الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ أ.د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

7817 12
الدرس الحادي عشر

العقيدة الطحاوية (1)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العَالمين، والعَاقبةُ للمتَّقين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فأرحبُ بكم أيُّها الأبناء، في الدَّرس الحادي عشر من دروس العقيدة الطَّحاوية، وفي برنامج البناء العلمي.
وأرحبُ بالأبناء الطُّلاب والطَّالبات الذين يتابعون هذه الحلقات العلميَّة، عبر برامج الأكاديميَّة الإسلاميَّة العالميَّة المفتوحة.
كما أرحبُ كذلك بالإخوة والأخوات المشاهدين عبر البثِّ المباشر، والبثِّ المسجَّلِ لهذه الدُّروس العلميَّة، أسأل الله لنا ولهم العلمَ النَّافع والعملَ الصَّالح.
على بركة الله نبدأ درسنا في هذا الليلة من قول المصنف الإمام أبي جعفر الطَّحاوي -رحمه الله: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ).
تفضل يا شيخ سعيد.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العَالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهمَّ اغفر لنا، ولشيخنا، وللمستمعين، ولجميع المسلمين.
قال المُصنف -رحمه الله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ؛ فَإِنَّ رَبَّنَا جَلَّ وَعَلَا مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ، لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ، وَتَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ، وَالْأَرْكَانِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَدَوَاتِ، لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَات.
وَالْمِعْرَاجُ حَقٌّ وَقَدْ أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وَعُرِجَ بِشَخْصِهِ فِي الْيَقَظَةِ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الْعُلَا وَأَكْرَمَهُ اللَّهُ بِمَا شَاءَ، وَأَوْحَى إِلَيْهِ مَا أَوْحَى ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [النجم: ١١] ، فَصَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى، وَالْحَوْضُ الَّذِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ غِيَاثًا لِأُمَّتِهِ حَقٌّ)
}.
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على نبينا محمد، اللهمَّ ارزقنا يا حيُّ يا قيوم الورودَ على حوضه بمنِّك وبكرمك يا أكرم الأكرمين.
يَقول الإمامُ الطَّحاوي -رحمه الله: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ) هذا الجزءُ مِن العقيدةِ الطَّحاوية متعلِّقٌ بالمسائل التي سبقت في تقريرِ رؤيةِ المؤمنين لربهم -تبارك وتعالى- نسأل الله -عز وجل- أن يجعلنا وإيَّاكم وإخواننا المشاهدين ممَّن يَرون رَبهم في جنَّات النَّعيم بمنِّه وكَرَمِه.
وكما لاحظتم في الدَّرس السَّابق أنَّ المصنفَ -رحمه الله- بَسَطَ القولَ في مسألة الرُّؤية، ثُمَّ ذكر قواعد مهمَّة، نعيدُ هذه القواعد قبل أن نبدأ بالتَّعليق على قوله هنا: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ).
في الدَّرس الماضي قال معقبًا على مسألة رؤية المؤمنين لربهم -تبارك وتعالى- في جنَّات النَّعيم: (فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ) وهذه قاعدة عامَّة، فالدِّينُ مبنيٌّ على الاستسلام والانقياد لله -تبارك وتعالى- ولهذا فمن شروطِ الشَّهادتين: الانقياد لله -تبارك وتعالى.
وهنا قال: (فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)، أي: سلَّم لخبر الله، ومن ذلك ما أخبر الله به عن نفسه وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنَّ المسلم يسلم وينقاد ويؤمن ويصدِّق بما أخبر الله تعالى به عن نفسه، لا يُكيِّف ولا يُمثِّل ولا يُشبِّه ولا يُعطِّل ولا يُحرِّف؛ بل يؤمن بما وصف الله به نفسه، والله -تبارك وتعالى- يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الشورى: 11]، فيؤمن بأنَّه سميعٌ وأنَّه بصيرٌ، ويؤمن بسائر الصِّفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنَّ الله -عز وجل- أصدق قِيلًا وأحسن حديثًا، والرسول صلى الله عليه وسلم أعلم بربِّه -تبارك وتعالى- وهو أخشى النَّاس وأتقى النَّاس -صلوات الله وسلامه عليه.
قال: (فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ)، أي: سلَّم في باب الخبر، فلا يَعترض عليه بالتَّكذيب ولا بالردِّ ولا بالتَّأويل ولا بالتَّحريف، وسلم للأمر فيُنفِّذ، سواء أدرك عقله الحكمة أو لم يدركها، وسلم للنَّهي فيجتنب ما نهى الله عنه، سواء أدرك عقله الحكمة أو لم يدركها، فهذا هو دين الإسلام مبنيٌّ على التَّسليم بالأخبار والأوامر والنَّواهي والأحكام والأقدار، فيرضى بقدر الله -تبارك وتعالى- ولا يعترض على الرَّبِّ -تبارك وتعالى.
قال: (وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم)، شهادة أنَّ محمدًا رسول الله. ما معناها؟
المسلم إذا قال أو سمع المؤذِّن وهو يقول كل يوم: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنَّ محمدًا رسول الله"، ما معنى شهادة أنَّ محمدًا رسول الله؟
طاعته فيما أَمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبَد الله إلا بما شرع، فلا يَستقيمُ الدِّين إلا بالتَّسليم للرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام.
قال: (وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ) الاشتباه -كما مرَّ معنا في الدَّرس السَّابق: إمَّا اشتباه مطلق وإمَّا اشتباه مقيَّد.
الاشتباه المطلق: هو ما يتعلَّق بالكيفيَّات، وهذه أمرها إلى الله، فلا يخوض في الكَيْف، ولهذا فإنَّ السَّلف يُفوِّضون الكَيْف، فيقولون: الكيفُ مجهولٌ، نعم هذه الصِّفات لها كُنْه ولها كيفيَّة، ولكن لا نعلم هذه الكيفيَّة، فهم يُفوضون الكيفيات، ولكن يعرفون المعاني، يعرفون معنى الاستواء ومعنى النزول ومعنى المجيء ومعنى السَّمع ومعنى البصر، ولكن الكيف مجهول، وأمره  إلى الله، فهذا هو الاشتباه المطلق.
الاشتباه النِّسبي: هو أنَّ بعض المسائل قد تُشكل وقد تشتبه على المسلم وعلى طالب العلم؛ فيتوقَّف ولا يخوض فيها بغير علم حتى يتبيَّن له موضع الاشتباه، ويعود إلى كلام أهل العلم في المسائل التي أشكلت عليه فيزول هذا الاشتباه، كما لو أشكل على مسلم اسم من الأسماء، هل هو ثابت لله أو غير ثابت؛ فلا يخوض بغير عِلم، أو قد تشكل عليه صفة من الصِّفات، فلا يخوض فيها بغير علم، بل يردُّ ما اشتبه عليه إلى عالِمه.
إذن مُراده هنا بقوله: (إِلَى عَالِمِهِ) إمَّا رده إلى الله، وهذا فيما يتعلَّق بالكيفيَّات، أو يردُّه لأهل العلم إذا كان ممَّا يَعلمه أهل العلم، ولهذا التَّأويل في قوله -تبارك وتعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ﴾ [آل عمران: 7] التَّأويل هنا يحتمل معنيين:
-       المعنى الأول: الحقيقة، وهذه لا يعلمها إلا الله.
-       المعنى الثاني: التفسير ومعناه، وهذا يعلمه أهل العلم.
وهكذا الاشتباه يحتمل أن يكون:
اشتباهًا مُطلقًا، فهذا يَكِل علمه إلى الله.
أو اشتباهًا نسبيًّا فيما يُشكل من المعاني، نعم لها معانٍ ولكنَّها قد تُشكل على بعضِ طلاب العلم، وتُشكل على بعض المسلمين، فإنَّه لا يخوض فيها بغير علم، وإنَّما يردُّ ما اشتبه عليه إلى عالِمه.
إذن التَّسليم لله يكون في الخبر والأمر والنَّهي والقدر، وهكذا التَّسليم للرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- فيما أخبر به عن ربِّه -تبارك وتعالى- وما اشتبه فيردُّ علمَه إلى عالِمه، فإن كان من الكيفيَّات؛ فلا يعلم ذلك إلا الله، وإن كان من المسائل التي تُشكِل والنُّصوص التي قد يظهر من ظاهرها التَّعارض؛ فإنَّه لا يخوض فيها بغيرِ علمٍ، وإنَّما يتثبَّت ويرجع إلى أهل العلم.
قال: (وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلَا مِ) نعم لا يكون مسلمًا إلا على ظَهْر التَّسليم والانقياد لله -تبارك وتعالى- تصديقًا لخبره فلا يعترض، وتصديقًا لأمره، وانقيادًا لقضائه وقدره، ولهذا كان الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.
لو أنَّه لم يستسلم واعترض على أخبار الله، فهل يكون منقادًا لله؟ هل يكون مُسلمًا ويعترض على خبر الله؟ أو يعترض على أمر الله؟ أو يعترض على نهي الله؟ أو يعترض على أقدار الله؟
هذا لا يكون مُسلمًا حقًا وهو يعترض على أخبار الله -تبارك وتعالى-  كما قال الله -تبارك وتعالى:﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾ [النساء: 65].
 قال -رحمه الله: (فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ) يعني قصد عِلمَ مَا حُظِرَ عنه عِلمه ومن ذلك الكيف، فيخوض في الكيفيَّات (وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ) يعني: مَا قَنَعَ بخبر الله؛ بل خَاضَ في الكيفيَّات، وأوَّل النُّصوص، وعطَّل النُّصوص (وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ) إذن هو يفهم النُّصوص مفهومًا لكنَّه ما قنع بهذا.
(حَجَبَهُ مَرَامُهُ) يعني هذا القصد حجبه (عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ) لماذا؟
لأنَّه اعترض عن الأخبار، واعترض على الأوامر، واعترض على النَّواهي، فهذا الذي خاض في الكيفيَّات واعترض على أخبار الله وردَّها؛ إذا أشكل عليه حديث قال: هذا خبرُ آحادٍ لا نقبله، وإذا أشكلت عليه آية ولم يستطع التَّأويل والمجاز؛ قال: لا نفهمها، كأنَّنا نخاطب بلغة لا نفهمها! هذا بلا شك نوع من أنواع الاعتراض.
ولهذا قال: (فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ) ومن ذلك الأمور الكيفيَّة التي لا يعلمها إلا الله (وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ) بل أخذ يَعرضُ النُّصوص على عقله القاصر (حَجَبَهُ مَرَامُهُ) يعني هذا القصد حجبه عن ماذا؟ (عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ) فهل يكون توحيده خالصًا؟ أبدًا.
ولهذا لاحظوا الذين خاضوا في الكيفيات وفي التَّعطيل والتَّأويل؛ لم يصلوا إلى التوحيد الخالص، بل عطَّلوا الرب -تبارك وتعالى- عن صفات الكمال، وعطَّلوه عن توحيد الألوهيَّة الذي هو توحيد العبادة، والسَّبب هو الخوض فيما لا علم لهم به.
(حَجَبَهُ مَرَامُهُ) أي: حجبه قصْدُه عن خالص التَّوحيد، فما أصبح مُوحدًا خالصًا!
كيف يكون موحدًا خالصًا وهو لا يَصرِف العبادة لله بل يجعل مع الله شركاء؟!
كيف يكون موحدًا خالصًا وهو يُعطِّل الرَّب عن الصِّفات التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم؟
قال: (وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ) هل معرفته صافية؟ أبدًا. لماذا؟
لأنَّه أخذ يعرض نصوص الوحي على عقول الرِّجال القاصرة، وأهواء الرِّجال، وأقوال الرِّجال، فلم يتلقَّ العلم الصَّافي من منبعه الصَّافي من الوحي، وإنَّما أخذه من القيل والقال وأقوال الرِّجال، ولهذا كان هذا القَصْد حاجبًا له عن صافي المعرفة.
ولهذا فإنَّ صافي المعرفة هي أن تأخذ العلم مِنَ الوحي، أي: من الكتاب والسُّنَّة.
بينما أقوال الرجال تُعرض على الكتاب والسُّنَّة، فما وافق الكتاب والسُّنَّة؛ فحيَّ هلا ويقبل، وما خالف فيرد على صاحبه كائنًا من كان، فهذا المنهج وهذا القصد الذي قصده قد حجبه عن خالص التَّوحيد وصافي المعرفة وعن صحيح الإيمان؛ لأنَّه سيدخل في باب التَّشبيه والتَّأويل والتَّعطيل والرَّدِّ والاعتراض على الله -تبارك وتعالى- والاعتراض على رسوله صلى الله عليه وسلم، والسَّببُ هو هذا المنهج، وفي خوضه فيما لا علم له، وخوضه فيما حظر عنه علمه من الأمور الغيبيَّة.
فهذا المنهج يصل به إلى التَّذبذب، والحيرة، والاضطراب، والشَّك، والوسوسة، وهذا هو الذي وقع فيه أرباب الكلام وأرباب الفلسفة لمَّا عرضوا نصوص الوحي على عقولهم، وعلى علوم المنطق، وعلم الكلام، كانت النتيجة الحيرة والاضطراب والوسوسة والتَّناقض.
يقول -رحمه الله: (فَيَتَذَبْذَبُ) بسبب هذا الخوضِ وردِّ النُّصوصِ وليِّ أَعناق النُّصوصِ، والاعتراض على خبر الله -تبارك وتعالى- فتجده يُثبت بعض الصَّفات وينفي البعض الآخر، ثم إذا اعتُرض عليه بالقرآن أخذ يتكلَّف في تأويل النُّصوص أو يقول: نفوضها لا نفهم المعنى، وإذا اعتُرض عليه بالأحاديث الصَّحيحة قال: أخبار آحاد لا نقبلها، نقول: الرَّسول صلى الله عليه وسلم أليس واحدًا؟! وجبريل أليس واحدًا؟!
وقد يصل به الأمر إلى أن يردَّ الشَّريعة بأكملها، وهذا الذي وقع فيه مَن قالوا إنَّ النُّصوص ليست على ظاهرها، فتجرَّأ الفلاسفةُ وقالوا: نصوصُ المعاد ليست على ظاهرها، وتجرَّأ الباطنيَّة فقالوا: نصوص الأوامر والنَّواهي ليست على ظاهرها.
ولهذا فإنَّ المتكلِّمون الذين أوَّلوا نصوص الصِّفات، تسلَّط عليهم الفلاسفة فأوَّلوا نصوص المعاد، وتسلَّط عليهم الباطنيَّة فأوَّلوا نصوص الأحكام والأوامر والنَّواهي، لمَّا أراد المتكلِّمون -الذين عطلوا الصِّفات تعطيلا كليًا أو جزئيًا- الرَّد على الفلاسفة وعلى الباطنيَّة ما استطاعوا! لا للإسلام نصروا ولا للفلاسفة كسروا، بسبب هذا المنهج الباطل الذي سلكوه في باب الصِّفات.
قال في بيان حالهم: (فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ: الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ) يؤمن ببعض الصِّفات ويكفر ببعضها، يردها أو يرد الآحاد، يقول: خبر الواحد لا نقبله، أو ينكرها أو يؤوِّلها، فهو يتذبذب بين الكفر والإيمان، نعم هو يؤمن بالخالق، ويؤمن بأوامره ونواهيه؛ ولكنَّه لا يؤمن بصفاته أو لا يؤمن بكثيرٍ من الغيبيَّات إذا خالفت عقله، فتجد أنَّ بعضهم يُنكر الحوض ويُنكر الميزان ويُنكر الرؤية، بسبب تحكيم عقله في هذه الأمور الغيبيَّة، فتجده يتذبذب بين الكفر والإيمان، يُقرر أشياء توافق الشَّريعة، ثم يبدأ يرد أشياء تخالف الكتاب والسُّنَّة.
ويتذبذب بين (التَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ) يُصدِّق ويُكذِّب، تجده مثلًا في بعض الصِّفات يقول: أؤمن بسبعِ صفاتٍ، والباقي لا يؤمن به، أو يؤمن بثمانية أو يؤمن بعشرين، وباقي الصِّفات تجده يردُّها، أو يؤوِّلُها، أو يقول فيها بالمجاز، أو يقول فيها بالتَّفويض، فتجده يتذبذب بسبب هذا المنهج، فيتذبذب بين التَّصديق والتَّكذيب، وبين الإقرار والإنكار؛ وهذا حال أهلِ الباطل، تجد في الكتاب الواحد هذا الاضطراب، وتجده في مرحلة يُقرُّ بأشياء وفي مرحلة يُنكرها.
قال: (مُوَسْوَسًا، تَائِهً) بسب بهذه الوساوس التي يريدها الشَّيطان، إمَّا شياطين الإنس أو شياطين الجن، وتجده شاكًّا زائغًا، ولهذا يُكذِّب النُّصوص أو يُشكِّك في دلالاتها أو يُشكِّك في معانيها، ويحصل به الزَّيغ.
قال: (لَا مُؤْمِنًا مُصَدِّقً)، يعني: لا يُؤمن بكل بما جاء بالكتاب والسُّنَّة ومن ذلك باب الأسماء والصِّفات.
(وَلَا جَاحِدًا مُكَذِّبً) لأنَّه ما يُنكر القرآن، ولهذا بعضهم في قضيَّة الرؤية -كما مَرَّ معنا- هو ينكر العلو ولا يستطيع أن يَردَّ آيات الرؤية ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 23] فقال: يرى ولكن في غير جهة!
وسبب الاضطراب أنَّه ينفي العلو ولا يستطيع أن يرد آيات الرُّؤية فيثبتها وتتعارض مع إثبات العلو، فيبقى في التَّذبذب.
ولهذا قال: (لَا مُؤْمِنًا مُصَدِّقًا، وَلَا جَاحِدًا مُكَذِّبً) والسَّبب هو: هذا المنهج الذي سلكه والذي أوقعه في هذا التَّذبذب بين الكفر والإيمان، والتَّصديق والتَّكذيب، والإقرار والإنكار، موسوسًا تائهًا، شاكًا زائغا، لا مؤمنًا مصدقًا بكل ما جاء في كتاب الله وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا تجد السَّلف الصَّالح يمتاز منهجهم بالوضوح، وعدم التَّناقض، وعدم الاضطراب، وما يُقرَّر بالصَّدر الأوَّل هو ما يُقرَّر بالعصور المتأخِّرة، ولا تجد في هذا تناقضًا، بينما مناهج المتكلِّمين ومناهج الفلاسفة تجد فيها الحيرة، وتجد الاضطراب، وقد يُقرَّر قولًا في زمنٍ ثم يُقرَّر بعدَ قرونٍ قولًا آخرًا، كل هذا نتيجة هذا الاضطراب وهذه الحيرة وهذا الفساد في المنهج.
قال: (لَا مُؤْمِنًا مُصَدِّقً) بكلِّ ما جاء بالكتاب والسُّنَّة (وَلَا جَاحِدًا مُكَذِّبً) لأنَّه يُقرُّ بالقرآن ويُقرُّ بالسُّنَّة ويعمل بها في جوانب، لكن تجده في مثل هذا الاضطراب يقول: أنا أُقرُّ بالسُّنة التَّشريعيَّة، لكن في باب العقائد لا احتجُّ بها. أليس هذا اضطراب؟! يقول: نحتج بها في التَّشريع، لكن لا نحتجُّ بها في العقائد. أليس هذا اضطراب؟! فتجده يتذبذب بسبب الرَّد على الله -تبارك وتعالى- وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم بما أخبر به عن ربه -تبارك وتعالى.
ثم قال: (وَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ) أي: رؤية المؤمنين لربهم -تبارك وتعالى- جعلنا الله وإيَّاكم منهم.
(وَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ دَارِ السَّلَامِ) أي: لأهل الجنَّة (لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ) توهَّم أوهامًا باطلة (أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ بَاطِلٍ) بل يُؤمن بها كما جاءت، مثل الذي يقول: يُرى في غيرِ جهةٍ؛ فهذا من التَّأويلات، أو مَن قال في قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ أي: منتظرة أو تنتظر الثَّواب. هل يصح إيمانه بالرؤية؟ أبدًا، لماذا؟ لأنَّه اعتبرها بفهم خاطئ.
وهل حينما يؤمن بالرُّؤية على أنها منتظرة الثَّواب أو رؤية قلبيَّة أو أنَّه يُرى في غير جهة؛ هل يكون آمن بالرُّؤية حقيقة؟ لا يكون إيمانه بها كما جاءت.
قال: (وَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ دَارِ السَّلَامِ لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ) توهم غير ما جاء بالكتاب والسنة  (أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ) صرفها عن رؤية حقيقية عيانًا بأبصارهم إلى رؤية ثواب أو رؤية نعيم أو إلى غير ذلك من التَّأويلات الباطلة، ولهذا مَن لم يؤمن بالرُّؤية فهو حريٌّ بحرمانها.
ثم عقَّب على هذا قال: (إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ) يعني: تفسيرها (وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الربوبية) وهذه قاعدة (بترك التَّأْوِيلِ) التَّأويل الأوَّل هو التَّفسير، والتَّأويل الثَّاني هو التَّحريف، فيقول: إنَّ الفهم الصَّحيح للرُّؤية -وكذلك كل معنى يُضاف إلى الربوبية من الصِّفات- هو ترك التَّأويل المذموم، بمعنى أن يُثبتها لله على الوجه اللائق به.
(إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ) إذن هو يُثبت التَّأويل أو لا يثبته؟
يُثبت التَّأويل الذي هو التَّفسير، يعني أنَّها رؤية حقيقيَّة.
(إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ) وَتَأْوِيلُ أي: تفسير (كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الرُّبُوبِيَّة) يعني الصِّفات هو (بترك التَّأْوِيلِ) أي: التَّحريف، وهو: التَّأويل المذموم.
(وَلُزُومَ التَّسْلِيمِ) طبعًا لا يُفهم من هذا التفويض؛ لأنَّ المصنِّف -رحمه الله- يُثبت المعاني -كما تقدَّم- لكن التسليم لخبر الله، وخبر الرَّسول صلى الله عليه وسلم (وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ) هذا دين المسلمين ومَن شذَّ عنه فقد شذَّ عن دين المسلمين، وهذه عقيدة المسلمين، وعقيدة الصَّحابة، وعقيدة سلف الأمَّة؛ وهي: الإيمان بكل ما جاء في الكتاب والسُّنَّة من الأسماء والصِّفات على مراد الله -تبارك وتعالى- يفهمونها بلغةِ القرآن، الذي نزل بلسان عربيٍّ مبينٍ، فيثبتونها لله على الوجه اللائق به -تبارك وتعالى- (وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ) المسلمين حقًّا.
ثم قال: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ)، (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ) يعني من لم يتقِ ويحذر ويجتنب، لأنَّ التَّقوى هي أن تجعل بينك وبين الشَّيء وقاية، ولهذا فإنَّ تقوى الله أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية، ولا يقيك من عذاب الله الدنيوي والأخروي إلا أن تمتثل ما أمرك الله به وتجتنب ما نهاك الله عنه.
وهنا يقول: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ) يعني يحذر ويجتنب النَّفي الذي هو التَّعطيل والتَّحريف، ونفي معاني أصل الأسماء والصِّفات، التَّحريف تعطيل لأنه حرف المعنى إلى معنى آخر، فحقيقته أنه عطل، والتعطيل الذي هو النفي تفويض المعاني هو أيضًا نوع من أنواع التعطيل.
(وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ) يعني: ينفي الصِّفة، إما ينفي الصِّفة تمامًا بنفي المعنى، فيقول لا يجيء ولا يُرى ولا ينزل، وليس له يد، وليس له عين، فينفي ذلك، وإذا احتججت عليه بالآيات والأحاديث، قال: الله أعلم بمراده منها، فيفوض المعاني، فهذا نفي لحقيقة الرُّؤية، أو أنَّه يثبتها لفظًا ولكن يجعل المعنى معنى آخرًا، فهذا حقيقته أيضًا تعطيل.
ولهذا يقال: كلُّ مُحرِّفٍ مُعطِّلٍ، وليس كلُّ معطِّلٍ مُحرِّفٍ، لكن التَّعطيل والتَّحريف كلاهما نفي، نفيٌ لاستواءٍ حقيقيٍّ يليق بالرَّبِّ -عز وجل- معناه علا وارتفع وصعد واستقر، ونفي لمجيء حقيقي يليق بالرَّبِّ -تبارك وتعالى-، ونفي لنزولٍ حقيقيٍّ يليق بالرَّبِّ -تبارك وتعالى- وهكذا في سائر الصِّفات، فمَن نفى معاني هذه الصِّفات، فقد عطَّل الرَّبَّ -تبارك وتعالى.
(وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ) الذي هو التَّمثيل، وهو  غلوٌّ في الإثبات، فيُثبت ولكن يغلو، والناس -كما مر معنا- في باب الأسماء والصِّفات طرفان ووسط:
المُعطِّلة وهم النُّفاة.
والمشبِّه المجسمة وهم الغلاة في الإثبات.
وأهل الحقِّ والصَّواب، يثبتون إثباتًا من غير تمثيلٍ ويُنزِّهون تنزيهًا من غير تعطيلٍ، وهو هنا يقصد طرفي النَّقيض.
قال: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ) وهو التَّعطيل، سواءً كان تفويضَ المعاني أو تحريفًا للمعاني (وَالتَّشْبِيهَ) الذي هو التمثيل (زَلَّ) لأنَّه حاد عن الصِّراط المستقيم، وحاد عن المنهج الوسط، والله يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ هذا ردٌ على التَّشبيه، وقوله:﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ردٌ على التعطيل.
فالمصنف يقول: (وَمَنْ لَمْ يَتَوَقَّ النَّفْيَ وَالتَّشْبِيهَ) وهو طرفي النَّقيض (زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ) والتَّنزيه أن تُثبت إثباتًا من غير تمثيلٍ وتنزيه تنزيهًا من غير تعطيلٍ، وهم يقصدون بالنَّفي والإثبات: التنزيه، وهذا مقصد باطل.
 النُّفاة ما شبهتهم في النَّفي؟ لماذا نفوا هذه الصفات؟
لأنهم بزعمهم ينزِّهون الخالق عَن مماثلة المخلوقين.
هل هذا تنزيه أم تعطيل؟ ما فعلوه حينما نفوا الصفات هل حقيقته التَّنزيه أم التَّعطيل ؟
حقيقته أنه تعطيل.
فهو يقول: (زَلَّ وَلَمْ يُصِبِ التَّنْزِيهَ)؛ لأنَّه يعطِّله بزعم أنَّه ينزِّهه، فينفي المجيء. لماذا؟ قال: لأنَّي لو أثبت المجيء شبَّهته بالمخلوقين، يقول ليس بنازلٍ، تثبت له مجيء يليق به، فهو يزعم أنَّه بنفي المجيء ونفي النُّزول ونفي الاستواء ونفي اليد ونفي العين؛ أنَّه يُنزِّهه، والحقيقة أنَّه زلَّ ولم يُصب التَّنزيه، فالتَّنزيه هو أنَّك تُثبت صفات تليق بالرَّبِّ.
وهذا الذي نفى بزعمه أنَّه يَفرُّ من التَّمثيل وبزعمه أنَّه يُنزِّه، ما أصاب التَّنزيه الحقيقي، لأنَّه فرَّ من تشبيهه بالموجودات فشبهه بالمعدومات، وعكسه هو المُشبِّه، هو يريد الفرار من التَّعطيل؛ فشبَّهه بالموجودات المخلوقات، فهل نزه الخالق من التعطيل؟ أبدًا، هو زلَّ ولم يُصب التَّنزيه.
والتَّنزيه أن تُثبت لله -تبارك وتعالى- الصِّفات اللائقة به، لا تغلو في الإثبات إلى حدِّ التَّمثيل كما فعل المشبِّهة والممثِّلة، ولا تغلو في النَّفي إلى حدِّ التَّعطيل كما فعل المعطِّلة مفوضة المعاني مُحرِّفة النُّصوص، بل كما قال الله -تبارك وتعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ فسمعه يليق به، وبصره يليق به، ومجيئه يليق به، ونزوله يليق به، واستواءه يليق به، وقل مثل هذا في سائر الصِّفات.
قال -رحمة الله عليه: (فَإِنَّ رَبَّنَا جَلَّ وَعَلَا مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ، لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ) هذه المعاني الثَّلاثة متقاربة، والمصنف -رحمه الله- أتى بها على طريقة السَّجع كعادته في هذا المُصنَّف، فإنَّ ربَّنا -تبارك وتعالى- موصوفٌ بصفاتِ الوحدانيَّة نسبةً إلى الواحدِ، فهو -تبارك وتعالى- واحدٌ لا شريك له في ربوبيَّته، ولا شريك له في ألوهيَّته، ولا شريك له في أسمائه وصفاته، كما قال الله -تبارك وتعالى:﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1- 4] فهو موصوفٌ بصفاتِ الوحدانيَّة في جميع أنواع التَّوحيد.
قال: (مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ) والفردانيَّة نسبةً إلى الفرد، ولم يرد أنَّ "الفرد" اسم من أسماء الله لكن المصنف أتى به على طريقة السَّجع وهو بمعنى الواحد والأحد، فلا شريك له في ربوبيَّته، ولا شريك له بألوهيَّته، ولا شريك له في أسمائه وصفاته (مَوْصُوفٌ بِصِفَاتِ الْوَحْدَانِيَّةِ، مَنْعُوتٌ بِنُعُوتِ الْفَرْدَانِيَّةِ) لا شريك له، لا شبيه له، لا مثيل له.
قال: (لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ أَحَدٌ مِنَ الْبَرِيَّةِ) فهي كلها معانٍ متقاربة تدلُّ على تفرُّد الرَّبِّ -تبارك وتعالى- وعلى وحدانيته.
قال: (وَتَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ، وَالْأَرْكَانِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَدَوَاتِ، لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَات)، (تَعَالَى) يعني تقدَّس وتنزَّه ربُّنا -تبارك وتعالى- كما قال -سبحانه وتعالى: ﴿تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [النحل: 3] وهي بمعنى "سبحانه" وأنت إذا قلت: "سبحان الله، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى" فالمعنى أنَّك تنزِّه الله -تبارك وتعالى- عن ثلاثة أشياء:
-       تُنزِّهه عن مشابهة المخلوقين.
-       تُنزِّهه عن كلِّ صفةِ نقصٍ وعيبٍ.
-       تُنزِّهه عن النَّقص في صفات الكمال.
وتفيد العلو بمعانيه الثَّلاثة: علوِّ الذَّات، وعلوِّ القدر، وعلوِّ القهر -سبحانه وتعالى- وتنزَّه وتقدَّس.
قال: (وَتَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ، وَالْأَرْكَانِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَدَوَاتِ) وهذه الألفاظ التي استعملها الإمام الطَّحاوي -عفا الله عنه- ألفاظ حادثة لم ترد لا في الكتاب ولا في السُّنَّة، ولهذا حاول الشُّرَّاح للعقيدة الطَّحاوية الاعتذار للإمام الطَّحاوي في ورود هذه الألفاظ الغريبة، فالعقيدة مِن أوَّلها وآخرها كان يحرص فيها على الألفاظ الواردة في الكتاب والسُّنَّة، وهكذا في كتبِ العقائد عند أهل السُّنَّة والجماعة، سواءً كتب العقائد المسندة أو كتب العقائد المختصرة، أو كتب العقائد في المصنَّفات الحديثيَّة، أو حتى المنظومات العقديَّة تجد من منهج كتب العقائد عند السَّلف: الحرص على سلامة الألفاظ، بحيث يستعملون الألفاظ الواردة في الكتاب والسُّنَّة.
 أمَّا المصطلحات الحادثة فإنَّها تحتمل معانٍ صحيحة، وأخرى غير صحيحة، ولا يذكرونها إلا في مَعرض الرَّد على المخالفين إذا احتاجوا إليها، ولهذا قال بعض الشُّرَّاح: لعلَّ هذه العبارات من النُّسَّاخ اعتذارًا للإمام أبي جعفر الطَّحاوي، كما ذكر الشيخ محمد بن مانع في تعليقه على شرح العقيدة الطَّحاوية، قال: هذا ربما يكون من النُّسَّاخ لأنَّ المصنِّف -رحمه الله- في عقيدته وفي كتبه الأخرى لا يَستعمل مثل هذه المصطلحات والألفاظ الحادثة.
الإمام ابن أبي العز الحنفي صاحب شرح العقيدة الطَّحاوية أيضًا تعقَّب الماتن هنا بعبارة مؤدَّبة وحاول أن يعتذر له عن استعمال مثل هذه الألفاظ التي أُخذت على العقيدة الطَّحاوية في هذا الموضع.
فمثل هذه المصطلحات تحتاج إلى التَّفصيل فلا تطلَق، لماذا؟ لأنَّها لم ترد في الكتاب ولم ترد في السُّنَّة، وتلاحظون أنَّها تفصيلٌ في النَّفي، وهذا أيضًا ليس من طريقة القرآن ولا من طريقة السُّنَّة ولا من طريقة السَّلف، فقد كانوا يُجمِلون في النَّفي ويفصِّلون في الإثبات، وهنا التَّفصيل في النَّفي، فهذا اللفظ غريب.
ولهذا يُحمل كلامه على ما قرَّره سابقًا مِن إثبات الصِّفات للرَّبِّ -تبارك وتعالى- وإثبات المعاني التي تليق بالرَّبِّ -تبارك وتعالى.
فقوله: (وَتَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ) لفظ "الحدِّ" لم يرد في الكتاب ولا في السُّنَّة، وهو لفظ مُجمَل فإنَّ أراد بـ"الحد" ما يذكره المناطقة من أنَّ "الحد" الذي هو التَّعريف وهو بيان كنْه الشَّيء وماهية الشَّيء، فيُقال: نعم، إنَّ الله لا يدركه أحد، فلا تدركه الأبصار. فإذا أراد هذا المعنى، (وَتَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ) أي أن يحيط البشر بكُنْهه وحقيقته وماهيته -تبارك وتعالى عن ذلك.
وأما إن أراد بـ "الحد" أنَّه لا تُحيط به المخلوقات؛ فالله –عز وجل- بائنٌ من خلقه.
قال: (تَعَالَى عَنِ الْغَايَاتِ) أيضًا لفظٌ مجملٌ وقد يُراد به المقاصد في أحكامه، والله -تبارك وتعالى- له الحِكمة وهو الحكيم، وخلق الخلق لغايةٍ، وأمر ونهى لغايةٍ، فهذا معنًى غير صحيحٍ؛ بل له الحكمة البالغة، وقد يراد بالغايات أنَّه تحيط به المخلوقات ونحو ذلك، فهذا يُنزِّه الرب -تبارك وتعالى.
وقل مثل هذا في: (وَالْأَرْكَانِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَدَوَاتِ) أيضًا ألفاظ مجملة تحتاج الحقيقة إلى تفصيل، والله -تبارك وتعالى- منزَّهٌ عن مشابهة المخلوقين وله صفات الكمال المطلقة.
ثم قال: (لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ) أيضًا هذا لفظٌ مُحدَث (لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَات) الجهات السِّت التي هي: فوق وتحت ويمين ويسار وأمام وخلف؛ وهي أمور نسبيَّة، فإن كان مراده أنَّ الله -تبارك وتعالى- لا تحيط به المخلوقات، بل هو منزَّه عن ذلك فيكون المعنى صحيحًا، فلا تحيط به المخلوقات كما يزعم أهل الحلول والاتحاد، ولفظ "الجهة" أيضًا لفظ مجمل، وإن كان المراد هو نفي الجهةِ كجهة العلو؛ فهذا ليس بالصَّحيح، لأنَّ الرَّبَّ -تبارك وتعالى- فوق سماواته مستوٍ على عرشه، فهذه العبارة ممَّا أُخذَت على الإمام الطَّحاوي -رحمه الله- لأنَّها ألفاظ مصطلحات حادثة تحتاج إلى بيان المعنى المراد، فإن كان المراد ما دلَّت عليه النُّصوصُ من تنزِّه الرَّبِّ -تبارك وتعالى- ومباينته لمخلوقاته فحقٌّ، وما عدا ذلك فإنَّ هذه الألفاظ ألفاظ محدثة.
الشَّيخ ابن باز -رحمة الله عليه- له تعليق على هذه المصطلحات، وفيها الحقيقة أدبٌ مع الإمام أبي جعفر الطَّحاوي، يقول: "قوله: (تَعَالَى عَنِ الْحُدُودِ وَالْغَايَاتِ، وَالْأَرْكَانِ وَالْأَعْضَاءِ وَالْأَدَوَاتِ، لَا تَحْوِيهِ الْجِهَاتُ السِّتُّ كَسَائِرِ الْمُبْتَدَعَات) هذا الكلام فيه إجمال، قد يَستعمله أهل التَّأويل والإلحاد في أسماء الله وصفاته، وليس لهم بذلك حجَّة، لأنَّ مراده -أي مراد الإمام الطَّحاوي رحمه الله- تنزيه الباري عن مشابهة المخلوقات، لكنَّه أتى بعبارة مجملة تحتاج إلى تفصيلٍ حتى يزول الاشتباه" وهذا من باب الاعتذار لهؤلاء الأئمة.
فمراده بالحدود يعني الذي يعلمها البشر، فهو -سبحانه- لا يعلمه حدوده إلا هو، لأنَّ الخلق لا يحيطون به علمًا، كما قال -عز وجل- في سورة "طه"﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ولَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [طه: 110].
ومَن قال من السَّلف بإثبات الحدِّ في الاستواء أو غيره -وهذا مروي عن ابن المبارك- فمراده حد يعلمه الله -سبحانه وتعالى- لا يعلمه العباد، وأمَّا الغايات والأركان والأعضاء والأدوات -وهي العبارة الثانية في كلام الطَّحاوي- فمراده -رحمه الله- تنزيهه عن مشابهة المخلوقات في حكمته وصفاته الذَّاتية من الوجه واليد والقدم ونحو ذلك، فهو -سبحانه- موصوف بذلك، لكن ليست صفاته مثل صفات الخلق ولا يعلم كيفيَّتها إلا هو -سبحانه.
قال: وأهل البدع يُطلقون مثل هذه الألفاظ لينفوا بها الصِّفات بغير الألفاظ التي تكلَّم بها وأثبتها لنفسه، حتى لا يفتَضحوا وحتى لا يُشنُّ عليهم من أهل الحقِّ".
لاحظتم أنَّ العبارة مؤدَّبة فيها شيء من الاعتذار.
كذلك الإمام الألباني -رحمة الله عليه- في التَّعليق على الطَّحاوية، أيضًا علَّق على هذا اللفظ، ونقل كلامًا نفيسًا للشيخ محمد بن مانع في تعليقه عن الطَّحاوية، وقبل هؤلاء الإمام ابن أبي عزٍّ الحنفي شارح الطَّحاوية له كلام نفيس في التَّعليق والاعتذار للإمام أبي جعفر في استعمال مثل هذه المصطلحات.
لعلَّك تقرأ من شرح العقيدة الطَّحاوية للإمام الألباني -رحمة الله عليه.
{أحسن الله إليك.
قال الإمام محمد بن ناصر الدين الألباني:
(مُراد المؤلف -رحمه الله- بهذه الفقرة الرَّد على طائفتين: الأولى: المجسِّمة والمشبهة الذين يصفون الله بأنَّ له جسمًا وجثَّة وأعضاء وغير ذلك، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا.
والأخرى: المعطِّلة الذين ينفون علوه تعالى على خلقه، وأنَّه بائن من خلقه. بل يصرح بعضهم بأنَّه موجود بذاته في كل الوجود! وهذا معناه حلول الله في مخلوقاته. وأنَّه محاط بالجهات السِّت المخلوقة، وليس فوقها، فنفى المؤلف ذلك بهذا الكلام. ولكن قد يستغل ذلك بعض المبتدعة، ويتأوَّلونه بما قد يؤدِّي إلى التَّعطيل كما بيَّنه الشَّارح -رحمه الله تعالى)
}.
من يقصد بالشَّارح؟
ابن أبي العز الحنفي، ولهذا كلام العالِم المُشكِل يوضَّح بكلامه المُحكَم، ولهذا يُنظَر في كلام الإمام أبي جعفر في كتبه الأخرى وكذلك في كلامه السَّابق واللاحق، فيزول هذا الإشكال، فمقصود الشَّارح ابن أبي عز الحنفي في اعتذاره وتعقُّبه لمثل هذه المصطلحات، ولهذا بعضهم قال: لعلها من النُّساخ. وهذا ليس ببعيد.
{(وقد لخص كلامه الشيخ محمد بن مانع -عليه رحمة الله- فقال: "مراده بذلك الرَّد على المشبِّهة ولكن هذه الكلمات مجملة مبهمة وليست من الألفاظ المتعارفة عند أهل السُّنَّة والجماعة، والرَّد عليهم بنصوص الكتاب والسُّنَّة أحقُّ وأولى من ذكر الألفاظ توهُّم خلاف الصَّواب. ففي قوله -تعالى-: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ ردٌّ على المشبِّهة والمعطِّلة، فلا ينبغي لطالب الحق الالتفات إلى مثل هذه الألفاظ ولا التَّعويل عليها، فإنَّ الله سبحانه موصوف بصفات الكمال منعوت بنعوت العظمة والجلال، فهو سبحانه فوق مخلوقاته مستوٍ على عرشه المجيد بذاته بائن من خلقه ينزل كل ليلة إلى السَّماء الدنيا ويأتي يوم القيامة وكل ذلك على حقيقته ولا نؤوُّله كما لا نؤوِّل اليد بالقدرة والنُّزول بنزول أمره وغير ذلك من الصِّفات بل نثبت ذلك إثبات وجود لا إثبات تكييف.
 وما كان أغنى الإمام المصنف عن مثل هذه الكلمات المجملة الموهمة المخترعة ولو قيل إنَّها مدسوسة عليه وليست من كلامه)
}.
يعني أنَّه نوع من الاعتذار.
{( ولو قيل إنَّها مدسوسة عليه وليست من كلامه، لم يكن ذلك عندي ببعيد إحسانًا للظَّنِّ بهذا الإمام، وعلى كلِّ حالٍ فالباطل مردود على قائله كائنًا من كان ومن قرأ ترجمة المصنف الطَّحاوي لاسيما في لسان الميزان، عرف أنَّه مِن أكابر العلماء وأعاظم الرجال، وهذا هو الذي حملنا على إحسان الظَّنِّ فيه في كثيرٍ من المواضع التي فيها مجال لناقد" انتهى كلام ابن مانع -رحمه الله)}.
وهكذا ينبغي لطالب العلم عندما يقرأ كتب هؤلاء الأئمَّة ويجد بعض الألفاظ المُشكِلة، فعليه أن يحسن الظن بهم ويحمل أقوالهم على المحامل الحسنة.
أسأل الله لنا ولكم العلم النَّافع والعمل الصَّالح، لعلَّنا نكتفي بهذا القدر -إن شاء الله- في الدَّرس القادم، وهو الدَّرس الأخير نكمل ما يتعلَّق بالإسراء والمعراج، وما يتعلَّق بالحوض.
أسأل الله لنا ولكم التَّوفيق لما يحب ويرضى، وأن يرزقنا وإياكم التَّوحيد والإخلاص، إنَّه جواد كريم، وأسأله -تبارك وتعالى- أن يصلح أحوال المسلمين في كلِّ مكان، وأسأله -عز وجل- أن يطهِّر المسجد الأقصى من أرجاس وأدناس اليهود، إنَّه -عز وجل- على كل شيء قدير.
هذا -والله أعلم- وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك