الدرس الثاني

فضيلة الشيخ د. فهد بن سليمان الفهيد

إحصائية السلسلة

2072 11
الدرس الثاني

العقيدة الطحاوية (3)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أُرحب بِكُم إخواني وأخواتي المُشَاهدين الأعزاء في حلقة جديدة من حلقات البناء العلمي، كما أرحب بضيف هذه الحلقة فضيلة الشيخ الدكتور/ فهد بن سليمان الفهيد، أهلا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
حيَّاكم الله وبارك الله فيكم.
{هذا اللقاء الثَّاني من لقاءات شرح "متن العقيدة الطحاوية".
وقد أنهينا في الحلقة الماضية ما يتعلق بالبَعثِ، وجزاء الأعمال، وغيرها من المسائل}.
 
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسولِ الله، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بِهُداه، أمَّا بعد:
فنسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يرزقنا وإيَّاكم العِلم النَّافِع، والعَمَلَ الصَّالح.
بالفعل السابقة في قول الطحاوي -رحمه الله: (وَنُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ، وَجَزَاءِ الْأَعْمَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْعَرْضِ، وَالْحِسَابِ، وَقِرَاءَةِ الْكِتَابِ، وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ).
هذه الأمور تقدم الإشارة إلى أكثرها، وهذه الأمور تكون يوم القيامة، والواجب على المؤمن أن يُؤمِنَ بالغيبِ الذي أخبر الله -عزَّ وجلَّ- عنه، فلا يَحيد بتحريف، ولا بإنكار وتعطيل في القضايا التي أخبر الله -عزَّ وجلَّ- عنها، أو أخبر عنها رسوله -صلى الله عليه وسلم- فنؤمن بها كما جاءت في النُّصوص الشَّرعية، مُستَندين على كلام الله، وكلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- لا ندخل في ذلك مُتأولين بآرائنا، ولا بمقاييسنا أو استحساناتنا؛ لأنَّ بعض المبتدعة حَرَّفوا هذه الأمور وأنكروها، أو أوَّلوها بتأويلات باردة فاسدة، وحجتهم: الاعتماد على عقولهم.
والعقلُ البَشري ليس هو الحكم الذي يُحتكم إليه فيما أخبر الله -عزَّ وجلَّ- عنه، فلهذا أهل السُّنة والجماعة يؤمنون بكل ما أخبر الله -عزَّ وجلَّ- به وبما أخبر به رسوله -صلى الله عليه وسلم- مما يكون بعد الموت.
فالثَّوابِ والعِقَابِ أيضًا من الأمور التي تكون يوم القيامة، وقبل ذلك في القبر، وقد تقدم ذكر عذاب القبر ونعيمه، وكذلك الصِّراط، كما ذُكر في الكتاب والسُّنة الورود عليه، وما يتعلق بمن يسقط في نار جهنم -نسأل الله العافية والسلامة- ومن ينجو.
 
والآن نَذْكُرُ الميزان:
الميزان من الأمور التي تكون يوم القيامة، فنؤمن به، قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47]. يعني: الموازين التي يَظهرُ بها العَدل، ويَظهرُ بها كيفية إحصاء الله -عزَّ وجلَّ- على العباد أعمالهم.
وفي سورة المؤمنون قال الله تعالى: ﴿فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ﴾ [المؤمنون 102 - 104]، قالك﴿فَمَن ثَقُلَتْ﴾ ثم قال:﴿وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ .
كُلُّ مِيزَانٍ مِن هَذه الموازين له كفتان، كفة للحسنات، وكفة للسيئات، فكفة الحسنات توضع فيها حسنات العبد، وكفة السيئات توضع فيها سيئات العبد.
وهذا جاء في السنة موضحًا في أحاديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثل حديث صاحب البطاقة الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا ؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ ؟ فَيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ، قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ»، هذا الشاهد، السجلات هي الذنوب، والبطاقة هي التوحيد توضع في كفة، إذن هناك كفة للحسنات وكفة للسيئات.
قال: «فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ»[10]، وفي رواية عند الترمذي: «فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ»، وفي سياق آخر: «تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ، فَيُوضَعُ فِي كِفَّةٍ»[11]، هناك قال: السجلات، وهنا قال: الرجل. وهذا فيه فائدة جليلة: وهي أنَّ الميزان يوزن به الصحف التي فيها الأعمال، فيجعل الله -عزَّ وجلَّ- هذه الصحف ثقيلة بحسب العمل، سواء كانت سيئات أو حسنات، أو يوضع الرجل نفسه كما هنا في هذا الحديث، قال: «فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ، فَيُوضَعُ فِي كِفَّةٍ».
وفي صحيح البُّخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، وَقَالَ: اقْرَءُوا ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنً﴾ »[12].
أيضًا جاء عن ابن مسعود أنه كان يجتني السِّواك من الآراك، وكان دقيق السَّاقين -رضي الله عنه- فجعلت الرِّيحُ تكفأه لخفة وزنه ودقة ساقه، فالرِّيح صارت تُؤثر فيه، فَضَحِكَ القَومُ منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «مِمَّ تَضْحَكُونَ؟»، قالوا: يا نبي الله، مِن دِقَةِ سَاقيه. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ»[13]، جبل أحد العظيم.
فهذا يدل على أنَّ العبدَ يوزن، ويكون له ثِقل في الميزان.
السؤال الأول:
اتفقت كلمة الفقهاء على أنَّ الذي يوزن يوم القيامة هو أعمال العبد لا العبد نفسه.
خطا
 
 
وفي الحديث الآخر «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ»[14]، وحديث أبي هريرة في الصحيحين من قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ»[15].
فالنُّصوص دَلَّتْ على أنَّ الصُّحف نفسها قد توضع، أو العامل نفسه، أو الأعمال تُقلَب إلى شيء له ثقل فيكون هذا في الميزان، وفي الحديث:«مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ»[16]، فهذه الأشياء يجعلها الله -عزَّ وجلَّ- لها ثقل ولها وزن بحسب حال العبد وعمله -نسأل الله أن يوفقنا وإياكم وجميع إخواننا المسلمين.
 
فإذا قال بعض المنحرفين: كيف هذا؟ والعقول ما تقبل هذا؟
نقول: هذا لا مجال فيه لأن تعترض بعقلك، هذه أمور غيب، الله -عزَّ وجلَّ- أخبر بهان وأخبر بها رسوله -صلى الله عليه وسلم- حتى إنَّ الشَّارح ابن أبي العز -رحمه الله- قال في شرح العقيدة الطحاوية في هذا الموضع: "فلا يُلتفت إلى مُلحدٍ مُعاندٍ يقول: إنَّ الأعراض لا تقبل الوزن، وإنما يقبل الوزن الأجسام" وقد قال في الرد عليه: "إنَّ الله يقلب الأعراض أجسامًا" كما تقدم.
حتى الموت -وهو عرض- قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، ثُمَّ يُنَادِي: يَا أَهْلَ النَّارِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ: خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ»[17]، اللهم اجعلنا من أهل الجنة وأجرنا من النار.
يقول الشيخ: "فعلينا الإيمان بالغيب كما أخبر الصادق -صلى الله عليه وسلم- من غير زيادة ولا نقصان".
ويا خيبة مَن ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة -كما أخبر الشَّارع- لخفاء الحِكمة عليه، ويقدح في النُّصوص بقوله: لا يحتاج إلى الميزان إلَّا البقال والفوَّال!
هذا ما أعظم خيبته!
فالله -عزَّ وجلَّ- حكيم عليم.
قالفي الرد عليه: "وما أدراه بأن يكون من الذين لا يُقيم الله لهم يوم القيامة وزنًا"، ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عَدله -سبحانه- فيرى العباد كلهم عَدل الله -سبحانه وتعالى- أمامهم، ويروا أعمالهم أمامهم، فيكيف يَستهزئ بهذا الأمر ويقول: البقال والفوَّال هو الذي يزن، أمَّا الله فيعلم!
الله يعلم لا شك، ولكن مِن تمام عَدله ومن كمال رحمته وظهور عدله أن يَري العبادُ الصُّحف والموازين، فهذا كله رد على اعتراضات هؤلاء الملاحدة، وكما قال الله: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً﴾ [الإسراء: 85]، يعني استحِ من نفسك أن تعترض على ربك، وتستدرك على ربك، مَن أنت؟!
أنت مخلوقٌ ناقصٌ ضعيفٌ، عقلك محدودٌ، إذا هو أخبرك بأمور آمن بها، ولا تدخل فيها بالتحريف وبالقياس، فضلًا عمَّن يستهزئ بهذه الأشياء، فمن استهزأ بهذه الأشياء فقد كفر، ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة 65، 66]، نسأل الله العافية والسلامة.
فهذا ما يتعلق بهذه الجملة (والميزان).
فيه أبيات من الشعر أوردها الشَّارح، يقول:
وقد روى ابن أبي الدُّنيا عن ابن المبارك -وهو عبد الله بن المبارك أمير المؤمنين في الحديث- قيلإنَّه أَنشَد شعرًا، وابن المبارك كما أنه عالم في الحديث فهو عالم في الفقه، وعالم في أمور الدين، وأيضًا هو شاعر، وله شعر جيد، وله قصائد معروفة في السُّنة، والرَّد على الخَوارج، والرَّد على أهل البدع، وأيضًا هو من كبار المجاهدين في سبيلالله -مع ولاة الأمور طبعًا- وأيضًا هو من كبار المُنفِقِين المُتَصَدِّقين، حتى إنَّ بعض العلماء قال فيه: "جمعت فيه خصال الخير" رحمه الله.
وهذا من قصيدة رواها ابن أبي الدنيا عن ابن المبارك، قال:
قَدْ طَارَتِ الصُّحْفُ فِي الأَيْدِي مُنَشَّـــرَةً *** فِيهَا السَّرَائِرُ وَالأخبار تُطَّلـــع
فَكَيْـــــــــــفَ سَهْــــــــوُكَ وَالأَنْبَـــــــــاءُ وَاقِعَــــــــةٌ *** عَمَّا قَلِيلٍ، وَلا تَدْرِي بِمَا تَقَعُ
يعني كيف سهوك في الدنيا وغفلتك وإعراضك الآن؟!
قال:
إِمَّـــا الْجِنَانُ وَعَيْشٌ لا انْقِطاع لــــــه *** أَمِ الْجَحِيـــــمُ فَلا تُبْقِـــــــي وَلا تَــــــــــدَعُ
تَهْـــــــوِي بِسُكَّانِهَـــــــــــا طَــوْرًا وَتَرْفَعُهُ *** إِذَا رَجَـــــوْا مَخْرَجًـا مِــــنْ غَمِّهَـا قُمِعُوا
طـــــال البكـا فلم يرحم تضرعهم *** فيهــــا ولا رقــــــــة تغنـــــــي ولا جـــــــــزعُ
لِيَنْفَعِ الْعِلْمُ قَبْلَ الْمَوْتِ عَالِمَهُ*** قَدْ سَالَ قَوْمٌ بِهَا الرُّجْعَى فَمَا رَجَعُوا
نسأل الله -جل وعلا- أن نكون ممن يشفق من يوم القيامة ويستعد له.
 
قال تعالى: ﴿قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ ۖ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ [الطور:26–28].
 
نأخذ المقطع التالي:
{قال -رحمه الله تعالى: (وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا، وَلَا تَبِيدَانِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ، وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلًا، فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلًا مِنْهُ، وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلًا مِنْهُ. وَكُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ فُرِغَ لَهُ، وَصَائِرٌ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ)}.
هنا يقول: (وَالْجَنَّةُ وَالنَّارُ مَخْلُوقَتَانِ لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا، وَلَا تَبِيدَانِ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ، وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلً)، ثم ذكر مسألة الإيمان بالقدر.
فهنا مسألتان:
المسألة الأولى: متعلقة بالجنة، وهي الدَّار التي أَعَدَّها الله للمتقين، وفيها النَّعيمُ المُقيم، والنَّار أيضًا أَعَدَّها الله للكافرين، فعقيدة أَهل السُّنة والجماعة هي: التصديق والإيمان بما أخبر الله -عزَّ وجلَّ- به، مِنْ أنَّ النَّار والجنَّة مخلوقتان موجودتان خلقهما الله قبل خَلْقِ الخَلْقِ، لقوله تعالى: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 24]، وقال: ﴿أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ﴾ [الحديد: 21]، وفي النَّار قال: ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 24].
السؤال الثاني:
مذهب أهل السُّنة والجماعة أنَّ الله تعالى خلق الجنة والنار قبل خَلْقِ الخَلْقِ.
صواب
 
 
لما عُرج بالنَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال الله: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى﴾ [النجم: 13]، يعني جبريل، قال: ﴿عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ﴾ [النجم: 14-15]، فالجنة مخلوقة، وقد رأى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- الجنَّة ليلة الإسراء والمعراج، حتى قال: «فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودً»[18]، ورأى النَّبي -صلى الله عليه وسلم- النَّار.
لمَ هذه المسألة تُقال؟
لأنَّ بعض المبتدعة أنكروا وقالوا: إنَّ الجنَّة والنَّار ما تُخلَقَان إلا يوم القيامة، وأنهما ليستا موجودتين الآن!
وهذا قول باطل، وهو قول أهل البدع وأهل الضلال.
قال: (لَا تَفْنَيَانِ أَبَدًا، وَلَا تَبِيدَانِ)؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قال في النَّار: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدً﴾ [النساء: 57]، ذكر هذا في ثلاث مواضع في القرآن، وفي الجنة قال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدً﴾ [النساء: 169]، في مواضع كثيرة.
والذي يُخلَّد في النَّار هم الكفار، فيخلدون فيها أبد الآبدين، فلا يخرجون منها أبدًا، ولا ينقطع عذابهم، ليس هناك أمد، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة قاطبة.
ولا تفنى النار، ولا تفنى الجنة كما يقول الجهمية -قَبَّحَهُم الله؛ لأنَّ هؤلاء معطلة يُكذبون بما أخبر الله به، وبما أخبر عنه رسوله -صلى الله عليه وسلم.
السؤال الثالث:
ذهب ...... إلى القول بفناء الجنة والنار.
الخوارج – أهل السنة – الجهمية
الجهمية
 
 
 
فالجنة والنار لا تفنيان، خالدين فيها أبدًا، لكنَّ أهل التَّوحيد إذا أُدخلوا النَّار بسبب ذنوبهم، إذا لقوا الله بالذنوب من غير توبة، فإنهم تحت المشيئة ويَغْفِرُ اللهُ ما دون ذلك لمن يشاء، فمن غُفرَ له دَخَلَ الجَنَّة، وَمَنْ لم يُغفر له يُعذَّب، ثم يكون مآله إلى الجَنَّة، ولكنَّه لا يُخلَّد في النَّار خلود الكفار؛ لأنَّه مِن أهلِ التَّوحيد، ولكن قد يطول مُكثه، مثل القاتل: قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ﴾ [النساء: 93]، معنى الخلود هنا: طول المُكث، وليس معناه أنه لن يخرج منها.
وكذلك الذي يَقتُل نفسه -ينتحر- جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يدخل النار خالدًا مخلدًا فيها، وهذا معناه: طول المُكْث لا أنه يُخلَّد خُلود الكفار، إنما الذي يُخلَّد في النَّار ولا يَخرج مِنها مُطلقًا هم الكفار، أمَّا أهل التوحيد فيكون مآلهم إلى الجنة.
السؤال الرابع:
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدً﴾ يدل على أنَّ القاتل يُخلَّد في النار حتى وإن كان مُوحدًا.
خطأ
 
 
 
قال: (وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ قَبْلَ الْخَلْقِ)، كما تقدَّم في الآيات ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 24]، ﴿أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 24]، أُعدَّت: أي: فُرِغَ منها.
والنُّصوص في هذا كثيرة، حتى في الأحاديث فهي كثيرة جدًّا عن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في بيان هذا المعنى.
قال: (وَخَلَقَ لَهُمَا أَهْلً)، أي: أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- خَلَقَ للنار أهلًا سيدخلونها، وخلق للجنة أهلًا سيدخلونها. هذا هو الإيمان بالقضاء والقدر.
السؤال الخامس
قوله تعالى عن الجنة: ﴿أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ يدل على وجودها الجنة الآن.
صواب
 
 
قال: (فَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ فَضْلًا مِنْهُ)، يعني: من شاء الله أن يكون من أهل الجنة فيدخل الجنة، لكن هل هذا بفضل العباد وقدرتهم؟
لا، هذا بفضل الله -عزَّ وجلَّ- قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم: «لَا يَدْخُلُ أَحَدُكُمْ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ». قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ مِنْهُ بِرَحْمَةٍ، وَفَضْلٍ»[19]، فمن دخل الجنة فبفضل الله -عزَّ وجلَّ- ولكن العمل سبب، لولا العمل لم يدخل، قال تعالى: ﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 49].
قال: (وَمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ إِلَى النَّارِ عَدْلًا مِنْهُ)، يعني: مَن شاء أن يكون من أهل النَّار؛ فإنَّه يصير إلى النَّار، وهذا عدلٌ وليس ظلم، قال تعالى: ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً﴾ [الكهف: 49]. حتى وهم في النار قال الله -عزَّ وجلَّ- عنهم ﴿فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [الملك: 11]، عرفوا أنهم مُستحقون لهذا؛ لأنهم كذَّبوا الرُّسُل، وفرطوا وتساهلوا وأعرضوا، وأخذوا بما تهواه أنفسهم واتبعوا الهوى وتركوا الهدى، ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً﴾ .
قال: (وَكُلٌّ يَعْمَلُ لِمَا قَدْ فُرِغَ لَهُ، وَصَائِرٌ إِلَى مَا خُلِقَ لَهُ)، يعني: أنَّ هذا الأمر قد فُرِغَ منه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث المشهور، فكلٌّ قد قدَّر الله -عزَّ وجلَّ- عليه أنَّه مِن أَهل الجنَّة أو من أهل النَّار، قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم: «ما منْ نفسٍ منفوسةٍ، إلا كُتب مكانَها منَ الجنةِ والنارِ»[20]، لكن أنت وأنا والثاني والثالث لا ندري، نسأل الله أن يثبتنا.
إِذا ثَبَتَّ على الإسلام وسرتَ على منهح النَّبي -صلى الله عليه وسلم- فهذا علامة أنك في طريق الجنة -فنسأل الله الثبات- ولا تَغْتَر بنفسك، فاسأل الله أن يُثَبِتَك على الحقِّ وعلى الإسلام وعلى سُنَّةِ النَّبي -صلى الله عليه وسلم.
وإذا كان العبد على الكفر وعلى الشِّرك وعلى الإلحاد؛ فهذا طريق النَّار، ولا نقول:إنَّه في النَّار؛ لأنَّه لا يدري، فنقول له: تُب إلى الله قبل الممات، إذا تبت رجعت إلى الجنة، وإذا استمررت على هذا ومِتَّ على الإلحاد والكفر وعلى الشرك فأنت في النَّار.
قال: (وَكُلٌّ يَعْمَلُ)؛ لأنَّ لا أحد يعلم ماذا كُتبَ، فما يحتجّ أحدٌ بالقضاء والقدر، وقد تقدمت هذه المسألة، ولكن نعيدها لأهميتها:
الإنسان لا يحتج بالقضاء والقدر ويقول: أنا في الجنة أو في النار.
نقول: لا تُكذِّب الرُّسل؛ بل أطع الله وأطع رسوله -صلى الله عليه وسلم.
قال: (وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعَبَادِ)، هذه الجملة تتعلق بالإيمان بالقضاء والقدر، يعني: نُؤمنُ بالقَدر كما أننا نُؤمنُ باليوم الآخر، فنؤمنُ بالقَدر خيره وشره، وكررها المصنف لأهميتها.
فالخير ينقسم إلى قسمين:
- خير ديني.
- وخير دنيوي.
فالخير الديني: مثل الإسلام والصَّلاة والتَّوبة، وكثرة الذكر، والأعمال الصالحة، من حفظ القرآن، ونحو ذلك.
والخير الدنيوي: مثل الصحَّة، والمال، والجمال، والزوجة الصالحة، والغنى، والولد، ونحو ذلك، فهذا خير دنيوي.
والشر عكس هذه الأمور.
فكل هذه الأمور مقدَّرة على العباد، فنؤمن بالقدر خيره وشره، والخير عرفناه مثل خير الدين، الإسلام، الصلاة، التوبة،...، إلى آخره.
والخير الدنيوي، مثل: الصحة، والعافية، ورغد العيش، والزوجة، هذا خير مُقدر.
والعكس كذلك، فالشر مثل: الفقر، المرض، وإن كان المؤمن تَقَبَلَهُ بالصَّبر والرِّضا، فهي تكون له خير من ناحية ثانية، ولكن هي نقص، ومثل: الحوادث، والموت؛ فنؤمن بهذه الأمور كلها؛ لأنها مقدَّرة، ولكن نأخذ بأسباب السَّلامة، وأسباب النَّجاة، قال: (وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مُقَدَّرَانِ عَلَى الْعَبَادِ).
هل معنى هذا أنَّ الإنسانَ لا يُحاسب ما دام أنَّ الله قدَّر عليه هذا؟
نقول: الإنسان مُحاسَب على أعماله، وتُضاف إليه أعماله وإن كانت بقضاء الله وقدره، فالله قَدَّرها وخلقها، وشاءها كونًا، لكن يجب عليك أن تقوم بأمر الله وتنتهي عن نهيه، وأنت ستحاسَب على أعمالك؛ لأنَّ الله جعل لك قدرةً وجعل لك اختيارًا -يعني المشيئة- فالقدرة بها تتحرك، ترفع الكأس، تذهب إلى المسجد، أو يذهب بعض الناس إلى المسارح وإلى الفساد، وآخرون يذهبون للعمرة والصَّلاح والتَّقوى.
فهذه الأشياء تُضاف إليك وإن كانت بقدر الله، فأنت خُذ بأسبابِ السَّلامةِ، خذ بأسباب النَّجاة؛ لأنَّها ستُضاف إليك، ويأجرك الله عليها، أو تأثَم وتؤاخذ عليها وتُحاسَب عليها، فما لك حجة، فهي مضافة للعبد كسبًا وتسبُّبًا، فيقال: العبد مُصلٍّ، وصائم، ومُتَصدِّق، وحاجّ، ومُعتمر.
ويُقال على البعيد -أعاذنا الله وإياكم: سارقٌ، زانٍ، شارب خمر.
إذن العمل وظيفة للفاعل -وهو العبد- فيُحاسب عليه، وإن كانت كل هذه الأمور بقدر الله، ولكن ليس هذا حجَّة له؛ لأنَّه فعلها بقدرته واختياره، والله -عزَّ وجلَّ- أقام الحُجة، فأرسلَ الرُّسل، وأنزل الكُتب، فهذا القرآن يُتلَى، وهذه سُنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فلا لأحد حُجَّة أن يحتج بالقدر، إنما يحتج بالقدر البطَّالون وأهل الضلال والبدع، وهؤلاء في الحقيقة لا حجَّة لهم.
السؤال السادس:
أهل البدع والضلال يتركون العمل ويحتجون بالقدر.
صواب
 
 
{قال -رحمه الله تعالى: (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ، تَكُونُ مَعَ الْفِعْلِ، وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ مِنْ جِهَةِ الصِّحَّةِ، وَالْوُسْعِ، وَالتَّمَكُّنِ، وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ، فَهِيَ قَبْلَ الْفِعْلِ، وَبِهَا يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ، وَهُوَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَ﴾ [البقرة: 286])}.
هذه الاستطاعة مسألة خاض فيها بعض الناس بالباطل، فاحتاج أهل السنة إلى تقرير المعنى الصحيح فيها.
الاستطاعة والطاقة والقدرة والوسع؛ هل يَسعك هذا؟ هل تقدر على هذا؟ هذه العبارات ونحوها وردت في القرآن على نوعين:
الأغلب الذي يعرفه المسلمون ويتداولونه ومعناه واضح: أنك تستطيع أن تصلي قائمًا، والآخر يقول: ركبتي لا تساعدني، فلا أستطيع القيام، وآخر يقول: أنا لا أستطيع القيام ولا القعود، أنا مريض على السرير.
إذن استعملنا لفظ "أستطيع" في المعنى الذي يعرفه الناس.
والاستطاعة عبَّر عنها الشيخ هنا فقال: (الصِّحَّةِ، وَالْوُسْعِ، وَالتَّمَكُّنِ، وَسَلَامَةِ الْآلَاتِ)، الآلات هي: ركبتيك، يديك، سمعك، بصرك، عظامك، جسمك إذا كان مريضًا أو صحيحًا.
مثلًا الحج، استطاعته يكون بتوفر الزاد والرَّاحلة، قال تعالى:﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلً﴾ [البقرة: 158]، يعني: عنده زاد وراحلة، وليس بمريض، فهو يقدر أن يركب ويمشي.
فهذه الاستطاعة هي المعنى الذي يتعلق به الأمر والنهي.
مثلًا نقول: الذي يستطيع أن يقف في الصَّلاة يجب عليه القيام؛ لأنَّ هذا ركنٌ من أركان الصَّلاة، فالقيام يكون مع القُدرة، والذي لا يستطيع يَسقط عنه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ»[21]، ومنه قول الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَ﴾ [البقرة: 286]، هذا ما يتعلق به الخطاب، يعني: أوامر الله تعالى ونواهيه مُتعلقة بهذا المعنى، فمن عَجَزَ سَقَطَ عنه التَّكليف، فإذا عَجَزَ عَن الحَجِّ كأن لم يكن عنده مالٌ أو راحلةٌ، أو مريضٌ لا يستطيع أن يمشي إطلاقًا ولا يركب؛ فلا يجب عليه الحج؛ لأنَّ الخطاب مُتعلق بالاستطاعة.
إذن هذا هو المعنى الأول من معاني الاستطاعة، وهذا يتعلق به الخطاب، ولكن هل يجب به الفعل؟
ما معنى الاستطاعة التي يجب بها الفعل؟
هذا هو المعنى الثاني، يعني لو قُدِّر أنَّ إنسانًا سليمًا، وعنده كل الأمور التي يتمكن بها من الفعل، لكن هنا الإلهام والتوفيق والهداية سُلبت عنه، تجد بعض الناس يستطيع أن يُصلي، سليم وبه عافية، وما عنده أي مانع من الصَّلاة، ولكنه أخلد إلى النَّوم، وأخلد إلى الهَوى؛ فهنا هو مُستطيع من جهة تعلق الخطاب، فالقدرة موجودة، والتَّمكُّن موجود، لماذا لم يقع منه الفعل ما دام أنه مستطيع؟
نقول: لأن التوفيق قد رُفِعَ عنه؛ فخذل لأنَّه أعرض واتَّبع هواه.
وهذا المعنى الثَّاني ورد أيضًا في القرآن، قال تعالى: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾ [هود: 20]، فيه ذَمٌّ للكفار، هل كانوا لا يسمعون مُطلقًا؟
لا، ليسوا صُمًّا، ولكن المراد أنهم لم يُوفَّقوا، خُذلوا واتَّبعوا أهواءهم، فصاروا لا يستطيعون السَّمع، وصار على قُلوبهم الرَّان، وصارت قلوبهم غُلف بسبب إعراضهم ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف: 5]؛ لأنهم بلغتهم الحجَّة وعرفوا الحق فأعرضوا عنه، هؤلاء قال الله عنهم:﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾ ، ومثله قوله في سورة الكهف:﴿قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرً﴾ [الكهف: 72] في موضعين، هو يستطيع الصبر، ولكن في هذا المقام لم يتمكَّن من هذا ولم يُوفَّق إلى هذا، وهذا أمر الله -سبحانه وتعالى- لحكمة بالغة قدَّرها الله -عزَّ وجلَّ- حتى يعرف العباد ما حصل بين موسى والخضر -عليهما الصَّلاة والسَّلام؛ لأنَّ الخِضر نبي على الصَّحيح.
السؤال السابع:
مَن مَلكَ القدرة على العمل الصالح، ولم يؤده لهوى؛ فقد رُفِعَ التوفيق عنه.
صواب
 
 
ما الفائدة من هذه المسألة؟لماذا نقول "الاستطاعة التي يجب بها الفعل"؟
يعني: يتحقق بوجود الفعل، ويظهر الفعل.
إذن لابد فيها من أمرين:
الأمر الأول: سلامة الآلات، والصحة، والوسع، والقدرة.
الأمر الثاني: توفيق الله للعبد.
فبعض الناس سليم وطيب، ولكن ما وفقه الله، فلا يقع الفعل.
وهذه المسألة ضلَّت فيها طائفتان: المعتزلة وضالة الأشاعرة، فكلاهما عندهم الاستطاعة بمعنى واحد، وهذا غلط من هؤلاء وهؤلاء، والصَّواب هو التفصيل، فالاستطاعة فيها تفصيل:
- إن كان المراد التمكُّن من الفعل بسلامة الآلات بالصحة والوُسع؛ فهذه الاستطاعة التي يتعلق بها الخطاب، ولا يجب بها الفعل، يعني: لا يجب أن يقع بهذا الفعل إلا إذا وفَّق الله العبد، وهذه هي الاستطاعة بالمعنى الثاني.
وقولنا هنا: "لا يجب بها الفعل"، أي: لا يجب الوقوع، وليس معنى الوجوب الشرعي.
وهذا معنى قول الشيخ: (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ)، يعني لابد من تحقق الفعل بها.
قال: (مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ)، الموفِّق هو الله، والعبد لا حول له ولا قوة إلا بالله.
فالاستطاعة بالمعنى الأول تكون مع الفعل ومصاحبة له، وهذه الاستطاعة تكون بتوفيق من الله للعبد، ولهذا دائمًا علينا أن ننتبه لهذا المعنى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5]، نستعين حتى على أمور الدين، ولهذا كان من أكثر دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وَشُكْرِكَ، وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ»[22]، فنحن بحاجة إلى عون الله -عزَّ وجلَّ- وإلا قد يُحال بينك وبين الطاعة بسبب ذنوبك، أو بسبب هواك، أو أصدقاء السوء، أو غير ذلك -نسأل الله العافية والسلامة.
هذا معنى قوله: (وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي يَجِبُ بِهَا الْفِعْلُ مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ الْمَخْلُوقُ بِهِ)، لأنه ما يجوز أن يقول: أنا وفقت نفسي! فالتوفيق بيد الله -سبحانه وتعالى- فالله هو الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
أمَّا الاستطاعة من جهة الصحَّة والوسع والتمكين وسلامة الآلات فهي قبل الفعل، يعني مثلًا الصلاة أو الحج، أو أي فِعل، فنجد أنَّ الإنسان إذا كان سليمًا، صحيح الجسم، آلات جسمه مثل أعضائه ونحو ذلك سليمة؛ إذن الفعل واجب عليه، لا يسقط عنه القيام، ولا تسقط عنه الصلاة، لأنه سليم، فما قبل الفعل تسمى الاستطاعة، والتي يغلب استخدامها في النصوص، حتى في كلام الناس.
{قال -رحمه الله تعالى: (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ هِيَ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ)}.
هذه المسألة مُهمة، ويقصد بأفعال العباد: أفعال العباد الاختيارية، مثل: قيامك وقعودك، صلاتك، صومك، حجَّك، ومثل: البعيد الذي يزني ويسرق ويكفر؛ هذه تسمى أفعال العباد.
حتى أفعالهم الأخرى، مثل: الشرب، والنوم، والقعود، والجري، والركض، والقفز؛ فهذه أفعال العباد، كل فعل يُضاف إلى العبد.
قال: (هِيَ خَلْقُ اللَّهِ)، قال تعالى: ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الرعد: 16]، وقال: ﴿هَلْ مِنْ خَالِق غَيْر اللَّه يَرْزُقكُمْ مِنَ السَّمَاء وَالْأَرْض لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [فاطر: 3]، فهذا خلق الله -سبحانه وتعالى- فلا يجوز أن نقول: إن العبد خلقه.
أو كما يقول بعض المعتزلة: لم يخلقها الله -ويسكت!
وبعضهم يقول: العباد هم الذين خلقوا أفعالهم.
وهذا كلام باطل! فالعبد مخلوق، ولا يُمكن أن يخلق شيئًا، فالخالق واحدٌ لا شريك له، خالق كل شيء.
السؤال الثامن
الراجح أنَّ العِبَادَ هُم الذينَ خَلَقُوا أفعالهم.
خطأ
 
 
وحتى تسهل هذه المسألة على الإنسان: كل أفعال الإنسان الاختيارية تنشأ عن أمرين لا ثالث لهما:
الأمر الأول: قدرته.
الأمر الثاني: مشيئته واختياره.
الآن لو أنَّ إنسانًا عاجزًا، يده لا تستطيع أن تمسك شيء؛ فهل يستطيع أن يرفع الكأس ويشرب؟
لا، فلو كانت القدرة موجودة لاستطاع أن يفعل هذا.
فإذا مشى، أو طاف بالبيت فهذه تسمى بالقدرة، ولكن لا تكفي القدرة وحدها، فلابد من المشيئة والاختيار، والعزيمة على الفعل، فلو أنَّ الإنسان قادرٌ ولكنَّه لم يُرد هذا الشيء فإنَّه لا يقع الفعل.
من الذي خلق فيك أيُّها الإنسانُ صفة القدرة على أفعالك، وصفة المشيئة لها والاختيار؟
الله -عزَّ وجلَّ- هو الذي خلق هاتين الصفتين، وما نتج عنهما فهو خلق لله تعالى.
ومن الأمثلة التي توضح لك هذا: أن أفعالك هذه الناتجة عن قدرتك ومشيئتك مخلوقة -كما تقدم- كما أن لونك وطولك وعرضك، وكل ما فيك من عينٍ وأنفٍ ويدٍ، وكل ما فيك هو خلق الله تعالى، وأنت وجميع البشر كانوا نطفة، وقبل النطفة عدم، ثم هذه النطفة تطورت كما أخبر الله -عزَّ وجلَّ- في بطن الأم حتى خرج مولودًا ضعيفًا، ثم هذا المولود مَن الذي خلقه؟ ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 14]، فأنت مخلوق لله.
مع أنك لو قارنت بين جسمك الآن وجسمك يوم أن خرجت من بطن أُمِّك؛ فما فيه مقارنة! لكن هذه الأمور التي أوجدها الله -عزَّ وجلَّ- أوجدها فيك بقدرته، فهو الخالق لك ولكل ما ينتج عنك، فهي تُضاف إلى الله -عزَّ وجلَّ- ولذا قال: (وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ هِيَ خَلْقُ اللَّهِ تَعَالَى)، لكن ليس معنى هذا أنَّ الأفعال الاختيارية -أخرجنا الشيء الذي لا اختيار للإنسان فيه مثل: حركة المرتعش، فبعض الناس يصيبهم الرَّعَّاش، وبعض الناس يفعل أفعالاً في النَّوم، أو إذا فقد عقله، فهذه الأشياء مرفوع عنها القلم ولا يُلام- ولكن الأفعال الاختيارية التي يفعلها باختياره ومشيئته وقدرته؛ هذه الأفعال تضاف إلى العبد أيضًا كسبًا وتسبُّبًا، وتضاف إليه ثوابًا وعقابًا ومحاسبةً حتى بين الناس، فالناس لا يلومون العاجز الذي حصل منه شيء بغير اختياره، فلو تبوَّلَ وأتلف الفراش لا أحد يلومه؛ لأنه عاجز، لكن لو كان مختارًا وأفسد عليهم ببوله فإنهم يلومونه، ويعاقبونه.
فهذه أفعال اختيارية يُلام عليها العبد، ولهذا قال: (وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ)، يعني: تُضاف إليهم فيُحاسبون عليها.
إمَّا إلى الرَّب -سبحانه وتعالى- فتُضاف إليه خلقًا وإيجادًا، وهذا معنى هذه الجملة.
السؤال التاسع:
أفعال العِبادِ الاختيارية تُضافُ إِلى العبدِ كَسْبًا وتسبُّبًا، وثوابًا وعقابًا، وتضاف إلى الله تعالى خلقًا وإيجادًا.
صواب
 
 
 
طبعًا ضلَّ فيها أقوام:
- الجبرية يقولون: العبد مجبور، وكل أفعاله مجبور عليها!
 وكذبوا، وهم يعلمون أنَّهم كاذبون، ما فيه واحد من العقلاء يقول: إنَّ تصرفاته كلها مجبورٌ عليها، يعني: لو حَدَثَ خلافٌ بينه وبين شخص أخذ يحاسبه، ولو قال له: أنا مجبورٌ فلا يقبل، فكيف يقول في حق الله -عزَّ وجلَّ- هذا الكلام الذي يرفضه هو بنفسه؟!.
السؤال العاشر:
ذهب ..... إلى أنَّ العبد مجبور وكل أفعاله مجبور عليها.
الجبرية – القدرية – المعتزلة
الجبرية
 
 
- ومقابل هؤلاء الجبرية؛ القدرية، الذين يقولون: أفعال العباد استقلُّوا هُم بها، ولا مَشيئة للربِّ عليها، ولا خلق له!
فنفوا عن الله عموم مشيئته وعموم خلقه، وقد ضلّوا في هذا كما ضلَّ الجبرية، قال الله تعالى: ﴿لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير:28-29]، فقوله:﴿وَمَا تَشَاءُونَ﴾ أثبت مشيئة العباد، ثم قال: ﴿إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ ، أثبت عموم مشيئته، فغلبت مشيئته المشيئات كلها.
السؤال الحادي عشر:
ذَهَبَ القدرية إلى استقلال العباد بأفعالهم، وأنَّه لا مَشيئة للربِّ عليها.
صواب
 
 
{سؤال:
شيخ أحسن الله إليكم..
القدرية لما قالوا: إنَّ العباد خلقوا أفعالهم؛ أرادوا بزعمهم تنزيه الله -سبحانه وتعالى- عن أفعال العباد السيئة}.
نعم، هي شبهه نشأت عندهم، وهي قولهم: كيف يخلق المعصية، ثم يُعاقب عليها؟!
ونحن نقول لهم: إنَّ الله -عزَّ وجلَّ- لا شَكَّأنَّه خلق كل شيء، ومِن جُملة مخلوقاته ما يقع من المعاصي، ولكنَّ الله -عزَّ وجلَّ- لم يعاقبهم على أَمرٍ ليس لهم فيه اختيار ولا مشيئة ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً﴾ [الكهف: 49]، فهم فعلوه باختيارهم وأرادوه.
ولهذا نقول للقدرية ولعموم الناس: القدر سر الله -عزَّ وجلَّ- فلا تخوضوا فيه، ولا تكشفوه، لماذا هدى هذا؟ ولماذا أضل هذا؟
أمسكوا عن هذا، فإنَّ الله -عزَّ وجلَّ- عليم حكيم ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً﴾ ، قال تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23]، فلا يجوز أن نعترض على الله -سبحانه وتعالى- ولكن علينا أن نجتهد في العمل، وأن ننصح للنَّاس حتى يعودوا إلى الصِّراط المستقيم -نسأل الله أن يهدينا جميعًا وجميع إخواننا المسلمين.
{قال -رحمه الله تعالى: (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ؛ وَهُوَ تَفْسِيرُ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"؛ نَقُولُ: لَا حِيلَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا حَرَكَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا تَحَوُلَ لِأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللهِ.
وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِلْمِهِ، وَقَضَائِهِ، وَقَدَرِهِ؛ غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُ الْمَشِيئَاتِ كُلَّهَا، وَغَلَبَ قَضَاؤُهُ الْحِيَلَ كُلَّهَا، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبْدًا، تَقَدَّسَ عَنْ كُلِّ سَوْءٍ وَحَيْنٍ، وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَشَيْنٍ، ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23])
}.
هذه الجملة العظيمة، قال: (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا مَا يُطِيقُونَ)، هذا صحيح، قال الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَ﴾ [البقرة: 286].
ومعنى (إِلَّا مَا يُطِيقُونَ)، أي: إلَّا ما يقدرون، فهل الله -عزَّ وجلَّ- كلفنا أن نحمل الجبال فوق رؤوسنا؟ هذا شيء ما نطيقه، فما كلفنا الله -عزَّ وجلَّ- بهذا؛ بل كلفنا الله -عزَّ وجلَّ- بما نطيقه، يعني: خمس صلوات في اليوم والليلة، بل لو هي خمسين لكانت في جملة ما نطيق، ولكن من رحمة الله جعلها خمسًا، وفي الثَّواب خمسين كما في حديث الإسراء والمعراج، فالله -عزَّ وجلَّ- من رحمته بعباده يسَّر العبادة، خمس صلوات في اليوم والليلة، هل تعجزهم؟ وحج مرة واحدة في العمر للمستطيع، والعمرة كذلك، فمن عَجَزَ سَقَطَ عنه هذا الفرض، وصوم شهر، ويصوم من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فقط، وكذلك الزكاة.
فالمقصود: أنَّ هذه الشريعة ليس فيها تكليف بما لا يُطاق؛ بل كل ما كلفنا الله وأمرنا الله به فهو مما نُطيقه، بل مِن رحمته سبحانه لو قُدر أنَّ بعض النَّاس عَجَزَ عن بعض الواجبات سقطت عنه.
مثال:
- واحد ما يستطيع أن يُصلي قائمًا فإنه يُصلي قاعدًا.
- ما يستطيعأن يُصلي قاعدًا يُصلي مضجعًا.
- واحد ما يستطيع أن يذهب للمسجد لمرضه يُصلي في اليبت.
وهكذا، فهذا من رحمة الله -عزَّ وجلَّ.
قال: (وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ)، وهذه الجملة فيها نظرًا، هو مراده أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، لكن هل العباد لا يطيقون إلا مكلفهم الله؟
الجواب: يطيقون ما كلفهم الله وزيادة، فالله -عزَّ وجلَّ- رحيم بعباده.
قال: (وَهُوَ تَفْسِيرُ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ")، هذه الكلمة العظيمة قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لأبي موسى الأشعري: «يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟، فَقُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «قُلْ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ»[23]، الله أكبر!
هذه الكلمة هي كلمة استعانة وليست كلمة استرجاع، بعض النَّاس يجعلها استرجاعًا، فإذا جاءت مصيبة قال: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"، الاسترجاع يُشرع أن تقول فيه: "إنَّا لله وإنا إليه راجعون".
أمَّا قول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، فهي كلمة همَّة وعزيمة وتوكُّل على الله، وطلب التوفيق منه والإعانة على الطاعة.
السؤال الثاني عشر:
قول: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" لا يُقالُ إلَّا عند حدوث المصائب فقط.
خطأ
 
 
ومعناها: قال: (لَا حِيلَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا حَرَكَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا تَحَوُلَ لِأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللهِ)، ولهذا عندما يقول المؤذن: "حي على الصَّلاة.. حي على الفلاح" نقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله"، يعني: قيامي وذهابي للمسجد بتوفيق الله، ولهذا فإنَّ الإكثار منها مِن أسباب إعانة العبدِ على جميع مَطالب الدِّين والدُّنيا.
فهذا معنى قوله:(وَهُوَ تَفْسِيرُ: "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ") يعني: لا يُكلف الله نفسًا إلا وسعها، وأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يُعين العبد، فلا عون للعبد إلا بالله، ولا توفيق له إلا بالله، ولا انتقال له من مَعصيةٍ إلى طاعةٍ إلا بالله، فعلى العبدِ أن يرجع إلى الله -سبحانه وتعالى.
قال: (وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِلْمِهِ، وَقَضَائِهِ، وَقَدَرِهِ)، يعني: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
قال: (غَلَبَتْ مَشِيئَتُهُ الْمَشِيئَاتِ كُلَّهَ)، يعني: لو شاء العباد شيئًا وشاء الله شيئًا؛ نفذت مَشيئة الله وبَطلت مشيئة العباد.
قال: (وَغَلَبَ قَضَاؤُهُ الْحِيَلَ كُلَّهَ)، يعني: حيلتك أنت وفكرك واجتهادك وذكاؤك وحسن تدبيرك؛ غلبه قضاء الله، فكله بتدبير الله -عزَّ وجلَّ- فإذا أراد شيئًا أمضاه.
قيل لأعرابي: بمَ عرفتَ ربك؟
قال: عرفت ربي بنقض العزائم، وبعث الهمم.
أي: يكون عندي عزيمة على الشيء، ثم ينقضها الله -عزَّ وجلَّ، وما عندي همَّة على شيء ثم يبعث الله همَّة فأقوم به.
قال: (يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبْدًا، تَقَدَّسَ عَنْ كُلِّ سَوْءٍ وَحَيْنٍ، وَتَنَزَّهَ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ وَشَيْنٍ)، وهذه الجملة نشرحها في الدرس القادم -إن شاء الله تعالى.
والمقصود أنَّ هذه الجملة العظيمة في بيان أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله -عزَّ وجلَّ- وأنها كسبٌ للعباد، وفيها ردٌّ على الجبريَّة والقدريَّة، وفيها وجوب التوكل على الله والاستعانة به.
 
وفق الله الجميع لما يُحب ويرضى، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
{وفي الختام نشكركم فضيلة الشيخ على ما أجدتم به وأفدتم، ولا أنسى أن أشكركم أنتم أيُّها المشاهدون على حُسن إنصاتكم واستماعكم، إلى أن نلقاكم في الحلقات القادمة، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
----------------------
[10]جامع الترمذي (2582).
[11]مسند أحمد (6889).
[12]صحيح البخاري (4729).
[13]مسند أحمد (3859).
[14]صحيح مسلم (333).
[15]رواه البخاري (5954)، ومسلم (4866)، واللفظ لمسلم.
[16]سنن أبي داود (4168)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (2641).
[17]صحيح البخاري (4386).
[18]أخرجه البخاري (5197)، ومسلم (907)، والنسائي (1493)، وأحمد (3374).
[19]مسند أحمد (7297).
[20]صحيح البخاري (1362)، مسلم (2647).
[21]صحيح البخاري (1056).
[22]مسند أحمد (21552).
[23]صحيح البخاري (3908)، صحيح مسلم (4879)، واللفظ لمسلم.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك