بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتَّقين، وأصلي وأسلم
على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، بإحسانٍ إلى
يوم الدَّين، أمَّا بعد.
فأرحبُ بكم أيُّها الأبناء هنا، في الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة، وأرحبُ كذلك
بالأبناء الطَّلاب والطَّالبات المتابعين لدروس برنامج البناء العلمي، وكذلك أرحبُ
بالإخوة والأخوات المشاهدين عبر البثِّ المباشرة والمسجَّل لهذه الدروس.
نحن في الدَّرس الرابع في شرح العقيدة الطحاويَّة، للإمام أبي جعفر الطحاوي،
والمتوفى سنة إحدى وعشرين بعد المائة الثالثة.
بعد هذه القرون يَنتفعُ الناسُ بهذا العلم، وهذا مِن بركة العلم على أهله، والعلم
من الأعمال الصَّالحة، التي تَبقى للميت بعد موته «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ
انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلَاثٍ»، ومنها: «عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ»[21]،
والله -تبارك وتعالى- يقول: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا
قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ﴾ [يس: 12]، ويقول -تبارك وتعالى: ﴿يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ
يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ﴾ [القيامة: 13] أي: ما قَدَّمَه في حياته، وما
أخَّره مِن الأعمال الصَّالحة، ولهذا ينبغي للمسلم أن يَسأل نفسه دائمًا، مَا الذي
قدَّمَه في الحياة، وما الذي يؤخِّره بعد مماته من: علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو
له، أو صدقة جارية، وبهذا لا ينقطع عمله ويطول عمره، فانظروا إلى بركة العلم، فهذا
العالم تُوفي في الربع الأول مِن القرن الرابع، سنة ثلاثمائة وإحدى وعشرين، ولا
يزال أهلُ العلم وطلابُ العلم يَنتفعون بهذه الكتب وهذه المؤلفات، أسأل الله -عزَّ
وجلَّ- أن ينفعنا وإيَّاكم بالعلم النَّافع والعمل الصَّالح.
درس اليوم سيكون في الجزء المحدد، لعلك يا شيخ سعيد تقرأ.
{الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين،
اللهم اغفر لشيخنا، وللمستمعين والمشاهدين.
قال أبو جعفر الطحاوي -رحمه الله: (حَيٌّ لا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لا يَنَامُ، خَاِلقٌ
بِلا حَاجَة، رَازقٌ بلا مَؤُونَة، مُمِيتٌ بِلا مَخَافَةٍ، بَاعِثٌ بِلا
مَشَقَّةٍ)}.
هذه الصِّفاتُ السِّتُّ التي ذكرها الإمام الطحاوي، وهي قوله:
(حَيٌّ لا يَمُوتُ) يَذكر الصَّفة، ثمَّ مَا يُقابلها مِن نفي، فذكر صفة الحياة،
وصفة القيومية، وصفة الخلق، وصفة الإماتة، والرزق، والبعث -ستُّ صفاتٍ- وذكر ما
يقابلها من الصِّفات المنفيَّة التي تؤكد معنى الإثبات.
ومناسبة هذا البيان لهذا المعتقد لما قبله:
لما قَرَّرَ الإمام الطحاوي -رحمه الله- في الجمل الماضية في قوله: (وَلَا يُشْبِهُ
الْأَنَامَ) وفي بعض النُّسخ: (وَلَا يُشْبِهُهُ الْأَنَامَ) ذَكَرَ هنا مَا
يتميَّز به الخالق -عزَّ وجلَّ- من صفات الكمال.
فقال في الوصفِ الأوَّلِ: (حَيٌّ لا يَمُوتُ) والله -تبارك وتعالى- مِن أسمائه
الحسنى "الحي"، ومن صفات الكمال صفة الحياة.
والحي: أي ذو الحياة الكاملة التَّامة، المتضمِّنة لجميع صفات الكمال، الحياة التي
لم يَسبقها عَدَم، ولا يَلحقها زوال، ولا يَعتريها نقص بأيِّ وجهٍ من الوجوه، فهذا
معنى الحي.
ويُشتَقُّ من الاسم: صفة الحياة التَّامة الكاملة لله -تبارك وتعالى- وقد سمَّى
الله -عزَّ وجلَّ- نفسه بهذا الاسم في مواضع عديدة من كتابه، منها قوله -تبارك
وتعالى: ﴿هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ﴾ [غافر: 65]، وأيضًا في قوله -تبارك وتعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ
الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾ [الفرقان: 58]، ولهذا قال المصنف -رحمه الله: (حَيٌّ لا
يَمُوتُ)، وكلمة (لا يَمُوتُ) أخذها مِن قول الله -تبارك وتعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾، وكلمة (لا يَمُوتُ) من الصِّفات المنفيَّة عن
الله -تبارك وتعالى- وكما تقدَّم أنَّ النَّفي ليس نفيًا محضًا، بل يتضمَّن ضدَّه
من صفات الكمال، فهو الحي -عزَّ وجلَّ- الذي لا يموت.
فيكون معنى كلام المؤلف -رحمه الله: نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ
بِتَوْفِيقِ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ -عزَّ وجلَّ- حَيٌّ لا يَمُوتُ، فهو الحي -عزَّ
وجلَّ- المتَّصف بصفة الحياة الكاملة التَّامة، التي لا نقص فيها بوجهٍ مِنَ
الوجوه، التي لم يسبقها عَدَم، ولا يَلحقها زوال، والتي لا تُشبه حياة المخلوقين،
فحياة المخلوق فيها نقص، أمَّا حياة الخالق -عزَّ وجلَّ- فهي المُتضمنة للكمال
المطلق من كلِّ وجهٍ.
في هذه الآية، وهي قوله -تبارك وتعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا
يَمُوتُ﴾، تأمَّل كيف قَرَنَ الله -عزَّ وجلَّ- هذا الاسم بالتوكل عليه -تبارك
وتعالى!
لأنَّ الربَّ -تبارك وتعالى- إذا اتَّصف بصفة الحياة الكاملة التَّامة، التي لا
يلحقها فَنَاء ولا عَدَم، فهو أحقُّ بأن يُتوكل عليه، فالذين عبدوا الأصنام من دون
الله، عبدوها رجاء أن تُفرِّج الكروب عنهم، ورجاء النَّفع، وكشف الضُّرِّ، فبيَّن
الله -عزَّ وجلَّ- أنَّ هذه المعبودات لا تنفع ولا تضر، وإنَّما الذي ينفع هو الحي،
فهذا يوجِب على المسلم أن يَتوكل على الله -تبارك وتعالى- ولهذا قال: ﴿وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾، فَمَن هذه صفته -وهي الكمال المطلق- الحي
الحياة الكاملة، فهو حَريٌّ أن يتوكل المسلم عليه -عزَّ وجلَّ.
والتوكل: هو اعتماد القلب على الله -عزَّ وجلَّ- مع الثِّقة به، والأخذ بالأسباب
المشروعة، فإذا عَلِمَ المسلم أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- هو الحي، توكل عليه توكلًا
تامًّا في جميع أموره، وجميع شئون حياته.
إذا علم أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- هو الحي استعان به، والتجأ إليه؛ لأنه -عزَّ وجلَّ-
هو الحي الذي لا يموت، أمَّا هؤلاء الذين عَبَدوا مِن دون الله، فهم يعبدون ويدعون
ما لا ينفعهم، ولهذا يقول -تبارك وتعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ
لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا
يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [النحل: 20، 21]، فكيف يُتَوكَّل على مَن كانت
هذه صفته؟!
فهو ضعيف وميت، وهو لا ينفع ولا يضر، وهذا فيه توبيخ لأولئك الذين تعلَّقوا
بالأموات، وتعلَّقوا بأصحاب القبور، وتعلَّقوا بغير الله -تبارك وتعالى- أمَّا
المسلم فإنَّه يتوكل على الحي الذي لا يموت -جل وعلا.
ومِن ثمرات الإيمان بهذا الاسم -وهكذا بسائر أسماء الله الحسنى: أن يؤمن بالآثار
المترتِّبة على هذا الاسم، فيؤمن بأنَّه -عزَّ وجلَّ- هو الحي، ويؤمن بصفة الحياة
التَّامة الكاملة المطلقة، ثم الآثار المترتبة على ذلك، ومن ذلك التوكل عليه -عزَّ
وجلَّ- والالتجاء إليه، والاستعانة به -عزَّ وجلَّ.
والإيمان بالاسم يتضمن ثلاثة أمور:
- أن تؤمن بالاسم.
- والصفة المشتقَّة من هذا الاسم.
- والآثار المترتبة على ذلك.
وهذه المعاني تدخل في قول النبي -عليه الصلاة والسلام: «إنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً
وَتِسْعُونَ اسْمًا، مِائَةً إِلا وَاحِدَةً، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ
الْجَنَّةَ»[22]، وأحصاها يعني: عَرَفَها، وعرف المعنى، وعمل بالمقتضى.
والتعبُّد لله -عزَّ وجلَّ- بآثار الأسماء الحسنى، يَدخل في قوله -تبارك وتعالى:
﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَ﴾ [الأعراف: 180].
﴿فَادْعُوهُ بِهَ﴾ يشمل التَّوسُّل بهذه الأسماء، بأن تُقدِّم بين يدي مسألتك ما
يناسب مِن أسماء الله الحسنى، وكذلك تتعبَّد لله -عزَّ وجلَّ- بآثار هذه الأسماء،
ومن ذلك التوكل عليه، فتتوكل على الحي الذي لا يموت، وتلتجئ إليه، وتستعين به -عزَّ
وجلَّ- لأنَّه الحي الذي لا يموت.
إذن، هذا ما يتضمَّنه قول المصنف -رحمة الله عليه: (حَيٌّ لا يَمُوتُ)، جاء
بالصَّفة الثُّبوتيَّة، والصِّفة المنفيَّة، التي تؤكِّد معنى الإثبات في الصِّفة
الثُّبوتيَّة.
هنا إشكال، قد يرد على بعض الناس فيقولون إنَّ الله -عزَّ وجلَّ- قد سمى بعض
المخلوقات بالحي، فقال: ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيخْرِجُ الْمَيِّتَ
مِنَ الْحَيِّ وَيحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾
[الروم: 19]، فقد يُقال إنَّ الله -عزَّ وجلَّ- سمى المخلوق بالحي.
والجواب: حياة المخلوق تختلف عن حياة الخالق، فحياة الخالق حياة تامَّة كاملة، لا
نقص فيها بوجه من الوجوه، والمخلوق حياته مقيدة بوجوده، وكون الأسماء تشترك فهذا لا
يعني التماثل في الحقائق، فالمخلوق يُوصف بأنه عليم، وكريم، ورحيم، ولكن هذا العلم،
وهذا الكرم، وهذه الرحمة ليست كعلم الخالق، ورحمته، وكرمه، وهكذا صفة الحياة التي
يوصف بها المخلوق، فهي صفة تليق بالمخلوق، أمَّا الخالق فله الكمال المطلق.
كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يَتَوسَّل إلى ربه -تبارك وتعالى- بهذا الاسم،
فكان مِن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ
آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ، اللَّهُمَّ
إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ
الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ»[23]، وهذا من
التوسل بأسماء الله -تبارك وتعالى- ومن التَّعبد لله -تبارك وتعالى- بآثار هذه
الأسماء والصفات، ومن ذلك اسمه الحي، وصفة الحياة، التي لا يَعتَريها نقصٌ بوجهٍ من
الوجوه.
ثم قال الإمام الطحاوي بعد ذلك: (قَيُّومٌ لا يَنَامُ)، والقيُّومُ من أسماء الله
الحسنى، وهي صيغةُ مبالغةٍ، وقد سَمَّى الله -عزَّ وجلَّ- نفسه بهذا الاسم في كتابه
في مواضع عديدة، ومنها آية الكرسي: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: 255]، فمن أسماء الله -عزَّ وجلَّ-: القيوم.
والقيُّوم معناه: القائم بنفسه -عزَّ وجلَّ- فليس بحاجة إلى غيره في وجوده، ولا في
شيء من صفاته، ولا في شيء من أفعاله، فهو -عزَّ وجلَّ- مستغنٍ عَن كل شيء، فهو
الغني -سبحانه وتعالى- وغيره لا يقوم إلا به، غيره محتاج إليه، في إيجاده، وإمداده،
وفي إعداده، أمَّا الرَّب -تبارك وتعالى- فهو القيُّوم القائم بنفسه.
كذلك من معاني القيوم: أنَّه القائم على شؤون خلقه، فغيره يحتاج إليه، كما قال
-عزَّ وجلَّ: ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ [الرعد:
33]، والمخلوق لا يقوم بنفسه، بل يحتاج إلى خالقه -عزَّ وجلَّ.
وعليه فإنَّ معنى القيوم يَشمل معنيين:
- القائم بنفسه.
- والقائم بمخلوقاته -عزَّ وجلَّ- فهو قائم على شئونهم وإيجادهم، وإمدادهم.
فهو -عزَّ وجلَّ- القيوم، والقيَّوم مِن أسمائه، ومن صِفاته العُليا القيومية.
قول المصنف -رحمه الله: (قَيُّومٌ لا يَنَامُ)، و(لا يَنَامُ) أيضًا صفة مَنفيَّة،
تؤكِّد معنى القيُّوميَّة، وتدل على الكمال المطلق في القيُّوميَّة، فهو -عزَّ
وجلَّ- القيُّوم، الذي لا ينام.
والله -تبارك وتعالى- قد نفى صفة النَّوم عن نفسه، في قوله: ﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ
وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255]؛ لأنَّ النَّومَ صفةُ نقصٍ، ولأنَّه -عزَّ وجلَّ-
كاملٌ في حياته، فلا تَأخذه السِّنة، والسِّنة هي مقدمات النَّوم، وكذلك لا يحتاج
إلى النَّوم؛ لكمال قيُّوميَّته -تبارك وتعالى- وإنَّما الذي يحتاج إلى النَّوم هو
المخلوق الضَّعيف لنقصه، أمَّا الخالق -عزَّ وجلَّ- فهو القائم بنفسه، ولهذا
تَنَزَّه عَن صفات المخلوق، كالنَّوم، والسِّنة ونحو ذلك.
كان أيضًا مِن دُعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومِن تَوسُّله بهذه الأسماء: ما
رواه أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بخمس كلمات فقال: «إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ
اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ،
حِجَابُهُ النُّورُ»، وفي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: «حِجَابُهُ النَّارُ لَوْ
كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ
خَلْقِهِ»[24]، كما رواه مسلم، والشاهد فيه أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- نفى
عَن رَبه النَّوم، فقال: «لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ»،
والسُّنة تأتي مؤكدة للقرآن، في صفات الإثبات وكذلك في صفات النفي، وصفة النفي ليس
النفي فيها نفيًا محضًا، بل يؤكد معنى الكمال في الصفات المثبتة لله -عزَّ وجلَّ-.
المصنف جاء بالقيُّوميَّة بعد صفة الحياة، فقال: (حَيٌّ لا يَمُوتُ، قَيُّومٌ لا
يَنَامُ)، والله -عزَّ وجلَّ- قد جمع في كتابه بين هذين الاسمين، وبين هاتين
الصفتين: الحي القيوم، جمع بينهما في كتابه في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول: في آية الكرسي، في قوله -تبارك وتعالى-: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: 255].
الموضع الثاني: في أول سورة آل عمران، في قوله: ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾.
الموضع الثالث: في سورة طه في قوله: ﴿وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ﴾
[طه: 111]، فجمع الله -عزَّ وجلَّ- لنفسه بين هذه الصفات.
قال أهل العلم: صفة الحياة تدل على الكمال الذاتي، وصفة القيومية تدل على الكمال
السلطاني.
فالكمال الذاتي الذي يَشمل كمال العلم، وكمال السمع، وكمال البصر، وكمال القدرة،
وكمال العزة، وكمال الحكمة، وكمال الرحمة، ونحوها من الصفات الذاتية.
والقيوم تضمن الكمال السلطاني، الكمال الفعلي، والذي يشمل الخلق، والتدبير،
والإحياء، والإماتة، والإعزاز، والإذلال، والعطاء، والمنع، والخفض، والرفع، إلى غير
ذلك من المعاني.
فجمع الله بين هذين الاسمين؛ لأنهما تضمنا صفات الكمال الذاتي، وصفات الكمال الفعلي
السلطاني، لهذا جمع الله بينهما في كتابه، في ثلاثة مواضع.
ولهذا قيل في هذين الاسمين: إنَّهما اسما الله الأعظم، الذي إذا دُعِيَ به أجاب،
وإذا سُئل به أَعطَى، كما جاء في بعض الروايات، وفي بعض الأقوال عند أهل العلم، في
بيان اسم الله الأعظم، قيل: هو "الله"، وقيل: "الحي القيوم".
ولهذا ينبغي للمسلم أن يُكثر في دعائه من قول: يا حي يا قيوم، ويتوسل إلى الله
-عزَّ وجلَّ- بهذين الاسمين العظيمين الدَّالين على الكمال الذَّاتي، والكمال
الفعلي.
قال بعد ذلك: (خَاِلقٌ بِلا حَاجَة)، ومن أسماء الله الحسنى: الخالق، ومن أسمائه
الحسنى أيضًا الخلاق، صيغة مبالغة، كما قال -تبارك وتعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ
الْخَالِقُ الْبَارِئُ﴾ [الحشر: 24]، وقال: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ
الْعَلِيمُ﴾ [الحجر: 86]، فالخالق والخلاق من أسماء الله الحسنى، تدلان على صفة
الخلق، التي هي من صفات الكمال، التي تليق بالخالق -عزَّ وجلَّ.
وهذه الصفة أقرَّ بها المشركون، ولم ينكروا أن الله -عزَّ وجلَّ- هو الخالق، كما لم
ينكروا بأنَّه هو الرب، وإنَّما كان الإشكال عندهم في صرف العبادة لله -تبارك
وتعالى- أمَّا الإقرار بأنَّ الله هو الخالق، وهو الرازق، فكانوا يُقرون بذلك،
وإنما كان شركهم في العبودية، فالخالق هو الله -تبارك وتعالى.
قال: (بِلا حَاجَة)، أي أنه -عزَّ وجلَّ- خلق المخلوقات بلا حاجة إليهم، فهو الغني
-عزَّ وجلَّ-، فلم يخلقهم تعالى تكثُّرًا بهم مِن قلة، ولم يَخلقهم ليتعزز بهم مِن
ذلة، ولم يخلقهم ليستغن بهم مِن فقر، بل هو الغني -عزَّ وجلَّ-، وهو العزيز -سبحانه
وتعالى-، وإنَّما خلقهم ليبتليهم، كما قال الله -تبارك وتعالى-: ﴿الَّذِي خَلَقَ
الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾ [الملك: 2]، وأيضًا خلقهم لعبادته، كما قال
-سبحانه وتعالى-: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾
[الذاريات: 56]، فلم يخلقهم لحاجته إليهم، بل هم محتاجون إليه -عزَّ وجلَّ-، وهو
الغني، ولهذا قال المصنف -رحمه الله- في بيان كمال هذه الصفة: (خَاِلقٌ بِلا
حَاجَة) فهذه الصفة المنفية عن الله -عزَّ وجلَّ- تؤكد معنى الكمال في الصفة
المثبتة، وهي صفة الخلق لله -تبارك وتعالى.
وخَلْقُه -عزَّ وجلَّ- محتاجون إليه، فهم فقراء إلى الله، يحتاجون إليه في إيجادهم،
يحتاجون إليه في رزقهم، في جميع أحوالهم، وجميع شئونهم، أما الرب -تبارك وتعالى-
فهو الغني -سبحانه وتعالى- عن كل ما سواه.
قول الإمام الطحاوي -رحمه الله-: (خَاِلقٌ بِلا حَاجَة)، هل يُفهم من ذلك نفي
الحِكمة والعلة في أفعال الله؟ لأنه قال: (خَاِلقٌ بِلا حَاجَة).
والجواب: أنه لا يُفهم من ذلك نفي الحِكَمِ والعللِ كما فهمها بعض الشراح، فالله
-عزَّ وجلَّ- حكيم في خلقه، حكيم في أمره، حكيم في نهيه، حكيم في قضائه وقدره،
ولهذا قال: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ﴾ [الملك: 2]،
وقال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]
وهكذا أوامره ونواهيه وقضائه وقدره، كلها مبنية على الحِكم والعِلل التي قد يدركها
العباد وقد لا يدركونها، فلا يُفهم مِن كلام الإمام الطحاوي -رحمه الله- (خَاِلقٌ
بِلا حَاجَة) نفي الحكم والعلل في خلق الله -عزَّ وجلَّ- بل خلقه مبني على الحكمة،
وهكذا أمره ونهيه وقضائه وقدره، كلها مبنية على الحكم والعلل.
وقد ذَكَرَ الله -عزَّ وجلَّ- في كتابه شيئًا مِن الحكم والعلل، فقال: ﴿لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21]، ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأنعام: 152] وهكذا من
العلل النَّصية أو العلل التي يستنبطها أهل العلم أو العلل التَّعبديَّة التي لا
يدركها البشر وإنَّما يتعبَّد الله -عزَّ وجلَّ- بأمره ونهيه وخبره، وإن كان لا
يعلم الحكمة والعلة من فعله -عزَّ وجلَّ.
الإيمان بأنَّه الخالق يثمر للمؤمن ثمرات عظيمة، من ذلك الإيمان بوحدانيته -تبارك
وتعالى- وإلوهيته وإفراده بالعبادة؛ لأنه يعلم أنَّه هو الخالق، وخلقه -عزَّ وجلَّ-
عام يشمل جميع المخلوقات، وبما في ذلك أفعال العباد، فأفعال العباد مخلوقة لله
-تبارك وتعالى- كما قال -سبحانه وتعالى-: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ
بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49] فهي مخلوقة لله -تبارك وتعالى-.
أيضًا عظمة المخلوقات تدل على عظمة خالقها، فعظمة الكرسي، وعظمة العرش، وعظمة
السموات والأرض وكل ما تشاهده في آيات الله وفي عظمته تدل على عظمة خالقها، فخالق
العظيم عظيم، ولهذا كان التدبر والتفكر والتأمل في مخلوقات الله يدلل على عظمة
خالقها -سبحانه وتعالى.
هنا إشكال أيضًا، قد يُقال: إن الله -عزَّ وجلَّ- قد أثبت الخلق لبعض مخلوقاته،
فقال -تبارك وتعالى-: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون:
14]، وفي الحديث القدسي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن رَبِّ العزة في
المُصورين: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي»[25]
فنقول:
هذا الخلق المضاف للمخلوق هو خلق مُقيد، وهو إعادة تكوين الشيء وليس المقصود هو
إيجاده مِن العدم، فالذي يوجد الشيء من العدم هو الله -تبارك وتعالى- أمَّا المخلوق
في بنائه، في تصويره فإنما هو يعيد تشكيل الشيء كالنجار الذي يصنع الباب ويصنع ما
يحتاج إليه الناس، فهذا وإن سُمي خلقًا، وكذلك البناء الذي لم يخلق مثلها في
البلاد، فليس المقصود هو الإيجاد من العدم، ومثلها ما يعبد به بعض الناس يخلق
الفكرة، المقصود هو يوجدها وليس المقصود هو الخلق الذي لا يليق إلا بالخالق -عزَّ
وجلَّ-، فتسمية هذه الأشياء بـ "خلق" هي بالنسبة للمخلوق ولكنها إعادة تكوين الشيء،
نقله من صورة إلى صورة، أمَّا الخلق الذي هو الإيجاد من العدم، فهذا لا يكون إلا
للخالق -جلَّ جلاله- ولهذا بين الله -عزَّ وجلَّ- ضَعف الإنسان في قوله: ﴿يَا
أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن
دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُو﴾ [الحج: 73] هذا المخلوق
ضعيف لا يستطيع أن يوجد غيره مِنَ العدم.
بعد ذلك قال: (رَازقٌ بلا مَؤُونَة) ومن أسماء الله الحسنى الرازق، ومن أسمائه
أيضًا -عزَّ وجلَّ- الرزاق، أمَّا اسمه "الرازق" فقد جاء في السُّنة و "الرزاق" جاء
في قوله -تبارك وتعالى- ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ
الْمَتِينُ﴾ [الذاريات: 58] وفي السنة أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّ
اللَّهَ هُوَ الْمُسَعِّرُ الْقَابِضُ الْبَاسِطُ الرَّزَّاقُ»[26] والرزاق صيغة
مبالغة، ومن صفاته -عزَّ وجلَّ- الرزق.
ورزقه -تبارك وتعالى- لعباده على نوعين، هناك رزق عام لكل المخلوقات مما تنتفع به
في معاشها، يشمل الرزق للمؤمن والكافر، يشمل الرزق الذي يتناوله الإنسان مما أحله
الله أو مما هو حرام، فهذا هو رزق عام، أما الرزق الخاص فهو لعباده المؤمنين،
بالعلم النافع والعمل الصالح.
كما يقال: في نعم الله على عباده، فنعم الله على عباده منها النعم العامة ومنها
النعم الخاصة، ولهذا إذا قال المسلم في صلاته: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ
* صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة: 6، 7]، هل المقصود هنا
النعمة العامة أو النعمة الخاصة؟ النعمة الخاصة، وقوله -تبارك وتعالى: ﴿الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: 3]،
النعمة الخاصة التي هي الهداية لهذا الدين القويم، فهكذا رزقه عام وخاص، العام
لجميع مخلوقاته والخاص لعباده المؤمنين.
قول المصنف -رحمه الله- (رَازقٌ بلا مَؤُونَة) وفي بعض النسخ (بلا مئونة) ويظهر أن
هذا الاختلاف من النساخ أو اختلاف في الطبعات ومعناهما متقارب، أي: بلا مشقة ولا
كُلفة ولا ثقل، بل إنَّه -عزَّ وجلَّ- خلقهم بلا كُلفة أو مشقة فما مَسَّه مِن
لُغوب -جل جلاله- لكماله المطلق في كل شيء.
قد يقول قائل: إذا كان الله هو الرازق، هل يعني ذلك أنَّ الإنسان يتَّكل على ما هو
مكتوب، والله -عزَّ وجلَّ- قد كتب الأرزاق كما كتب الآجال؟ ويعتقد أن هذا هو
التوكل.
{يجب عليه أن يبذل الأسباب، كما قال الله -تعالى-: ﴿فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا
وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ﴾ [الملك: 15]}.
والأخذ بالأسباب هو من التوكل على الله -تبارك وتعالى- أمَّا الاعتماد على ما هو
مكتوب، وترك الأخذ بالأسباب، هذا تواكل وليس بتوكل، فثقته بالله، واعتماده على
الله، وإيمانه بأن الله -عزَّ وجلَّ- هو الرازق، وأنَّه يرزق من يشاء، هذا لا يجعله
يترك الأخذ بالأسباب المشروعة، التي شَرَعَها الله -عزَّ وجلَّ-، بل يبذل الأسباب،
ويعلم أنَّ الرازق هو الله -عزَّ وجلَّ- وأنه يرزق من يشاء.
قال: (رَازقٌ بلا مَؤُونَة) أي بلا تعب ولا مشقة، ولهذا يرزق مَن يَشاء، بل لو أنَّ
الأولين والآخرين قاموا في صعيد واحد، فسألوه، فأعطى كل إنسان مسألته، مَا نَقَصَ
ذلك مِن مُلكه شيئًا.
تأمل، لو أنَّ جميع الخلق مِن أولهم إلى آخرهم، قاموا في صعيد واحد، فسألوا الله
-عزَّ وجلَّ- فَأَعطى كل إنسان مسألته، مَا نَقَصَ مِن مُلك الله -عزَّ وجلَّ-
شيئًا، كما جاء في الحديث القدسي، الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عَن ربه من
حديث أبي ذر، في قوله تعالى: « يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى
نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا، يَا عِبَادِي
كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يَا
عِبـَادِي كُلُّكـُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي
أُطْعِمْكُمْ، يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُـهُ
فَاسْتَكْسُونِـي أَكْسُكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ
لَكُمْ، يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ
تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي» هنا الشاهد «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ
أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ»، تأمل، لو أن الأولين والآخرين،
بل الإنس والجن «كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ
ذَلِكَ فِي مُلْكِــي شَيْئً»، هذا ليس بحاجة إلى الخلق، وهذا يؤكد المعنى السابق،
ثم قال -عزَّ وجلَّ-: «يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ
وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ
ذَلِكَ مـِنْ مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ
وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ
كُــلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا
يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ»[27]، المخيط معروف، وهو: الإبرة
الثخينة، لو أخذتَ هذه الإبرة ثم وضعتها في المحيط ثم رفعتها، ما نسبة الماء التي
علقت بها، إلى ماء البحر؟ لا شيء، وهكذا لو أن الأولين والآخرين، بل الإنس والجن
قاموا في صعيد واحد، فسألوا الله، فأعطى كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكه -عزَّ
وجلَّ- شيئًا، لكمال المطلق، ولهذا -عزَّ وجلَّ- يرزقهم بلا مئونة، بلا مشقة، بلا
ثقل، لكماله المطلق، ولهذا الإنسان لا يحتقر أن يسأل الله -عزَّ وجلَّ- حاجته،
فالله -عزَّ وجلَّ- على كل شيء قدير.
قال الإمام الطحاوي بعد ذلك: (مُمِيتٌ بِلا مَخَافَةٍ) من صفات الله -عزَّ وجلَّ-
الفعلية أنَّه يُحيي ويميت، والله -عزَّ وجلَّ- يُوصَف بأنَّه المحيي والمميت، وهذا
ثابت بالكتاب والسنة، أي: صفة الحياة، وكذلك صفة الإماتة، لكن هل الميت من أسماء
الله الحسنى؟
الحي من أسماء الله -كما مَرَّ معنا- لكن هل المميت من أسماء الله الحسنى؟
فَيُعَبِّدُ الإنسان ابنه بـ"عبد المميت"؟
"عبد الحي" لا إشكال فيه، ولكن "المميت" ليس مِن أسماء الله الحسنى، كذلك المحيي،
وإنما الثابت هو الحي، وأما المحيي وصف، والمميت هو وصف، وكما تقدَّم أن الأسماء
توقيفية، فلا يُسمى الله -عزَّ وجلَّ- إلا بما سَمى به نفسه.
لا تُشتق الأسماء لا من الصفات ولا من الأفعال، أمَّا الصفة فتؤخذ من الاسم، وتؤخذ
من الفعل، أو يُنص عليها، فمن صفاته أنه يحيي ويميت، ولكن لا يسمى بالمميت، وكذلك
لم يثبت اسمه المحيي.
{هل "النافع والضار" من أسماء الله تعالى؟}.
الأسماء تثبت بما يقابلها وليس مجرَّدًا، والحديث الذي فيه تعداد أسماء الله تعالى
فيه ضعف، ومعلوم أنَّ الأحاديث الضعيفة لا يُعتمد عليها في إثبات الأسماء والصفات،
ولهذا فالأسماء والصفات يُعتمد فيها على جاء في كتاب الله، أو ما صحَّ عن النبي صلى
الله عليه وسلم.
فالله -تبارك وتعالى- يوصف بأنَّه المحيي، ويوصف بأنَّه المميت، يحيي ويميت كما قال
-عزَّ وجلَّ: ﴿ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾
[البقرة: 28]، فهذه صفات، وقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [الحج: 66]، وقال: ﴿إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي
الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فصلت: 39]، فهو -عزَّ وجلَّ- يحيي
ويميت، وهذه من صفاته -عزَّ وجلَّ.
في حديث حذيفة في دعاء الاستيقاظ من النوم: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَحْيَانَا
بَعْدَمَا أَمَاتَنَا وَإِلَيْهِ النُّشُورُ»[28]، وكذلك في حديث أنس: «اللَّهُمَّ
أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي وَتَوَفَّنِي إِذَا كَانَتْ
الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي»[29].
قول المصنف هنا: (مُمِيتٌ) هل الموت صفة وجودية؟ أم صفة عدمية؟ بمعنى: هل الموت صفة
موجودة؟ أو صفة غير موجودة؟
والجواب: إنَّ الموت صفة وجودية، موصوف بالوجودية، بدليل أنَّ الله -عزَّ وجلَّ-
خلق الموت، فقال: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ
أَحْسَنُ عَمَلً﴾ [الملك: 2]، وهذا خلافًا للفلاسفة ومن قال بقولهم، الذين يقولون
إنَّ الموت صفة عدمية، بل الأدلة تدل على أنَّ الموت موجود، وأنَّه صفة موجودة،
ولهذا يؤتى بالموت يوم القيامة كهيئة كبش أملح، فينادي منادٍ: "يا أهل الجنة،
فيشرئبون وينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت"، إذن هو معروف
عندهم، دل على أنه صفة وجودية، وكلهم قد رآه، ثم ينادي منادٍ: "يا أهل النار،
فيشرئبون وينظرون، فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت"، ثم يُذبح
بين الجنة والنار، فهذا يدل على أن الموت صفة موجودة، ولهذا يعرفه أهل الجنة،
ويعرفه أهل النار.
فإن قلت: كيف يُذبح، وهو أمر معنوي؟ فنقول: إنَّ الله -تبارك وتعالى- يجعل الأمور
المعنوية أمورًا حسِّية، والله -عزَّ وجلَّ- على كل شيءٍ قدير، فالأمور المعنوية
توزن، وتكون محسوسة ومشاهدة لقدرة الله -تبارك وتعالى- في جعل الأمور المعنوية
أمورًا حسِّية.
هذا الذبح للموت يدل على أنه صفة وجودية، فخلقه الله -عزَّ وجلَّ-، الذي خلق الموت
والحياة، ويأتي يوم القيامة في صورة كبش، فيُذبح.
هذا الذبح متى يكون؟ يكون بعد أن يَستقر أهل الجنة في الجنة، ويَستقر أهل النار في
النار، فيؤتى به فيُذبح بعد أن يخرج أهل التوحيد، عصاة الموحدين بعد أن يخرجوا من
النار، فذبح الموت بعد خروج عصاة أهل التوحيد من النار، فيؤتى به، فيُذبح بين
الجنة والنار، بعد أن يخرج أهل التوحيد من النار.
قال بعد ذلك: (بَاعِثٌ بِلا مَشَقَّةٍ) أي: من صفات الله -عزَّ وجلَّ- الدالة على
كمال المطلقة، أنَّه يبعث الخلائق، كما بيَّن ذلك في مواضع كثيرة في كتابه، في قوله
-عزَّ وجلَّ-: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي
لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ﴾ [التغابن: 7]، فالله -تبارك
وتعالى- يبعث الأولين والآخرين، ﴿قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ *
لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ [الواقعة: 49، 50]، فيبعثهم الله
-تبارك وتعالى- والبعث هو إحياء الموتى حين يُنفخ في الصور النفخة الثانية، فيقوم
الناس لرب العالمين حفاةً عراةً غُرلًا بُهمًا، حفاةً غير منتعلين.
عراةً: غير مستترين.
غُرلًا: غير مختتنين.
بُهمًا: ليس معهم شيء.
وقوله: (بِلا مَشَقَّةٍ)، أي أن الله -تبارك وتعالى- يبعثهم بلا مشقة، فالذي أوجدهم
من العدم، قادر على أن يعيدهم مرة أخرى، بل أهون، ولهذا يستدل على البعث بالمبدأ،
يستدل بالمبدأ على المعاد، كما ذكر الله -عزَّ وجلَّ- أدلة البعث، وهي أدلة عقلية،
وأدلة حسية في آخر سورة "يس": ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن
نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ
خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي
أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم
مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ *
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ
مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾ [يس: 77- 82]، فهذه الأدلة أدلة شرعيَّة،
وأدلة حسيَّة، وأدلة عقليَّة، ولهذا تأمَّلوا الأدلَّة في كتاب الله، في إحياء
الأرض بعد موتها، كلها تدلُّ على أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- يبعث الخلق بلا مشقَّة،
فالذي أوجدهم من العدم، فإعادتهم مرة أخرى أسهل وأهون.
هل البعث تجديد للخلق أم إعادة؟
{البعث يكون إعادة}.
إعادة، والدليل قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ
وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 104].
فلهذا هو ليس فيه مشقة ولا كلفة، بل هو إعادة للخلق ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ
خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾، ولهذا فكل إنسان
يُبعث على ما مات عليه، فإن كان مُحرمًا يُبعث يوم القيامة ملبِّيًا، ومن كان على
الهدي والسمت النبوي، يلقى الله كذلك، آكل الربا يُبعث كالمجنون ﴿الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ
الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَ﴾ [البقرة: 275]، والذي
يشرب الخمر يُبعث والخمر في بطنه، فالله -عزَّ وجلَّ- يعيد الخلق بلا مشقة، أي بلا
كلفة ولا تعب؛ لأنه -عزَّ وجلَّ- هو القادر على كل شيء.
نكون بهذا قد انتهينا بحمد الله من الجزء المخصص في هذا الدرس، أسأل الله -تبارك
وتعالى- أن يُحسن خاتمتنا وخاتمتكم، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح،
ويجعلنا وإخواننا المشاهدين والمشاهدات، ممن ينتفع بعلمه بأسماء الله وصفاته، ويجعل
وسيلتنا إليه التوحيد والإخلاص، ونسأله -تبارك وتعالى- أن يصلح أحوال المسلمين في
كل مكان، وأن يرزقنا وإياهم الإخلاص والعلم النافع، والعمل الصالح، إنه جواد كريم،
وصلي اللهم وسلم على نبينا محمد.