بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والعاقبةُ للمتَّقين، وأصلي وأسلم على المبعوثِ رحمةً
للعالمين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدِّين،
اللهمَّ علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا حيُّ يا قيوم.
أمَّا بعدُ: فأرحبُ بكم أيُّها الأبناء في الدَّرس التَّاسع في شرح العقيدة
الطَّحاوية، كذلك أرحبُ بالأبناء الطُّلاب والطَّالبات الذين يتابعون هذه الدُّروس
عبر مواقع الأكاديميَّة الإسلاميَّة الإلكترونيَّة العالميَّة المفتوحة، وفي برنامج
البناء العلمي، ومقرر العقيدة.
كذلك أرحبُ بالإخوة والأخوات المشاهدين عبرَ البثِّ المباشر لهذه الدُّروس، أو
البثِّ المسجَّل بعد ذلك.
نحن في الدَّرس التَّاسع في شرح العقيدة الطَّحاوية، ولقد تحدَّث المصنِّف -رحمه
الله- في أوَّل الكتاب عن عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في توحيد الله -عزَّ وجلَّ-
وفيما يعتقدون في أسماء الله وصفاته، ثم تحدَّث عن الموضوع الثَّاني المتعلِّق
بشهادة أنَّ محمدًا رسول الله، وهنا انتقل إلى موضوعٍ ثالثٍ يتعلَّق بعقيدة أهل
السُّنَّة والجماعة في القرآن، وما يعتقدونه في حقيقته.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا
محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم، اللهمَّ اغفر لنا ولشيخنا ولوالدينا وللمستمعين
والمشاهدين، ولجميع المسلمين، قال المصنِّفُ -رحمه الله تعالى: (وَأَنَّ الْقُرْآنَ
كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، مِنْهُ بَدَا بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا، وَأَنْزَلَهُ
عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا، وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا؛
وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ، لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ
كَكَلَامِ الْبَرِيَّةِ، فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلَامُ الْبَشَرِ
فَقَدْ كَفَرَ، وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ بِسَقَرَ؛
حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ [المدثر: 26]؛ فَلَمَّا أَوْعَدَ
اللَّهُ بِسَقَرَ لِمَنْ قَالَ: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَر﴾ [المدثر: 25]،
عَلِمْنَا وَأَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ، وَلَا يُشْبِهُ قَوْلَ
الْبَشَرِ.
وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ؛
فَمَنْ أَبْصَرَ هَذَا اعْتَبَرَ، وَعَنْ مِثْلِ قَوْلِ الْكُفَّارِ انْزَجَرَ،
وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بِصِفَاتِهِ لَيْسَ كَالْبَشَرِ)}.
هذا التَّقرير مِن المصنِّف -رحمه الله- في بيان مَا يَعتقده أهل السُّنَّة
والجماعة، وما يَعتقده فُقهاء الملَّة في صفات الله تبارك وتعالى- وما يعتقدونه في
القرآن خُصوصًا، وهذا هو الموضوع الثَّالث في العقيدة الطَّحاوية، ممَّا يُبيِّن
أنَّ عقيدة هذا الإمام، وعقيدة فقهاء الملَّة وعقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في هذا
الباب هي أنَّ القرآن كلام الله -تبارك وتعالى- (مِنْهُ بَدَا بِلَا كَيْفِيَّةٍ
قَوْلًا، وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيًا، وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى
ذَلِكَ حَقًّ) إلى آخر ما قرَّره مِن عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في القرآن،
ممَّا يدلُّ على أنَّ إجماع الأمَّة فيما يعتقدونه في كلام ربهم -عزَّ وجلَّ.
وهذه المسألة -أعني مسألة اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة في القرآن- مِنَ المسائل
الكبرى التي يُفرِد لها العلماء في كتب العقائد أبوابًا وفصولًا خاصَّة لأهمِّيتها،
ولكثرة النِّزاع الذي وقع في هذه المسألة، ولهذا قيل: إنَّما سُمِّي أهل الكلام
المتكلِّمون بهذا الاسم لكثرة خوضهم في صفة كلام الله –عزَّ وجلَّ- عمومًا وفي
القرآن خصوصًا، فلكثرة الاختلاف في هذا الباب ولكثرة اللَّغطِ والغَلطِ فيه سُمُّوا
بأهل الكلام وسُموا بالمتكلمين؛ لأجل الضلال الذي حصل لهم في هذه المسألة.
وهذه المسألة من المسائل الكبرى، ولهذا يُعنى بها أهل العلم في المصنفات
الحديثيَّة، وفي كتب العقائد المُسنَدة، وفي كتب العقائد المختصرة، وفي كتب العقائد
الموهومة، فيُفرِدون لها أبوابًا وفصولًا خاصَّة، يُقرِّرون فيها مَا يَعتقده سلف
الأمَّة في القرآن الكريم؛ ولذا لا يكاد كتاب في العقيدة يخلو مِن هذه المسألة التي
ينبغي للمسلم أن يُحقِّق الإيمان فيها تحقيقًا تامًّا كما قرَّره المصنف -رحمة الله
تعالى عليه- هنا.
قال المصنف: (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ)، الواو للعطف على مَا سَبَق مِن
قَولِ المُصنف في أول الكتاب (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ، مُعْتَقِدِينَ
بِتَوْفِيقِ اللَّهِ..... وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ)، فهو يُقرِّر هنا
مَا يَعتقده أهل السُّنَّة والجماعة في القرآن ممَّا قد قرَّره في هذا الباب، وما
يقوله فقهاء الملَّة، وفي هذا دليلٌ وحُجَّة بيِّنة لمَن يتَّبعون هؤلاء العلماء،
وهؤلاء السَّادة الفقهاء، فيتبعونهم في الفقه ثم يُخالفونهم فيما يعتقدونه في كلام
ربِّ العَالمين.
يعتقدون أنَّ القرآن كلام الله -عزَّ وجلَّ، تَكَلَمَ اللهُ به حقيقة، والأدلِّة
مِن كِتاب الله التي تدلُّ على أنَّ القرآن كلام الله كثيرة، منها:
قول الله تعالى: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ
حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ [التوبة:6]، فهو كلام الله -عزَّ وجلَّ.
وأيضًا قول الله -تبارك وتعالى: ﴿أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ
كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ﴾ [البقرة:75].
وأيضًا قول الله -تبارك وتعالى: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ﴾
[الفتح:15].
فهو كلام الله -عزَّ وجلَّ- لفظه ومعناه، فلا يُقال: إنَّه كلام الله مِن جهة اللفظ
فقط لا مِن جهة الحروف؛ بل تكلَّم الله -عزَّ وجلَّ- به حقيقة، فليس هو كلام الله
لفظًا دون الحروف، ولا الحروف دون اللفظ.
المعطِّلة ضلُّوا في هذا الباب، فمنهم مَن أثبت أنَّ القرآن هو كلام الله، ولكن
جعله مخلوق كسائر المخلوقات، وهؤلاء هم المعتزلة، فهم وإنِ اعترفوا بأنَّه كلام
الله إلا أنَّهم جعلوا الإضافة هنا من باب إضافة مخلوقٍ إلى خالقِه، والسَّبب الذي
جعلهم يَعتقدون أنَّ القرآن مخلوق هو فرع عن ضلالهم في باب الصِّفات، حيثُ إنَّهم
نفوا الصِّفات للرَّبِّ -تبارك وتعالى- ومن هذه الصِّفات: صفة الكلام؛ فلمَّا جاء
القرآن أثبتوا أنَّه كلام الله ولكن ليس صفة مِن صفاته، فجعلوه مَخلوقًا كسائر
المخلوقات، وجعلوا الإضافة هنا من باب إضافة المخلوق إلى خالقه.
وأهل السُّنَّة والجماعة يقولون: إنَّ الإضافة هنا إضافةُ صفةٍ إلى موصوفٍ.
كيف تُفرِّق بين الإضافتين؟
يقال: إنَّ المُضاف إن كان عَينًا قائمة بذاتها كما تقول: "بيت الله، ناقة الله"؛
فتكون هنا الإضافة إضافة مخلوق إلى خالقه، وتكون إضافة تشريف.
وأمَّا إن كان المُضاف ليس عَينًا قائمة بذاتها كصفة الكلام؛ فتكون الإضافة هنا من
باب إضافة صفةٍ إلى موصوفٍ. هذه هي القاعدة في هذا الباب.
إذن أهلُ السُّنَّة والجماعة يَعتقدون أنَّ القرآن كلام الله، وصفة من صفاته، وكذلك
يُقال في جميع الكتب المنزَّلة إنَّها من كلام الله -عزَّ وجلَّ.
قال: (وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ)، لا كلام غيره، لا كلام جبريل، ولا كلام
محمد؛ بل هو كلام الله -عزَّ وجلَّ- ولهذا قال لك: (مِنْهُ بَدَ)، أي: تكلَّم الله
-عزَّ وجلَّ- به ابتداءً.
ولفظة (بَدَ) جاءت في نُسَخ العقيدة هنا بالهمزِ وجاءت بالتَّخفيف، فجاءت (بَدَ)
أي: ابتداءً، يعني: تَكَلَمَ اللهُ به ابتداءً. وجاءت بلفظ (بَدَ) أي: ظهر وبان؛
وكلاهما صحيح. وهذا ما يُعبِّر عنه أهل العلم بقولهم: (من لدن) أي: أنَّ الله -عزَّ
وجلَّ- تكلَّم به.
أمَّا إذا بَلَّغَه جبريل أو محمد -عليه الصَّلاة والسَّلام- فهو مِن باب
التَّبليغ؛ لأنَّ الرسول مُرسَل ويُبلِّغ مَا أُرسل به، والكلام يُضاف لمن تَكلَّم
به ابتداءً لا إلى مَن بلَّغه، ولهذا قال: (مِنْهُ بَدَ)، أي: ظهر وبان من الله
-عزَّ وجلَّ- ابتداءً.
قال: (بَدَا بِلَا كَيْفِيَّةٍ)، هل هذا القول نفيٌ للكيفيَّة أو نفيٌ لعلمنا
بالكيفيَّة؟ وهكذا إذا قال أهل العلم إذا قالوا في الصِّفات: نُثبتها بلا كيْفٍ؛ هل
المقصود هو نفيُ الكيْفِ أو المقصود هو نفيُ علمنا بالكيْفيَّة؟
الجواب: المقصود هو نفي عِلمنا بالكيْفيَّة؛ فهو له كيْفيَّة ولكن هذه الكيْفيَّة
لا نعلمها، فنحن نؤمن بهذه الصِّفات -ومنها القرآن- بلا كيْف، أي: لا نُدرك كيف
ذلك؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- ليس كمثله شيء.
قال: (مِنْهُ بَدَا بِلَا كَيْفِيَّةٍ)، يعني نُثبت أنَّ الله تكلَّم به ابتداءً
ولا نعلم كيْف، كما قال الإمام مالك لما سُئل عن الاستواء، قال: "الاستواء معلوم،
والكيف مجهول"[59].
وهكذا يُقال في صفة الكلام: لها كيْفٌ، ولكن نحن لا نعقل هذه الكيْفيَّة، فنُثبت
الصِّفة لله -عزَّ وجلَّ- بلا تكييف.
قوله: (قَوْلً)، أي أنَّنا نُثبت ذلك، وهو أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- تكلَّم به
قولًا، أي: بلفظه وحروفه، فلا يُقال: باللفظ دون الحروف.
والمصنِّف أتى بهذه العبارة؛ ليُبيِّن لك أنَّ الله تكلَّم به لفظًا وحرفًا، وهذا
فيه ردٌّ على مَن يقولون: إنَّ المعنى من الله ولكن الحروف ليست من الله؛ فيجعلون
-كما يزعمون- أنَّه فيضٌ وأخذه جبريل من اللوح المحفوظ.
ولهذا قال: (مِنْهُ بَدَا بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلً)، والعبارة فيها تأكيدٌ
لعقيدةِ أهلِ السُّنَّة والجماعة في هذا الباب.
وهذا إجماع السَّلف الصَّالح؛ بل إجماع الصَّحابة وكبار التَّابعين، يقول الإمام
سفيان بن عيينة -الإمام المشهور: "سمعت عمرو بن دينار" وهو من كبار التَّابعين
-رحمه الله- المولود سنة ستٍ وأربعين والمتوفى سنة مائة وستٍ وعشرين.
يقول عمرو بن دينار، وقد أدرك الصَّحابة وكبار التَّابعين: "أدركتُ مشايخنا"، ويقصد
بذلك الصَّحابة كابن عبَّاسٍ وابن الزُّبيرِ وابن عمرَ وجابرِ بن عبد الله، وجماعةٍ
من الصَّحابة، وكذلك أدرك كبار التَّابعين، كسعيدِ بن المسيِّبِ، وسعيدِ بن جبيرٍ،
ومجاهدِ بن جبرٍ، وجابرِ بن زيدٍ، وغيرهم كثير.
يقول عمرو بن دينار كما يروي الإمام سفيان بن عيينة: "أدركتُ مشايخنا والنَّاس منذ
سبعين يقولون: القرآن كلام الله، منه بدأ وإليه يعود". وهذا ما رواه الإمام
اللالكائي في كتابه الشَّهير "شرح أصول اعتقاد أهل السُّنَّة والجماعة"
وهذا –كما ترى- فيه دليلٌ على أنَّ هذه العقيدة هي موضع إجماع السَّلف الصَّالح كما
يحكي ذلك الإمام عمرو بن دينار من قوله: "والناس منذ سبعين سنة"، فهذا يدلُّ على
أنَّ هذا الأمر مشهورٌ ومستفيضٌ، فقوله حكايةً عن قولِ الصَّحابة: "القرآن كلام
الله، منه بدأ، وإليه يعود".
وقيل في معنى "وإليه يعود":
- أنَّ القرآن يُرفع في آخرِ الزَّمان من الصُّدورِ ومن السُّطورِ.
- أو يعود إلى الله مهما سمعْتَه مِن القرَّاء، أو كتَبتَه في المصاحف،
فحقيقةً هو كلام الله -عزَّ وجلَّ- فإليه يعود.
قال الإمام الطَّحاوي: (وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيً)، أنزله الله -تبارك
وتعالى- على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وحيًّا يُوحى، والأدلَّة على هذا كثيرة،
كما قال -عزَّ وجلَّ: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ
مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ﴾ [الشعراء: 193- 195]، والإنزال
نوعان:
إنزال مطلق: وهذا يكون مِن الله، وقد يُذكر مِن الله، وقد لا يُذكر، فإذا نزل فهو
من الله -تبارك وتعالى- وهذا فيه إثباتُ العلوِّ.
إنزال مقيد: وهذا يُقيِّده الله -عزَّ وجلَّ- بشيءٍ، كما ذكر الله -عزَّ وجلَّ- في
المطر: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ﴾ [ق: 9]، فهذا إنزالٌ مُقيَّد، وغالبًا يكون
مِن مخلوقٍ إلى مخلوقٍ، كالسَّماء والمطر.
أمَّا إنزال القرآن -وهو إنزال مطلق- فهو من الله -تبارك وتعالى- ولهذا قال:
(وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيً)، فهو وحيٌ مِن الله -تبارك وتعالى- ولهذا
القرآن يُضاف إلى اللهِ، ويضاف إلى جبريلَ، ويضاف إلى محمدٍ.
فإضافته إلى الله؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قد تكلَّم به، فهو كلامه ابتداءً.
وأمَّا إضافته إلى جبريل، أو إضافته إلى محمد -عليه الصَّلاة والسَّلام فلأنَّ
جبريلَ هو الذي نزل به على محمدٍ -عليه الصَّلاة والسَّلام- فمحمَّد -عليه الصَّلاة
والسَّلام- مُبلِّغ ورسول، والكلام يُنسب لمَن تكلَّم به ابتداءً، لا إلى مَن
بلَّغه، فلهذا إضافته إلى جبريل أو إضافته إلى محمد صلى الله عليه وسلم هي إضافةُ
مُهِمَّةِ تبليغٍ، فهذا لا يُغيِّر القرآن.
وفي قوله: (وَحْيً)، هذا ردٌّ على المعتزلة الذين يجعلون القرآن مخلوقًا كسائر
المخلوقات.
قال: (وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَحْيً) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه
الله- مُبيِّنًا معتقد أهل السُّنَّة والجماعة في القرآن: "بيَّن الله -عزَّ وجلَّ-
في غيرِ موضعٍ أنَّه -أي القرآن- مُنزَّل مِن الله تعالى، فمَن قال إنَّه مُنزَّل
مِن بعض المخلوقات -كعقيدة المعتزلة مثلًا- كاللوح والهواء، فهو مفترٍ على الله،
مكذبٌ لكتاب الله، متبعٌ لغير سبيل المؤمنين"[60].
فهو قد كَذَب وادَّعى على الله -عزَّ وجلَّ- وتقوَّل على الله بغير علم، وكذلك
مُكذِّبٌ لكتاب الله؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- بيَّن أنَّ هذا القرآن من كلامه،
وأنَّ الله -عزَّ وجلَّ- أنزله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم، والقائل هذا
أيضًا مُتَّبعٌ لغيرِ سبيلِ المؤمنين؛ لأنَّ سبيلَ المؤمنين ومنهم الصَّحابة
والتَّابعين وسلف الأمَّة، كلهم يَعتقدون أنَّ القرآن كلام الله، مُنزَّل غيرُ
مخلوقٍ، منه بدأ وإليه يعود، فمَن قال غير ذلك فقد اتَّبع غير سبيل المؤمنين.
تجد أحيانًا مَن يخطئ في هذا لجهل أو لكثرة انتشار مثل هذه العقائد الباطلة في بعض
الكتب، خاصةً بعض كتب التَّفسير، أو في غيرها؛ قد تجد أحيانًا مَن يخطئ في هذا،
فبعض القرَّاء إذا أرادوا أن يذكروا ويُبيِّنوا أسانيدهم في القرآن، يقولون: عن
الرَّسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- عن جبريل، عن اللوح المحفوظ!
وقد يقع في هذا قرَّاء أجلاء كبار فضلاء، إمَّا غفلة، أو عدم انتباهٍ لمثل هذه
العقيدة. وهذا لاشك أنَّه غلط.
ولكن ما وجه الغلط فيه؟
{لأن َّالقرآن ليس من اللوح المحفوظ}.
نعم، القرآن في اللوح المحفوظ، لكن هل جبريل أخذه من اللوح المحفوظ؟ أو من الله
تعالى؟
{أخذه من الله}.
ولهذا هذه الشُّبهة التي ترد لهم، يجعلها بعض أهل العلم شبهةَ تأويلٍ، فينتفي بها
وصفهم بالتَّكفير.
والصَّواب كما تجد أحيانًا في بعض أسانيد القراء ممَّن سلِمُوا مِن هذه العقائد مَن
يكتب في إسناده وإجازته للقرآن الكريم، فيذكر إسنادِه عن شيوخِه، إلى أن يقول: عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل، عن رب العالمين. فهذه هي العقيدة
الصَّحيحة؛ لأنَّ جبريل تلقَّى القرآن عن الله -عزَّ وجلَّ- وليس عن اللَّوح
المحفوظ.
قال المصنف -رحمه الله: (وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّ) صدَّقوا
مَن؟
{صدَّق المؤمنونَ الرسولَ صلى الله عليه وسلم}.
نعم أحسنت، صدَّقوا الرسول صلى الله عليه وسلم في ما جاء به من عند ربه -عزَّ
وجلَّ.
قوله: (حقًّ)، هذا تأكيد للتَّصديق، كأنَّه يقول: صدَّقوه تصديقًا، فصدَّقوا
الرسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- على ما جاء به من عند ربه -عزَّ وجلَّ، وآمنوا
بكل ما جاء به النُّبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- في صفات الرَّبِّ -تبارك
وتعالى- فيصفون الله -تبارك وتعالى- بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله
-صلى الله عليه وسلم- فيصدِّقون ويؤمنون ويوقنون بكل ما جاء عن الله وعن رسوله -صلى
الله عليه وسلم- ومن ذلك القرآن، يوقنون ويصدقون أنَّه كلام الله حقًّا، ألفاظه
ومعانيه وحروفه.
لاحظ أيضًا التَّأكيد على التَّصديق والإيمان، وأنه على جهة اليقين، الذي لا شك فيه
ولا ريب، وأيقنوا أنَّه كلام الله تعالى بالحقيقة، فلا يقال إنَّه كلام جبريل، أو
إنَّه مخلوق، ولا يقال أيضًا كما تقول بعض الفرق إنَّه عبارة عن حكاية عن كلام
الله.
وكون الرَّسولِ -عليه الصَّلاة والسَّلام- بلَّغه، فإنَّ هذا لا يُخرجه عن كلام
الله -تبارك وتعالى- فأيقنوا أنه كلام الله بالحقيقة ليس مجازًا.
تجد مَن ضلَّ في هذا الباب، فينسبونه إلى الله مجازًا، كما يقولون في سائر
الصِّفات، فهم يقولون: إنَّها أُضيفت على صِفةِ المجاز، وفي هذا ردٌّ على المعتزلة
ومَن نحا نحوهم وضلَّ في هذا الباب.
قال: (لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلَامِ الْبَرِيَّةِ) وهذا ردٌّ على مَن؟ ردٌّ على
المعتزلة، الذين زعموا أنه مخلوق كسائر المخلوقات، فهو كلام الله ليس بمخلوق.
وأكَّد على هذا؛ لأنَّ الفتنة في زمن المصنِّف وقبله كانت انتشار القول بخلقِ
القرآن، وبُلي بها من بُلي.
ثم جاء بعد ذلك ما يُسمَّى باللَّفظيَّة، الذين حاولوا الفِرار من الفِتنةِ،
فقالوا: قال بعضهم: لفظي بالقرآن مخلوق. وهذا موهِم! هل يقصد اللَّفظ الصَّوت؟ أو
يقصد اللَّفظ المنطوق المسموع؟ وبعضهم توقَّف؛ فقال: لا أقول مخلوق ولا ليس بمخلوق.
وهذا أيضًا موهم! ولهذا أنكر السَّلف على مَن قال: إنَّ القرآن مخلوق، وأنكروا على
مَن قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وأنكروا كذلك على الواقفة الذين يقولون: لا نقول
مخلوق، ولا ليس بمخلوق، وهذا لاشك أنَّه نوع من التَّلبيس على النَّاس.
فأهل السُّنَّة والجماعة، وفقهاء الملَّة يعتقدون أنَّ القرآن كلام الله -تبارك
وتعالى- حقيقة ليس بمخلوق، والأدلَّة على أنَّ القرآن ليس بمخلوق كثيرة، منها:
قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف: 54]، والقرآن هل
هو من الخلق أو من الأمر؟ من الأمر، بدليل قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَ﴾ [الشورى: 52]، فالدليل مركَّب من دليلين: قوله:
﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾، وقوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ
رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَ﴾.
أمَّا الأدلَّة من السُّنَّة: فهنها جواز الاستعاذة بكلمات الله، «مَنْ نَزَلَ
مَنْزِلا فَقَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ
لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ»[61]، والقرآن مِن
كلمات الله، فلو كانت كلمات الله مخلوقة فما جازت الاستعاذة بمخلوق، فدلَّ على أنَّ
القرآن صِفة من صفات الله، فهو كلام الله، ولهذا ليس بمخلوق.
هل للإنسان أن يُقسم بالقرآن؟
نعم يُقسم، فيقول: أقسم بآيات الله، ويقصد آيات الله القرآنيَّة. لماذا؟ لأنَّه صفة
من صفاته، فهو يقول: أعوذ بكلمات الله. ومنها القرآن.
أمَّا المصحف فهو ورق، ولهذا لا يجوز الحلف على المصحف؛ لأنَّ المصحف الذي هو عبارة
عن الورق، والنَّاس يُفرِّقون بين الورق وبين المداد –أي: المكتوب- كما أنَّهم
يُفرِّقون بين صوت القارئ وبين المتلو، فأنت تستمع إلى القراء وتميِّزُ بين أصواتهم
أو لا؟ تُميِّز بين الأصوات، ولكن المتلو والمقروء هو كلام الله.
وهل يختلف المقروء والمتلو؟
لا يختلف، أمَّا أصوات القرَّاء فهي تختلف، فكون هذا القارئ قرأ بتلاوةٍ معيَّنة،
والقارئ الآخر قرأ بتلاوةٍ أخرى، فهذا لا يُخرج هذا القرآن عن كونِه كلام الله
-عزَّ وجلَّ.
وهكذا إذا بلَّغه جبريل أو بلَّغه محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهذا لا يُخرجه عن كونه
كلام الله -تبارك وتعالى، فأنت إذا رويت حديثًا، فهل يُقال: إنَّ هذا الحديث الذي
رويته هو كلامك؟ لو أنَّك قرأت حديث: «إِنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»[62] هذا
حديث قاله النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فكونك بلَّغته ونشرته، فأنت مجرد مبلِّغ،
فيُنسب الكلام لمن تكلم به ابتداءً لا إلى من بلَّغه.
قال: (فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلَامُ الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، وَقَدْ
ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ بِسَقَرَ؛ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى:
﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ [المدثر: 26]).
مَن سمع هذا القرآن فزعم أنَّه كلام البشر فقد كفر؛ لأنَّه كذَّب القرآن، وكذَّب
الله -عزَّ وجلَّ- ونسب القرآن إلى غير الله -تبارك وتعالى- والدليل على كفره: أنَّ
الله -عزَّ وجلَّ- قد ذمَّ وعاب وتوعَّد بسقر مَن زعم أنَّ القرآن هو كلام البشر،
وهذه الآية جاءت في أول سورة المدثر، وقد نزلت في الوليد بن المغيرة، فجاء عند
الحاكم عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "إنَّ الوليد بن المغيرة جاء إلى النَّبي
صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه النَّبيُّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- القرآن،
فكأنَّه رقَّ له"، القرآن له تأثير حتى على الكفار، فتجد الكفار الذين يستمعون
القرآن وربما بعضهم لا يعرف العربيَّة ربما يتأثَّر بالقرآن.
قال ابْن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ،
جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ
الْقُرْآنَ فَكَأَنَّهُ رَقَّ لَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبَا جَهْلٍ، فَأَتَاهُ ،
فَقَالَ: يَا عَمِّ، إِنَّ قَوْمَكَ يَرَوْنَ أَنْ يَجْمَعُوا لَكَ مَالا، قَالَ:
لِمَ ؟ قَالَ: لِيُعْطُوكَهُ فَإِنَّكَ أَتَيْتَ مُحَمَّدًا لِتَعْرِضَ لِمَا
قِبَلَهُ. يعني: كأنك تحتاج تطلب منه مالًا.
قَالَ: قَدْ عَلِمَتْ قُرَيْشٌ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِهَا مَالا، قَالَ: فَقُلْ فِيهِ
قَوْلا يَبْلُغُ قَوْمَكَ أَنَّكَ مُنْكِرٌ لَهُ أَوْ أَنَّكَ كَارِهٌ لَهُ، قَالَ:
وَمَاذَا أَقُولُ؟ فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالأَشْعَارِ مِنِّي،
وَلا أَعْلَمَ بِرَجَزِهِ وَلا بِقَصِيدَتِهِ مِنِّي، وَلا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ،
وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللَّهِ، إِنَّ
لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً وَإِنَّهُ
لَمُثْمِرٌ أَعْلاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلا،
وَأَنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ -هذه شهادة، والحقُّ ما نطقت به الأعداء- قَالَ
أبو جهل: لا يَرْضَى عَنْكَ قَوْمُكَ حَتَّى تَقُولَ فِيهِ، قَالَ: فَدَعْنِي
حَتَّى أُفَكِّرَ فِيهِ.
انظر قُرناء السُّوء، وهذا الذي فعله أبو جهل حتى مع أبي طالب، لما قال له النبي
صلى الله عليه وسلم: «أَيْ عَمُّ قُلْ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، كَلِمَةٌ أُحَاجُّ
لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ»[63]، قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي
أُمَيَّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟" انظروا الجهود التي
يبذلها أهلُ الشَّرِّ، وأهلُ الكفر في صدِّ النَّاس عن دينِ الله!
فَلَمَّا فَكَّرَ، أي: الوليد بن المغيرة، قَالَ: هَذَا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يَأْثُرُهُ
عَنْ غَيْرِهِ ، فَنَزَلَتْ ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدً﴾ [المدثر: 11]، هذه
الرِّواية ساقها الحاكم في مستدركه بسند صحيح، ووافقه على ذلك الذهبي.
فقول الإمام الطَّحاوي هنا: (فَمَنْ سَمِعَهُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَلَامُ الْبَشَرِ
فَقَدْ كَفَرَ، وَقَدْ ذَمَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَابَهُ وَأَوْعَدَهُ بِسَقَرَ؛
حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ [المدثر: ٢٦])، يشير إلى الآيات التي
نزلت في الوليد بن المغيرة في سورة المدثر، في قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا *
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ
لِآيَاتِنَا عَنِيدً﴾ [المدثر: 11 - 16]، سمع القرآن، وشهد بعظمته، ﴿كَلَّا
إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ
وَقَدَّرَ﴾ [المدثر: 16 - 18]، لما أمهل أبا جهل وقال: دعني أفكر، ﴿فَقُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ *
ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ
هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ﴾ [المدثر: 19 - 26].
فالمصنف -رحمة الله عليه- يَستدلُّ بهذه الآيات على أنَّ مَن زعم أنَّ القرآن ليس
كلام الله وأنَّه كلام البشر؛ فقد كفر، لأنَّ الله توعد الوليد بن المغيرة بهذا
الوعيد.
قوله: (فَلَمَّا أَوْعَدَ اللَّهُ بِسَقَرَ لِمَنْ قَالَ: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا
قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ [المدثر: ٢٥] عَلِمْنَا وَأَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ
الْبَشَرِ)، يعني هذا وجه الاستدلال، (عَلِمْنَا وَأَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ
خَالِقِ الْبَشَرِ، وَلَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ)، وهذا ما شهد به الوليد بن
المغيرة، والله -تبارك وتعالى- ليس كمثله شيء.
ووجه كون القرآن لا يشبه كلام البشر: أنَّ الله تحدَّى به المشركين، تحدَّاهم أن
يأتوا بمثله فما استطاعوا، تحداهم أن يأتوا بعشر سور فما استطاعوا، تحداهم أن يأتوا
بسورة فما استطاعوا، ولهذا لاحظ أنَّ من كبار العرب وأهل اللغة مَن يشهد للقرآن
بهذا.
فاشتماله على ألفاظ العرب جميعًا يدلُّ على أنَّه ليس من كلام البشر، ثم ألفاظه
التي بلغت الغاية في الفصاحة والبيان، أيضًا لا يمكن لأحدٍ أن يأتي بمثل معانيه، ثم
أيضًا تأثيره على النُّفوس حتى النُّفوس الكافرة.
أيضًا ممَّا يدلُّ على أنَّه ليس بكلام البشر: ذكره لأمور الغيب التي لا تدركها
عقول البشر، وذكره القصص والأخبار الماضية، وكذلك القصص الأخبار التي ستأتي، فهذا
يدلُّ على أنَّ هذا القرآن ليس بكلام البشر، ولهذا تجد أطباء الغرب، وعلماء الغرب،
وعلماء الأجَّنة، وعلماء الفلك؛ إذا قرءوا القرآن وعرفوا ما فيه من الآيات
المبهرات، عرفوا أنَّ هذا ليس بكلام البشر، ولهذا هو معجزة نبينا صلى الله عليه
وسلم.
قال: (وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ
كَفَرَ) لأنَّ الله -تبارك وتعالى- ليس كمثله شيء، وهذه قاعدة عامَّة، فمن وصف الله
تعالى بمعنى من معاني البشر فقد كفر؛ لأنه تنقَّص الرب -تبارك وتعالى- والله لا
مثيل له، لا كفء له، ولا نِدَّ له، ولا شبيه له -تبارك وتعالى.
قوله: (فَقَدْ كَفَرَ)، أهل العلم يقولون في ما يتعلَّق بوصف الكفر كوصفٍ:
مَن قال بهذا فقد كفر. أمَّا من حيث الأعيان فإنَّهم ينظرون في حال القائل، هل
تتوفر فيه الشروط، وتنتفي عنه الموانع، قد يكون هناك تأويل، وقد تكون هناك شبهة؛
ولهذا ورد التَّكفير عن العلماء بالأوصاف، أمَّا الأعيان فإنَّهم يتوقفون.
وقد وَرَدَ عن الإمام أحمد -رحمه الله- التَّكفير بالوصف، فيقول شيخ الإسلام:
"والإمام أحمد وإن تواتر عنه تكفير الجهميَّة الذين قالوا بخلق القرآن، فإنَّه لم
يشتغل بتكفير أعيانهم، بل قد صلى الإمام أحمد خلف بعض مَن يقول بخلق القرآن ودعا
له، واستغفر له"، ويعني بذلك الخليفة المعتصم.
فهذا الخليفة قال بقول المعتزلة في خلق القرآن، ولكن مثل هؤلاء لا يُدركِون حقائق
هذه الأمور، فيقولونها عن جهلٍ أو تأوُّلٍ، ولهذا إطلاق الكفر هنا يكون من جهة
الوصف، أمَّا مِن جهة الأعيان فإنَّ أهل السُّنَّة يعتقدون في مَن قال بعض هذه
المقولات، خاصةً ممَّن هم أقرب إلى السُّنَّة ِمن المتكلِّمين كبعض الأشاعرة
والماتريديَّة، فيعتبرونَهم مُتأوِّلة في هذا الباب، وإلا لاشك أنَّ مَن قال بمثلِ
هذه المقولات أنَّه على خطرٍ عظيمٍ.
قال: (فَمَنْ أَبْصَرَ هَذَ) يعني أدرك هذا ببصيرته، وما قُرِّرَ في عقيدة أهل
السُّنَّة والجماعة في القرآن، وما ذُكر من قصَّةِ الوليد بن المغيرة، فمن أبصر
بهذا (اعْتَبَرَ)، أي: أخذ العِبرة والعِظة، (وَعَنْ مِثْلِ قَوْلِ الْكُفَّارِ
انْزَجَرَ) فيقصد بهذا قول الوليد بن المغيرة، فانزجر أن يصف القرآن بأنَّه كلامُ
البشرِ، بل هو كلامُ اللهِ.
المُتَكلِّمون مِن جهةِ التَّأويل منهم مَن يقول: هو كلام الله. ومنهم من يقول:
إنَّه مخلوق كسائر المخلوقات. ومنهم من يقول: هو كلام الله من جهة المعاني، لا من
جهة الحروف والألفاظ؛ ولهذا تجدون عندهم مثل هذه التَّأويلات.
أمَّا مَن قال إنَّ القرآن كلام البشر، فقد كفر؛ لأنَّه كذَّب القرآن الكريم في ما
توعَّد الله -عزَّ وجلَّ- به مَن قال إنَّه كلام البشر، كما ورد عن المغيرة.
قال: (فَمَنْ أَبْصَرَ هَذَا اعْتَبَرَ، وَعَنْ مِثْلِ قَوْلِ الْكُفَّارِ
انْزَجَرَ) يعني أخذ العظة والعبرة، وحذِرَ مِن وصف الله -عزَّ وجلَّ- بما لا يليق
به.
قال: (وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بِصِفَاتِهِ لَيْسَ كَالْبَشَرِ)، وهذه قاعدة
عامَّة.
قوله: (بِصِفَاتِهِ)، من ذلك صفة الكلام، والقرآن من كلام الله، فهو صفة من صفاته.
(وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى بِصِفَاتِهِ لَيْسَ كَالْبَشَرِ)، فهو -عزَّ وجلَّ-
ليس كمثله شيء.
هذا هو تقريرُ ما يعتقده أهلُ السُّنَّة والجماعة في القرآن، وتلاحظون أنَّ
المصنِّف -رحمه الله- توسَّع في هذا لأهميَّة هذه المسألة، ولكثرة مَن ضلَّ فيها،
وحقَّقها تحقيقًا بديعًا، ممَّا يدلُّ على براءةِ هذا الإمام، وكذلك فقهاء الملَّة،
الذين ذكر أنَّ هذه عقيدتهم من قول أهل الكلام، وهذا فيه ردٌّ على دعوى من يدَّعي
الانتساب إلى هؤلاء الأئمَّة في الفقه، ثم يخالفهم في العقيدة، فنقول: هذه عقيدة
الإمام الطَّحاوي، وكذلك السَّادة الفقهاء الأحناف، وعقيدة سلف الأُمَّة.
وأيضًا هي ليست خاصَّة بهؤلاء الفقهاء، بل هي عقيدة الصَّحابة، وعقيدة التَّابعين،
وسلف الأُمَّة الصالح.
نسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يجعلنا من المعظِّمين للقرآن، المقيمين لحروفه وحدوده،
وأن يجعلنا مِن أهل القرآن، الذين هم أهلُ الله وخاصَّته، وأن يرزقنا تلاوته آناء
الليل وأطراف النَّهار، فهذه عقيدتنا: أنَّنا نعتقد أنَّ القرآن كلام الله حقيقةً،
منه بدأ، وإليه يعود، وما يعتقده سلف الأُمَّة في القرآن الكريم، الذي هو الرُّوح،
وهو النُّور، وهو الشفاء.
أسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يرزقنا وإياكم تلاوته، وأن يجعلنا ممَّن يهتدون بهديه،
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.