الدرس العاشر

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

5236 12
الدرس العاشر

العقيدة الطحاوية (1)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، والعاقبةُ للمتَّقين، وأصلِّي وأسلَّم على المبعوثِ رحمةً للعالمين، نبينا محمدٍ، وعلى آلهِ وأصحابهِ وأتباعهِ بإحسانٍ إلى يومِ الدِّينِ، أمَّا بعد:
فأرحبُ بكم أيُّها الأبناء في الدَّرس العاشر مِن دروس العقيدة الطَّحاوية، وفي برنامج البناء العلمي، أرحبُ كذلك بالأبناء الطُّلَّاب والطَّالبات الذين يتابعون هذه الحلقات العلميَّة، عبرَ برامجِ الأكاديميَّة الإسلاميَّة العالميَّة المفتوحة.
أرحبُ كذلك بالإخوة والأخوات المشاهدين لهذه الحلقات عبرَ البثِّ المباشرِ، والبثِّ المسَجَّل لهذه الدُّروس العلميَّة، نسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن ينفعنا وإياكم جميعًا بالعلمِ النَّافعِ، والعملِ الصَّالحِ، وأن يرزقنا وإيَّاكم حسنَ الفهم لكتاب الله ولسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
على بركة الله نبدأ درس اليوم في بيان مُعتقد أهل السُّنَّة والجماعة لرؤية المؤمنين لربهم -تبارك وتعالى- في جنَّات النَّعيم، نسأل الله أن يجعلنا وإيَّاكم وإخواننا المشاهدين ممَّن يَرون ربَّهم -تبارك وتعالى- في جنَّات عدنٍ.
تفضل يا شيخ سعيد.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهمَّ اغفر لنا، ولشيخنا، ولوالدينا، وللمستمعين، ولجميع المشاهدين، وللمسلمين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى: (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ رَبِّنَا: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22، 23]، وَتَفْسِيرُهُ عَلَى مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلِمَهُ؛ وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا أَرَادَ؛ لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا، وَلَا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَا؛ فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ.
وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلَامِ؛ فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ، وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ، حَجَبَهُ مَرَامُهُ عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ، وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ، وَصَحِيحِ الْإِيمْانِ، فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ: الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ؛ مُوَسْوَسًا، تَائِهًا، شَاكًّا؛ لَا مُؤْمِنًا مُصَدِّقًا، وَلَا جَاحِدًا مُكَذِّبًا.
وَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ دَارِ السَّلَامِ لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ، أَوْ تَأَوَّلَهَا بِفَهْمٍ؛ إِذْ كَانَ تَأْوِيلُ الرُّؤْيَةِ وَتَأْوِيلُ كُلِّ مَعْنًى يُضَافُ إِلَى الربوبية بترك التَّأْوِيلِ وَلُزُومَ التَّسْلِيمِ وَعَلَيْهِ دِينُ الْمُسْلِمِينَ)
}.
أحسنتَ، بارك الله فيك.
يقول الإمام الطَّحاوي -رحمه الله- في بيان مُعتقد أهل السُّنَّة والجماعة، ومُعتقد فقهاء الملَّة: (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ) أي: أنَّ أهل السُّنَّة والجماعة يَعتقدون في رؤية الله -تبارك وتعالى- أنَّها حقٌّ لأهل الجنَّة، ويثبتونها بهذه الضَّوابط (بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ).
(وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ) أي: ثابتة، كما دَلَّ على ذلك كتابُ ربِّنا -عزَّ وجلَّ- وسنَّة نبينا صلى الله عليه وسلم، فهي حقٌّ لا شك فيه، وهذا الموضوع -موضوع الرُّؤية- من أهمِّ الموضوعات في أبواب الاعتقاد، لذلك يُعنى به أهلُ العلم في كُتب العقائد، فيُفردونها في أبوابٍ وفصولٍ خاصَّةٍ لأهميته ولمكانته، فالرُّؤية هي أعظم نعيم يتنعَّم به أهلُ الجنَّة -جعلنا الله وإيَّاكم منهم- فهي غاية المُشمرين، وغاية المُتسابقين إلى الأعمال الصَّالحة، في أن يروا ربهم -تبارك وتعالى، ولهذا تأمَّلوا في التَّرغيب في بعض الأحاديث كقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ»[64]، فالمؤمن يبتغي بهذا العمل وجه الله، فيرى ربَّه -تبارك وتعالى- في الجنَّة.
وأعظم الحرمان هو الحرمان من رؤية الله -تبارك وتعالى- قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: 15]، ولهذا يُفردها أهل العلم في كتب العقائد بفصول وأبواب خاصَّة، بل أفردوها في مؤلَّفاتٍ خاصَّةٍ، كما فعل الإمام الدَّارقطني في كتاب الرؤية.
ولذلك قال المصنِّف -رحمه الله- هنا: (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لِأَهْلِ الجنَّة) حق لا شك فيه، ثابتةٌ كما جاء في الكتاب، وجاء في سنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم، وثابتةٌ وواقعةٌ، وعلى هذا فيجب على كلِّ مؤمنٍ أن يُؤمن بها إيمانًا لا شكَّ فيه، إيمانًا جازمًا بأنَّ المؤمنين يَرون ربهم -تبارك وتعالى- في جنَّات النَّعيم، وهذا مِن لوازم الإيمان بالله، ومن لوازم الإيمان بكتاب الله، ومن لوازم الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنَّه إذا قال: أشهد أنَّ محمدًا رسول الله؛ يقتضي تصديقَه فيما أخبرَ، واتِّباعه فيما أمَرَ، واجتنابه فيما نَهى عنه وزَجَرَ، وألَّا يُعبد الله إلا بما شَرَعَ، وممَّا أخبر به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: رؤية المؤمنين لربهم -تبارك وتعالى.
(وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ) أي: يَعتقد أهل السُّنَّة والجماعة وفقهاء الملَّة أنَّ رؤيةَ المؤمنين لربهم في الجنة حقٌّ لا شكَّ ولا مرية فيه.
قال: (بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ) أي: أنَّ المؤمنين يَرون ربهم -تبارك وتعالى- في الجنة مِن غَير أن يحيطون به، كما قال -عزَّ وجلَّ: ﴿ولَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمً﴾ [طه: 110] وكذلك هذه الرُّؤية لا يلزم منها الكيفيَّة، كما قال -عزَّ وجلَّ: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام: 113].
 وقوله: (وَلَا كَيْفِيَّةٍ) هل المقصود نفي الكيفيَّة أو المقصود نفي علمنا بالكيفيَّة؟ أيُّهما المراد؟ وهذا يقال في أبواب الصِّفات عمومًا، هل مُراد أهلِ السُّنَّة في كتب العقائد إذا قالوا: بغير كيف، يقصدون نفي الكيفيَّة مُطلقًا أم يريدون نفي علمنا بالكيفيَّة؟
{نفي علمنا بالكيفيَّة}.
بمعنى أنَّ الصِّفات لها كيفيَّة، ولكن نحن لا نعلم هذه الكيفيَّة، ولهذا قال الإمام مالك في معنى الاستواء: "الاستواء معلوم -من جهة المعنى- والكيف مجهول" يعني بالنِّسبة لنا، وإلا فله كيفيَّة ولكن لا نعلمها، ولهذا قال لك: (بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ)، ويشهد له قوله: ﴿ولَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمً﴾ [طه: 110].
 (وَلَا كَيْفِيَّةٍ) يعني أنَّهم يُثبِتون من غيرِ تكييف، وهذا يدلُّ على إثبات المعنى، ولكنَّه يُفوِّض الكَيْف، ولهذا يحصل الخلط أحيانًا عند بعض المتأخرين، فيظنون أنَّ السَّلف يُفوِّضون المعاني؛ بل إنَّ السَّلف يُثبتون المعاني ويفوِّضون الكيفيَّات (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ).
قال: (كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ رَبِّنَا: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22، 23]) أي: أنَّ أهل السُّنَّة يُثبتون الرُّؤية كما أثبتها الله -تبارك وتعالى- لنفسه في كتابه في مواضع عديدة.
قال: (كَمَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ رَبِّنَ) هل يصحُّ مثل هذا الأسلوب: أن يُقال: نطق القرآن أو نحو ذلك؟
هذا الأسلوب معروفٌ عند السَّلف، فيعبِّرون بمثل هذه الأساليب، فيقولون: كما نطق القرآن. أو يقولون مثلًا: كما تكلَّم به القرآن أو كما قصَّه القرآن؛ وكل ذلك من الأساليب الواردة عن السَّلف استعمالها، فالله -تبارك وتعالى- يقول: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [النمل: 76] فهذا واردٌ في كتاب الله -عزَّ وجلَّ- والمراد: أنَّ القرآن صفة من صفات الله، فإذا نُسِب إليه فهو نِسبةٌ إلى الرَّبِّ -تبارك وتعالى.
 فلا إشكال في مثل هذه الأساليب التي تَرِد في بعض كتب السَّلف، فيقولون: نطق القرآنُ أو قصَّ القرآنُ، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- هو المتكلِّم بهذا القرآن ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ [النمل: 76]، وأيضًا قول -عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ﴾ [المؤمنون: 62]، فمثل هذه الأساليب من الأساليب الجائزة التي لا بأس بها، والمراد أنَّ المُتكلِّم هو الله؛ لأنَّ القرآن هو من صفات الله -تبارك وتعالى.
من أدلَّة كتاب الله التي فيها إثبات الرؤية: هذه الآية التي ذكرها المصنف -رحمه الله- في سورة القيامة قوله -تبارك وتعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ ووجه الدَّلالة في الآية ظاهر ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ﴾ ناضرة من النُّضرة، وما سبب هذه النضرة، وهذا الحسن والبهاء الذي حصل لهذه الوجوه؟
{رؤيتهم لربهم}.
رؤيتهم لربهم -تبارك وتعالى- وهذا يُبيِّن لك أنَّ نعيم الجنَّة منه نعيمٌ حسِّيٌّ ومنه نعيمٌ معنويٌّ، فالنَّعيم الحسِّي هو تلذُّذهم بالأكل والشُّرب وأنواع الملذَّات المحسوسة، والنَّعيمُ المعنويُّ هو رؤيتهم لربهم -تبارك وتعالى- وهو أعظم نعيمٍ يتنعَّم به أهلُ الجنَّة، ولهذا لاحظوا هنا قول ربنا -تبارك وتعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ﴾ من النضرة ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ فهنا نَسَبَ النَّظرَ إلى الوجوه، فدلَّ على أنَّه نظرٌ حقيقيٌّ إلى الرَّبِّ –تبارك وتعالى.
والنَّظَرُ إذا عُدِّيَ بـ "إلى" فإنَّه يُفيد النَّظَرَ ولا يُفيدُ العِلمَ، ولا اعتبار للمعاني التي أوَّلَ بها المعطِّلةُ هذه الآية، بل الآية صريحة في إثباتِ رؤيةِ المؤمنين لربهم -تبارك وتعالى- ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾.
ومن الآيات أيضًا قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26] والحسنى هي: الجنَّة. والزِّيادة هي: رؤيتهم لربهم -تبارك وتعالى- كما فسرها بذلك النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في حديث صهيب عند مسلم[65]، وهذا من تفسير النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- للقرآن، ففسَّر الزِّيادة هنا برؤية المؤمنين لربهم -تبارك وتعالى- وأنَّ هذا أعظمُ نعيمٍ يتنعَّمُ به أهلُ الجنَّة.
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿لَهُم مَّا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 35] وقد فسَّر الصَّحابة -رضوان الله تعالى عليهم- المزيد برؤيتهم لربهم -تبارك وتعالى- فهم لهم ما يشاؤون فيها من أنواع النعيم، ثم قال: ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 35]، يعني زيادة على هذا النَّعيم وهو رؤيتهم لربهم -تبارك وتعالى.
الآية الرابعة: قوله تعالى في وصف أهلِ الجنَّة -جعلنا الله وإياكم منهم وإخواننا المشاهدين- قال: ﴿عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ﴾ [المطففين: 23] أي: ينظرون إلى ربهم -تبارك وتعالى.
الآية الخامسة: وقد استدلَّ بها الإمامُ الشَّافعيُّ -رحمه الله- وهي قوله تعالى عن الكفَّار: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: 15] ووجه الاستدلال: مفهوم المخالفة، فإذا كان الكفَّار عن ربهم يومئذٍ لمحجبون، فدلَّ ذلك على أنَّ المؤمنين يرون ربهم -تبارك وتعالى.
هذه خمسُ آياتٍ تدلُّ دلالةً واضحةً ودلالةً صريحةً لا تقبل التَّحريفَ ولا التَّغييرَ على رؤية المؤمنين لربهم -تبارك وتعالى.
أمَّا الأدلَّة من السُّنَّة فكثيرة، يقول الإمام الطَّحاوي مُعلِّقًا على هذه الآيات، وخاصَّة آية القيامة ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ قال: (وَتَفْسِيرُهُ عَلَى مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلِمَهُ) يعني: تفسير هذا المعنى على مَا أراده الله -تبارك وتعالى- فبعضهم فَهِمَ من ذلك أنَّ الإمام الطَّحاوي يُفوِّضُ المعنى، وهذا ليس بصحيح؛ بل إنَّه يُثبِتُ المعنى، بدليل أنَّه قال في أوَّلِ العبارة: (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ بِغَيْرِ إِحَاطَةٍ وَلَا كَيْفِيَّةٍ) فقوله: (حَقٌّ) معناه أنَّه يُثبتُ رؤيةً حقيقية، ولهذا إذا ورد في كلام العالِم ما يُوهِم اللَّبسَ أو ما يكون فيه متشابه، فكيف تُفسِّر هذا المتشابه في كلام العالم؟
وهذه قاعدة ذكرناها في أول الدُّروس وقلنا: إنَّ هذه القاعدة تنطبق أيضًا على الآيات وتنطبق على الأحاديث، فمنها المُحكَم ومنها المتشابَه، كذلك أقوال بعض أهل العلم قد يوجد فيها ما يُشكِل أو ما يكون من باب المتَشابَه، فكيف تزيل هذا التَّشَابُه؟
{أحسن الله إليكم، يُردُّ المتشابَه إلى مُحكَمِه}.
يُردُّ المتشابَه إلى المُحكَمِ فيتبيَّن المراد، فيقال: كما فهم بعض الشُّرَّاح أنَّه هنا يفوض المعاني، نقول: إنَّ المتأمِّل في كلامه السَّابق واللَّاحق يجد أنَّه يُثبِتُ الرُّؤيةَ الحقيقيَّة، ولهذا قال: (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ) فدلَّ هنا على أنَّه أراد بقوله (وَتَفْسِيرُهُ عَلَى مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى)، أي: كما جاء في القرآن وكما جاء في سنَّة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم.
وربَّما يُحمَل على معنًى آخرٍ: أن يقال قَصَدَ بذلك حقيقته وكيفيَّته على ما أراده الله تعالى وعلمه، فهو يُثبت المعنى بدليل أنَّه قال: (وَالرُّؤْيَةُ حَقٌّ) وأمَّا الكيْف فهذا علمه إلى الله، فيحتمل على هذا المعنى وهذا المعنى، فإذا جُمع كلامُه بعضه إلى بعضه؛ فسَّر بعضَه بعضًا.
وأمَّا من جهة المعنى، فالله -تبارك وتعالى- يثبت الرُّؤية الحقيقية لأهل الجنَّة، ولهذا فإنَّ أهل العلم يُفسِّرون الرُّؤية بأنَّها رؤية حقيقية عَيانًا بأبصارهم، وعندما يقولون: عيانًا أي: ليست رؤية قلبية ولا نحو ذلك، وأمَّا الإحاطة والكيْف، فإنَّهم لا يُحيطون به علمًا، وكذلك الكيْف مردُّه إلى الله -تبارك وتعالى- فعلى هذا يُحمل كلام الإمام الطَّحاوي -رحمه الله- بما يتَّفق مع كلامه السَّابق واللاحق.
هنا قاعدة: قال: (وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ كَمَا قَالَ) كلُّ ما جاء من الأحاديث في إثبات الرؤية هي أحاديث متواترة جمعها الإمام الدارقطني -رحمه الله- في كتابٍ له سمَّاه الرُّؤية، ونصَّ أهلُ العلم في كتب الحديث وكتب العقائد على أنَّ أحاديث الرُّؤية أحاديثٌ بلغت حدِّ التَّواتر.
يقول: (وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ) هذا شرطٌ في الاستدلال بالحديث، وهو أن يكون الحديث صحيحًا، فالضَّعيفُ لا يُقبل فضلًا عن الموضوعِ وغيره.
(وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهُوَ كَمَا قَالَ) أي أنَّنا نثبتُ لله ما أثبته لنفسِهِ في كتابِهِ، وما أثبتَهُ له رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال: (وَمَعْنَاهُ عَلَى مَا أَرَادَ) المعنى في اللغة نفهمه، وأمَّا الكيْف فأمره إلى الله، والله -تبارك وتعالى- خاطبنا في هذا القرآن بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، وأَمَر بالتَّدبُّرِ في هذا القرآن، فمعناه على ما أراد الله -تبارك وتعالى.
من الأحاديث ما جاء في صحيح مسلم من حديث صهيب، أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ، قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟» وهذه الوجوه الناضرة «أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ؟»، قَالَ: «فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ»[66]، نسأل الله الكريم من فضله.
وحديثُ صهيب هذا فيه دليلٌ على أنَّ رؤيةَ المؤمنين لربهم في الجنَّة أعظم نعيم، ولهذا قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ» ثم تلا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم هذه الآية ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26].
فهذا الحديث صحيحٌ صريحٌ في إثباتِ رؤيةِ المؤمنين لربهم -تبارك وتعالى- وفيه أيضًا تفسيرٌ لقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26].
أيضًا جاء في الصَّحيحين من حديث جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: "كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةً يَعْنِي الْبَدْرَ" ومَن كان في البراري فلينظر في القمر في الليلة التي ليس فيها سُحب، فلمَّا نظر إلى القمر ليلة البدر، قال: «إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَانً». إذن هي رؤية حقيقية، ولهذا قال أهل العلم في قوله: عَيَانًا. أي: بأبصارهم.
قال صلى الله عليه وسلم: «كَمَا تَرَوْنَ هَذَ» وأشار إلى القمر، ويقول أهل العلم: وهذا تشبيه الرُّؤية بالرُّؤية لا تشبيه المرئي بالمرئي.
قال: «لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ» هكذا جاءت بالتَّشديد، وجاءت بالتَّخفيف «لا تُضامُون» من الضَّيم، أمَّا «لا تُضَامُّونَ» فتعني أن لا ينضم بعضكم إلى بعض لخفاء الرُّؤية، كما يرى النَّاس الهلالَ في أول الشَّهرِ، تجد أنَّ رؤية الهلال في أوَّلِ الشَّهر تخفى عليهم، فينضمُّ بعضهم إلى بعضٍ لخفائها، ولكن رؤية القمر ليلة البدر لا ينضمُّ بعضهم إلى بعض لخفائها؛ لأنَّها رؤية واضحة.
فالحديث هنا يُبيِّن رؤية المؤمنين لربهم -تبارك وتعالى- عيانًا بأبصارهم كما يَرَونَ القمر ليلة البدر، وكما يَرَونَ الشمس صحوًا ليس دونها سحاب.
ثم قال -عليه الصلاة والسلام: «فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُو»[67] ماذا يستفاد؟
لمَّا ذكر أنَّ المؤمنين يَرَونَ ربهم في الجنَّة كما يَرَونَ القمر، ثم تبعه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُو»، دَلَّ على أنَّ المحافظة على هاتين الصلاتين مِن أَسباب رؤية الله -تبارك وتعالى- في الجنَّة، والصَّلاة التي قبل طلوعها هي الفجر، والتي قبل غروبها هي العصر، ولهذا تُسمى صلاة الفجر وصلاة العصر بالبردين، كما جاء في الصحيحين «مَنْ صَلَّى الْبَرْدَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ»[68] وقوله صلى الله عليه وسلم: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ»[69].
ثم تأمَّلوا قوله -عليه الصَّلاة والسَّلام: «فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُو» يدل على أنَّ المسألة تحتاج إلى مُجاهدة، ففيه غلبة، غلبة النوم وغلبة الشيطان، الشيطان يقول: «عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ»[70]، فلهذا المحافظة على الصلاة وخاصة المحافظة على هاتين الصلاتين من أسباب رؤية الله -تبارك وتعالى- في جنَّات النعيم، نسأل الله من فضله.
قال الإمام الطَّحاوي: (لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا، وَلَا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَ) أي: أننا نُثبت لله -تبارك وتعالى- مَا أَثبته لنفسه، ومِن ذَلك أنَّ المؤمنين يرونه -تبارك وتعالى- في جنات نعيم، وكذلك مَا أثبته النَّبي صلى الله عليه وسلم لربه، وهو -عليه الصلاة والسلام- أعلم بربه -تبارك وتعالى.
(لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ) أي: في تفسير الآيات والأحاديث.
(مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَ) ماذا يقصد بالتأويل هنا؟
التحريف، حيث المعطلة منهم من أنكر الرؤية تمامًا، ومنهم من أَوَّلَ الرؤية بأنها في غير جهة أو يقول: ناظرة من الانتظار إلى غير ذلك، فهذا كله تأول لكلام الله.
 (لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَ) والتأويل الذي قصده هنا هو التحريف لكلام الله، والتحريف لكلام النَّبي صلى الله عليه وسلم.
(وَلَا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَ) الوهم المبني على الهوى، ولهذا لاحظ أن من أسباب الضلال الآراء الفاسدة، أو الأهواء، (لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ) وهذا من أسباب ضلال هؤلاء.
من أسباب ضلال الذين ضلوا في باب الأسماء والصفات، إمَّا التأويل أو الهوى، (لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ) وهذه قاعدة في كل باب الأسماء والصفات (لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا وَلَا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَ) والتأويل له معانٍ صحيحة وله معانٍ باطلة.
قد يأتي التأويل بمعنى التفسير، كما يقول ابن جرير: "تأويل هذه الآية" حيث يقصد بالتأويل التفسير.
وقد يأتي التأويل بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الشيء، كما تقول: تأويل الرؤية، وعلى هذا فسرت الآية في سورة "آل عمران" وهي قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: 7].
فعلى قراءة الوقف المقصود بالتأويل الحقيقة والكيفية لا يعلمها إلا الله، وعلى قراءة الوصل ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: 7] يقصد بالتأويل التفسير، فأهل العلم يعرفون تفسيره.
فهذان المعنيان صحيحان وهما الواردان في كلام السلف، التأويل بمعنى التفسير، والتأويل بمعنى الحقيقة التي يؤول إليها الشيء.
أمَّا التأويل في مصطلح المتأخرين فهو صرف اللفظ مِن مَعناه الظَّاهر إلى معنى آخر بغير دليل ولا قرينة، وإن كانوا يزعمون أنَّ القرينة عقلية، لكن هذا تكلف، وتحريف لكلام الله -تبارك وتعالى، فهذا التأويل الذي هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر، هذا هو التحريف، وهذا هو الذي ذَمَّه السَّلف.
مثلًا: قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ [الفجر: 22] يؤولون المجيء بمجيء الملك، وهذا صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر بغير دليل.
ما الدليل الذي حمله على أن يَصرف المجيء مِن مجيء الرب إلى مجيء الملك؟
يقول لك قرينة عقلية، وهذا تفسير باطل، وصرف للفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر بغير دليل.
يقول لك القرينة وهي نفي التشبيه، نقول: إنَّ الله -تبارك وتعالى- أثبت لنفسه المجيء، فنثبتُ له مَا أثبته لنفسه على الوجه اللائق به.
ولا يَلزم مِن إثبات المجيء التشبيه، كما لا يَلزم مِن إثبات الصفات التشبيه؛ لأنَّ الله يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11] ولهذا قال الإمام الطَّحاوي هنا: (لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ) أي: في هذا الباب وفي غيره من أبواب الصفات (لَا نَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مُتَأَوِّلِينَ بِآرَائِنَا وَلَا مُتَوَهِّمِينَ بِأَهْوَائِنَ) وهذان السببان من أسباب ضلال من ضلوا في باب الصفات.
ثم قال: (فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، (فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ) استسلم لله -تبارك وتعالى- ومن ذلك تصديق الله فيما أخبر، فهو ربنا -عزَّ وجلَّ- يقول في كتابه وهو أصدق قيلا وأحسن حديثا: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ فإنه مَا سَلِمَ في دينه إلا من سَلَّمِ لله -تبارك وتعالى، فَصَدَّقَ خَبره وامتَثَلَ أَمْرَه واجْتَنَبَ نَهيه.
سؤال: ما تعريف الإسلام؟
الإسلام هو الاستسلام لله بالتوحيد والانقياد له بالطاعة والبراءة من الشرك وأهله، فالإسلام هو على هذا المعنى، ولهذا فإنه فإنه مَا سَلِمَ في دينه إلا من سَلَّمِ لله، فَصَدَّقَ الخبر، وامتثل الأمر، واجتنب النهي.
لو أنَّه اعترض الخبر فلم يُصدقه، هل يكون قد سَلَّمَ لله؟
أبدًا؛ لأنَّه اعترض ونفى الصفات وأنكر الغيبيات، فهذا مَا سَلِمَ في دِينه، وَلم يُسَلِّم لله -عزَّ وجلَّ- فيما أخبر به.
ولهذا المؤمن يُؤمن بكل مَا أخبر الله -تبارك وتعالى- به في كتابه، سواءً أدرك عقله ذلك أم لم يدرك، والعقول قاصرة، لا تدرك كل شيء، فما دام أن الله -تبارك وتعالى- أخبر عن نفسه، والنبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر عن ربه، فإننا نؤمن بذلك ونصدق ذلك (فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ) -تبارك وتعالى- فَصَدَّقَ الخبر وامتثل الأمر.
لو أنَّه لم يمتثل للأوامر إلا إذا ما عرف الحكمة منها، فهل يكون حينئذٍ مستسلم لله؟
أبدًا، ولهذا لاحظ أنَّ اليهود فيهم عادة الاعتراض، لما أمرهم الله -عزَّ وجلَّ- بذبح البقرة، أخذوا يعترضون، ولهذا جاء في الأثر "لا تكونوا كاليهود، يقولون: لماذا أمر ربنا؟ ولكن قولوا: ماذا أمر ربنا؟" ولهذا كان السلف يزجرون مَن يَسأل عن الأسباب، جاء في الصحيحين، أن معاذة العدوية -إحدى التَّابعيَّات- قالت لعائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها: ما بال المرأة الحائض، تؤمر بقضاء الصوم ولا تؤمر بقضاء الصلاة" قالت لها عائشة: " أحرورية أنت؟" قالت: لا، إنما أن سائله، قالت: "كنا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة"[71].
انظر هذا الجواب السديد المبني على التسليم، فالمؤمن يسلم لله، فيصدق ما أخبر الله به، أدرك عقله أم لم يدرك، والعقول قاصرة لا تدرك كل شيء، أما من أقحم عقله فلا يصدق من الأخبار إلا ما أدركه عقله، في الواقع لا يسلم له دينه، ولا يمتثل من الأوامر إلا ما يقتنع به، هذا ليس مستسلم لله، ولا يجتنب من النواهي إلا ما يقتنع من المفسدة فيه، فهذا لم يستسلم لله، فالمؤمن يسلم لله، فيصدق الخبر ويعلم أن ما أخبر الله به فهو حق وصدق، أدرك ذلك عقله أو لم يدركه، ويمتثل الأمر ويعتقد أن الله -عزَّ وجلَّ- ما أمر بشيء إلا وهو خير ومصلحة، إما مصلحة محضة خالصة أو مصلحة راجحة، والعقول قد تدرك هذه المصالح وقد لا تدركها، ويعلم يقينًا أن الله ما نهى عن شيء إلا وهو مفسدة، إما مفسدة محضة أو مفسدة راجحة، والعقول قد تدرك ذلك وقد لا تدرك، لكن المؤمن يصدق الخبر ويمتثل الأمر ويجتنب النهي.
ولهذا جاء في البخاري عن الزهري، أنه قال: "من الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم" فنصدق الخبر ونمتثل الأمر ونجتنب النهي، ولهذا المصنف -رحمه الله- قال هذه القاعدة العظيمة في باب العقائد وفي باب العبادات وفي باب الأمر وفي باب النهي وفي باب الخبر، فهي من القواعد العظيمة في الدين.
(فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) فلا يعترض على ما أخبر به النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ولا على ما أمر به ولا على ما نهى عنه النَّبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام.
 لما حدَّث ابن عمر رضي الله عنه بحديث «لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ الْمَسَاجِدِ وَبُيُوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ»[72] قال أحد أبنائه: والله لنمنعهن. قال ابن عمر: والله لا أكلمك، أقول لك قال النَّبُّي صلى الله عليه وسلم وتقول والله لنمنعهن! وهذا من تعظيم السَّلف لحديث النَّبيِّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- فيُسَلِّمون ولا يعترضون لا بتأويل ولا بغيره، ويُسَلِّمون للأمر فينفِّذون، ويقولون سمعنا وأطعنا، ويجتنبون النَّهي؛ أدركت عقولهم ذلك أم لم تدرك.
فهي قاعدةٌ عظيمةٌ في بابِ العقائدِ وفي باب العباداتِ، وهكذا حتى المؤمن في القضاء والقدر؛ هل يعترض على قضاء الله؟ أبدًا، إذا أصيب بمصيبة ماذا يقول؟
يقول: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156]، قدَّر الله وما شاء فعل، فهو ينقاد لقدر الله وقضاء الله الكوني وينقاد لقضاء الله الشَّرعي، فلا يعترض على الرَّبِّ -تبارك وتعالى- لا في أخباره ولا في أوامره ولا في نواهيه.
(فَإِنَّهُ مَا سَلِمَ فِي دِينِهِ إِلَّا مَنْ سَلَّمَ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ) يعني ما اشتبه عليه في باب الأخبار أو باب الأوامر أو باب النَّواهي؛ فإنَّه يَردُّ عِلْمه إلى عَالِمِه.
والاشتباه أنواع:
اشتباه مطلق: وهو ما يتعلَّق بالأمور الكيفيَّة، فهذا أمره إلى الله، ولهذا السَّلف يُثبِتون المعاني، وما يتعلَّق بالكيفيَّات يردُّون علمها إلى الله -كما مرَّ معنا- بلا إحاطة ولا كيفيَّة، فالكيْفُ أمره إلى الله، فلا يُكيِّفون الصِّفاتِ ولا سائرَ الأمورِ الغيبيَّاتِ.
اشتباه نسبي: وهو أنَّه قد يشتبه الأمر لدى بعض النَّاس لقصور علمه أو لقصور فهمه، فكيف يزول هذا الاشتباه؟ قال: (وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ) يزول الاشتباه بالبحثِ والسُّؤالِ، فقد يُشكِلُ على المسلم أمرٌ في دينه، في خبر من الأخبار أو ما يوهِم التَّعارض عنده، فهذا الاشتباه يزول بالبحثِ والسُّؤالِ، ولهذا قوله -تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: 7] التَّشابه هنا أمرٌ نسبيٌّ، قد يتشابه عند فلان ولا يتشابه عند فلان، ولهذا إذا سأل وبحث زال هذا الاشتباه.
قال: (وَرَدَّ عِلْمَ مَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إِلَى عَالِمِهِ) فالأمور الغيبيَّة الكيفُ فيها مجهولٌ لا يعلمه إلا الله، وأما ما عداه من التَّشابه النِّسبيِّ فإنَّه يزول بالبحث والسُّؤالِ لأهلِ العلمِ.
قال: (وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلَامِ) لا يكون مسلمًا حقًّا حتى يستسلم لله -تبارك وتعالى- كما مرَّ معنا في تعريف الإسلام.
(وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ) لا يكون مسلمًا حقًّا ومستقيمًا على دينه حتى يظهر عليه الاستسلام والانقياد، أمَّا إن كان شاكًّا في الأخبار، فيعترض، ويردَّها، ويحرِّفها، ويؤوِّلها؛ هل تَثبتُ له قَدَمُ الإسلام؟ أبدًا، يتذبذب. لماذا؟ لأنَّ عنده شكٌّ، وهذا الذي أوقع هؤلاء المتكلَّمون في الحيرةِ لمَّا وقعوا تذبذبوا، لأنَّ الأخبار عندهم يعرضونها للعقول، فيقبولون ويردُّون ويؤوِّلون.
ولهذا قال لك هذه القاعدة العظيمة: (وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ) لا تَثبتُ قَدَمُه ولا يكون مُسلمًا حقًّا (إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلَامِ)، أمَّا إن كان يعترض على الأخبار ويعترض على الأوامر ويعترض على النواهي، فإنَّه يدخل في الشَّك، إمَّا أن الشَّك في كل مسائل الدين والحيرة والاضطراب أو يكون الشَّك في بعض المسائل، ولهذا لاحظ أنَّ الذين وقعوا في هذا الاضطراب، منهم مَن أَنْكَرَ الأسماء والصفات عمومًا، ومنهم مَن أَثبت الأسماء وأَنكَرَ الصفات، ومنهم مَن أثبت بعض الصفات وأنكر بعضها، ومنهم مَنْ أَنكر الأوامر والنَّواهي واعترض عليها، فهي قاعدة عظيمة في كل أبواب الدين.
(وَلَا تَثْبُتُ قَدَمُ الْإِسْلَامِ إِلَّا عَلَى ظَهْرِ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِسْلَامِ) والتسليم والاستسلام معنيان متقاربان، تسليم للأخبار واستسلام وانقياد للأوامر والنَّواهي، كما قال -تبارك وتعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾ [النساء: 65].
لو وَرَدَت على المسلم وساوس تسبب له الشَّك، فيدفعها بالاستعاذة بالله -تبارك وتعالى- وقد ذكرنا هذه المسألة في الدروس الأولى في شرح العقيدة الطَّحاوية، في من وردت عليه مثل هذه الوساوس والشكوك، فَيُذهبها بالاستعاذة والاعتصام بالله -تبارك وتعالى.
قال: (فَمَنْ رَامَ عِلْمَ مَا حُظِرَ عَنْهُ عِلْمُهُ) يعني: قَصَدَ وأَرَاد البحث فيما حُظِرَ عنه عِلمُه وهو الغيبيات والكيفيات، يبحث في الكيف، والكيف مجهول. (فَمَنْ رَامَ) يعني: طلب البحث فيمَا حُظِرَ عنه علمه، وهي أمور الغيب وأمور الكيفيات.
(وَلَمْ يَقْنَعْ بِالتَّسْلِيمِ فَهْمُهُ) ما استسلم بل اعترض على الخبر، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، هذا البحث وهذا التكلف سيحجبه عن ماذا؟
عن خالص التوحيد الذي هو كماله، فيوقعه في الشك، ولهذا اعتبر بمن خاض في هذا الباب، فأوقعه هذا البحث والتكلف إلى إنكار الصفات، أو تحريف الصفات، أو تفويض معاني الصفات، وكذلك في جميع أبواب الدين.
فمن خاض في هذه الأمور الغيبية، فحجبه مرامه عن خالص التوحيد، لم يكن موحدًا خالصًا.
(وَصَافِي الْمَعْرِفَةِ) جاءه الكدر بسبب ماذا؟ بسبب أنه قَدَّمَ عُقول النَّاس على كلام الله وكلام النَّبي صلى الله عليه وسلم، فلم تحصل له المعرفة الصافية وصحيح الإيمان، دَخَلَتْ عليه الوساوس والشكوك بسبب البحث في الأمور التي نُهي عن البحث فيها.
ولهذا كان السلف يزجرون مَن يَسأل عن الكيفيات أو يَعترض، وهذا الذي وقع فيه أرباب الكلام والفلسفة لما خاضوا في هذه الأمور بغير علم، وحرفوا وغيروا وبدلوا، فلم يحقق لهم ذلك التوحيد الخالص ولا المعرفة الصافية، ولا الإيمان الصحيح، بل اعترف بعضهم بهذا، حتى وَرَدَ عَن الرازي وهو ممن خاض في هذا الباب، أنه قال:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقال


قال: (فَيَتَذَبْذَبُ بَيْنَ: الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ، وَالتَّصْدِيقِ وَالتَّكْذِيبِ، وَالْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ؛ مُوَسْوَسًا، تَائِهًا، شَاكًّا؛ لَا مُؤْمِنًا مُصَدِّقًا، وَلَا جَاحِدًا مُكَذِّبً).
هذا هو الحال الذي يصل إليه من أنكر هذه الأمور أو خاض في الكيفيات.
قال: (وَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ دَارِ السَّلَامِ لِمَنِ اعْتَبَرَهَا مِنْهُمْ بِوَهْمٍ) بالأوهام والأهواء، أو تأولها بفهم، ويفصل التأويل هنا الذي هو التحريف، ولهذا من أنكر رؤية المؤمنين لربهم -تبارك وتعالى- فهو أولى بأن يُحرم هذا النعيم في جنات النعيم -نعوذ بالله من ذلك.
(وَلَا يَصِحُّ الْإِيمَانُ بِالرُّؤْيَةِ لِأَهْلِ دَارِ السَّلَامِ) يعني: الجنَّة، لا يصح الإيمان، كيف يصح إيمانه وقد أنكر ذلك أو حَرَّفَ؟
ولهذا يقال لمن ينكرها: إنَّكَ أولى ممن يُحرم هذا النعيم.
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا وإيَّاكم لذة النظر إلى وجهه الكريم، انتهى الوقت، لعلَّ -إن شاء الله- في الدرس القادم نُكمل مع المتبقي من هذه المسائل، نسأله -عزَّ وجلَّ- أن يرزقنا وإياكم وإخواننا المشاهدين، لذة النظر إلى وجهه الكريم، والشوق إلى لقائه، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، وأن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكان، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك