الدرس السادس

فضيلة الشيخ أ.د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

7817 12
الدرس السادس

العقيدة الطحاوية (1)

بسم الله الرَّحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العَالمين، والعاقبة للمتَّقين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه، بإحسانٍ إلى يوم الدِّين.
اللهم عَلمنا مَا يَنفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا حي يا قيوم، أمَّا بعد.
فأرحب بكم أيُّها الأبناء في الدَّرس السَّادس من دروس العقيدة الطحاوية، كذلك أرحب بالأبناء الطُّلاب والطَّالبات المتابعين لهذه الدُّروس عبر قنوات الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة، وفي برنامج البناء العلمي، وكذلك نرحب بالإخوة والأخوات المُشاهدين عبر البث المباشرة والمُسجل، لهذه الحلقات العلمية، وأسأل الله لَنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح.
على بركة الله نبدأ دَرس اليوم بالتَّعليق والشَّرح على قول الإمام الطَّحاوي -رحمه الله- حيث قال.
{بسم الله الرَّحمن الرحيم، الحمد لله رَبِّ العَالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، اللهُمَّ اغفر لنا ولشيخنا، وللمستمعين والمشاهدين ولجميع المسلمين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى: (خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارًا، وَضَرَبَ لَهُمْ آجَالًا، وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ.
وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِتَقْدِيرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَمَشِيئَتُهُ تَنْفُذُ، لَا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ، إِلَّا مَا شَاءَ لَهُمْ، فَمَا شَاءَ لَهُمْ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ)
}.
يقول الإمام الطحاوي -رحمه الله- مبينًا مُعتقد أَهل السنة والجماعة، في بعض الصِّفات للربِّ -تبارك وتعالى- (خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ -عز وجل- وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارًا، وَضَرَبَ لَهُمْ آجَالً).
تلاحظون أنَّ المصنف -رحمه الله- يُعيدُ ويُكرِّرُ هذه المسائل المتعلِّقة بسعة عِلم الله -عزَّ وَجَلَّ- والمتعلِّقة بعموم قدرته -عزَّ وَجَلَّ- وعموم مشيئته، والسبب الذي جعل المؤلف -رحمه الله- يُكرِّر هذه المسائل في العقيدة لأهميتها، وأيضًا لما حصل من نزاعٍ في هذه المسائل في عصر المؤلف، خاصَّة فيما يتعلق بصفاتِ الرَّب -تبارك وتعالى- وفيما يتعلق بقَدَرِ الله -عزَّ وَجَلَّ.
وتلاحظون في كتب العقائد أنَّ أهلَ العلم يجعلون أبواب القدر ضمن أبواب الأسماء والصِّفات، وضمن توحيد الرُّبوبيَّة؛ لأنَّ الإيمان بقدر الله -عز وجل- إيمانٌ بعلم الله -عزَّ وَجَلَّ- المطلق لكلِّ شيءٍ بما في ذلك أفعال العباد، وإيمانٌ بكتابته -عزَّ وَجَلَّ- لجميعِ ما قَدَّره في اللَّوح المحفوظِ قبل خلقِ السموات والأرض بخمسين ألف سنة، كذلك إيمانٌ بمشيئةِ الله النَّافذة لكلِّ شيءٍ بما في ذلك أفعال العباد، وإيمانٌ بخلقه -عزَّ وَجَلَّ- لكلِّ شيءٍ بما في ذلك أفعال العباد.
وهذه هي مراتب الإيمان بالقدر: العلم والكتابة والمشيئة والخلق. وهي متعلِّقة بالإيمان بالأسماء والصِّفات، وتتعلق بربوبيَّة الرَّبِّ -تبارك وتعالى- ولهذا يتحدَّثون عن مسائل القدر ضِمن مسائل الأسماء والصِّفات وضِمن توحيد الرُّبوبيَّة، بل إنَّ الإمام أحمد -رحمه الله- لما سُئل مرَّة عن القدر، قال: "القدر هو قدرة الله"[32].
فإيمان العبد بعلم الله المطلق لكلِّ شيءٍ هو إيمان بقدر الله -تبارك وتعالى.
قال المؤلف هنا في بيان معتقد أهل السنة والجماعة في أسماء الرَّبِّ -تبارك وتعالى- وصفاته: (خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ) أي: خلق الله -تبارك وتعالى- جميع المخلوقات بعلمه السَّابق لكلِّ شيء، وبعلمه المطلق لكلِّ شيء، خلقهم وأوجدهم وأنشأهم وبرأهم من العدم بعلمه المطلق بكل شيء.
(خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ) ولهذا قال -تبارك وتعالى: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14] وهناك تلازمٌ بين الخلق والعلم، فالخلق يَستلزم العِلم ولابد.
والأسماء والصِّفات بينها تلازمٌ في دلالتها، فالله -عزَّ وَجَلَّ- هو الخالق لهذا الخلق، وهذا الخلق الحكيم يلزم أن يكون خالقه يعلم كلَّ شيءٍ، ولهذا قال في بيان التَّلازم بين هذه الصِّفات: (خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ) فهذا الخلق البديع العظيم يدلُّ على عظمة الخالق، ويدلُّ على سعة علمه -عزَّ وَجَلَّ- فأشار هنا إلى التَّلازم بين هذه الصِّفات.
قوله: (خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ) في هذا ردٌّ على القدريَّة المعطِّلة الذين نَفَوا علم الله -عز وجل- بأفعال العباد، فالقدريَّة الأوائل نَفَوا جميعَ مراتب القدر الأربعة:
-       علم الله بأفعال العباد، قالوا: الأمر أنُف.
-       وكذلك نفوا كتابته لأفعال العباد.
-       ونفوا مشيئته لأفعال العباد.
-       ونفوا خلقه لأفعال العباد.
وهؤلاء يُسَمَّون غلاة القدريَّة، وهم أتباع معبد الجهني وغيلان الدِّمشقي، يسمون بالمعبديَّة والغَينَانِيَّة، وَحَكَمَ السلف بكفرهم لإنكارهم عِلم الله -عز وجل- ولإنكارهم عموم مشيئة الله وخلقه، وتكذيبهم للقرآن وللسُّنَّة التي جاءت بإثبات هذه المراتب، ولذا فقد حكم السلف بكفرهم.
ثم جاءت القدريَّة الثَّانية، فأثبتوا عِلم الله بأفعال العباد، وأثبتوا الكتابة لها، ولكن زعموا أنَّ أفعال العباد تقع بغير مشيئة الله، وبغير خلق الله -عز وجل- لها، وهؤلاء هم القدريَّة الثَّانية ومنهم المعتزلة، وإن كان أيضًا عندهم إنكار لعموم العلم، فتجد منهم مَن يقول: إنَّ الله -عز وجل- لا يعلم بالأشياء إلا بعد وقوعها. ومنهم مَن يقول: إنَّه يعلم الكليَّات ولا يعلم الجزئيَّات -كما هو واقع عند الفلاسفة.
فالجمهيَّة الأوائل يُنكرون هذه الصِّفات، ويُنكرون الأسماء، وجاءت المعتزلة أثبتت الأسماء ولكنَّها أنكرت الصِّفات. ففي قول المصنف: (خَلَقَ الخَلْقَ بعِلْمِهِ) ردٌّ على هؤلاء وهؤلاء.
وردت عبارات عن بعضِ السَّلف ومنهم الشَّافعي أنَّه قال: "ناظروا القدريَّة بالعلمِ، فإن أقرُّوا به خصموا، وإن جحدوه كفروا"[33]، المراد بالعلم هنا: عِلم الله -عز وجل- والقدريَّة يقصد بهم نُفاةُ القدر الأوائل.
"فإن أقروا به" أي: أقروا بعلم الله المطلق بما في ذلك أفعال العباد، فقد خصموا؛ لأنَّ مَن أقر بأنَّ الله -عز وجل- يعلم كل شيء، يعلم ما كان وما يكون وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف يكون، يعلم المستحيل الذي لم يقع لو وقع كيف يقع، فمَن أقرَّ بهذا يَلزمه أن يُقِرَّ بِالقدر، فإنْ أقرُّوا بعلم الله المطلق لكل شيء خُصموا، وإن جحدوا وأنكروا العلم بأفعال العباد فقد كفروا. لماذا؟
لأنَّهم أنكروا صفةً مِن صفات الله -تبارك وتعالى- وأنكروا عِلمَ الله -عز وجل- بأفعال العباد، وبالتَّالي نسبوا النَّقص للرَّبِّ -تبارك وتعالى.
فيقال للقدريِّ الذي ينفي عِلم الله بأفعال العباد: هل الله يعلم ما أنت فاعله غدًا أو لا يعلم؟ بماذا سيجيبك؟
إن قال نعم يَعلم، فقد خُوصم، فإذا عَلم كل شيء، فقد كتبه؛ لأنَّ الكتابة أهون، فإذا كان يَعلم مَا أنت فاعله غدًا -والله يعلم وأنت لا تعلم- فما الإشكال أن يأمر القلم أن يكتب؟!
فعلمه -عز وجل- ليس كعلمِ البشرِ يعتريه الخلَلُ والنُّقصُ؛ بل له الكمال المطلق، يعلم الشَّيء الذي لم يقع لو وقع كيف يقع، فإذا كان الله يعلم ما أنت فاعله غدًا، وله الكمال المطلق في كل شيء، فتكون الكتابة هنا مبنيَّةً على العلم والإحاطة، وليست على الجبر ابتداءً، فَعِلمه بما يقع لكماله، ثم كتابته مبنيَّة على هذا العلم، ولا يَلزم مِن كَون الشَّيء مكتوب أنَّ العبد مجبرٌ، فالله يعلم والعبد لا يعلم.
فإذن الإيمان بالقدر هو إيمان بعلم الله، كذلك إيمان بقدرة الله الشَّاملة، وإيمان بمشيئة الله النَّافذة، ولهذا جاء عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنه قال: "القَدَرُ هو قُدرةُ الله"[34]، فإذا شاء أمرًا قال له كن فيكون، والله على كل شيءٍ قديرٌ، فالله قادر على كلِّ شيء -كما مَرَّ معنا- ما يشاء وما لا يشاء.
وبهذا يتبيَّن لك وجه ارتباط مسائلِ القدرِ بمسائل الأسماء والصِّفات ومسائل الرُّبوبيَّة، فالإيمانُ بالقدر إيمانٌ بتوحيد الرُّبوبيَّة وإيمانٌ بتوحيد الأسماء والصِّفات، ومَن أنكر قَدَرَ الله -تبارك وتعالى- فقد أنكر بلا شك صفات الرَّبِّ وأنكر ربوبيَّة الرَّبِّ -تبارك وتعالى- لكل شيء.
قال: (وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارً) فهو -عز وجل- خلق الخلق بعلمه.
قال: (وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارً) بمعنى أنه -عز وجل- قَدَّرَ مقادير الخلائق قبل خلق السَّماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وهذا التَّقدير عام وشامل، فيشمل كل شيء كتقدير الآجال والأرزاق.
قوله: (وَقَدَّرَ لَهُمْ أَقْدَارً) يدل عليه قوله -تبارك وتعالى: ﴿الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرً﴾، لاحظ العموم، فكل شيء بتقدير مِن الله -تبارك وتعالى.
أيضًا يدل على هذا العموم، قوله -تبارك وتعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49].
وفي الحديث الذي رواه مسلم، حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن النَّبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ» ولاحظوا العموم هنا «كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ»[35] فكل شيء بقدر الله -تبارك وتعالى.
التقدير أربعة أنواع كما دلَّت عليه نصوصُ الكتاب والسُّنَّة.
النَّوع الأول: التَّقديرُ العام، وهو الذي كان في اللَّوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما دلَّ عليه حديث عبد الله بن عمرو بت العاص السابق[36] -رضي الله عنهما- وهذا التقدير سرُّ الله في خلقه، لم يُطلع عليه أحدٌ، لا مَلكٌ مقرب ولا نبيٌّ مرسل، ولا يُغيَّر ولا يُبدَّل. لماذا؟
لأنَّه مبنيٌّ على علم الله -تبارك وتعالى- وعلى إحاطته بكلِّ شيء.
 هل يَلزم مِن هذا التَّقدير الإجبار؟ كون أفعال العباد مكتوبة ومقدَّرة يلزم منه الإجبار أو مبني على العلم والإحاطة؟
مبنيٌّ على العلم والإحاطة؛ لأنَّ الله -عز وجل- يعلم كلَّ شيء.
النَّوع الثَّاني: التَّقديرُ العُمريُّ، وهو الذي يكون بعد أن يبلغ الجنينُ مائة وعشرين يومًا، كما جاء في حديث عبد الله بن مسعود، قال: حدثنا الصَّادق المصدوق -صلوات الله وسلامه عليه- ثم ذكر الحديث إلى أن قال: «ثمَّ يبعثُ اللَّهُ إليهِ ملَكًا فيؤمرُ بأربعِ كلماتٍ فيَكْتبُ رزقَهُ وعملَهُ وأجلَهُ ثمَّ يَكْتبُ شقيٌّ أو سعيدٌ»[37] هذه تسمى الكتابة العُمريَّة، أو التَّقدير العُمري.
هل يطَّلع أحد على التَّقدير العُمري؟
نعم الملائكة، قال: «فيأتيه الملك»، فهذا التَّقدير يطَّلع عليه الملَك الذي كَتب رزقَه وعملَه وأجلَه وشقيٌّ أم سعيدٌ.
النَّوع الثَّالث: التَّقدير السَّنوي، وهذا الذي يكون في ليلةِ القدرِ، قال تعالى: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 4].
النَّوع الرَّابع: التَّقدير اليومي، كما دلَّ عليه قوله -تبارك وتعالى: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرَّحمن: 29].
قال الإمام الطحاوي -رحمه الله: (وَضَرَبَ لَهُمْ آجَالً) وهذا من باب عطف الخاصِّ على العامِّ؛ لأنَّ الآجالَ تدخل في التَّقدير الخاصِّ، والتَّقدير العام يشمل كل شيء،كمقادير الخلائق جميعًا من حيث الزَّمان والمكان والذَّوات، فكلُّ إنسانٍ جعل الله -عز وجل- له قدرًا مقدورًا، والآجال من هذه الأقدار.
 فيكون معنى قوله: (وَضَرَبَ لَهُمْ آجَالً) من باب عطف الخاصِّ على العامِّ. وجاء بهذه المسألة لأنَّه وقع فيها خلاف بين أهل السُّنَّة وبين المعتزلة، فالمعتزلة يعتقدون أنَّ المقتول قُطِعَ أجله، فنقول: إنَّ الإنسان إذا مَات بأيِّ طريقة كانت فهذا هو قدر الله، سواءً قُتل أو أصيب بحادث أو بأيِّ سببٍ من الأسباب فهو بقدر الله.
تلاحظون أحيانًا بعض النَّاس في حالات الموت يقولون: هل مات بسببِ أو قضاء وقدر؟ ما رأيكم بهذه العبارة؟
{أحسن الله لك، هذه العبارة ليست صحيحة}.
لماذا؟
{لأنَّ السبب هو من قضاء الله وقدره}.
أي نعم، فنقول: الأسباب مِن قضاء الله وقدره، وكونه وقع بسبب لا يخرجه عن القضاء والقدر، لكن يقال: هل له سبب ظاهر معلوم أو سبب يخفى على النَّاس؟
هنا تستقيم العبارة؛ لأنَّ الأشياء التي وقعت بسبب لا تخرج عن قدر الله -تبارك وتعالى.
يدلُّ على هذا قوله -تبارك وتعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [الأعراف: 34] وهذه الآجال تكون للأمم عمومًا وتكون لكلِّ مخلوق لوحده، فهناك أجل لكلِّ مخلوق وهناك أجل لكلِّ أمَّة، فالله -عز وجل- ضرب -أي: حدد- آجالا لهذه المخلوقات.
ومما يدل على ما يتعلق بالأجل لكل مخلوق، قوله -تبارك وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلً﴾ [آل عمران: 145]، أيًّا كانت الأسباب فهذا هو قدر الله وهذا هو أجله.
قد يقال: جاء في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم، أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ»[38] فيُفهَم من هذا الحديث أنَّ صلة الرَّحم تُؤخِّر في الأجل، فهل صلة الرَّحم تزيد في العمر وتزيد في الرزق؟
والجواب: هذا الحديث لا يُعارِض الآجال المضروبة، فإنَّ الأسباب هي مِن قدر الله، فالدعاء مِن قدر الله، وصلة الرَّحم كذلك، وهكذا جميع الأسباب التي يتخذها المسلم هي من أقدار الله، فكون هذا الشَّيء سببٌ فهذا لا يخرجه عن قدر الله -تبارك وتعالى- هذا هو الجواب الأول.
فنقول: نعم هي مُقدرةٌ والأسباب لها أثرها، وذلك بعلم الله -عز وجل- وبمشيئة الله -عز وجل- فكون صلة الرَّحم سببٌ في زيادة العمر وفي سعة الرزق، فلا يخرج هذا السبب عن قدر الله -تبارك وتعالى.
أهل العلم لهم أجوبة حول مفهوم هذا الحديث، منها:
الوجه الأول: إنَّ المراد بقوله «يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ» هو: البركة التي تكون في المال، والبركة التي تكون في العمر، فصِلة الرَّحم سبب لبركة الرزق، وكذلك لبركة العمر، وقالوا: إنَّ العبرة ليس بطول الأعمال وإنما العبرة ببركتها، فقد يكون عمره قصير ولكنَّه مبارك.
وتأمَّلوا في تاريخ الأمَّة، علماء أعمارهم قد لا تتجاوز الأربعين والخمسين سنة، ومع ذلك نَفَعَ الله بهذه الأعمار، ألَّفوا الكتب التي تنتفع بها الأمَّة إلى اليوم، وهذه من بركة صلة الرَّحم ومن بركة العلم، فحملوا قوله: «يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَأَنْ يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ» على الجانب المعنوي وهو البركة، ولهذا العبرة ليست بكثرة الأموال وإنَّما العبرة ببركتها، وليست العبرة بطول الأعمار وإنَّما ببركتها، وليست العبرة في كثرة الأولاد وإنَّما العبرة ببركتها.
الوجه الثاني: قالوا ما المانع أن تكونَ صلةُ الرَّحمِ سببٌ حسيٌّ في طول العمر، ولا يخرج هذا السبب عن قدر الله -تبارك وتعالى- فتكون من الأسباب التي يحصل بها سِعة الرِّزق.
الوجه الثالث: قالوا إنَّ طول العمر هنا يكون في الصُّحف التي بأيدي الملائكة، أمَّا العمر في اللوح المحفوظ فلا يُغيَّر ولا يُبدَّل، ولكن ربما يحصل التَّغيير والتَّبديل في صُحف الملائكة، بمعنى: إن وَصَل رَحِمَه فعمره كذا، وإن لم يَصِلْ رَحِمَه فعمره كذا، فهذا التَّغيير يكون في الصُّحف التي بأيدي الملائكة، أمَّا في اللوح المحفوظ فهذا مبني على علم الله -عز وجل- المطلق، فلا يُغيَّر ولا يُبدَّل.
تعتبر مثل هذه الأحاديث فيها إشكال لدى بعض النَّاس، وهو يدخل في باب المتشابِه الذي يتشابه على بعض النَّاس ولا يتشابه على البعض الآخر، والآيات والأحاديث يكون فيها مُحكَم بيِّن، ويكون فيها متشابه، والتَّشابه هنا نسبي كما قال -عز وجل: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ﴾ [آل عمران: 7] هذا التَّشابه النِّسبي يزول بجمع الأدلَّة وتوجيهات أهل العلم.
يقول الإمام الطَّحاوي في كتابه "مُشكِل الآثار" -يعني ما يشكل من الآيات والأحاديث- معلقًا على هذا الحديث[39]: "يُحتمل أن يكون الله -عز وجل- إذا أراد أن يخلق النسمة، جعل لها أجل، إن برَّت كذا وإن لم تَبِرُّ كذا"[40] طبعًا هذا يكون في صحف الملائكة، أمَّا في علم الله وفي اللَّوح المحفوظ فالنهاية معروفة لديه -تبارك وتعالى- لأنَّه يعلم كل شيء.
يقول: "وإن لم تبر كذا -لما هو دون ذلك- وإن كان منها الدعاء رُدَّ عنها كذا، وإن لم يكن منها الدعاء، نزل بها كذا" ولهذا المسلم يأخذ بهذه الأسباب، فالدعاء سبب، وصلة الرَّحم سبب، وهكذا الأسباب الدُّنيويَّة.
قال: "وإن عملت كذا حرمت كذا، وإن لم تعمله رزقت كذا، ويكون ذلك مما يثبت في الصحيفة التي لا يُزاد على ما فيها ولا يُنقص"[41].
فتكون من الأسباب التي لا تعلمها الملائكة، هل هو سيصل رحمه فيكون عمره كذا، أو لا يصل فيكون عمره كذا، أما في علم الله فهو يعلم -عز وجل- من الذي سيأخذ بالأسباب ومن لا يأخذ بها.
هذا هو التوجيه من الإمام الطحاوي، وبالتَّالي لا يكون هناك تعارض بين الحديث وبين الآية، في أنَّ لكل نفسٍ أجل لا يتقدم عن هذا الأجل ولا يتأخر عن هذا الأجل، ولهذا المسلم يأخذ بالأسباب، كما أن الأعمال سبب في دخول الجنة، والدعاء كذلك سبب يدفع الله به البلاء، وهكذا صلة الرَّحم سبب في بسط الرزق وفي بركة العمر أو في تأجيل العمر.
قال: (وَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ، وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ) في بيان علم الله -عز وجل- المطلق، وهذا تأكيد لما سبق؛ لأنَّ الله -عز وجل- مع تقديره للمقادير وضربه للآجال (لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ) كما سبق، ما اكتسب هذه الصِّفات بعد الخلق، بل هو متَّصفٌ بها قبل الخلق.
قال: (وَعَلِمَ مَا هُمْ عَامِلُونَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُمْ)، هذه المقادير متى قُدِّرت؟
قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة.
والإنسان قد يكون تصوره لهذه الأشياء فيه شيء من الصُّعوبة، ولهذا ترِد عليه الوساوس والشُّبهات؛ لأنَّه يقيس نفسه بقدرة الخالق، فالخالق يَعلم كُل شيء، وهذه المقادير بناءً على علم الله المطلق لكل شيء قدرها الله قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وليس للإنسان احتجاج بأنَّها قد قُدِّرت وكُتِبَت، فهذا التَّقدير وهذه الكتابة بناءً على عِلم الله -عز وجل- المطلق، واحتجاج الإنسان بما هو مكتوب احتجاج بما لا يعلم.
إذن في هذا ردٌّ على القدريَّة والرَّافضة الذين يُنكرون عِلم الله -عز وجل- المطلق بكل شيء.
قال: (وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ) وهذا فيه تنبيه مهم!
لما ذكر ما يتعلق بالقدر الذي هو إيمان بعلم الله المطلق، وأنَّه قد ضرب الآجال لكل شيء، فإن هذا لا يُفهم منه تعطيل الشريعة، ولهذا قال المصنِّف: (وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ) بمعنى: هل يوجد تعارض وتناقض بين القدر وبين الشرع؟
أبدًا، فهذا فيه تنبيه على وجوب الإيمان بالشَّرع وامتثال الأمر واجتناب النهي مع الإيمان بالقضاء والقدر، ولا تعارض بينهما؛ لأنَّ القدر مبنيٌّ على كمال الله المطلق، مبنيٌّ على علم الله المطلق، وعلى كتابته -عز وجل- وعلى عموم مشيئته وعموم خلقه، وهذا لا يتعارض مع شرعه.
 ولهذا لاحظوا الجبريَّة الذين زعموا أنَّ العبد مجبر، مِن لوازم مذهبهم التي تدل على بطلانه، أنَّ الشَّرع لا قيمة له عندهم، إذا كان الإنسان مجبر، فما الفائدة إذن من إرسال الرسل؟! وإنزال الكتب والأوامر والنواهي؟!
وهذا مما يدل على بطلان مذهبهم، ولهذا المذهب الباطل تَرد عليه بالكتاب والسنة والعقل، واللوازم الباطلة التي تدل على بطلان هذا المذهب.
ولهذا قال لك مع تقرير لما سبق: (وَأَمَرَهُمْ بِطَاعَتِهِ، وَنَهَاهُمْ عَنْ مَعْصِيَتِهِ) يعني: مع وجوب إيمانك بالقدر، فإنَّ الله -عز وجل- أمر العباد بطاعته ونهاهم عن معصيته، وفي هذا ردٌّ على الجبريَّة الذين عطَّلوا الشَّرع وجعلوا العبد مسلوب الإرادة، مسلوب المشيئة.
لاحظوا أنَّ الذين ضلوا في باب القدر طوائف، منهم: الجبريَّة الغلاة الذين أثبتوا العلم والكتاب والمشيئة والخلق، ولكنَّهم نفوا المشيئة للعِبَاد، فقالوا: إنَّ العبد مجبر، وضدهم تمامًا القدريَّة الذين نفوا القدر وهم طوائف، ومنهم: المعتزلة الذين جعلوا العبد مستقل بمشيئته ومستقل بأفعاله، لا أثر لمشيئة الله ولا أثر لخلق الله في أفعال العباد.
والسبب الذي أوقعهم في ضلالهم هذا هو: عدمُ التَّفريقِ بين الإرادتين، الإرادة الكونيَّة والإرادة الشرعيَّة، فتجد أنَّ الجبريَّة غلَّبوا الإرادة الكونيَّة، والقدريَّة غلَّبوا الإرادة الشرعيَّة، وأهل الحقِّ جمعوا بين الإرادتين، فكون الشَّيءِ مرادٌ لله كونًا وقدرًا لا يلزم منه المحبَّة والرِّضا، فالإرادة الكونيَّة لابدَّ أن تقع ولا يلزم منها المحبَّة والرِّضا، كالمعاصي والشُّرور فهي واقعة بقدر الله ولا يلزم منها المحبَّة والرِّضا.
أمَّا الإرادة الشرعيَّة المحبوبة لله فلا يلزم منها الوقوع، فأهل الحقِّ فرَّقوا بين الإرادتين، ولهذا فالقدر إرادة كونيَّة، والشَّرع إرادة شرعيَّة.
وقضاء الله نوعان:
-       قضاء كوني: يلزم منه الوقوع.
-       قضاء شرعي: يحبه الله لكن لا يلزم منه الوقوع، ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانً﴾ [الإسراء: 23] هذا قضاء شرعي، هل يلزم الوقوع؟
لا يلزم، فهو محبوب له لكن ما يلزم منه الوقوع؛ لأنَّ مِن النَّاس مَن يمتثل للشَّرع ومنهم مَن لا يمتثل.
أمَّا القضاء الكوني فيلزم منه الوقوع ولا يلزم منه المحبَّة والرِّضا؛ لأنَّه قد يقضي بشيء ابتلاءً واختبارًا، فهل بين النَّوعين تعارض؟
لا تعارض بينهما، فلذلك وقع الضَّلال عند هؤلاء بسبب عدم التَّفريق بين الإرادتين، وبين الأمرين، وبين القضاءين.
قال الإمام الطحاوي -رحمه الله: (وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بقُدرتِهِ -عزَّ وجلَّ- وِمَشِيئَة) هذا عام، فما يتعلق بأفعاله وما يتعلق بأفعال العباد، كلُّ يجري بقدرته ومشيئته، لا يخرج عن ذلك شيء.
هل أفعال العباد تخرج عن قدر الله؟
لا؛ لأنَّ كل شيء يجري بقدرته ومشيئته.
ولهذا لما قالت القدريَّة: إنَّ العبدَ مستقلٌ بأفعاله، ومستقلٌ بمشيئته، فهو يخلق أفعاله؛ وصفهم السَّلف بأنَّهم مجوسُ هذه الأمة.
لماذا وصفوهم بأنَّهم مجوس؟
للتَّشابه بينهم وبين المجوس، فالمجوس وهم الثَّنويَّة يزعمون أنَّ للكون خالقين، النُّور خالق الخير، والظُّلمة خالق الشر. بينما المعتزلة القدريَّة جعلوا كلَّ عبدٍ خالقٌ لأفعاله، بل المجوس عندهم للكون خالقين، والمعتزلة عندهم كل عبد يخلق أفعاله، ولهذا رَدَّ عليهم السلف بالكتب التي سموها: "خلق أفعال العباد" فأفعال العباد مِن خَلق الله -تبارك وتعالى. ولهذا قال: (وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بقُدرتِهِ وِمَشِيئَة).
ولاحظوا أنَّ الإمام الطحاوي يؤكِّد على هذه المسائل لوقوع الضَّلال فيها لدى المعتزلة، وكانت لهم صَولَة في زمن المصنِّف -رحمه الله.
هل يفهم من الإيمان بالقدر أنَّ العباد ليس لهم مشيئة؟
{لا}.
ما الدَّليل على أنَّ العبد له مشيئة؟
{الدَّليل قوله: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: 30]}.
إذن ﴿تَشَاءُونَ﴾ إثبات المشيئة، وقوله: ﴿فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ﴾ [البقرة: 223]، وقوله: ﴿لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ﴾ [التكوير: 28] هذا من جهة الشَّرع.
أهل السُّنة كما يستدلِّون بالشَّرع يستدلِّون بالعقل، فمن جهة العقل، هل العبد له مشيئة؟ أو مسلوب المشيئة كما زعمت الجبريَّة؟
مجيئك هنا لهذه القاعة بمشيئتك أو كنت مجبرًا؟
{لا، بمشيئتي}.
أخذك لهذا اللاقط وحديثك بمشيئتك؟
{أكيد}.
نعم، أنت الذي طلبت المداخلة، إذن من جهة العقل: الإنسان له مشيئة، والإنسان يُفرِّق بين الأشياء التي تقع بمشيئته، والتي تقع بغير مشيئته، وما يقع بغير مشيئته خارجٌ عن مناط التَّكليف، ولا يُلام عليه، وهذا يسمُّونه الإكراه الملجِئ، أمَّا ما وقع بمشيئته فيحاسب عليه؛ لأنَّه هو الذي اختار هذا الشَّيء.
فالعبد إذن له مشيئة من جهة الشَّرع ومن جهة العقل.
هل مشيئة العبد تخرج عن مشيئة الله؟
أبدًا، لذلك لاحظوا الإشكال الذي وقع فيه القدريَّة والجبريَّة، فهم وقعوا بين طرفي نقيض.
الجبريَّة غلَّبت مشيئة الرَّبِّ ونفت مشيئة العباد، وهذا غير صحيح شرعًا ولا عقلًا، وجاءت القدريَّة عكسهم، فغلَّبت مشيئة العبد وأخرجتها عن مشيئة الله، فجعلت هناك مَن يُصرِّف الكون مع الله -تبارك وتعالى- فوقعت في الشِّرك الذي وقع فيه المجوس، وأهل الحق جمعوا بين المشيئتين.
 ولهذا قال الإمام الطحاوي: (وَمَشِيئَتُهُ تَنْفُذُ، لَا مَشِيئَةَ لِلْعِبَادِ، إِلَّا مَا شَاءَ لَهُمْ، فَمَا شَاءَ لَهُمْ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ)، يُبيِّن لك الجمع بين المشيئتين، فالعبد له مشيئة بالدَّليل الشَّرعي والدَّليل العقلي، وهذه المشيئة للعبد هي تحت مشيئة الله، كما قال -عز وجل: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: 30]، فقوله: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ﴾ فيه إثبات المشيئة للعبد، وقوله: ﴿إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ إثبات مشيئة الرَّبِّ، هل بين المشيئتين تناقض؟
أبدًا، ولهذا أهل الحقِّ جمعوا بين المشيئتين كما جاء في نفس الآية.
كما قلنا لكم في باب الأسماء والصِّفات: إنَّ أهلُ الحقِّ لم يضربوا القرآن بعضه ببعض، وأثبتوا لله الأسماء والصِّفات على الوجه اللائق به، كما قال -عز وجل: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ فهم لم يضربوا كتاب الله بعضه ببعض، ولم ينظروا للنصوص بعين عوراء، كما أثبتوا العلو وأثبتوا المعيَّة؛ لأنَّ الله جمع بينهم في نفس الآية.
لاحظوا أنَّ المعطِّلة في باب الصِّفاتِ نظروا إلى الشَّطرِ الأوَّلِ في قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ فنفوا، ولم ينظروا إلى الصِّفات في قوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
أمَّا المشبِّهة والمجسِّمة نظروا للشَّطرِ الثَّاني، ففهموا من الإثبات: التَّمثيل والتَّشبيه والتَّجسيد. أمَّا أهل الحق فقد أثبتوا إثباتًا مِن غيرِ تمثيلٍ، ونزَّهوا تنزيهًا مِن غَيرِ تعطيلٍ.
نفس الكلام يقال هنا في هذه الآية: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ جاءت القدريَّة فأخذت بالشَّطرِ الأوَّلِ، فغلَّبت مشيئة العبد وأنَّ العبد يشاء استقلالًا، وجاءت الجبريَّة فغلَّبت مشيئةُ الرَّبِّ وألغت مشيئة العبدِ، وأهلُ الحقِّ جمعوا بين المشيئتين.
قد يقال لك كيف ذلك؟ بل بعضُ النَّاس أحيانًا لا يتصوَّر أنَّ مشيئة العباد تحت مشيئة الله، فنقول:
أولًا: العبد ما شاءَ إلَّا لَمَّا شاء الله ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ مَن الذي أوجدهم من العدم؟
الذي أوجدهم من العدم هو: الله -تبارك وتعالى- لو أنَّ الله ما خلقه أصلًا، هل يستطيع أن يشاء؟
أبدًا.
ثانيًا: الله -عز وجل- أمدَّ في عمره حتى أدرك زمن الفعل، لو أنَّ الله أخذ بهذه النَّفْسِ بالأمس، هل كان يستطيع أن يفعل شيئًا اليوم؟
أبدًا.
متى شاء العبدُ؟
لَمَّا أعطاه الله فُسحَة في العمر، ولهذا قال -عز وجل: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدً﴾ [الكهف: 23] فما تدري، فلابدَّ أن تعلق الأمور المستقبلة بمشيئة الله، فتقول: سأفعل كذا إن شاء الله. والله يعلم وأنت لا تعلم، فالعبدُ ما شاء إلَّا لَمَّا أعطاه الله -عز وجل- فُسحة في العمر؛ فأدرك زمن الفعل.
ثالثًا: مَن الذي أعطاه الإرادة القلبيَّة التي يفكر بها؟
الله -عز وجل- أنعم عليه بهذه الإرادة والعقل ليفكر.
لو سلبه الله تعالى هذه الإرادة، هل كان يستطيع أن يفعل شيئًا؟
أبدًا.
رابعًا: أعطاه القدرة البدنيَّة التي بها يَتحرك، هل لو سلبه هذه القدرة فجعله مشلولا طريح الفراش، هل كان يستطيع أن يفعل شيئًا؟
أبدًا.
إذن ما شاء العبدُ إلَّا لَمَّا أنعم الله -عز وجل- عليه بهذه النِّعمة.
خامسًا: قد لا يخطر على بال بعض النَّاس أمر هام، وهو أنَّ الله -عز وجل- حماك مِن العوائق، هناك عوائق تحول بينك وبين العمل، مَن الذي أنعم عليك فحماك من هذه العوائق؟
الله -عز وجل-
ولهذا متى شئتَ؟
لَمَّا شاء الله -تبارك وتعالى.
أوجدك، وأمهل في عمرك، وأنعم عليك بالإرادة القلبيَّة، وأنعم عليه بالقدرة البدنيَّة، ثم حماك مِن العوائق كأن يَعتريك مرض، أو تُبتلى بشخص يعيقك في الطَّريق، أو بسبب من الأسباب، ولهذا إذا حصَلَت لك النعم فتنسبها إلى مَن؟
إلى المنعم المتفضل، لا إلى نفسك وذكائك واجتهادك؛ لأنَّك ما شئت إلا لَمَّا شاء الله، وإلا قد يكون هناك مَن هو أذكى منك، ولكن ما تيسرت له الأمور التي تيسرت لك.
انظر أنت لما أتيت من بلدك تطلب العلم، قد يكون هناك من أمثالك من يتمنَّون لكن ما حصل لهم التَّيسير الذي حصل لك، هذا فضل الله أن يسر لك الأمور، وقد تأتيك عوائق تمنعك وتقطع عليك الطريق وتضطر أنك تُنهي مهمة طلب العلم.
فإذن الله -عز وجل- أنعم عليك بهذه النعم، فمتى شئت؟
لَمَّا شاء الله، ولهذا قال الله -عز وجل: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾.
إذن هذه الآية، وهي قوله -تبارك وتعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ فيها رد على الجبريَّة، أين الرد؟ إثبات المشيئة للعباد.
وفيها رد على القدريَّة، في أن مشيئة العباد تحت مشيئة الله -تبارك وتعالى.
والجبريَّة فيهم شبه بأهل الجاهليَّة، كما أنَّ المعتزلة القدريَّة فيهم شبه بالمجوس.
قد تسأل وتقول: هل لهم وجود؟
نعم.
-       كلُّ محتجٍّ بالقدر على المعاصي فيه شَبه من الجبريَّة.
-       كلُّ مَن أمرته بالطاعة ونهيته عن المعصية فاحتجَّ عليك بالقدر فهذه عقيدة الجبريَّة، وإن لم يعلم مَن هم الجبريَّة.
ولهذا احتجَّ المشركون بالقدر كما بين -عز وجل- في سورة "الأنعام"، قال تعالى: ﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا ۗ قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: 148].
لاحظ هم يحتجون بشيء لا يعلمونه، ثم يحتجون بأنَّ الشِّرك الذي وقع منهم إنما وقع بمشيئة الله، أين وجه الاحتجاج؟
هل فعلًا هذه الشرور وقعت بمشيئة الله أو بغير مشيئة الله؟
{وقعت بمشيئة الله}.
إذن ما وجه احتجاجهم؟
هم قالوا: ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَ﴾ قد تُشكل على بعض النَّاس، فيقول: هي واقعة بمشيئة الله، ليست خارجة عن مشيئة الله كما زعمت القدريَّة، فأين وجه الاحتجاج عندهم بالقدر؟
{احتجوا بأن مشيئة الله هي التي سيطرت عليهم، فوقعوا في الشرك}.
نقول كأنَّهم نفوا أن تكون لهم مشيئة، وإنَّما وقعت بمشيئة الله، قد يقال هذا، لكن الإشكال أنَّ احتجاج الجبريَّة حتى اليوم ليس احتجاج بنفي مشيئة الله، وإنَّما يقولون: إذا كانت هذه المعاصي واقعة بمشيئة الله، فهذا يدل على أنها محبوبة لله.
والصَّحيح أنَّه ليس بلازم، فكونها واقعة بمشيئة الله هذا صحيح، لكن ما يلزم من أنَّها وقعت بمشيئة الله أنَّها محبوبة لله -تبارك وتعالى- وأيضًا لا تُلغي أثرُ مشيئة العباد في ذلك.
ويُردُّ عليهم بأن الإرادة الكونيَّة، لا يلزم منها المحبَّة والرِّضا كما مرَّ معنا.
طبعًا الذي يحتج بالقدر على المعاصي، يُرد عليه بالشَّرع، ويرد عليه كذلك بالعقل، بأنك أنت الذي فعلت، ويُرد عليه: أنَّه في أموره الدنيوية هل يحتجُّ بالقدر؟ أبدًا، فنقول: لماذا في أمور الدنيا لا تحتجُّ بالقدر، وفي أمور الآخرة خاصَّة فيما يتعلق بالأوامر والنَّواهي تحتجُّ بالقدر؟
فاحتجاجك باطل، ثم احتجاجك بالقدر احتجاجٌ بما لا تعلم به؛
 لأنَّ الإنسان لا يعلم بالقدر إلا بعد الوقوع، ثم الإنسان يحسن الظَّن ويأخذ بالأسباب، ويمتثل الأمر ويجتنب النَّهي، ويحسن الظَّن بربه -تبارك وتعالى.
أخيرًا نتساءل: ما حكم البحث في مسائل القضاء والقدر؟
الجواب: البحثُ فيما دلَّ عليه الدَّليل لا بأس به، وهذا مِن الإيمان بالقدر، فلا يمكن لإنسان أن يؤمن به على جهة الإجمال والتَّفصيل إلا بمعرفة هذه المسائل، أمَّا فيما لا يدلُّ عليه الدَّليل، فهذا الذي فيه النَّهي.
نكتفي بهذا، لعلنا -إن شاء الله- في الدَّرس القادم نُكمل بعض المسائل المتعلِّقة بالقدر، وسيعيدها المصنف -رحمه الله- في مواضعٍ أخرى لأهميَّةِ هذا الباب.
أسأل الله لنا ولكم العلم النَّافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا وإيَّاكم ممَّن يؤمنوا بقضائه وقدره، ويمتثلوا شرعه، وأسأله -تبارك وتعالى- للجميع العلم النافع والعمل الصالح، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك