بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتَّقين، وأصلِّي
وأسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه
بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، يا حي يا
قيُّوم، أمَّا بعد.
فيا أيُّها الأبناء في الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة، هنا في مقرِّ
الأكاديميَّة، وكذلك الأبناء من الطلَّاب والطالبات الذين يُتابعون حلقات هذا
البرنامج البناء العلمي، الذين يتجاوز عددهم أكثر من خمسين ألف طالبٍ وطالبةٍ في
بلاد العالم المختلفة، أرحبُ بكم، وأرحبُ كذلك بالإخوة والأخوات، المشاهدين للبثِّ
المباشر، والمسجَّل لهذه الحلقات العلميَّة، وفي المحاضرة الثانية من شرح العقيدة
الطحاويَّة.
كنَّا في الدرس الماضي قد انتهينا -بحمد الله وتوفيقه- إلى قول الإمام الطحاوي:
(نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ- إِنَّ اللَّهَ
وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ).
وذكرنا الفرق بين القول والاعتقاد، (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ
-مُعْتَقِدِينَ)، فما الفرق بينهما؟
- {القول يعني: القول باللسان، وأمَّا الاعتقاد: الاعتقاد بالقلب}.
- لماذا جمع بينهما؟
- {لأنَّهما متلازمان}.
نعم، ليُشير إلى التَّلازم، وأنَّ القول المجرَّد لا ينفع؛ لابُدَّ أن يكون مع
الاعتقاد، وهكذا المسلم إذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمَّدًا
رسول الله، فهو يُقِرُّ بقلبه، ناطقًا بلسانه، أنَّه لا إله إلا الله، وأنَّ
محمَّدًا رسول الله.
- لماذا بدأ بالتوحيد في هذا المعتقد؟
- {لأنَّه أوجب الواجبات، وأوَّل الواجب، وآخر واجب}.
- نعم، فبدأ بالتوحيد؛ لأنَّه أوَّل واجبٍ على المكلَّف، ما الدليل على أنَّ
التوحيد هو أوَّل واجبٍ على المكلَّف؟
- {الدليل قوله -صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى
يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»[6]}.
و-أيضًا- لمـَّا بَعَثَ -صلى الله عليه وسلم- معاذًا لليمن، قال: «إِنَّكَ تَأْتِي
قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ: شَهَادَةُ
أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»[7]، فهذه الأدلَّة الصريحة في أنَّ التوحيد هو أوَّل
واجبٍ على المكلَّف، ولهذا الكافر إذا أراد الدخول في الإسلام، ما أوَّل ما يُطلب
منه؟ أن ينطق بالتوحيد، وهذا خلاف لمن يقول إنَّ أوَّل واجبٍ هو النظر، أو الشك، أو
نحو ذلك؛ فهذا لا دليل عليه، بل الأدلَّة تدلُّ على أنَّ التوحيد هو أوَّل واجبٍ،
فلهذا دعا إليه أنبياء الله أوَّلًا وقبل كلِّ شيء.
قال: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ) ما
الفائدة من ذكر هذه العبارة؟ (بِتَوْفِيقِ اللَّهِ) (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ
اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ-).
{من أنَّ الهداية من الله}.
الهداية من الله، وكذلك التوفيق من الله، فالمهتدي من هداه الله، والموفَّق من
وفَّقه الله، ولهذا المسلم يستعين بربه -عزَّ وجلَّ- في أموره كلِّها، إذا سمع
المؤذِّن يُنادي "حي على الصلاة، حي على الفلاح"، يقول: "لا حول ولا قوَّة إلَّا
بالله"، فلا حول ولا قوَّة لنا إلَّا بالله تبارك وتعالى، ولهذا المصنِّف ابتدأ هذه
العقيدة بهذا التنبيه المهم: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ
بِتَوْفِيقِ اللَّهِ-)، فهذا كلُّه بتوفيق الله -تبارك وتعالى- وهدايته، ومعونته.
(إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ)، الواحد من أسماء الله -عزَّ وجلَّ-
الحسنى، وقد سمَّى الله -عزَّ وجلَّ- نفسه بهذا الاسم في مواضع عديدة من كتابه، كما
قال -عزَّ وجلَّ- عن يوسف عليه السلام، أنَّه قال: ﴿أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ
خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [يوسف: 39]، فالواحد من أسماء الله
تبارك وتعالى، وأيضًا قال -سبحانه وتعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [البقرة:
163]، والله عزَّ وجلَّ قد أثنى على نفسه بالوحدانية: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا
إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18]، ﴿شَهِدَ اللَّهُ
أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾، فأثنى على نفسه بالوحدانية، والوحدانية من صفات
الله -تبارك وتعالى- مشتقَّةٌ من اسمه الواحد.
وهنا قاعدةٌ مهمَّةٌ لك يا طالب العلم، وهي: أنَّ كلَّ اسمٍ من أسماء الله، يتضمَّن
صفةً لله -تبارك وتعالى- فالواحد من أسماء الله، والواحد دلَّ على صفة الوحدانية
لله -تبارك وتعالى- فهو واحدٌ لا شريك له، لا في ربوبيَّته، ولا في ألوهيَّته، ولا
في أسمائه، وصفاته، ولهذا قال الإمام الطحاوي: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ
-مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ- إِنَّ اللَّهَ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ)، كما
وصف نفسه بذلك في كتابه في مواضع عديدة، ووصفه بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم.
إِذَنْ، فيه إثبات الواحد، من أسماء الله، وإثبات الوحدانيَّة لله -تبارك وتعالى-
ونفي الشريك عن الله -تبارك وتعالى- وهذا يشمل نفي الشريك في الربوبيَّة، ونفي
الشريك في الألوهيَّة، ونفي الشريك في الأسماء والصفات.
هل يُقال: الألوهية؟ أو يُقال: الإلهية؟
كلاهما صحيح؛ لأنَّ ألَّه يؤلِّه ألوهةً، وإِلَهَةً، فلا إشكال إذا قال: توحيد
الإِلَهِيَّة. أو قيل: توحيد الألوهية.
وهذا التوحيد أيضًا يُسمَّى بتوحيد العبادة؛ لأنَّ الألوهيَّة معناها العبادة،
فالله المألوه المعبود، ولهذا "لا إله" أي: لا معبود.
ثم قال: (وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ).
والمعنى: نقول في توحيد الله، معتقدين بتوفيق الله، إنَّ الله -عزَّ وجلَّ- لا شيء
مثله، فالواو هنا عطفٌ لِمَا سبق؛ أي: نقول كذلك في توحيد الله، معتقدين بتوفيق
الله، إنَّ الله -عزَّ وجلَّ- لا شيء مثله، وما الدليل على هذا المعتقد؟
- {قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾
[الشورى: 11]}.
نعم، فهذه الآية صريحةٌ في نفي المثيل، وأهل السنة والجماعة وسط بين فِرق الأمَّة،
فيُثبتون لله ما أثبته لنفسه على الوجه اللائق به ، وينفون عن الله ما نفاه عن نفسه
من مماثلة المخلوقين، وهذه الوسطيَّة في باب الأسماء والصفات بين الغلاة والجفاة،
بين المعطِّلة النفاة، إمَّا تعطيلًا كلِّيًّا، أو تعطيلًا جزئيًّا.
هناك مَن نفى الأسماء والصفات، وهناك مَن أثبت الأسماء، ونفى جميع الصفات، وهناك من
أثبت بعض الصفات، ونفى بعضها، فهذا التعطيل إمَّا كلي أو جزئي.
أهل السُّنَّة يُثبتون لله الأسماء والصفات التي أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله
صلى الله عليه وسلم، وينفون مع ذلك عن الله ما نفاه عن نفسه، على وجه العموم، أو
على وجه الخصوص؛ ووجه العموم كما قال هنا: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:
11].
وهذه الوسطيَّة في باب الأسماء والصفات -أيضًا- في كلِّ مسائل الدين، هم وسط بين
الغالي والجافي؛ ففي باب القدر وسطٌ بين الجبريَّة والقَدَرِيَّة، وفي باب الإيمان
وسطٌ بين الوعيديَّة والمرْجِئَة، وفي باب الصحابة وسطٌ بين الرَّوافض والنَّواصب،
وفي باب الخوف والرجاء والوعد والوعيد وسطٌ بين الوعيديَّة والمرجئة، فهم في كلِّ
بابٍ من أبواب الدين وسطٌ بين الغالي والجافي، وما أمر الله بأمرٍ إلَّا وللشيطان
فيه نزغتان: إمَّا غلو، أو جفاء، تجد الغالي، وتجد الجافي، فهم في هذا الباب وسطٌ
بين الغلاة الممثِّلة، المجسِّمة -المشبِّهة- وبين النُّفاة المعطّلة المحرِّفة.
إذا قيل: (وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ). هل هو نفيٌ مجرَّد، أو يتضمَّن ضدَّه من الكمال؟
والجواب: أنَّه يتضمَّن ضدَّه من الكمال؛ فإذا نفيت المثيل فمعنى ذلك إثبات
الوحدانية لله -تبارك وتعالى- ولهذا النفي ليس نفيًا محضًا؛ بل يتضمَّن إثبات ضدِّه
من الكمال.
(وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ)؛ التمثُّل نوعان: إمَّا تمثيل الخالق بالمخلوق، بمعنى
تشبيه صفات الخالق بصفات المخلوق، أو العكس، تشبيه المخلوق بالخالق، كيف؟
كيف تشبيه المخلوق بالخالق؟
يُعطَى المخلوق صفاتٍ لا تليق إلَّا بالخالق، كأن يُوصف المخلوق بصفاتٍ لا تليق
إلَّا بالله -تبارك وتعالى- كما فعل المشركون؛ وصفوا معبوداتهم باللَّات والعزَّى
ومناة، أو إعطاء المخلوق خصائص لا تليق إلَّا بالخالق؛ كعلم الغيب، تفريج الكروب،
مغفرة الذنوب، وهداية القلوب، هذه لا تصلح إلا للخالق، فإعطائها صفات الربوبيَّة،
أو صفات الألوهيَّة للمخلوق، هذا يقتضي تشبيه المخلوق بالخالق، فلا يعلم الغيب
إلَّا الله، ولا يفرِّج الكروب إلَّا الله، ولا يغفر الذنوب إلَّا الله، ولا يهدي
القلوب إلَّا الله، فطلبها من المخلوقين أحياءً كانوا أو أمواتًا فيه تشبيه المخلوق
بالخالق، حتى لو كان هذا المخلوق من الملائكة أو من المرسلين.
لهذا صفات الخالق تليق به، وخصائصه تليق به -تبارك وتعالى- فمن أعطى المخلوق صفات
الخالق؛ كالأسماء والصفات، أو حقوق الخالق؛ كصفات الربوبية، يخلق ويرزق ويُحيي
ويُميت، أو صرف له العبودية، التي لا تصلح إلَّا لله؛ كذبح، ونذر، وطواف، فمعنى ذلك
أنَّه شبَّه هذا المخلوق بالخالق، حتى ولو كان هذا المخلوق ملك مقرَّب، أو نبيٌّ
مرسل، ولهذا انظروا إلى ما يُقال في النبي -عليه الصلاة والسلام: هو عبد الله
ورسوله، فهو عبدٌ لا يُعبد، ورسولٌ لا يُكذَّب، فلا يُرفع عن مقام العبوديَّة،
ومقام النبوَّة والرسالة، إلى مقام الألوهيَّة أو مقام الربوبيَّة، ولا يحط من مقام
النبوَّة والرسالة إلى أن يكون مخلوقًا كسائر البشر؛ بل يُنزَّل عليه الصلاة
والسلام المنزلة اللائقة به، ولهذا لماذا نقول في محمد -عليه الصلاة والسلام- وفي
عيسى قبله: عبد الله ورسوله؟ عبدٌ لا يُعبد؛ هذا ردٌّ على الغلاة، ورسول لا
يُكذَّب؛ ردٌّ على الجفاة، هذه المنزلة اللائقة به، النبوَّة والرسالة، إذا رُفع عن
هذه المنزلة، فأُعطي صفات الربوبيَّة فمعناه غلو، وتشبيه للمخلوق بالخالق، أو عُبد
من دون الله، وحُلف به من دون الله، فمعناه -أيضًا- أنَّك صرفت للمخلوق خصائص
الخالق وهي العبوديَّة والألوهية.
فإِذَنْ، التشبيه والتمثيل إمَّا تشبيه الخالق بالمخلوق، أو تشبيه المخلوق بالخالق،
فالتمثيل نوعان: تشبيه المخلوق بالخالق؛ يعني إعطاء المخلوق خصائص لا تكون إلَّا
للخالق، صفات وأسماء لا تليق إلَّا بالخالق، أو خصائص الربوبيَّة التي لا تليق
إلَّا بالخالق، أو تُصرَف له العبادة التي هي من حقِّ الله -تبارك وتعالى- فمعنى
ذلك أنَّك شبَّهت المخلوق بالخالق أو العكس، تُشبِّه الخالق بالمخلوق، والله -تبارك
وتعالى- ليس كمثله شيء، ولهذا قال: (وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ)، يشمل نفي التمثيل من
الجانبين؛ من جانب تشبيه الخالق بالمخلوق أو تشبيه المخلوق بالخالق، فالله -تبارك
وتعالى- ليس كمثله شيء.
قال سبحانه وتعالى في سورة الشورى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ﴾. هذه الآية تُعتبر قاعدةً عند أهل السُّنَّة والجماعة في باب الأسماء
والصفات، وهذه القاعدة يُمكن أن يُستنبط منها العديد من القواعد، وانتبه لها
جيِّدًا من هذه الآيات.
القاعدة الأولى التي تستنبطها من هذه الآيات: أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- جمع في هذه
الآية بين النفي والإثبات، أين النفي؟ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، والإثبات
﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾؛ فالله -تبارك وتعالى- قد جمع فيما سمَّى ووصف نفسه
بين النفي والإثبات، مثل كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" مكوَّنة من ركنين، وهما:
النفي والإثبات؛ النفي في قول: "لا إله". والإثبات في قول: "إلا الله".
لماذا الجمع بين النفي والإثبات؟ لأنَّ النفي وحده ليس بتوحيد، لو أن إنسان أخذ
يمدح ويُعدِّد ويُفصِّل في النفي، هل هذا توحيد؟ ليس بتوحيد، والإثبات وحده لا ينفي
الشريك.
إِذَنْ، متى يكون التوحيد؟ عندما تجمع بين النفي والإثبات مثل كلمة التوحيد، لو
قال: "لا إله" وسكت، هل هذا توحيد؟ لا. هذا معناه نفي، لو قال الله موجود والله
خالق والله يستحقُّ العبادة، هل هذا توحيد؟ لا. لماذا؟ لأنَّه لا ينفي الشريك،
إِذَنْ متى يكون التوحيد؟ إذا جمع بين النفي والإثبات "لا إله إلا الله"، أمَّا لو
نفى فمعناه أنَّ هذا ليس بتوحيد؛ هذا إنكار، لو عبد الله وعبد غيره معه، أيضًا ليس
بتوحيد، ولهذا المشركين في زمان النبوَّة هل كانوا يعبدون الله أو لا يعبدون الله؟
كانوا ينذرون وكانوا يحجُّون ويُعظِّمون البيت، وفي الشدائد يلجئون إلى الله، وإذا
ركبوا الفلك دعوا الله، لماذا هذه العبادة ما نفعتهم؟ لأنَّهم جعلوا مع الله
شريكًا، هذا ليس بتوحيد؛ التوحيد هو أن تفرد الله -تبارك وتعالى- بالعبادة، لذلك
لاحظوا في هذه الآية كيف جمع الله فيها بين النفي والإثبات، مثل كلمة التوحيد جمع
الله فيها بين النفي والإثبات؛ فالنفي وحده ليس بتوحيد والإثبات وحده لا ينفي
الشريك، فلا يكون التوحيد إلَّا بالجمع بين النفي والإثبات، كما قال تعالى هنا:
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
القاعدة الثانية: النفي مقدَّمٌ على الإثبات، ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير،
مثل كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، قال أهل العلم: لأنَّ التخلية قبل التحلية؛
يعني تُنزِّه الخالق أوَّلًا ثم تصفه بصفات الكمال.
القاعدة الثالثة: النفي مجمل والإثبات مفصَّل ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، هذا نفي
مجمل والإثبات مفصَّل، وهذا أبلغ في الثناء على الله، وهذه طريقة القرآن وطريقة
النبي عليه الصلاة والسلام في سنَّته، النفي المجمل أعظم في الثناء وأبلغ في الثناء
على الله، والثبات مفصَّل، عكس طريقة المتكلِّمين؛ تجد النفي يفصلون فيه، والإثبات
ينفون الصفات أو يئوِّلونها عكس طريقة القرآن تمامًا، بينما طريقة القرآن كما
لاحظتم هنا النفي مجمل والإثبات مفصَّل، وهذا أبلغ في الثناء على الله -تبارك
وتعالى.
القاعدة الرابعة: في الجمع بين النفي والإثبات دليلٌ على أنَّه لا يلزم من النفي
التعطيل، لماذا؟ لأنَّ الله قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ﴾ التنزيه ونفي الصفات لا يلزم منه التعطيل؛ لأنَّ الله -عزَّ وجلَّ-
قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ فتنزيه الخالق ونفي
المماثلة لا يلزم منه التعطيل.
القاعدة الخامسة: لا يلزم من الإثبات التمثيل، ولهذا إذا أثبت أنَّ الله سميع بصير،
هل يلزم من الإثبات التمثيل؟ لا يلزم، فهذا دليلٌ لك على أنَّ أهل السُّنَّة
والجماعة لمـَّا أثبتوا لله ما أثبته لنفسه لا يلزم من هذا الإثبات التمثيل؛
لأنَّهم يُثبتون إثباتًا من غير تمثيل، ويُنزِّهون تنزيهًا من غير تعطيل، فلا يلزم
من التنزيه ونفي المماثلة أنَّك تُعطِّل الخالق من صفاته، ولا يلزم من إثبات
الأسماء والصفات أنَّك تُشبِّهه، حتى يأتي من يقول: إذا أثبتَّ أنَّ الله سميعٌ
بصيرٌ أنت تُمثِّل، أنت تُجسِّم. ليس صحيحًا، هذا فهمٌ خاطئٌ منك؛ بل نحن نُثبت
أنَّه سميعٌ سمعًا يليق بجلاله، وبصيرٌ بصرًا يليق بجلاله، لأنَّه القائل في نفس
الآية: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، فسمعه وبصره لا
يلزم منه المماثلة لأنَّ الله جمع بينهم.
فإِذَنْ، التنزيه عن مماثلة المخلوقين لا يلزم أنَّك تنفي الأسماء والصفات
وتُعطِّل، والإثبات لا يلزم منه التمثيل، فأهل السُّنَّة يُثبتون إثباتًا من غير
تمثيل، ويُنزِّهون تنزيهًا من غير تعطيل، لا يغلون في الإثبات إلى حدِّ التمثيل،
ولا يغلون في التنزيه إلى حدِّ التعطيل، حسنة بين سيئتين؛ سيئة الإفراط وسيئة
التفريط، وهذا في كلِّ بابٍ من أبواب الدين، فلا يغلون مثلًا في إثبات مراتب القدر
إلى حدِّ الجبر، ولا يغلون في إثبات المشيئة للعبد إلى حدِّ اعتقاد أنَّه مستقلٌّ
بأفعاله عن مشيئة الله؛ بل يُثبتون هذا وهذا كما قال -عزَّ وجلَّ: ﴿لِمَن شَاءَ
مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ
الْعَالَمِينَ﴾ [التكوير: 28، 29]، وهكذا حتى في باب المعاملات والتعاملات، ولهذا
هم يتعاملون مع الخلق بما أوجب الله، فلا يغلون إلى حدِّ الخروج عمَّا أمر الله في
رفع مقام الناس إلى مقام الربوبيَّة والألوهيَّة، أو أحيانًا تعدي ما حدَّه الله
-عزَّ وجلَّ- ولهذا الطاغوت هو ما تجاوز به العبد حدَّه؛ فالإنسان يقف حيث أمره
الله -تبارك وتعالى- لا إفراط ولا تفريط.
القاعدة السادسة: في الآية ردٌّ على المعطِّلة والمحرِّفة المئوِّلة، فالمعطلة
نُفاة الصِّفات، إمَّا تعطيلًا كليًّا أو جزئيًّا، وقوله ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، هذا ردٌّ على من يُعطِّل الصفات، أو يُحرِّف معانيها،
والتحريف نوعٌ من التعطيل، وإن كانوا هم أحيانًا يُسمُّونه تفويضًا، وتفويض المعاني
هو تعطيل؛ هو تعطيلٌ لكلام الله -تبارك وتعالى.
فالآية فيها ردٌّ على المعطِّلة، لقوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
شُبْهَتُهُم: شبهة هؤلاء يقولون: لو أثبتنا السمع والبصر لزم منه التشبيه. هل هذا
بلازم؟ لماذا ليس بلازم؟ لأنَّ الله قال في الآية نفسها: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ﴾، فنقول: أثبت لله السمع والبصر على الوجه اللائق به، دون تشبيه، فلا يلزم
من أثبت له السمع والبصر أن يكون مثَّل لأنَّ الله يقول: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
القاعدة السابعة: فيها ردٌّ على المشبِّهة الممثِّلة، أين؟ في قوله: ﴿لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، هؤلاء المشبِّهة الممثِّلة المجسِّمة لجؤوا إلى ذلك فرارًا من
ماذا؟ فرارًا من التعطيل، قالوا: لو أنَّنا نزَّهنا الخالق فيلزم من التنزيه
التعطيل، نقول: ليس بلازم. فلما أرادوا الفرار من هذا المعنى؛ وقعوا في ضدِّه وهو
التشبيه والتمثيل.
ولاحظوا كلَّ واحدٍ من هؤلاء وقع ممَّا فرَّ منه، هم طرفي نقيض، أو لا؟ وكلٌّ منهم
نظر للآية بعينٍ عوراء؛ المعطِّلة نظروا للشطر الأوَّل وأهملوا الشطر الثاني،
والممثِّلة نظروا للشطر الثاني وأهملوا الشطر الأول، هو كلام الله، هي آيةٌ واحدة،
لا تنظر إليها بعينٍ عوراء.
المشبِّهة الممثِّلة أرادوا الفرار من التعطيل فوقعوا في التشبيه، فوقعوا فيما
فرُّوا منه، لأنَّهم عطَّلوا الخالق عن صفاته اللائقة به.
المحرِّفة المعطِّلة فرُّوا من التشبيه، فوقعوا في التعطيل، فوقعوا فيما هو أسوأ
ممَّا فرُّوا منه؛ لأنَّهم فرُّوا من تشبيهه -كما يزعمون- بالمخلوقات، فشبَّهوه
بالمعدومات.
فكلٌّ منهم وقع فيما فرَّ منه، وكلٌّ منهم خالف هذه الآية ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
القاعدة الثامنة: قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
شيءٌ نكرةٌ في سياق النفي، والقاعدة عند أهل العلم: النكرة في سياق النفي والنهي
والشرط والاستفهام، تُفيد العموم.
فما العموم هنا الذي أفادته هذه الآية؟ أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ﴾، هذا عامٌّ ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، وبالتالي لا يُماثله أحدٌ من خلقه،
لا مَلَكٌ مقرَّب، ولا نبيٌّ مرسل، ولا ما دون ذلك من سائر الخلق.
القاعدة التاسعة: في الآية إثبات اسمين من أسماء الله الحسنى، وهما: السميع
والبصير.
القاعدة العاشرة: فيها إثبات ثلاث صفاتٍ من صفات الله، كيف؟ أين الصِّفات الثلاث؟
في الآية إثبات ثلاث صفات من صفات الله، الصفة الأولى: صفة السمع، والصفة الثانية:
صفة البصر؛ لأنَّه ما من اسمٍ إلَّا ويتضمَّن صفة، وهاتان الصفتان صفتان
ثبوتيَّتان.
الصفة الثالثة: صفة منفيَّة، وهي نفي المثيل، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.
ولهذا، الصفات: صفات ثبوتيَّة، وصفات منفيَّة.
المثل والند والكفء كلُّها ألفاظ متقاربة، تُفسَّر بالشبيه والنظير.
هذه عشر قواعد مستنبطة من هذه الآية، وقد تُستنبَط منها قواعد أخرى تتفرَّع عن هذه
القواعد في باب الأسماء والصفات فانتبهوا لها جيِّدًا، نفعنا الله وإيَّاكم بالعلم
النافع والعمل الصالح.
وباب الأسماء والصفات من أجلِّ أبواب العقيدة؛ لأنَّ هذا الباب يتعلَّق بالخالق
-تبارك وتعالى- والنبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ للهِ تِسْعَةً
وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ»[8]، ما معنى أحصاها حتى
ينال هذا الفضل العظيم؟
{معنى أحصاها: أي حَفِظها وعَلِمها وعَمِل بها}.
حفظها، وعرف المعنى، وعمل بالمقتضى، ولهذا مثل هذه القواعد تُعينك على حفظها ومعرفة
المعاني، وكذلك تُعينك على اللوازم والمقتضيات، فيكون لديك هذا الفقه، وهذا هو
الفقه الذي أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله: «وَمَنْ يُرِدِ اللهٌ بِهِ خَيْرًا
يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»[9].
قال الإمام الطحاوي: (ولا شيء يعجزه)؛ أي أنَّ أهل السنة والجماعة يقولون في توحيد
الله معتقدين بتوفيق الله: إنَّ الله -عزَّ وجلَّ- لا شيء يُعجزه.
ما الدليل على هذا المعتقد؟
قوله -تبارك وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي
السَّمَاوَاتِ ولَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرً﴾ [فاطر: 44]،
فلا يُعجزه شيءٌ لكمال قدرته -تبارك وتعالى.
وضد هذا النفي يتضمَّن صفات الكمال، يتضمَّن كمال قدرته، ويتضمَّن كماله المطلق،
فلا يعجزه شيء ولا يحتاج إلى أحد.
أيضًا فيه التنزيه العام؛ فلا يعجزه شيء، كالتنزيه في قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ﴾، والقاعدة في باب الأسماء والصفات التي مرَّت معنا، أنَّ النفي ليس نفيًا
محضًا؛ بل يتضمن ضدَّه من صفات الكمال.
ولهذا نفى الله -عزَّ وجلَّ- عن نفسه صفات النقص، فلا تأخذه سِنَةٌ ولا نوم، ونفى
عن نفسه الظلم، ونفى عن نفسه التعب، ﴿وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ﴾ [ق: 38]، فهو
منزَّهٌ -عزَّ وجلَّ- عن صفات النقص وصفات العجز؛ لكمال قدرته -تبارك وتعالى.
ولهذا أهل السُّنَّة والجماعة يقولون معتقدين في توحيد الله بتوفيق الله: إنَّ الله
-عزَّ وجلَّ- لا شيء يُعجزه لكماله -تبارك وتعالى.
أيضًا في هذا ردٌّ على القدرية، لأنَّ القدرية عندهم يعتقدون أنَّ العبد مستقلٌّ
بأفعاله مستقلٌّ بمشيئته عن قدرة الله -تبارك وتعالى.
فنقول: الله -عزَّ وجلَّ- لا يُعجزه شيء، فما يحصل في هذا الكون بما في ذلك أفعال
العباد فهي في علم الله وكتابته ومشيئته وخلقه، فلا يُعجزه شيءٌ خلافًا لعقيدة
القدرية المعتزلة، والله يقول: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾
[التكوير: 29]. فمشيئة العباد هي واقعةٌ بمشيئة الله -عزَّ وجلَّ- فلا يُعجزه شيء.
قوله: (ولا إله غيره)؛ وهذه هي كلمة التوحيد التي دعا إليها جميع أنبياء الله
-تبارك وتعالى- فكلُّ الأنبياء دعوا إلى هذه الكلمة، كما ذكر الله -عزَّ وجلَّ- في
سورة الأعراف وفي سورة هود وفي غيرها من المواضع عن جميع أنبيائه، ففي سورة الأعراف
في مواضع كثيرة لمـَّا ذكر الله قصَّة نوحٍ وقصة هودٍ وقصة صالحٍ، ذكر عن كلِّ
نبيٍّ من هؤلاء الأنبياء أنَّه كان يقول لقومه: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ
إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾. وكلُّ الأنبياء دعوا إلى التوحيد وإلى هذه الكلمة، ويدلُّ على
ذلك عموم قوله -تبارك وتعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا
نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]،
وقوله -تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ
اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، في سورة الأعراف يقول
-عزَّ وجلَّ- عن نوحٍ إنَّه قال لقومه: ﴿يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم
مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 59]، وهكذا ذكر عن هود: ﴿يَا قَوْم اعْبُدُوا
اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 65]، وكذلك عن شعيب: ﴿يَا
قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾ [الأعراف: 73]، وإلى غير
ذلك في مواضع عديدة، فكلُّ الأنبياء دعوا إلى كلمة التوحيد لا إله إلا الله، فهي
دعوة الرسل جميعًا، أوَّلًا وقبل كلِّ شيء.
في قوله -عزَّ وجلَّ- عن أنبيائه أنَّهم قالوا لأقوامهم: ﴿اعْبُدُوا اللَّهَ مَا
لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾.
وقوله هنا: (لا إله غيره): تضمَّنت ركني كلمة التوحيد، لا إله هذا هو النفي، غيره
هذا هو الإثبات، كقول: لا إله إلا الله.
وكما تقدَّم أنَّ النفي وحده ليس بتوحيد، والإثبات دون نفيٍ لا ينفي الشريك فلا
يكون التوحيد إلَّا بالجمع بين النفي والإثبات.
﴿يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ﴾، هل المقصود هنا هو
نفي وجود الآلهة، أو نفي لحقيقتها؟ وهكذا إذا قال المسلم: لا إله إلا الله، هل
المعنى نفي وجود الآلهة المعبودة، أو المعنى نفي حقيقة هذه الآلهة المعبودة؟
- هل هو نفيٌ للوجود أو نفيٌ للحقيقة؟
- {هنا نفيٌ للحقيقة}.
- لماذا قلت: نفيٌ للحقيقة. وليس نفيًا للوجود.
- {لأنَّه يوجد آلهة}.
- لأنَّها موجودة أو لا؟
- {موجودة}.
- توجد معبودات، حقيقةً هي موجودة، ولكن هذه المعبودات باطلة، فإِذَنْ النفي
هنا نفيٌ للحقيقة، بناءً على هذا المعنى، فما معنى لا إله إلا الله؛ لا معبود بحقٍّ
إلا الله.
هذه المعبودات موجودةٌ في القديم وفي الحديث التي تُعبد من دون الله، وتُعبد مع
الله -تبارك وتعالى.
إِذَنْ، النفي في كلمة التوحيد هو نفيٌ لحقيقتها، وإلا هي موجودةٌ وتُعبد من دون
الله ولا حول ولا قوَّة إلا بالله.
إِذَنْ قوله: (لا إله غيره)؛ يعني لا إله يستحقُّ العبادة ولا إله معبود بحقٍّ إلا
الله -تبارك وتعالى- أمَّا وجود هذه المعبودات فهي موجودةٌ في كلِّ زمانٍ ومكانٍ،
ولا حول ولا قوَّة إلا بالله.
تأمَّلوا قول الإمام في الجمل التي مرَّت معنا: (ولا شيء مثله، ولا شيء يُعجزه، ولا
إله غيره)؛ هذا تفصيلٌ لما يعتقده أهل السنة والجماعة، ويعتقده فقهاء الملَّة في
توحيد الله، في هذه الجمل الثلاث إشارة إلى أنواع التوحيد، كيف؟
- (لا شيء مثله)؛ أيُّ توحيد هذا؟
{لا شيء مثله توحيد الأسماء والصفات، ولا شيء يعجزه هذا توحيد الربوبية، ولا إله
غيره هذا توحيد العبادة}
أشار في هذه العبارات الثلاث إلى أنواع التوحيد الثلاثة.
والتوحيد بهذا التقسيم هل هو تقسيم اصطلاحي، تقسيم حادث، أو هو تقسيم شرعي؟، لأن
هناك من يقول: هذا التقسيم ما الدليل عليه؟ هذه أمور محدثة، بل ربما ادعى بأنها
أمور مبتدعة، فيقال له بأن هذا التقسيم هو تقسيم ماذا؟
{تقسيم قرآني، دلت عليه السنة}.
بالاستقراء والتَّتبُّع، كيف تجيب من يُنكر هذا التقسيم.
{نُشير إلى الآية التي قال الله سبحانه وتعالى: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾ [مريم: 65]}.
- أين وجه الدلالة فيها؟
- {وجه الدلالة قوله تعالى: ﴿رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَ﴾}.
- هذا توحيد ماذا؟
- {توحيد الربوبيَّة}.
- ﴿فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ﴾.
- {هذا توحيد الألوهيَّة}.
- ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّ﴾.
- {هذا توحيد الأسماء والصفات}.
بل لاحظوا في أوَّل سورة في القرآن، وفي آخر سورة، في أوَّل سورة الفاتحة،
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [الفاتحة: 2، 3]،
أنواع التوحيد الثلاثة أو لا؟ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ ولهذا يُقال: توحيد ألوهية،
﴿رَبِّ الْعَالمِينَ﴾ توحيد ربوبية، ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ الأسماء والصفات.
فنقول في أوَّل المصحف؛ بل في أوَّل سورةٍ في أوَّل آيةٍ دليلٌ على هذا التقسيم.
وفي آخر سورةٍ في سورة الناس، في قوله -تبارك وتعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ﴾ [الناس: 1- 3]، بربِّ الناس، هذا
توحيد ماذا؟ توحيد ربوبيَّة، ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾ توحيد الأسماء والصفات، و﴿إِلَهِ
النَّاسِ﴾ توحيد الألوهية أو توحيد العبادة، قلنا لك لأنَّ الألوهية معناها
العبادة.
إِذَنْ هذا التقسيم للتوحيد هو تقسيمٌ شرعيٌّ أخذه أهل السنة بالاستقراء
والتَّتبُّع لنصوص الكتاب والسنة، وليس تقسيمًا مُحْدَثًا كما يدَّعي من يدَّعي من
المخالفين.
ثم هؤلاء المخالفون من يُنكرون على أهل السنة هذا التقسيم، هم أنفسهم يُقسِّمون
التقسيم تقسيمات بدعيَّة لا دلالة عليها، وتجد هذه التقسيمات البدعية هي كلُّها
تنحصر في توحيد الربوبيَّة.
وتنحصر في نفي الأسماء والصفات عن الله -تبارك وتعالى- بينما أهل السنة تجدهم
يعتمدون في العقيدة على كتاب الله وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى ما فهمه
سلف الأمَّة الصالح.
يعتمدون في فهم العقيدة على الكتاب وعلى السنة وعلى فهم سلف الأمَّة، لماذا يعتمدون
فهم سلف الأمة؟ لماذا يعتمدون فهم الصحابة؟ وتجدهم مثلًا في تفسير الآيات يُفسِّرون
القرآن بالقرآن، القرآن بالسنة، ثم بأقوال الصحابة، في فهم الأحاديث يجمعون
الأحاديث ثم يأتون بالأقوال الواردة عن الصحابة، وكبار التابعين، وأئمَّة الدِّين،
تجد ذلك في التفسير، تجد ذلك في شروح الأحاديث، تجد ذلك في كتب العقائد، يبدءون
بالآيات الأحاديث ثم الأقوال، ثم بعد ذلك يأتي استنباط الأحكام، لماذا أهل السنة
يعتمدون على فهم سلف الأمَّة؟
- {لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم عندما أشار إلى حديث الافتراق، قال: «مَا أَنَا
عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»[10]}.
هذا جانب، وأثنى عليهم بأنَّهم هم خير القرون.
أمر آخر: أنَّ الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- هم أهل لغة، وشهدوا التنزيل، وهم
حملة الدين، ورواته، هم حفظة القرآن، أليس هم الذين نقلوا القرآن للأمَّة، ونقلوا
السُّنَّة للأمَّة، ومن رَوَى أعلم بما رَوَى، ولهذا إذا ثبت أنَّ الرَّاوي صحابيٌّ
هل تسأل عن عدالته، فكلُّهم عدولٌ ثقات، ولهذا فهمهم للآيات وفهمهم للأحاديث ومسائل
الاعتقاد معتبرٌ عند أهل السنة والجماعة، وهذا الذي يميُّزهم في باب الاعتقاد، وهو
أنَّهم يعتمدون في باب العقائد على الكتاب والسنة الصحيحة، على فهم سلف الأمَّة.
وهذا الذي تجدونه في تقرير كتب العقائد، يبدأون بالآيات وربَّما وضعوا الآية هي
عنوان الباب، ثم بعد الآيات يذكرون الأحاديث، ثم بعد الأحاديث تأتي الآثار المروية
عن الصحابة والتابعين وأئمة الدين، بعد ذلك يأتي استنباط الأحكام بعد ذلك.
وتجد أنَّ أهل السنة يجعلون الوحي هو المقدَّم هو الإمام، بعد ذلك يأتي الفهم، أهل
الأهواء تُقرِّر الأحكام ثم تستجلب النصوص بعد ذلك؛ فالنصوص عندهم تابعةٌ، أو
متبوعة؟ تابعةٌ وليست متبوعة، بينما أهل السنة لا؛ النصوص متبوعة، هي المقدَّم.
هم بالعكس، تُقرَّر القواعد العقلية والفلسفية والمنطقية ثُمَّ تُستجلَب النصوص،
النصوص التي تُوافِقهم يأتون بها، تُوافِق ما وافقوه من أحكام، وإذا خالفت فإمَّا
تُردُّ وإلَّا تُأوَّل أو تُحرَّف، فهذا هو الفرق المنهجي في طريقة الاستدلال بين
أهل السنة والجماعة وبين مخالفيهم من أهل الأهواء.
إِذَنْ، المصنِّف هنا في قوله: (ولا شيء مثله، ولا شيء يعجزه، ولا إله غيره) يُشير
إلى أنواع التوحيد الثلاثة.
من أهل العلم من يُقسِّم التوحيد بهذه الطريقة، ومنهم من يُجمل فيجعل توحيد الأسماء
والصفات والربوبيَّة قسمًا واحدًا ويُسمِّي توحيد المعرفة والإثبات: التوحيد
العلمي، ويجعل توحيد الألوهية العبادة قسمًا ثانيًا ويُسمِّيه: التوحيد العملي أو
الطلبي، ولا إشكال في الإجمال والتفصيل لأنَّ النتيجة واحدة، إذا جعلت القسمة ثلاثة
أنواع، أو جعلتنا قسمين، كما هو شأن العلم في أركان الصلاة وشروط الصلاة وواجبات
الصلاة، قد يجملون وقد يفصلون أحيانًا، والنتيجة واحدة في باب الإجمال والتفصيل؛
لأنَّ الجميع قد دلَّت عليه نصوص الكتاب والسنة.
هذا ما يتعلَّق بمعتقد أهل السنة والجماعة في توحيد الله -عزَّ وجلَّ- وفي أنواع
التوحيد، ولذلك أفردوا كتبًا خاصَّةً بمُسمَّى التوحيد؛ فالكتب التي أفردت في
التوحيد هي تُعنَى بتحقيق التوحيد ومعنى كلمة التوحيد، وعنوان التوحيد، لاحظوا
مثلًا في صحيح البخاري، في أوَّل الصحيح ألَّف كتابًا سمَّاه الإيمان، وفي آخر
كتابٍ في الصحيح كتاب التوحيد، ما الفرق بينهما؟ لماذا البخاري ألَّف كتاب الإيمان،
ثم في آخر الصحيح ألَّف كتاب التوحيد؟
- {لأنَّ الإيمان أعمُّ من التوحيد}.
كلٌّ منهما خاص، قد تقول: إنَّ كتب العقيدة هي أعم. كتب العقائد أوسع وأشمل فيها
عموم، بينما كتب الإيمان تتعلَّق بحقيقة الإيمان، بشعب الإيمان، بزيادة الإيمان
ونقصانه، بدخول الأعمال في مسمى الإيمان، في الفرق بين الإسلام والإيمان، والغالب
الرد على المرجئة، الذين يُخرِجون الأعمال عن مسمَّى الإيمان، أو يُخرجون أقوال
اللسان عن مسمَّى الإيمان، أو يُنكرون الزيادة والنقصان، أو تفاضل أهل الإيمان في
الإيمان.
فلهذا تجد كتب الإيمان تتحدَّث عن مسألة أركان الإيمان، وشعب الإيمان، وزيادة
الأيمان، وتفاضل أهل الإيمان في الإيمان، بينما كتب التوحيد مثل كتاب التوحيد في
البخاري والردُّ على الجهمية المعطِّلة، هي تُعنى بتحقيق التوحيد وأنواع التوحيد،
وأحيانًا قد يطلقون في كتب التوحيد ويقصدون توحيد الألوهية، أو يقولون مثلًا:
التوحيد والرد على المعطلة. يقصدون توحيد الأسماء والصفات.
وقد تشمل كتب التوحيد الأنواع الثلاثة، مثل: كتاب التوحيد لابن منده، كتاب التوحيد
لابن خزيمة. فتجد كتب التوحيد تعنى بأنواع التوحيد، وحقيقة التوحيد، وربَّما أحيانا
يُفصِّلون في بابٍ من الأبواب.
تجد أهل العلم في كتبهم على مرِّ التاريخ مرَّةً يُفصِّلون في باب الأسماء والصفات،
ومرَّةً يُفصِّلون في العبودية، تجد -مثلًا- في القرون الثلاثة ربَّما يفصلون في
توحيد الأسماء والصفات، فتجد ثلث الكتاب عن توحيد الأسماء والصفات، بينما تجد في
العصور المتأخِّرة إذا تحدَّثوا عن التوحيد يفصلون في توحيد العبودية، وتوحيد
الألوهية، وذكر حقيقته، وذكر أنواعه، وما يُضاده، وما ينقصه.
- ما الذي جعل المنهج يختلف؟
- {كتب المتقدِّمين في الأسماء والصفات لأن حصل فيها الخلط والتشويش في هذا الباب}.
- أحسنت، فلهذا يفصلون.
- {ففصلوا في هذا الباب، ثم في زمننا أو العصور المتأخِّرة انحصر الاختلاط والتشويش
في توحيد العبادة، فأكثر ..}.
فتجدهم يفصلون في حقيقة توحيد العبادة، أنواع العبادة، ما يُضاد توحيد العبادة،
معنى كلمة لا إله إلا الله، ما ينقص هذا التوحيد، ولهذا تجد هؤلاء العلماء لا
يُصنِّفون لأجل كثرة المصنَّفات؛ وإنَّما يُصنِّفون لحاجة الأمة، فينظر ما الذي
يحتاج العالم الإسلامي، ما الذي يحتاجه المسلمون، فيُصنِّفوا لأجل الحاجة لا لأجل
كثرة المصنَّفات.
ولهذا بارك في كتبهم، للإخلاص، ولأنَّهم قصدوا نفع عباد الله تعالى بهذه
المؤلَّفات، فكتب الله لهذه الكتب القبول، لاحظوا هذا الكتاب من متى؟ من القرن
الثالث إلى اليوم، والأمَّة تُعلِّق وتشرح، فهذا من العلم الذي ينتفع به صاحبه،
ولعلَّ السرَّ في هذا والله أعلم في هذا القبول هو الإخلاص الذي قصده المؤلِّف رحمه
الله، فبارك الله في هذه المؤلَّفات، اسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا وإيَّاكم
مباركين، وأن ينفعنا جميعًا بما نقول ونسمع.
في هذه الحلقة نكون قد انتهينا من التعليق على أنواع التوحيد، نُكمل -إن شاء الله-
التعليق على هذا الكتاب المبارك في الدروس القادمة بإذن الله.. اسأل الله لنا ولكم
التوفيق للعلم النافع والعمل الصالح، وصلِّ اللهمَّ وسلِّم على نبيِّنا محمد.