الدرس السابع

فضيلة الشيخ أ.د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

7817 12
الدرس السابع

العقيدة الطحاوية (1)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والعاقبةُ للمتَّقين، وأصلِّي وأسلِّم على المبعوثِ رحمةً للعَالمين، نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كلِّ مَن صلى وسلم عليه، اللهمَّ علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا حي يا قيوم، أمَّا بعد.
فأرحب بكم أيُّها الأبناء في الدَّرس السَّابع من شرح العقيدة الطَّحاوية.
كذلك أرحب بالأبناء الطُّلاب والطَّالبات المتابعين لحلقات البناء العلمي في أي مكان كانوا، وعبر وسائل الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة.
كذلك نرحبُ بالإخوة والأخوات المشاهدين لهذه الحلقات عبر البثِّ المباشر أو عبر البثِّ المُسجل لهذه الدُّروس العلميَّة.
كنَّا في الدَّرسِ السَّابق بحمد الله وتوفيقه، انتهينا إلى التَّعليق على شرح المصنِّف -رَحمَه اللهُ- في قوله: (خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارًا، وَضَربِّ لَهُمْ آجَالًا. وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ. وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ. وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِقُدِرتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَمَشِيئَتُهُ تَنْفُذُ، لَا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ، إِلَّا مَا شَاءَ لَهُمْ، فَمَا شَاءَ لَهُمْ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ).
تقدَّم الحديث حول معتقدَ أهل السُّنَّة والجماعة حول هذه المسائل، ثم انتقل المصنِّف -رَحمَه اللهُ- إلى مسائل متعلِّقة أيضًا بمشيئة الربِّ -تَبَاركَ وتَعَالى- ومتعلِّقة أيضًا بِقَدَرهِ -سبحانه وتعالى- وهدايتهِ لخلقِهِ.
تفضل يا شيخ اقرأ الجزء الذي سنشرحه -إن شاء الله- في هذا الدرس.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين والمشاهدين، ولجميع المسلمين.
قال المصنِّف -رَحمَه اللهُ تعالى: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلًا، وَيُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلًا، وَكُلُّهُم يَتَقَلَّبُونَ في مَشِيئَتِهِ بينَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ، وَهُوُ مُتَعَالٍ عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ؛ لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا غَالِبَ لِأَمْرِهِ. آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِهِ).
نعم، آمنَّا بذلك كله، وأيقنَّا أنَّ كلًّا من عند ربِّنا.
قال الإمام الطَّحاوي -رَحمَه اللهُ- في بَيان مُعتقد أهل السُّنَّة والجماعة في صفات الله -تَبَاركَ وتَعَالى- وإيمان أهل السُّنَّة بقضاء الله وقدره: أنَّ الله -سبحانه وتعالى- (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلً)، والمعنى: أنَّ الله -سبحانه وتعالى- يُوفِّق لسبل الخير والطَّاعات، والأعمال الصالحات، ويعصم كذلك مِن الوقوع في الزلَّات والخطيئات والسَّيئات، ويُعافي -عزَّ وجلَّ- المُعافاة العامَّة والمعافاة الخاصَّة -معافاة الأبدان ومعافاة القلوب- مَن يشاء من عباده فضلًا مِنه -عزَّ وجلَّ- ورحمة، كل ذلك بفضل الله -عزَّ وجلَّ.
ولهذا مَن هُدي إلى الصِّراط المستقيم، ومن أُعِينَ ووُفِّقَ وسُدِّدَ إلى الصَّراط المستقيم وسلوك طريق الحقِّ، فإنَّما ذلك بفضل الله -تَبَاركَ وتَعَالى- ومنِّته على عباده.
وأدلَّة معتقدِ أهلِ السُّنَّة والجماعة على أنَّ الله يَهدي مَن يَشاء وَيَعصم ويعافي فضلا منه في كتاب الله كثيرة جدًّا، منها على سبيل المثال:
قول الله -تَبَاركَ وتَعَالى: ﴿يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ [النحل: 93]، وقوله -تَبَاركَ وتَعَالى: ﴿مَن يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: 39]، وأيضًا قوله -تَبَاركَ وتَعَالى: ﴿بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلً﴾ [النساء: 49]، وأيضًا قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: 21]، وأيضًا قوله: ﴿وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾ [الحديد: 29]، وقوله: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ [الحجرات: 7]، ثم قال: ﴿فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَنعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [الحجرات: 8].
أيضًا يقول في منَّته على عباده المؤمنين -وهي أعظم مِنَّةٍ مَنَّ الله بها على عَبده أن هداهُ للإسلامِ وأن هداهُ للإيمانِ- يقول -تَبَاركَ وتَعَالى: ﴿يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الحجرات: 17].
فالهِدَاية والتَّوفيق للعمل الصَّالح والتَّسديد؛ كل ذلك فضل مِن الله -تَبَاركَ وتَعَالى- وهذا هو مُراد المصنِّف -رَحمَه اللهُ- بقوله: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي مَنْ يَشَاءُ فَضْلً) أي: تَكرمًا منه -تَبَاركَ وتَعَالى- وتَفضلا منه -سبحانه وتعالى- ومنَّةً مِنه -سبحانه وتعالى- ليس لأحدٍ عليه مِنَّة، ولهذا نقول لمَن أكرمه الله بالهِدَاية للإسلام، وأكرمه بالهِدَاية فاستقام على الصِّراط المستقيم، وأكرمه فثبَّته على الإيمانِ ولزومِ العملِ الصالح: اعلم أنَّ ذلك فضلٌ مِن الله -تَبَاركَ وتَعَالى- ومنَّةٌ منه -تَبَاركَ وتَعَالى- ليس لأحد منَّة، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.
ولهذا قال -سبحانه وتَعَالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [إبراهيم: 11] فهذا الفضل مِن الله -تَبَاركَ وتَعَالى- يمنُّ بِه على مَن يشاء من عباده.
قال المؤلف: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) ما نوع الهِدَاية هنا؟
تقدَّم لنا في أولِّ التَّعليق على هذا المعتقد أنَّ الهِدَاية نوعان:
النَّوعُ الأولِ: هداية الدَّلالة والإرشاد والبيان. وهي التي أثبتها الله -عزَّ وجلَّ- لنبيِّه في قوله: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]، يعني: تدلُّ وتُرشد وتُبيِّن.
النَّوعُ الثَّاني: هِدَاية التَّوفيق للعمل الصالح، وهذه التي نَفَاها اللهُ -عزَّ وجلَّ- عَن نبيِّه، في قوله: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ [القصص: 56]، وهذه الهِدَاية هي المرادة من قول المصنِّف: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ): أي: يُوفِّق مَن يشاء إلى الصِّراط المستقيم.
أمَّا هداية التَّوفيق فهي التي أنكرتها المعتزلة، فالمعتزلة أثبتت هداية البيان والإرشاد وأنكرت هداية التَّوفيق للعمل الصالح.
ثم قال: (وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلً) كما أنَّه يَهدي ويعافي ويعصم فضلا، وهو -عزَّ وجلَّ- كذلك يُضل مَن يشاء، ويَخذل ويبتلي مَن شاء عدلًا منه -تَبَاركَ وتَعَالى- قال تعالى: ﴿وَمَا ربِّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46]، فيضل مَن يَستحق الضَّلال، وكذلك يخذل مَن يشاء، والخذلان هو: عدم التَّوفيق. ويبتلي مَن يشاء بالبلاء، عدلًا منه -تَبَاركَ وتَعَالى.
فأفعال الربِّ -تَبَاركَ وتَعَالى- دائرةٌ بين الفضلِ والعدلِ، ولهذا قال المصنِّف -رَحمَه اللهُ تعالى: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي مَنْ يَشَاءُ فَضْلًا، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدْلً)، فمَن اهتدى فذلك مِن فضل الله -عزَّ وجلَّ- ومَن ضلَّ فبعدل الله -تَبَاركَ وتَعَالى- مع أنَّ العبد هو الذي قد فعل الأسباب، ولهذا مَن طلب الهِدَاية وسَلكَ سبيل الهِدَاية، فإنَّ الله -تَبَاركَ وتَعَالى- يمنُّ عليه بالتَّوفيق والتَّسديد والإعانة.
كما قال -تَبَاركَ وتَعَالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ [الليل: 5 - 7]، ثم قال: ﴿وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 10]، فأفعال الربِّ -عزَّ وجلَّ- دائرةٌ بين الفضلِ والعدلِ، ولهذا مِن فضلِه -سبحانه وتعالى- أنَّه يُجازي على الحسنةِ بعشرِ أمثالِها إلى سبعمائة ضعفٍ، إلى أضعافٍ كثيرةٍ، ويُجازي على السَّيئة بمثلِها أو يعفو، ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً﴾ [الكهف: 49]، ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46].
ولهذا كان دخول المؤمنين الجنَّة بفضل الله -تَبَاركَ وتَعَالى- نعم الأعمال هي أسباب فقط ﴿تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: 43]، ولكن ذلك بفضل الله -تَبَاركَ وتَعَالى- فلا تُلغَى الأسباب، ولكن الدُّخول والثواب إنَّما هو بفضل الله -تَبَاركَ وتَعَالى.
ويجازي على السَّيئة بمثلها أو يعفو، وهذا عَدل منه -تَبَاركَ وتَعَالى- وكلُّ ذلك مبني على حكمته فهو حكيم في خلقه، حكيم في قضاءه وقدره، حكيم في شرعه، ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدً﴾ [الكهف: 49].
قال: (وَكُلُّهُم يَتَقَلَّبُونَ في مَشِيئَتِهِ بينَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ) هذا تعليل لما سبق، لما ذكر أنَّه (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلًا، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدَلً)، فكل هَؤلاء سواء مِن أهل الطاعات أو من أهل المعاصي يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله، فلا يخرج عن مشيئته شيء.
وهذا فيه ردٌّ على المعتزلة القدريَّة، الذين يُخرجون أفعال العباد عن مشيئة الله -تَبَاركَ وتَعَالى- بل يُنكرون هداية التَّوفيق مِن الله -تَبَاركَ وتَعَالى- وهذا مبنيٌّ على أصلهم الفاسد الذي يزعمون فيه وجوب فعل الأصلح للعبد على الله -تَبَاركَ وتَعَالى- والتي يعنون بها مسألة الهِدَاية والتَّوفيق، فيوجبون على الربِّ -تَبَاركَ وتَعَالى- فعل الأصلح، ويُرَدُّ عليهم بما سبق من الأدلَّة التي فيها بيان أنَّ الهِدَاية بيد الله -عزَّ وجلَّ- قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ﴾ فالأدلَّة السَّابقة فيها ردٌّ على المعتزلة.
 وكما تقدم مِن إثبات المشيئة لله، وأنَّ مَا شاء الله كان وما لم يشاء لمن يكن، فيه أيضًا ردٌّ على عقيدة المعتزلة في إخراجهم لأفعال العباد عن مشيئة الله -تَبَاركَ وتَعَالى.
ولهذا قال هنا في استحضار الرَّد عليهم: (وَكُلُّهُمْ)، أي: كلُّ مَن مَنَّ الله عليه بالتَّوفيق والمعافاة، وكل مَن عامله بالعدل (يَتَقَلَّبُونَ فِي مَشِيئَتِهِ)، أي: لا يخرج عن مشيئته شيء. (بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ)، الفضل لأهل الإيمان والتُّقى والصَّلاح، فعاملهم بفضله -تَبَاركَ وتَعَالى- وجازاهم بفضله، والعدل مع الكفَّار والمنافقين، فعاملهم بعدلِه -عزَّ وجلَّ- ولا يظلم ربُّك مثقال ذرة.
قال: (وَهُوُ مُتَعَالٍ عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ) ووصْفُ الربِّ -عزَّ وجلَّ- بأنَّه متعالٍ ورد في القرآن في مواضع كثيرة، مثل قوله -تَبَاركَ وتَعَالى: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الروم: 40]، ﴿تَعَالَى﴾ أي: تنزَّه -سبحانه وتعالى.
أيضًا قوله: ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنعام: 100]، وقوله: ﴿فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الأعراف: 190]، يدلُّ على تنزُّهِ الربِّ -تَبَاركَ وتَعَالى- وعلى ترفُّعهِ عن مشابهةِ المخلوقين.
(وَهُوُ مُتَعَالٍ عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ)، الأضداد: جمع ضد، ويُقصد به المخالف والمقاوم والمدافع. فالله -تَبَاركَ وتَعَالى- لا مُعارض له، ولا يضادُّه أحدٌ مِن خلقه، فإذا أراد شيئًا فإنَّه يقول له كن فيكون، فلا يُعترَضُ على قدره ولا يعترض على أمره، وهذا أيضًا فيه ردٌّ على المعتزلة الذين يجعلون أفعال العباد معارضة لمشيئة الله -تَبَاركَ وتَعَالى، ومعارضة لأقدار الله -عزَّ وجلَّ.
قال المصنِّف هنا: (وَهُوُ مُتَعَالٍ) أي: تنزَّه الله -تَبَاركَ وتَعَالى- عن أن يوجد له ضدٌّ معارض ومخالف سواءٌ لقضائه الكونيِّ أو لشرعه.
والأنداد: جمع نِدٍّ، والنِّدُّ هو المثيلُ والشَّبيهُ والنَّظيرُ والكفءُ والسَّمِيُّ، فتعالى الله -سبحانه وتعالى- وتنزه وتقدس وترفَّع عن الأضداد والأنداد، لكماله -عزَّ وجلَّ؛ ولأنَّه متعالٍ، والعلو -كما تقدم- يشمل علو الذَّات وعلو القدر وعلو القهر.
قال: (لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا غَالِبَ لِأَمْرِهِ) وهذه المعاني الثلاثة متقاربِّة، وهي تفصيل وتعليل لما سبق، فمشيئته نافذةٌ لكلِّ شيء، فيضلُّ مَن يشاء بعدله، ويُعافي ويعصم فضلا، وكلهم يتقلبون في مشيئته بين فضله وعدله -عزَّ وجلَّ.
وهذا أيضًا فيه ردٌّ على المعتزلة القدريَّة، الذين يجعلون العبدَ مستقلًا بأفعاله ومشيئته؛ لأنَّ كلامهم فيه معارضة لقضاء الله ومعارضة لحكم الله -عزَّ وجلَّ.
ولهذا قال مُبيِّنًا عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في هذا الباب: (لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ) وقضاء الله -كما تقدم معنا- على نوعين:
-       القضاء الكوني القدري.
-       القضاء الشَّرعي.
فالقضاءُ الكوني لابدَّ مِن وقوعه، ولا يَلزم مِنه المحبَّة والرِّضا ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ [فصلت: 12].
والقضاءُ الشَّرعي الذي يرادف المحبَّة ﴿وَقَضَى ربِّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23]. فلا رادَّ لقضائه -سبحانه وتعالى.
قوله: (وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ )، وأيضا الحكم نوعان:
-       الحكم الكوني القدري.
-       والحكم الشَّرعي.
فالربُّ -تَبَاركَ وتَعَالى- لا أحد يَتَعقب أحكامه الكونيَّة، وكذلك لا أَحد يتعقَّب أحكامه الشَّرعيَّة.
قال: (وَلَا غَالِبَ لِأَمْرِهِ)، الأمر يشمل:
-        الأمر الكوني.
-       والأمر الشَّرعي.
فالله تعالى لا غالب لأمره، وهذا أيضًا فيه ردٌّ على المعتزلة، فأمره -عزَّ وجلَّ- نافذٌ، فما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، فلا رادَّ لقضائِه ولا معقِّب لحكمه ولا غالبَ لأمره -تَبَاركَ وتَعَالى- فله الحُكم كُله، وله الأمر كله، لا أحد يتعقَّب على الربِّ -تَبَاركَ وتَعَالى- في أقداره، ولا أحد يتعقَّب على الربِّ -تَبَاركَ وتَعَالى- في أحكامه، ولا غالبَ لأمرهِ -تَبَاركَ وتَعَالى.
إِذا أَراد عطاءً فلا أحد يُمانع عطاؤه -تَبَاركَ وتَعَالى- وإذا أراد منع شيءٍ، فلا أحد يستطيع أن يُعارض الربِّ -تَبَاركَ وتَعَالى- ولهذا يُقال في الثَّناء على الله: «لاَ مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ»[42] سبحانه وتعالى.
قال: (آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِهِ) عزَّ وجلَّ. آمنَّا إيمانًا صادقًا بذلك كله. واسم الإشارة هنا يعود إلى أي شيء؟
-       إمَّا إلى أقربِّ مذكور، وهو ما قرَّره هنا مِن جهة الهِدَاية والتَّوفيق والضَّلال، فإنَّنا آمنَّا بذلك كله، لا نعترض على ربِّنا -تَبَاركَ وتَعَالى- في أنَّه يهدي ويُوفِّق ويَعصم مَن يشاء ويُضل ويَخذل ويَبتلي مَن يشاء، هذا بفضله وذاك بعدله.
وآمنَّا بقدر الله وبشرع الله، وأيقنا أنَّ كلاً من عند ربِّنا، فربَّما يراد أقرب مذكور وهو ما يتعلق بالهِدَاية والضَّلال، وأنَّه لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره.
-       وربِّما أنَّه أراد مَا ذكره من أوَّلِ المعتقد إلى هذا الموضع، ابتداءً من قوله: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ) فكأنَّه أراد هنا أن يؤكد أنَّ ما ذكر من أوَّلِ العقيدة في بيان التَّوحيد وإثبات الصِّفات للربِّ -تَبَاركَ وتَعَالى- وما يتعلَّق بالإيمان بالقضاء والقدر، فإنَّنا نؤمن بذلك كله؛ لأنَّ هذا ثابت في كتاب الله، ومِن ذلك ما أثبته الله لنفسه مِن الأسماء والصِّفات، وما أثبته لنفسه مِن المشيئة النافذة، وما أثبته مِن المشيئة لعباده، فآمنا بذلك كله، فكذلك آمنا بشرعه وقدره.
هل يوجد تعارض بين الشَّرع والقدر؟
معاذ الله، فنحن نؤمن بمشيئته، ونؤمن بمشيئة العباد، وأنَّ مشيئة العباد تحت مشيئة الله، ونؤمن بقدر الله السَّابق، ونؤمن كذلك بشرعه، ولا تعارض بين ذلك، فكل مَا سبق ويدخل فيه ما قرَّره في باب الهِدَاية والإضلال.
(وَأَيْقَنَّ) وهذا زيادة على درجة الإيمان، ودرجة اليقين لا شك بها بوجه من الوجوه، واليقين هو أعلى درجات الإدراك، واليقين في نفسه أيضًا درجات:
-       علم اليقين.
-       وعين اليقين.
-       وحق اليقين، ولهذا قال: (آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ وَأَيْقَنَّ) بحيث لا يتطرَّق الشكُّ بوجه من الوجوه، فآمنا بكل ما تقدم.
قوله: (وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلًّ) أي: كلُّ ما ذكره مِن جهة الشَّرع والقدر والهِدَاية مِن عند الله، فالقدرُ مِن عند الله، والشَّرعُ مِن عند الله، والأسبابُ التي أمر الله -عزَّ وجلَّ- بها لا تعارض قدر الله، وأيقينا أنَّ كلًّا مِن عِنده -تَبَاركَ وتَعَالى- فهو ليس مجرد قول باللسان أو مجرد اعتراف القلب، بل هو إيمان جازم ويقين صادق، لا يتطرَّق إليه الشَّكُّ بأي وجهٍ مِن الوجوه.
ومحالٌ أن يتناقضَ كلامُ الله في الإثبات والنَّفي، فما أثبته لنفسه حقٌّ، وما نفاه عن نفسه حقٌّ، لا يتعارض النَّفي مع الإثبات، وكما قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ فلا يوجد تعارض ولا تناقض، وكما قال سبحانه: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ لا تعارض، وكما أنَّه قدَّر الأقدار وأمر بالشَّرع فلا تعارض، وإذا وُجد شيءٌ من الوهمِ أو التَّعارضِ، فليس في شرع الله وقَدره وإنَّما في فهم الإنسان القاصر، فعليه أن يلجأ إلى ربِّه -تَبَاركَ وتَعَالى- وأن يُحقِّق إيمانه بالله -تَبَاركَ وتَعَالى- وخاصَّة في هذه المسائل.
بهذا التَّقرير يكون المصنِّف -رَحمَه اللهُ- قد انتهى مِن بيان معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في توحيدِ الله وأسمائه وصفاته، والإيمان بقدرِ الله -تَبَاركَ وتَعَالى- خيره وشره، حلوه ومرِّه، وأنَّه لا تَعارض بين الإثبات والنفي، وبين التَّنزيه والإثبات، وكذلك لا تعارض بين القدر والشَّرع، فنحن نؤمن بذلك كلِّه.
هذا هو مختصر بيان عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة، كما قرَّرها الإمام الطَّحاوي في هذه العقيدة المباركة في توحيد الله، وفي أسمائه وصفاته وفي قدره.
وكما ذكرنا لكم أنَّ موضوع القدر يجعله أهل العلم ضمن أبواب الأسماء والصِّفات.
لماذا جعل باب القدر مع أنَّه هو الركن السَّادس من أركان الإيمان ضمن مباحث الأسماء والصِّفات؟
{أحسن الله إليكم، للتَّلازم بين مسألة توحيد الأسماء والصِّفات والقدر}.
ويتعلَّق كذلك بالإيمان بربوبيَّة الله -عزَّ وجلَّ- وقضائه الكونيِّ وأمره الكونيِّ، ويتعلَّق بمشيئته النَّافذة -تَبَاركَ وتَعَالى- ويتعلَّق بالكتابة، ويتعلَّق بالخَلق، فمسائله تتعلَّق بمسائل الأسماء والصِّفات ومسائل الربِّوبية، وأيضًا لأهميَّة موضوع القدر.
وتلاحظون أنَّ المصنِّف -رَحمَه اللهُ- في العقيدة الطَّحاوية أعاد وكرَّر هذا الباب في مواضع، وسيأتي -إن شاء الله- لأهميَّته، وكذلك لكثرة مَن ضلَّ في هذا الباب، خاصة في زمن المصنِّف -رَحمَه اللهُ.
ولعلنا بنهاية هذا الجزء المتعلِّق بتوحيد الله وأسمائه وصفاته، ومسائل القدر، نُعيد القراءة من أول المتن، لكي تتضح الصورة في قول المصنِّف (آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ) على معنى أنَّ اسم الجر والضمير يعودان على ما ذكر في أول الكتاب.
لتقرأ يا شيخ بارك الله فيك.
{أحسن الله إليك، قَالَ الْعَلَّامَةُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ أَبُو جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ الطَّحاوي -بِمِصْرَ-:
(هَذَا ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّة وَالْجَمَاعَةِ، عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ: أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ -رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- وَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَيَدِينُونَ بِهِ ربِّ الْعَالَمِينَ.
نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ- أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ)
}.
وكما أشرنا أنَّه ليس مجرد القول، بل هو اعتقاد بالقلب وقول باللسان، ولهذا قال: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ) وهذا يدلُّك على أنَّ كلَّ المسائل التي ذكرت وما سيذكره تدخل في مفهوم التَّوحيد بأنواعه الثَّلاثة:
-       توحيد الربِّوبية.
-       وتوحيد الإلوهية.
-       وتوحيد الأسماء والصِّفات.
وتلاحظون التَّلازم بين هذه المسائل، فالإيمان بالقضاء والقدر يدخل ضمن مباحث التوحيد -مباحث الربِّوبية والأسماء والصِّفات- وأيضًا في مباحث توحيد الإلوهيَّة، فالإيمان بالقدر لا يُعارض الشَّرع الذي هو توحيد العبادة.
قال: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ مُعْتَقِدِينَ) اعتقاد جازم (بِتَوْفِيقِ اللَّهِ) وهذا أيضًا فيه تأكيد لما ذكرنا أنَّ الهِدَاية والعصمة والمعافاة بتوفيق الله -عزَّ وجلَّ، فالموفق مَن وفَّقه الله، والمهتدي مَن هَداه الله، فمَن يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، فابتدأ هذا المعتقد بهذه العبارة التي تُبيِّن مَا يَعتقده أهل السُّنَّة والجماعة، وفيها أنَّه واجب على كل مسلمٍ أن يُعلِّق رجاءه بالله -تَبَاركَ وتَعَالى- وأن يَطلب منه الهِدَاية والتَّوفيق.
ولهذا ذكرنا في مواضع أنَّ المسلم يطلب الإعانة من ربِّه -تَبَاركَ وتَعَالى- فإذا سمع المؤذن ينادي للصلاة "حي على الصَّلاة، حي على الفلاح" قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولهذا إذا أنعم الله -عزَّ وجلَّ- بنعمة، فذلك فضل الله -تَبَاركَ وتَعَالى- فهو أنعم عليك بمتابعة هذه الدُّروس، وأنعم الله عليك بحبِّ العلم، والرَّغبة في طلب العلم، فأعلم أنَّ هذا بتوفيق الله «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»[43]، فهذا فضل الله -تَبَاركَ وتَعَالى- عليك أيها المؤمن.
(نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ- أَنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ، وَلَا شَيْءَ يُعْجِزُهُ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ. قَدِيمٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ بِلَا انْتِهَاءٍ، لَا يَفْنَى وَلَا يَبِيدُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ. لَا تَبْلُغُهُ الْأَوْهَامُ، وَلَا تُدْرِكُهُ الْأَفْهَامُ، وَلَا يُشْبِهُ الْأَنَامَ. حَيٌّ لَا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لَا يَنَامُ، خَالِقٌ بِلَا حَاجَةٍ، رَازِقٌ بِلَا مُؤْنَةٍ، مُمِيتٌ بِلَا مَخَافَةٍ، بَاعِثٌ بِلَا مَشَقَّةٍ. مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا قَبْلَ خَلْقِهِ، لَمْ يَزْدَدْ بِكَوْنِهِمْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ مِنْ صِفَتِهِ، وَكَمَا كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّا كَذَلِكَ لَا يَزَالُ عَلَيْهَا أَبَدِيًّا. لَيْسَ بَعْدَ خَلْقِ الْخَلْقِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْخَالِقِ"، وَلَا بِإِحْدَاثِ الْبَرِيَّةِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْبَارِي")}.
من باب الفائدة: المصنِّف -رَحمَه اللهُ- في هذا المعتقد المختصر لا يريد البسط والتَّبسيط لكل المسائل، وإنَّما يذكر أمثلة، وتلاحظون في ذكر الأمثلة أنه لا يذكر إلا ما فيه مخالِف، وهذه من خصائص العقائد المختصرة على طريقة أهل السُّنَّة والجماعة، فيذكرون فقط ما يميزه، ولهذا تلاحظون أنَّ المؤلف يستحضر المخالف في هذه المسائل، وأمَّا مَا كان متفقٌ عليه فلا يُذكَر، وإنَّما يذكر أمثلة تُميز أهل السُّنَّة والجماعة في ذلك الباب، وليس المقصود أيضًا التَّفصيل في باب الأسماء والصِّفات، فباب الأسماء والصِّفات تكتب فيه مصنفات؛ بل كُتبت فيه الكتب الخاصَّة، وإنَّما يُشير في هذا المعتقد المختصر إلى مَا يُميز أهل السُّنَّة والجماعة في باب الصِّفات، ويذكر أمثلةً تميزهم عن غيرهم في هذا الباب، وتبيِّن ما يعتقدون في توحيد ربِّ العالمين.
{قال: (لَيْسَ بَعْدَ خَلْقِ الْخَلْقِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْخَالِقِ"، وَلَا بِإِحْدَاثِ الْبَرِيَّةِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْبَارِي".لَهُ مَعْنَى الربِّوبِيَّةِ وَلَا مَربِّوبَ، وَمَعْنَى الْخَالِقِ وَلَا مَخْلُوقَ. وَكَمَا أَنَّهُ مُحْيِي الْمَوْتَى بَعْدَمَا أَحْيَا؛ اسْتَحَقَّ هَذَا الِاسْمَ قَبْلَ إِحْيَائِهِمْ، كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْخَالِقِ قَبْلَ إِنْشَائِهِمْ. ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ عَلَيْهِ يَسِيرٌ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى:11])}.
طبعًا هذه الآية -كما تقدم - هي الأصل في هذا الباب الذي استنبط منه أهل السُّنَّة والجماعة قواعد ومسائل كثيرة في باب الأسماء والصِّفات.
{(خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ، وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارًا، وَضَربِّ لَهُمْ آجَالً)}.
وهنا أُدخل باب القدر في باب الصِّفات، فقال: (خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ) فالقدر يتعلَّق بالخلق، ويتعلَّق بالعلم، قال: (وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارًا، وَضَربِّ لَهُمْ آجَالً) كلها داخلة في باب الصِّفات وباب الربِّوبية، وكذلك هي مسائل تتعلَّق بالقدر.
{(خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ، وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارًا، وَضَربِّ لَهُمْ آجَالًا، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ. وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ)}.
ولمَّا عَلِمَ مَا هُم عاملون قبل أن يخلقهم؛ كَتَبَ ذلك في اللوح المحفوظ، وهذه المسألة تُشكل على بعض النَّاس، يقول: كيف تكتب أعمال العباد من الطَّاعات والمعاصي وهم لم يُخلقوا أصلًا؟ كيف يزول هذا الإشكال؟
ولذلك قال المصنِّف: (وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ) لأنَّه بالجواب يزول الإشكال الذي ورد عن المعتزلة، ويزول الإشكال أيضًا الذي قد يورده الشيطان على بعض النَّاس، ويقولون: إذا كانت الأمور قد كُتبت والأمر قد انتهى، ففيمَ العمل؟ فكيف يُجاب عن هذه الشبهة؟
{أجاب عنها الرسول صلى الله عليه وسلم، بقوله: «اعْمَلُوا، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»[44]}.
ولذلك نقول لمن تشكل عليه هذه المسائل: لا تلتفت لهذا المكتوب، وإنَّما مَا أنت مُطالب أن تشغل نفسك به هو العمل، كما قال صلى الله عليه وسلم: «فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» أمَّا كون الربِّ َعَلِمَ مَا هم عَامِلُونَ قبل أن يَخلُقَهم، فهذا مِن كَماله -تَبَاركَ وتَعَالى- فلا تُشغل نفسك بالبحث فيما هو مكتوب باللَّوح المحفوظ، وإنَّما الذي يجب عليك أيها العبد هو أن تشغل نفسك وتصرف همتك إلى العمل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ».
 قال تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: 5 - 10]، فالذي يهمك أيها العبد هو العمل، وما هو مكتوب هذا بناءً على علم الله -تَبَاركَ وتَعَالى.
وهل علمه قاصر بما هم عاملون أو بما لم يعملوا؟
الله -تَبَاركَ وتَعَالى- يَعلم كُلَّ شيء، كما أنَّه هو القادر على كلِّ شيءٍ، قادر على ما يشاء وما لا يشاء، فهو على كلِّ شيءٍ قدير.
ولهذا كان الإيمان بالعلم المطلق وبالقدرة المطلقة مزيلا لإشكالاتٍ كثيرةً تَرِدُ على النَّاس في هذا الباب، وقد وردت بعضِ الفِرَقِ كالمعتزلة، فوقعوا في هذا التَّناقض العظيم في تنقُّصِ الربِّ -تَبَاركَ وتَعَالى- واعتقاد وجود الأضداد والأنداد له -تَبَاركَ وتَعَالى.
فلو حققوا الإيمان بصفات الربِّ -تَبَاركَ وتَعَالى- على هذا الوجه -العلم المطلق والخلق الكامل- لَمَا وَرَدَ عليهم هذا الإشكال.
قال: { (وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ)}.
لماذا جاء بعبارة (وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ)؟
هذا العلم السَّابق، ثم قال: (وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ)، لماذا أتى بهذه العبارة بعد تلك العبارة؟
للرَّدِّ على أنَّه لا يوجد تعارضٌ بين القدرِ والشَّرعِ، فَعلمَ مَا هُم عاملون قبل أن يخلقهم ومع ذلك أمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته، فلا تناقض ولا تعارض، ولكن لو وجد ما يُوهم التَّعارض فيكون في فَهم العبدِ وليس في قَدَرِ الربِّ وشرعه -تَبَاركَ وتَعَالى.
ولهذا قال: (وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ) إذن الأمر بالطَّاعة والنَّهي عن المعصية لا يخرج ذلك عن قدر الله، فلا تعارض بين القدر والشَّرع.
{قال: (وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بقدرته وِمَشِيئَةِ، وِمَشِيئَةِ تَنفذ)}.
هذا يشمل الطاعات والمعاصي، فكل شيء يجري بقدرته ومشيئته، ومشيئته تنفذ.
{(لَا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ إِلَّا مَا شَاءَ لَهُمْ؛ فَمَا شَاءَ لَهُمْ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلً)}.
نحن أعدنا القراءة لأجل الرَّبط بين هذه المسائل حتى يتَّضح المرادُ أكثر، قال: (لَا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ إِلَّا مَا شَاءَ لَهُمْ) هنا يأتي التَّوفيق والهداية.
قال: (لَا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ إِلَّا مَا شَاءَ لَهُمْ؛ فَمَا شَاءَ لَهُمْ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ. يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) يعني مع هذا كله فهو -عزَّ وجلَّ- يهدي مَن يشاء تفضُّلا وتمنُّنًا منه -تَبَاركَ وتَعَالى- ويعصم ويُعافي فضلا.
{( يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ، وَيَعْصِمُ وَيُعَافِي فَضْلًا، وَيُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيَخْذُلُ وَيَبْتَلِي عَدَلًا، وَكُلُّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ فِي مَشِيئَتِهِ بَيْنَ فَضْلِهِ وَعَدْلِهِ.وَهُوُ مُتَعَالٍ عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَنْدَادِ؛ لَا رَادَّ لِقَضَائِهِ، وَلَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَلَا غَالِبَ لِأَمْرِهِ.آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِهِ)}.
إذن مُراده بقوله: (آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ) يعود إلى أي شيء؟
مِن أوَّل مَا ذكر إلى هذا الموضع وما سيأتي.
ولاحظ لما قرأنا السِّياق بأكمله اتَّضح أنَّ المراد هو ما ذكره مِن أول الكتاب إلى هذا الموضع، أو يقال: ما قرَّره في المواضع الأخيرة من الإيمان والهِدَاية والضَّلال والقدر والشَّرع.
(آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ) الضمير في "آمنا" يعود إلى مَن؟
هو يحكي عن عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة، أي: أنَّ عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة وعقيدة فقهاء الملة هي أنَّهم يؤمنون بكل ما سبق من الأسماء والصِّفات والتَّوحيد والقدر والشَّرع.
(وأيقن) هذا الإيمان لا شكَّ فيه بأيِّ وجهٍ من الوجوه، هل المؤمن يحتاج إلى مزيدِ إيمانٍ؟ نعم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ﴾ [النساء: 136]، ولهذا نقول في مثل هذه المسائل: إنَّك أيُّها المؤمن تحتاج إلى مزيد إيمان، ولهذا حِلق العلم ودروس العلم تُزيد في الإيمان، والمذاكرة وتدبر القرآن تزيد في الإيمان.
هل المهتدي يحتاج مزيد هداية؟
نعم، ألا ترى المسلم وهو في الصَّلاة يقول في كل ركعة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6]، أي: دلَّنا وأرشدنا ووفقنا وثبِّتنا، فأنت تسأل الله -عزَّ وجلَّ- التَّوفيق والإعانة والتَّسديد.
ولهذا قال: (آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ) هذا يدلُّك على أنَّ الإيمان درجات، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُو﴾، وقال: ﴿قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَ﴾ [الحجرات: 14]، ولذلك الإيمان فيه:
-       أصل الإيمان.
-       وفيه كماله الواجب.
-       وفيه كماله المستحب.
فالأصل الإيمان: الذي مع كل مسلم.
والكمال الواجب: مع كل مؤمن.
والكمال المستحب: الذي مع كل محسن، فالمسلم يحتاج إلى مزيد إيمان، ومزيد يقين.
تأمَّلوا في دعاء إبراهيم -عليه السَّلام- كما ذكر الله في سورة "البقرة": ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ ربِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، مَن إبراهيم؟
إبراهيم هو إمام الموحِّدين، وهو خليل الرحمن -تَبَاركَ وتَعَالى- ومع ذلك انظر كيف طلب مِن ربِّه مزيدًا مِنَ الطُّمأنينة!
فأنت أيُّها المؤمن مع إيمانك ومع هدايتك ومع استقامتك تسأل الله -عزَّ وجلَّ- مزيدَ التَّوفيق ومزيد الهِدَاية، وكذلك تحرص على الأسباب التي تزيد في الإيمان وتزيد في اليقين.
قال: (آمَنَّا بِذَلِكَ كُلِّهِ وَأَيْقَنَّا أَنَّ كُلًّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) -تَبَاركَ وتَعَالى. ولهذا خاصَّة في هذا الزَّمن الذي تكثر فيه الشُّبهات، وتكثر فيه الوساوس، فالمسلم يحتاج إلى مزيد إيمان ومزيد يقين مع كثرة ورود الشبه، ربِّما في العصور التي مضت كانت الشُّبه التي ترد محصورة، وربِّما تكون موجودة في بطون الكتب، لكن اليوم هذه الشُّبه المتعلِّقة بالخالق وتوحيد الله وبوربِّوبيته وأسمائه وصفاته ومتعلِّقة بقضائه تنتشر بين أيدي النَّاس اليوم، فيحتاج المسلم إلى مزيدِ توفيقٍ ويقينٍ بأسماء الله وصفاته وقضائه وقدره.
أسال الله -تَبَاركَ وتَعَالى- أن يجعلنا وإيَّاكم وإخواننا المسلمين من المؤمنين بالله -عزَّ وجلَّ- بأسمائه وصفاته، الموقنين بقضائه، الرَّاضين بشرعه وقدره، آمنا بذلك كله، وأيقنا أنَّ كلًّا من عند ربِّنا -سبحانه وتعالى.
اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفرَ والفُسوقَ والعِصيانَ، واجعلنا اللهمَّ مِن الرَّاشدين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك