ وَقَتْلِهِ، ثُمَّ لَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ الْكُوفَةَ أَظْهَرَ الْغُلُوَّ فِي عَلِيٍّ وَالنَّصْرَ لَهُ، لِيَتَمَكَّنَ بِذَلِكَ مِنْ أَغْرَاضِهِ، وَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا، فطلب قتله، فهرب منه إلى قرقيس، وخبره معروف في التاريخ"، وبقيت في نفوس المبطلين خمائر بدعة الخوارج من الحروريَّة والشيعة.
قال: "وَلِهَذَا كَانَ الرَّفْضُ بَابُ الزَّنْدَقَةِ، كَمَا حَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو بكر ابن الطَّيِّبِ عَنِ الْبَاطِنِيَّةِ"، الباقلاني له لكتاب عن الباطنية، وبيان مَكرهم وأساليبهم.
قال: "وَكَيْفِيَّةِ إِفْسَادِهِمْ لِدِينِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَقَالُوا لِلدَّاعِي"، يعني: الباطنية إذا أراد يعينوا داعٍ يُفسد المجتمع -يُسمونه الدَّاعي: "يَجِبُ عَلَيْكَ إِذَا وَجَدْتَ مَنْ تَدْعُوهُ مُسْلِمًا أَنْ تَجْعَلَ التَّشَيُّعَ عِنْدَهُ دِينَكَ وَشِعَارَكَ"، يعني أظهِر التَّشيُّع وأنَّك من شِيعة علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
 قال: "وَاجْعَلِ الْمَدْخَلَ مِنْ جِهَةِ ظُلْمِ السلف لعليّ وقتلهم الحسين، والتبري من تيم وعدي، وبني أمية وبني العباس، وقل بالرجعة، وَأَنَّ عَلِيًّا يَعْلَمُ الْغَيْبَ! يُفَوَّضُ إِلَيْهِ خَلْقُ الْعَالَمِ!! وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ أَعَاجِيبَ الشِّيعَةِ وجهلهم، فإِذَا أَنِسْتَ مِنْ بَعْضِ الشِّيعَةِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ إِجَابَةً وَرَشَدًا، أَوْقَفْتَهُ عَلَى مَثَالِبِ عَلِيٍّ وَوَلَدِهِ"، انظر! حتى علي بن أبي طالب والذي يُظهرون محبَّته، إلا أنَّ الباطنية في الحقيقة لا يُحبونه.
ولهذا قال الشارح: "وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَتَطَرَّقُ مِنْ سَبِّ الصَّحَابَةِ إِلَى سَبِّ أَهْلِ الْبَيْتِ، ثُمَّ إِلَى سَبِّ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ أَهْلُ بَيْتِهِ وَأَصْحَابُهُ مِثْلُ هؤلاء عندالفاعلين الضالين"، يعني: الذين تكلموا في الصَّحابة ظلموا عليًّا؛ فحقيقة هؤلاء يعلمون علم اليقين أنَّ هذا كلام غير صحيح، فيتطرق سبهم للصَّحابة إلى سبِّهم هم لأنفسهم لمن يدَّعون حبه والغلو فيه.
فالمقصود: أنَّ البراءة من النِّفاق أعظمها بالسَّلامة مِن الكلام في الصَّحابة، فإذا رأيت الرجل يتكلم في الصحابة فاعلم أنه قد أتى بابًا عظيمًا من أبواب النِّفاق في الدِّين -النِّفاق الاعتقادي.
وهذا مَوجود في الرَّافضة، وفي الباطنية الآن، وكذلك بعض المعتزلة، والخوارج والإباضية يتكلمون في "علي" أو "معاوية" أو "عثمان"، وكذلك مَن يسمون أنفسهم بالتَّنويريين والعقلانيين والعلمانيين والليبراليين؛ تجد لهم كلامًا في خير القرون، يسبُّونهم ويرمونهم بالتُّهم جزافًا تقليدًا أعمى، أو ميلًا لبعض البدع القديمة -نسأل الله العافية والسَّلامة- ولهذا يُلازمهم النِّفاق، فنسأل الله أن يُعافينا وإيَّاكم إخواننا الكرام.
وهذا أصل عظيم عند السلف، وهو وجوب حفظ حق الصَّحابة ومعرفة مكانتهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم وأرضاهم.
 
نأخذ الجملة التي بعدها..
{قال -رحمه الله: (وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ الصَّالِحِينَ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْأَثَرِ، وَأَهْلِ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ، لَا يُذْكَرُونَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ، وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ)}.
هذه المسألة الثَّانية، بعد الفراغ مِن بيانِ حُقوقِ الصَّحابةِ ومكانةِ أهل البيت، وحفظ مكانتهم ومنزلتهم، ومحبتهم -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- انتقل لمن جاء بعدهم وهم التَّابعون، قال الله -عَزَّ وَجلَّ: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾ [التوبة: 100]، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»[86]، فهؤلاء الذين يَلونهم لم يرهم النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بل قال: «وَدِدْتُ أَنِّي لَقِيتُ إِخْوَانِي».
فَقَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَلَيْسَ نَحْنُ إِخْوَانَكَ؟
قَالَ: «أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَلَكِنْ إِخْوَانِي الَّذِينَ آمَنُوا بِي وَلَمْ يَرَوْنِي»[87].
وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ مِنْ أَشَدِّ أُمَّتِي لِي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعْدِي يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ رَآنِي بِأَهْلِهِ وَمَالِهِ »[88].
فعلماءُ التَّابعين هُم أفضل هذه الأُمَّة بعد الصَّحابة -رَضِيَ اللهُ عَنْهُم- وأتباع التَّابعين، وأتباع تابعي التَّابعين وهكذا.
قال: (وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ الصَّالِحِينَ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْأَثَرِ، وَأَهْلِ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ)، يعني أنَّ بعض العُلماء اشتغل بحفظ حديث الرسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وروايته، ومعرفة طرقه وأسانيده، وبعضهم اعتنى بالفقه والفهم والدِّراية أكثر من الحفظ، وبعضهم جمع بين الأمرين ويُسمون "فُقَهَاءُ أهلِ الحَدِيثِ"، فبعضهم مُشتغلٌ بالفقه، وبعضهم مُشتغلٌ بالحديثِ، وبعضُهم جمعَ بينَ الأمرينِ كالإمامِ أحمد، والشَّافعي، ومالك، وإسحاق بن راهويه، والبخاري، ونحوهم؛ وكلُّ هؤلاء -سواء مِن أهلِ الفقه، أو أهلِ الحديث، أو مَن جمَعَ بيَنَ الأمرين- على خيرٍ عظيمٍ، نعرف لهم مكانتهم، ونحفظ لهم حقهم، ونعرف منزلتهم، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، كم قدموا للمسلمين مِن خَيرٍ مِن حفظِ للسنَّة، وحفظٍ للدين، وأبعدوا عن هذا الدين الكذب والإفك والافتراء والأقاويل الفاسدة، والظنون الباطلة؛ فجزاهم الله عنَّا وعن المسلمين خير الجزاء.
ولهذا قال: (لَا يُذْكَرُونَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ، وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ)، فلا يجوز الطَّعن في أهلِ العِلم والتَّنقُّص منهم، وليس هذا معناه أنهم معصومون؛ بل الخطأ يرد على أحدهم، فليسوا بمعصومين، ولكن لا يجتمعون على خطأ؛ لأنَّ إجماعهم يدل على أنَّهم أصابوا الحق؛ لأنَّ إجماعهم حجَّة.
أَمَّا إذا اجتهدوا فأخطأوا؛ فالخطأ مغفور، ولهم أجر واحد، وإذا اجتهدوا فأصابوا فلهم أجران -رحمة الله عليهم وجزاهم الله عنَّا وعن المسلمين خير لجزاء.
وإذا وقع الخلافُ بين العلماء في مَسألةٍ مِن مَسَائِلِ الفقه فنعتذر لهم، ولكن نأخذ بالصَّحيح، ونأخذ بالرَّاجح الذي تدلُّ عليه الأدلَّة الشَّرعيَّة، فإذا جهلنا وعجزنا أخذنَا بقولِ مَن نثقُ في عِلمِه، قال الله تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43] .
ويُقصد بالعلماء هنا: العلماء الصادقون النَّاصحون الرَّاسخون في العِلم، أمَّا الذين يأكلون الدُّنيَّا بالدِّين، ومن عُرف عنهم التَّلاعب؛ فهؤلاء لا يُسمون عُلماء حتى لو لبسوا لباس العُلماء، إنَّما الكلامُ عَن العُلماء الرَّاسخين في العِلم، المعروفين بالسُّنَّة والاتباع، والمعروفين بالاستقامة على الشَّريعة، فهؤلاء العُلماء نحفظ لهم مكانتهم، ونعرف أنَّ لهم عذرًا إذا خالفوا الصَّواب.
وألَّف الشيخ ابن تيمية -رحمه الله- رسالة جميلة في أعذار يُعتَذر بها لأهل العلم إذا وقع أحد منهم في خلاف الراجح أو خلاف الصواب.
وجِماع هذه الأعذار ترجع إلى:
العذرُ الأوَّل: عدم اعتقاد بعضهم أنَّ النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال هذا الحديث، فيظنُّ أنَّ هذا الحديث ضعيف، أو لم يثبت عنده، أو لم يبلغه.
العذر الثَّاني: عدم اعتقاد أنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرادَ هذه المسألة على هذا المعنى، يعني: الاختلاف في الفَهمِ، وضرب لذلك مثال: «لَا طَلَاقَ فِي إِغْلَاقٍ»[89]، ما المراد بالإغلاق؟ بعضُهم يًفسِّره بمعنى، وبعضُهم يُفسِّره بمعنًى آخر؛ فتجدهم يختلفونَ في الحكمِ؛ لأنَّهم فَهِمُوا الكلامَ على حسبِ ما أعطاهم اللهُ مِن عِلمٍ في اللَّغةِ العربيَّةِ، ولذا فيتفاوتُ الحكم.
العذرُ الثَّالث: اعتقاده أنَّ هذا الحكم مَنسوخ، فهذا مِن الأشياء التي يقع بين أهل العلم بسببها خلافٌ، وإذا اختلف العلماء في مسألة يأخذ بالأقرب للتَّقوى، والأتقى والأعلم فيما يظنُّه هو في نفسه، ولا يكون مُتلاعبًا ومحتالًا.
وعلى كلِّ حالٍ فموضوع حديثنا هو أن نعرف فضل العلماء الرَّاسخين في العلم، ونحفظ مكانتهم، ونحفظ منزلتهم، ونعرف مَن هم العلماء الرَّاسخون في العلم، فهم الذين عرفوا السُّنَّة، وعرفوا الكتاب، ولزموا طريق السَّلف الصَّالح -رحمة الله عليهم- ونسأل الله -جلَّ وعلا- أن يجعلنا وإيَّاكم وجميع إخواننا المسلمين ممَّن يسلك مسالكهم ويقتفي أثرهم.
هذه هي الجملة الأولى التي بين أيدينا، قال: (وَعُلَمَاءُ السَّلَفِ مِنَ الصَّالِحِينَ وَالتَّابِعِينَ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْخَيْرِ وَالْأَثَرِ، وَأَهْلِ الْفِقْهِ وَالنَّظَرِ)، الفقه والنَّظر يعني: القياس والاستدلال والفهم. قال: (لَا يُذْكَرُونَ إِلَّا بِالْجَمِيلِ، وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ)، مثلًا أنت رجَّحت قولًا وتجد أنَّ الإمام الشَّافعي لم يأخذ بهذا القول، هل تقول: إنَّ الشافعي لا يفهم!!
هذه كلمة بشعة ولا تجوز، فأنت على غيرِ السَّبيل إذا قلتَ هذا الكلام، الشَّافعي إمامٌ عظيمٌ، والأئمة مالك وأبو حنيفة وأحمد وغيرهم؛ نحفظُ حقَّهم ولا نذكرهم بسوءٍ أبدًا، حتى لو لم نُرجِّح قولهم، أو أخذنا بقول غيرهم؛ بل نحبهم ونعرف منزلتهم، ونعرف فضلهم على هذه الأمَّة، هُم وسائرِ أهلِ العلم مِن أهلِ الحديث والفقه -رحمة الله عليهم جميعًا؛ ولذا قال: (وَمَنْ ذَكَرَهُمْ بِسُوءٍ فَهُوَ عَلَى غَيْرِ السَّبِيلِ).
{قال -رحمه الله: (وَلَا نُفَضِّلُ أَحَدًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَنَقُولُ: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ)}.
هذه مسألة كبيرة ومهمَّة، لمَّا انتقل إلى ذكر العلماء ناسَبَ أن يذكرَ أهل العبادة والتَّقوى وأهل الصَّلاح، فكلُّ مؤمنٍ تَقيٍّ فهو وليٌّ، قال الله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس: 62]، فَمَن كانَ مُؤمنًا تقيًّا كان لله وليًّا.
ولهذا فإنَّ الكلام حولَ موضوعِ الولاية والأولياء كلام له عدَّة جوانب يحتاجها المسلم، ويحتاجها أيضًا طالب العلم، ويحتاجها كل مَن ابتُلي ببعض الفتن، وبعض الضَّلالات، وبعض الطَّوائف الضالَّة؛ لأنَّ هذه المسألة مَسألةٌ خطيرةٌ، وهي مسألة الأولياء والولاية.
الولي: مأخوذ من الولاية، والولاية: القُرب والمحبَّة، هذا يلي هذا، أي: قريب منه.
وأنتَ إذا قُمتَ بأمر الله -عَزَّ وَجلَّ- وآمنتَ بالله ورسوله، وعملتَ الأعمال الصَّالحة، واتقيتَ الله؛ اقتربتَ من الله، ومن ثَمَّ أحبك الله -عَزَّ وَجلَّ، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222]، وفي الحديث: «مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْحَرْبِ»[90]، وفي رواية «فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ»[91]، لكن الأولياء على درجات، ونقصد بالأولياء هنا المؤمنين، فالمؤمنين ليسوا على درجةٍ واحدةٍ.
القسم الأوَّل: أكمل النَّاس ولاية هم الذين أخلَصوا وصدقوا في الإيمانِ والعملِ الصَّالحِ والتَّقوى، فأعظمُ النَّاسِ مَقامًا في هذا هم الملائكة والأنبياء والرُّسل، والصَّحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والصِّديقون والشُّهداء، وحسنُ أولئك رفيقًا، ومَن جاء بعدهم ممَّن التزم هذا المنهج وسلكَ هذا المسلك واتقى الله -عَزَّ وَجلَّ- في كلِّ حياته حتى لقيَ ربه.
القسم الثَّاني: هم عكس هؤلاء، وهم أعداء الله -عَزَّ وَجلَّ- وفي مُقدمتهم إبليس عدو الله وجنده وأحزابه وأشياعه وذريَّته، فهؤلاء الأبالسة والشَّياطين، وكذلك الكفَّار مِن الملاحدة والمُشركين واليهود والنَّصارى والمجوس، وغيرهم؛ فكلُّ هؤلاء هم أعداء الله -عَزَّ وَجلَّ- ما داموا على الكفر فهم أعداء الله، وأعداء رسوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويجب البراءة منهم، ويجب معاداتهم في الله، قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [المجادلة: 22]، وقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ﴾ [الممتحنة: 1]، وقال: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ﴾ [المائدة: 51]، ونحو ذلك مِن الآيات.
وبهذا يُعلَم أنَّ مَن وقعَ في هذه الضَّلالات كالملاحدة أو الاتِّحاديَّة والباطنيَّة، فلا يجوز أن يُظَنُّ فيهم الولاية كما يَعتقدُ بعضُ الصُّوفيَّة، تجدهم يقولون: هذا وليٌّ، بالرغم من أنَّه يتركُ الصَّلاةَ ويفعلُ المنكراتِ، ويتعرَّى ويفعلُ الفواحش! ومَن اعتقد فيهِ الولايةَ فهو زنديقٌ وكافرٌ مثلُه، فلا يُمكن أن يكونَ وليًّا إلا مَن كانَ مؤمنًا بالله تقيًّا للهِ -عَزَّ وَجلَّ.
القسم الثَّالث: هُم مَن فيهم ولايةٌ مِن وجهٍ، وعداوةٌ للهِ من وجهٍ، وهم المؤمنون العُصَاة، فهؤلاء بإيمانهم قد صاروا أولياءً لله -عَزَّ وَجلَّ- ولرسوله ولدينه، ولكن لَمَّا حصلَ منهم تقصير ونقص ومعصية؛ حصل عندهم من العداوة، مثل:
المسلم الذي يقع في الرِّبا -نسأل الله العافية والسَّلامة- فهو مِن وجهٍ مسلم قد وَالَى الله -عَزَّ وَجلَّ- وأسلم وتبرأ من الشِّرك، وحافظ على الصَّلاة، فهو وليٌ من هذا الوجه، ومن وجهٍ آخرٍ هو عدوّ؛ٌ لأنَّه وقع في الرِّبا، قال الله -عَزَّ وَجلَّ- في أكلةِ الربا: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة: 279].
إذن بهذا التَّقسيم نعرف مقامات النَّاس في الأولياء، أو كونهم أعداء لله، أو يجمع بين الأمرين وهم العُصَاة الموحِّدين، فمَن كان مِن السَّحرة أو الكُهَّان أو المشعوذين وادُّعيَت فيه الولاية؛ فهذه الدَّعوى كاذبةٌ ولا يجوز متابعة مَن يفعل هذا، ولا تصديق هؤلاء، وقد كثُرَ في الصُّوفيَّة مَن يفعل هذا الشيء، وحتى في الشِّيعة، فتجدهم يزاولون السِّحر، وربما يترك الصَّلاة ويترك الجماعة ويفعل المنكرات ويأكلُ أموالَ النَّاسِ بالباطلِ؛ ثم يقولون هذا ولي!! نعم هو وليٌّ للشيطانِ.
 
ولهذا فإنَّ مِن الكتب المفيدة النَّافعة لطالبِ العلم ولكلِّ مسلمٍ، وأحيلُ الإخوةَ عليها، وهي: رسالة لشيخ الإسلام ابن تيمية بعنوان: "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان"، بَسَطَ هذا الموضوعَ لمسيسِ الحاجة إليه، ولا شكَّ أنَّه موضوعٌ يحتاجه النَّاس اليوم؛ لأنَّ هناك بعض الشُّبهات، مثل خوارق للعادة تحدثُ عند بعض هؤلاء الدَّجالين والمشعوذين، مثل:
-       أن يرونه طائرًا، ويقولون هو ذهب يحجُّ بالطَّيران، وهو قد طارَ به الجنُّ.
-       ويقولون: إنَّه ينظر في اللوح المحفوظ.
-       أو أنَّ مَن لاذَ به أو احتمى به لم يدخل النَّار، ونحو ذلك مما يدَّعونه في بعض هؤلاء.
فهؤلاء يجب أن نعتقد أنهم أولياء للشيطان، وليسوا أولياء للرحمن، ويجب أن نبرأ إلى الله منهم، ويجب على ولاة أمور المسلمين في كل بلدٍ مُسلم منع هؤلاء المشعوذين والدَّجالين حتى لو ادعوا الولاية؛ لأنَّ الولاية هي الإيمان والتَّقوى، وهي المحافظة على الإسلام الذي جاء به الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والإسلام واضح، وما فيه هذه الأشياء والخزعبلات والخرافات، ما فيه رقص ولا تطبيل ولا طيران، وترك للصَّلوات، وأكل أموال الناس بالباطل، ومُزاولة السِّحر؛ وكذلك الذي يأكل الحيَّات والعقارب، أو يبلع المسامير، أو يدخل في جسمه السِّكِّين؛ فكل هؤلاء دجَّالون محتالون أولياء للشَّيطان، وليسوا أولياء للرحمن، ويجب البراءة منهم، قال تعالى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6].
بعضهم يخدع النَّاس بخدع كثيرة، مثل: أن يُخفي مالًا ويقول: إنَّه ولي، وأنَّ هذا المكان لو حفرتم فيه لوجدتُّم مالًا أو طعامًا، وقد سبقَ أن ذكرنا أمثلةً على هذا فيما أذكر.
ووقد ذكر أهل العلم أمثلة على هذا، في أنهم يحتَالُون بحِيَلٍ تنكشفُ أحيانًا، وأحيانًا لا تنكشف، حتى ذكروا أن ابن تومرت وكان زعيمًا في بلاد الموحِّدين -كما يسمُّونهم- وتوحِيدُهم تَوحِيدُ الجَهْميَّة وليسَ توحيدَ أهل السُّنَّة، ولكن يُقال: إنَّ له خوارق وكرامات، قالوا: إنه كان يُحيي الموتى، فكان يأمر بعض جنده يدخل في القبر، ويقول: أنا سأُحيي هذا الآن، ويقول: له اخرج من قبرك، فيخرج، وهو يُخادع الناس!
ولما خشي أن ينكشف أمره قتل بعضهم ودفنهم حتى لا ينكشف أمره.
وذكرَ أهلُ العلمِ أمثلةً على هؤلاء الدَّجالين، وإلى اليوم وهم في كثيرٍ من بلدان المسلمين يفعلون هذه الأفاعيل ويخدعون السُّذَّج والجَهَلَة حتى يأكلون أموال النَّاس بالباطل -نسأل الله العافية والسَّلامة.
هذا ما يتعلَّق بالجملة الأولى: (وَلَا نُفَضِّلُ أَحَدًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ).
ومِن ضلالاتِ بعضِ الصوفيَّة وعلى وجهِ الخصوصِ ابن عربي وله أتباع، قالوا هذا الكلام الإجرامي الكفري، فقالوا: إنَّ الولي أعلى من النَّبي وأعلى مِن الرَّسول. اللهمَّ صلِّ وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حتى أنهم يقولون: "إن مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي"، فالولي عندهم أعلى.
فقولهم: "والنبي مقامه في برزخٍ وسط فويق الرسول"، يعني النبي صار فوق الرسول، و"دون الولي"، يعني الولي أعلى شيء، ثم النبي، ثم الرسول؛ عَكَسُوا الحقيقة!
والله -عَزَّ وَجلَّ- قال: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: 75]، ما قال "الله يصطفي الأولياء"، فهو اصطفى الرُّسلَ، فهم خيرة البشرِ، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف: 35]، وقال: ﴿وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ [الأحزاب: 40]، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]، فالرسل هم أفضل خلق الله، ولكن هؤلاء طواغيت الصوفية عَكَسُوا؛ فجعلوا هذا الولي بزعمهم أنَّه خير من النبي.
ويقول ابن عربي -كما ذكر الشَّارح: إنَّه جعلَ نَفْسَه خاتَمَ الأولياء، كما أنَّ محمدًا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خاتمُ الأنبياء، فهو خشي أن يقولَ للنَّاس إنَّه نبيٌّ فاحتال بحيلة أن يكون الولي أحسن من النَّبي وأعلى، ثم يجعل نفسه خاتم الأولياء، يعني: هو أفضل واحد في الدنيا وأفضل واحد في البشر! وهذا من الطُّغيانِ العظيمِ الذي دَخَلَ في نفسِهِ وهو لا يشعرُ أو يشعر! وهذا مبثوث في كتبه الخطيرة.
ولهذا فإنَّ الذين يُبجِّلونَ ابن عربي في هذه الأزمِنَة المتأخِّرة مع أنَّه قد انفضح -ولله الحمد- وتولَّى فضحه مئات العلماء، وقد أُلِّفَت رسالة ضخمة جدًّا في جمعِ أقوال العلماء في كلامهم في ابن عربي؛ إلا أنَّ هناكَ مِن المجرمين مَن يُريد اليومَ إحياءَ مذهبَ ابن عربي على وجهِ الخصوصِ، ومذهبه يقوم على الإلحاد، على أنَّ الخالقَ والمخلوقَ شيءٌ واحدٌ -نسأل الله العافية والسلامة- فحذاري حذاري من هؤلاء!
يقول: (وَلَا نُفَضِّلُ أَحَدًا مِنَ الْأَوْلِيَاءِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ. وَنَقُولُ: نَبِيٌّ وَاحِدٌ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ)، وهذا حقٌّ، فالأنبياء -عليهم الصَّلاة والسَّلام- هم خَيرُ البشر؛ بل إنَّ الأولياء مِن أَولهم إلى آَخِرِهم لو جُمِعُوا لا يُعادلون نبِيًّا واحدًا، فالأنبياء خير من الأولياء.
وأفضل الأولياء على الإطلاق: هو أبو بكر الصديق، ومع ذلك فالنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعلى منه، ومَن فضَّل أبا بكرٍ على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو كافر.
 
وبهذا نعرف أنَّ ابنَ عربي وجماعتَه وكلَّ مَن يُروِّجُ لمذهبِهِ يسلكونَ مسالكَ الضَّلالة، وأنَّهم خرجوا عن طريقِ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- -نسأل الله العافية والسلامة- وما أخبث هذا الحال! وما أخبث هذا المنهج وهذا المسلك! أنَّ الإنسان يَدَّعِي الإسلامَ ويَدَّعي أنَّه مسلم ثم يسلك مسلك هذا الطَّاغوت ويُفضِّل ابن عربي وجماعته على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
بعضهم يقول: هذا مدسوسٌ عليهم وما قالوه!
مدسوسٌ وتُعيدون طباعة الكتب نفسها! وإلى اليوم تُعيدون نفس الطباعة، وتجمِّلونها وتنشرونها مجَّانًا! أتُخادع نفسك أنت؟!
أنتَ دَسَسْتَ في نفسِك النِّفاقَ وأنت ما تشعر بتعاونك مع هؤلاء الذين ماتوا وهلكوا، وقد حذَّر العلماءُ منهم، فحذاري حذاري إخواني المسلمين في جميع مشارق الأرض ومغاربها من هذا الضَّلال العظيم، ولهذا يجب على أهلِ الإسلام أن يعظِّمُوا النَّبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن يعظِّموا الأنبياء والرُّسل التَّعظيم اللائق بهم، وأن يَدْحَروا مذاهبَ هؤلاء الذين يَصلُح أن نَصِفَهم بالزَّندقةِ والنِّفاقِ؛ لأنَّهم فضَّلوا شخصًا مَعروفًا بالضَّلالِ على النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نسأل الله العافية والسلامة.
وأحيلكم يا إخواني إلى شرح ابن أبي العز، وقد ذكر كلامَ ابن عربي وعلَّقَ عليه، فقال: "فَمَنْ أَكْفُرُ مِمَّنْ ضَرَبَ لِنَفْسِهِ الْمَثَلَ بِلَبِنَةِ ذَهَبٍ" يعني: ابن العربي وصف نفسه بأنه لبنة ذهب.
قال: "وَلِلرُّسُلِ الْمَثَلَ بِلَبِنَةِ فِضَّةٍ"، يعني: أنَّ الذَّهبَ أعلى.
قال: "فَيَجْعَلُ نَفْسَهُ أَعْلَى وَأَفْضَلَ مِنَ الرُّسُلِ؟! تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ: ﴿إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾ [غَافِرٍ: 56]. وَكَيْفَ يَخْفَى كُفْرُ مَنْ هَذَا كَلَامُهُ؟ وَلَهُ مِنَ الْكَلَامِ أَمْثَالُ هَذَا، وَفِيهِ مَا يَخْفَى مِنْهُ الْكُفْرُ، وَمِنْهُ مَا يظهر، فلهذا يحتاج إلى نقد جَيِّدٍ"، وما أشبه هؤلاء بمَن قال: ﴿لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ﴾ [الأنعام: 124]"، إلى آخر كلامه.
فهذا الموضوعُ موضوعٌ مهمٌّ جدًّا، وهو معرفةُ أنَّ الأولياءَ لا يُمكنُ أبدًا إلا أن يكونوا مؤمنين أتقياء، ولا يُمكن أن يكونَ وليًّا معاندًا للهِ ورسولهِ، ولا يُمكن أن يكون وليًّا وهو يعمل خلاف الشَّريعة، أو يعتقد الضَّلالات، بل هؤلاء الذين يعملونه هو خلاف الشَّرعِ، ويدعون للضلالات؛ فهؤلاء أولياء للشَّيطان وليسوا أولياء للرَّحمن.
بعد هذا يأتي الحديث عن موضوع الكرامات، نجعله -إن شاء الله تعالى- في الدَّرسِ القادمِ، ونسألُ الله -جلَّ وعَلا- للجميعِ التَّوفيقَ والسَّدادَ، ونسألُ اللهَ أن يثبِّتنا وإيَّاكم على سنَّة محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وطريقة الصَّحابة والتَّابعين لهم بإحسان، ويُعيذنا وإيَّاكم مِن طرائق أهل النِّفاق والزَّندقةِ وأعداء الله ورسوله، وأن يجنِّبنا مسالِكَهُم، وأن يهدينا صراطه المستقيم، صراطَ الذين أنعمَ عليهم، غيرِ المغضوب عليهم ولا الضَّالين، إنه سبحانه وتعالى سميعٌ مجيبُ الدُّعاءِ، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبِهِ أجمعين.
 
{وفي الختامِ نشكُركم فضيلةَ الشَّيخ على مَا تَكبَّدتُّم به، هذه تحيَّةٌ عطرةٌ مِن فريقِ البرنامجِ، ومنِّي أنا محدِّثُكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، نستودعكم الله في حلقة قادمة إلى ذلكم الحين.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-------------------------
[82]صحيح البخاري (16)
[83] مجموع الفتاوى: كتاب مجمل اعتقاد السلف.
[84]صحيح، ورواه ابن أبي عاصم أيضا في "السنة" "1550 و1551 و1555".
[85]صحيح البخاري "3713 و3751".
[86]صحيح البخاري (2471)، صحيح مسلم (4607).
[87]مسند أحمد (12339).
[88]صحيح مسلم (2832).
[89]ضعفه الألباني في التعليقات الرضية (262/2).
[90]سنن البيهقي الكبرى (19325).
[91]صحيح البخاري (6048).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك