الدرس الثامن

فضيلة الشيخ أ.د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

7817 12
الدرس الثامن

العقيدة الطحاوية (1)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتَّقين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمدٍ، وعلى آلهِ وأصحابِه وأتباعِه، وعلى كلِّ مَن استمع القول واتَّبع أحسنه، أمَّا بعد:
فأرحبُ بكم أيُّها الأبناء في الدَّرس الثَّامن من دروس العقيدة الطَّحاوية.
أرحبُ كذلك بالأبناء الطُّلاب والطَّالبات المتابعين لدروس البناء العلمي، والذين يتجاوز عددهم أكثر من تسعين ألف طالب وطالبة في شتَّى دول العالم.
وأرحبُ كذلك بالإخوة المشاهدين والمشاهدات عبر البثِّ المباشر والبثِّ المسَّجل لهذه الحلقات العلميَّة في برنامج البناء العلمي، وعبر الأكاديميَّة الإسلاميَّة العالميَّة المفتوحة.
نحن في الدَّرس الثَّامن مِن دروس شرح العقيدة الطَّحاوية، للإمام أبي جعفر الطَّحاوي، اقرأ يا شيخ سعيد.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللمستمعين وللمشاهدين ولجميع المسلمين.
قال أبو جعفر الطَّحاوي -رحمه الله تعالى: (وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى، وَأَنَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِمَامُ الْأَتْقِيَاءِ، وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ، وَحَبِيبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكُلُّ دَعْوَى النُّبوَّة بَعْدَهُ فَغَيٌّ وَهَوَى، وَهُوَ الْمَبْعُوثُ إِلَى عَامَّةِ الْجِنِّ وَكَافَّةِ الْوَرَى بِالْحَقِّ وَالْهُدَى، وَبِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ)}.
أحسنت وبارك الله فيك.
يقول الإمام الطَّحاوي -رحمه الله- في بيان مُعتقد أهل السُّنَّة والجماعة في خصائص النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- وبما نُبَّئ وأُرسِل به: (وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى).
إذا قيل: مَا عَلاقة هذا الجزء في العقيدة الطَّحاوية بما قبله؟
ذكر المُصنِّف -رحمه الله- فيما سبق مُعتقد أهل السُّنَّة والجماعة في توحيد الله -تبارك وتعالى- وأسمائه وصفاته والإيمان بقضائه وقدره، ثم قال هنا: (وَأَنَّ) والواو هنا عطفٌ على مَا سَبَق -على مقول القول- فيكون المعنى: أي: نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ -مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ: إنَّ محمدًا عبده ورسوله. فيكون هذا الجزء مَعطوفًا على ما سبق.
وهذا التَّرتيب جاء به لتحقيق معنى الشَّهادتين، فما تقدم هو تحقيق معنى شهادة أن لا إله إلا الله، ويتحقق ذلك بالإخلاص لله -تبارك وتعالى- والإيمان بأسمائه وصفاته، والإيمان بربوبيَّته، والإيمان بألوهيَّته.
ثم الجزء الثَّاني مِن تحقيق الشَّهادتين، وهو: شهادة أنَّ محمدًا رسول الله، فالإيمان بالنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- هو من الإيمان بالله، فيكون هذا الجزء من العقيدة الطَّحاوية في بيان ما يتضمَّنه الإيمان بشهادة أنَّ محمدًا رسول الله. ومعلومٌ أنَّ الشَّهادتين هما الرُّكن الأوَّل من أركان الإسلام.
فإذا قيل: لماذا جُعلتا ركنًا واحدًا مع أنَّ المشهودَ به متعددٌ؟
{أحسن الله إليك؛ لأنَّ مِن لوازم "لا إله إلا الله" اتِّباع النَّبي صلى الله عليه وسلم، ومن لوازم "لا إله إلا الله" عبادته بما شرع}.
هذا وجه، وأيضًا تحقيق شهادة "أن لا إله إلا الله" هو تحقيق للإخلاص، وتحقيق شهادة "أنَّ محمدًا رسول الله" هو تحقيق للمتابعة، ومعلوم أنَّ العبادة لا تُقبل إلا بهذين الشَّرطين: الإخلاص والمتابعة.
ثم إنَّ من لوازم الإيمان بالله -عزَّ وجلَّ: الإيمان برسالة محمد -عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لأنَّه هو المُبِّلغ عن ربِّه -تبارك وتعالى- ولهذا وجب الإيمان بالنُّبوَّة والرِّسالة، والتَّصديق فيما أخبر، وطاعته فيما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شَرع؛ هذا من لوازم الإيمان بالله -تبارك وتعالى- فلأجل التَّلازم بين الشَّهادتين جُعلتا ركنًا واحدًا، وهو الرُّكن الأوَّل من أركان الإسلام.
والإيمان بشهادة "أن محمدًا رسول الله" صلى الله عليه وسلم يتضمَّن أمورًا كثيرة، منها:
-       الإيمان باسمه -عليه الصَّلاة والسَّلام.
-       الإيمان بما نُبَّئ وأُرسِل به.
-       الإيمان بخصائصه وتصديقه في كل ما أخبر به عن الله -عزَّ وجلَّ- أو عن اليوم الآخر أو عن أشراط الساعة.
-       امتثال ما أمر به، واجتناب ما نهى عنه، واتباع هديه -عليه الصَّلاة والسَّلام.
-       وأن لا يُعبد الله إلا بما شَرعه -عليه الصَّلاة والسَّلام.
أيضًا الإيمان بالنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- يُسأل عنه الميت في القبر، فالميت في قبره يُسأل عن ربه وعن دينه وعن نبيه؛ ولذلك جَعَلَ المُصنِّف -رحمه الله- ما يتعلَّق بالإيمان بالرسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- بعد تحقيق الإيمان بالله -تبارك وتعالى.
وقد وَبَّخَ الله -عزَّ وجلَّ- المشركين بقوله: ﴿أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ﴾ [المؤمنون: 69]، فمعرفة الرسول -عليه الصَّلاة والسَّلام- تتضمَّن هذه الأمور التي ذكرها المُصنِّف هنا، وكذلك ما يتفرَّع عنها مِن مسائل.
وممَّا يتضمَّنه الإيمان بالنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- مَا ذكره المُصنِّف هنا، أنَّه: (عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى، وَأَنَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِمَامُ الْأَتْقِيَاءِ، وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ) إلى آخر ما ذكر.
قوله في بيان معتقد أهل السُّنَّة والجماعة: إنَّهم يشهدون (أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى)، (أَنَّ مُحَمَّدً) هذا الاسم للنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- هو أشهر الأسماء، وقد ورد هذا الاسم في القرآن الكريم.
سؤال للحفظة: كم مرة ورد اسم محمد في القرآن الكريم؟
{أربع مرات}.
نعم في أربعة مواضع:
الموضع الأول: في سورة "آل عمران" في قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ﴾ [آل عمران: 144].
والموضع الثاني: في سورة "الأحزاب" في قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبيينَ﴾ [الأحزاب: 40].
والموضع الثالث: في سورة "محمد" والتي تسمى بسورة القتال، في قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ﴾ [محمد: 2].
والموضع الرابع: في آخر سورة "الفتح" في قوله -عزَّ وجلَّ: ﴿مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ [الفتح: 29].
وسمي بـ "محمد"و" أحمد"  لكثرة محامده، ولكثرة حامديه-عليه الصَّلاة والسَّلام- ولهذا قُرِنَ اسمه في الأذان، والشَّهادة له بعد الشَّهادة لله -تبارك وتعالى- ليرفع الله -عزَّ وجلَّ- ذكره، ويُصلَّى عليه كل أذان.
له  أسماء أخرى، منها:
"الماحي" كما جاء في الصَّحيحين أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِي الْكُفْرَ وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ»[45]، قال الراوي: "والعاقب الذي ليس بعده نبي".
فله أسماء عديدة، وأسماؤه -عليه الصَّلاة والسَّلام- أعلامٌ وأوصاف؛ لأنَّها تدلُّ على المعاني والصِّفات والخصائص التي خُصَّ بها النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام.
قال أبو جعفر في بيان مُعتقد أهل السُّنَّة والجماعة: (أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)، تأمَّلوا كيف بدأ بأولِّ وصفٍ -وهو وصف العبوديَّة- والله -تبارك وتعالى- قد وصف نبيه بهذا الوصف العظيم الجليل في أعلى مقامات التَّشريف في مواضع كثيرة في القرآن الكريم.
وتعتبر ليلة الإسراء والمعراج بالنَّسبة للنَّبي صلى الله عليه وسلم هي أشرف ليلة، فبمَ وصفه الله -عزَّ وجلَّ- في هذه الليلة العظيمة الشَّريفة؟
قال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ [الإسراء: 1] فوصفه الله بالعبوديَّة في مقام التَّشريف.
أيضًا في مقام الوحي، فيقول -تبارك وتعالى: ﴿فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى﴾ [النجم: 10] وهو مقام شريف، وقال -تبارك وتعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرً﴾ [الفرقان: 1].
أيضًا في مقام التَّحدي والإعجاز لهذا القرآن، يقول -عزَّ وجلَّ- متحديًا المشركين: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [البقرة: 23].
وفي مقام الدَّعوة يقول -عزَّ وجلَّ- في وصف نبيه في سورة "الجن": ﴿وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدً﴾ [الجن: 19] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي فيها وصف النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- بأنَّه عبدٌ لله.
ولمَّا قيل له في شدَّة اجتهاده وكثرة عبادته وقيامه لليل: قد غَفَرَ الله لك مَا تقدَّم من ذنبك وما تأخَّر، فقال: «أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورً»[46] فاعترف بأنَّه عبد لله -تبارك وتعالى.
وفي قصَّة حديث الشَّفاعة، أنَّ النَّاس يأتون أولي العزم من الأنبياء يطلبون الشَّفاعة فيعتذرون، فيأتون آدم، ويأتون نوحًا، ويأتون إبراهيم، ويأتون موسى؛ فيعتذرون كلهم، فيأتون عيسى فيقول: «ائْتُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ»[47] وهذا مقام تشريف، فوصف عيسى -عليه السَّلام – محمدًا صلى الله عليه وسلم بهذا الوصف، فقال: «عَبْدًا غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ».
العبادة والعبوديَّة أشرف وصف للإنسان، لماذا؟
لأنَّ العبوديَّة هي الغاية التي مِن أجلها خلق الله الخلق، ومِن أجلها أرسل الرُّسل، ومِن أجلها أنزل الكتب، فقال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]، وقال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، ولهذا وصف الله ملائكته بهذا الوصف: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ﴾ [الأنبياء: 26].
فالعبوديَّة أشرف وصفٍ للإنسان، ولهذا وُصف النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- بهذا الوصف العظيم؛ لأنَّه حقَّق مقام العبوديَّة على جهة الكمال والتَّمام، فهو عبدٌ لله -تبارك وتعالى.
 ولهذا قال في مُعتقد أهل السُّنَّة والجماعة: إنهم يعتقدون (أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى).
وفي وصفه بالعبوديَّة ردٌ على الغلاة في النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- الذين يرفعونه عن مقام النُّبوَّة والرِّسالة ومقام العبوديَّة إلى مقام الألوهيَّة أو مقام الرُّبوبيَّة، فهو عَبدٌ لا يُعبد، ولهذا يوصف بهذا الوصف لمنزلته -عليه الصَّلاة والسَّلام- التي تليق به، فهو حقَّق أعلى مقامات العبوديَّة، فلا يُرفع عن هذا المقام إلى مقام الألوهيَّة فيُعبد من دون الله أو مع الله، أو يُرفع عن مقام العبوديَّة أيضًا إلى مقام الربوبيَّة، فيُعتقد فيه أنَّه يُصرِّف الكون أو يغفر الذُّنوب، أو يكشف الكُروب، فهو -عليه الصَّلاة والسَّلام- عبد لا يُعبد من دون الله، وهو رسول لا يُكذَّب.
فقولنا: "عبد"، ردٌ على الغلاة الذين يغلون فيه -عليه الصَّلاة والسَّلام- ولهذا قال -عليه الصَّلاة والسَّلام: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ»[48]، فهو عبد لا يُعبد من دون الله.
وهكذا يقول المسلمون في عيسى عليه السلام: "ونشهد أنَّ عيسى عبد الله ورسوله"، فهو عبدٌ لا يُعبَد، ورسول لا يُكذَّب، فكونه عبد هذا ردٌّ على الغلاة.
ومَن الذين غلوا في عيسى عليه السلام؟
النَّصارى.
وكونه أي: عيسى عليه السلام رسولًا فيه ردٌ على الجفاة، وهم اليهود الذين كذبوه واتَّهموه واتَّهموا أمَّه، فالمسلمون يعتقدون في عيسى أنَّه عبدٌ لله، ورسولٌ لا يُكذَّب، وهكذا يعتقدون في محمد -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّه عبدٌ لله قد حقَّق مقام العبوديَّة، فلا يُعبَد مِن دون الله، وهو رسولٌ لا يُكذَّب.
ففي هذا ردٌ على الغلاة والجفاة، وأهل الحق -كما تقدم- وسط بين الغالي والجافي، ففي باب الصِّفات وسط بين المعطِّلة والممثِّلة، وفي باب القدر وسط بين الجبريَّة والقدريَّة، وفي مقام النُّبوَّة وسط بين الغلاة في النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- وبين الجفاة، فينزلونه المنزلة اللائقة به -عليه الصَّلاة والسَّلام- فهو عبد الله ورسوله.
ولهذا انظروا ماذا يقول الإمام في هذه العقيدة المباركة في بيان عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة.
يقول: (نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ، مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ: وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ) فهو عبد لا يُعبد صلى الله عليه وسلم.
قوله: (الْمُصْطَفَى) أي: اصطفاه الله -تبارك وتعالى- بالنُّبوَّة، فالنُّبوَّة اصطفاء ومِنَّة مِن الله، فهي ليست عبقريَّة يكتسبها النَّبي.
اصطفى الله -تبارك وتعالى- محمدًا عليه الصلاة والسلام من بين خلقه بالوحي، كما قال -عزَّ وجلَّ: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبيينَ مِن بَعْدِهِ﴾ [النساء: 163].
قال: (وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى) أي: اجتباه الله -تبارك وتعالى- والاصطفاء والاجتباء معانٍ متقاربة جاءت في القرآن الكريم، كما قال -عزَّ وجلَّ: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى﴾ [النمل: 59].
وأيضًا قال -سبحانه وتعالى- في لفظة "الاجتباء": ﴿وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ﴾ [الأنعام: 87].
ولهذا قال: (عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى) اجتباه الله -تبارك وتعالى- أي: اصطفاه.
قال: (وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى) أي: ارتضاه الله -عزَّ وجلَّ- بالرِّسالة، قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ﴾ [الجن: 27]، ولاحظوا كيف أتى المُصنِّف -رحمه الله- بهذه العبارات بهذا التناسب (عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى) فجاء بالاصطفاء، ثم الاجتباء، ثم الارتضاء، فكلُّها معانٍ متقاربة، ولكن جاء بها على جهة التَّرتيب، وهي هكذا مُرتَّبة في الوقوع ومُرتَّبة في الأفضليَّة.
فمن جهة الوقوع: العبوديَّة أولًا، ثم النُّبوَّة، ثم الرِّسالة، فوصف العبوديَّة وصفٌ ملازم له صلى الله عليه وسلم، فهو قد حقَّق أعلى مقامات العبوديَّة لله -تبارك وتعالى.
ثم مَنَّ الله عليه بالنُّبوَّة. والنُّبوَّة مِن النَّبأ وهي: الإعلام والإخبار، فنبَّأه الله بالنُّبوَّة، ونُبِّئ -عليه الصَّلاة والسَّلام- بـ ﴿اقْرَ﴾ [العلق: 1].
ثم بعد النُّبوَّة جاءت الرِّسالة، وهي البعث والتَّبليغ، فجاء بها على هذا التَّرتيب: العبوديَّة، ثم النُّبوَّة، ثم الرِّسالة.
أيضًا من جهة الأفضليَّة: العبوديَّة عامَّة، ثم أخصُّ منها النُّبوَّة، ثم أخصُّ منها الرِّسالة، ولهذا الرُّسل أخص من الأنبياء، والأنبياء أعم.
وفي قوله: (وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى) يشير إلى التَّفريق بين النُّبوَّة والرِّسالة، وبين النَّبيِّ والرَّسولِ، وهذا هو الصَّحيحُ مِن أقوال أهل العلم، أنَّه يوجد فرق بين النَّبيِّ والرَّسول.
ومِن الفروق: أنَّ النَّبي مَن نُبِّئ بشرعٍ سابقٍ، فهو يُجدِّد شريعةً سابقة، ويُرسَل إلى قومٍ موافقين. وأمَّا الرَّسول فإنَّه يُنبَّأ بشرعٍ جديدٍ ودينٍ جديد، ويَنزل عليه كتابٌ جديدٌ، ويكون في الغالب مُرسلٌ إلى قومٍ مخالِفين.
بالمعنى الدقيق: هل النَّبي مُرسل؟
نعم هو مُرسل، ولكن مُرسل إلى قوم مخالفين، ومرسل بشريعة سابقة، إلا أنَّ الرسول أخص؛ لأنَّه ينزل عليه كتاب ويأتي بشريعة جديدة، فبناءً على هذا التَّعريف تكون النُّبوَّة أعم والرِّسالة أخص، ولهذا يقال: كل رسول نبي، وليس كل نبي رسول، ولهذا قال لك: (وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى) فأتى بالنُّبوَّة لأنَّها أعم، ثم قال: (وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى) فتكون الرُّسل أخص من الأنبياء.
والأنبياء مراتب في الفضل، ولهذا قال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبيينَ عَلَى بَعْضٍ﴾ [الإسراء: 55].
والرُّسل أيضًا مراتب في الفضل كما قال -عزَّ وجلَّ: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [البقرة: 253]، والرُّسل أفضل من الأنبياء، وأفضلهم أولو العزم، وهم خمسة: الخليلان وكليم الرحمن، ونوح، وعيسى.
وأفضل الخمسة ثلاثة: الخليلان وكليم الرحمن.
وأفضل الثلاثة اثنان: الخليلان.
وأفضل الاثنين: خاتمهم محمد -صلى الله عليه وسلم.
قال في خصائص النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام: (وَأَنَّهُ خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ) أي: أنَّ الله -عزَّ وجلَّ- خصَّه بهذه الخصائص، والنَّبي صلى الله عليه وسلم له خصائص عديدة، منها: أن الله ختم به الأنبياء، كما دلَّ عليه قول الله -تبارك وتعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبيينَ﴾.
 وعلى هذا فكلُّ دعوة نبوَّة بعده -عليه الصَّلاة والسَّلام- فهي باطلة، وكل من ادعى النُّبوَّة بعده -عليه الصَّلاة والسَّلام، فدعواه باطلة، لقوله -عزَّ وجلَّ: ﴿وَخَاتَمَ النَّبيينَ﴾ فلا نبي بعده، وقد أخبر -عليه الصَّلاة والسَّلام- بأنَّه سيدَّعي النُّبوَّة بعده كذابون ثلاثون[49]، وقد ادَّعاها كثير من المعتوهين، وهذه الدعاوى تقع في كل زمان، وتقع في كل مكان من بعد النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- وغالبًا تحصل من أناس معتوهين، وممَّا يدلُّ على كذبهم ما جاء في كتاب الله -تبارك وتعالى- وفي سنة النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام.
لماذا عبر المُصنِّف -رحمه الله- بهذه العبارة فقال: (خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ) ولم يقل خاتم المرسلين؟ وهذا مبني على التَّفريق السابق.
{قلنا: إنَّ كلَّ رسولٍ نبيٌّ، وليس كلُّ نبيٍّ رسولًا، فبناءً على ذلك لو قال: إنَّه خاتم الأنبياء، فيدخل في الرُّسل}.
يعني: إذا ختم الأعم، فيختم الأخص.
أولًا: استعمل الطحاوي اللفظ الوارد في القرآن ﴿وَخَاتَمَ النَّبيينَ﴾، وهذا لفظ دقيق، وإذا قلنا: إنَّ النُّبوَّة أعم، فإذا خُتِمت النُّبوَّة، خُتِمت الرِّسالة من باب أولى، لكنَّه لو قال: "وخاتم المرسلين"، فهذا معناه أنه ختم الأخص وبقى الأعم، وحينها قد يأتي مَن يدعي النُّبوَّة، فلاحظوا دقة اللفظ في القرآن، قال: ﴿وَخَاتَمَ النَّبيينَ﴾، ولهذا قال لك في معتقد أهل السُّنَّة والجماعة: إنَّهم يعتقدون أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، فلا نبي بعده، فكل دعوة للنُّبوَّة بعده باطلة.
قال: (وَإِمَامُ الْأَتْقِيَاءِ) أيضًا -عليه الصَّلاة والسَّلام- هو إمامٌ، والإمامُ: هو الذي يُقتدى به.
والأتقياء: جمع تقي، وهو مَن امتثل أمر الله واجتنب نهيه، فهو -عليه الصَّلاة والسَّلام إمام الأتقياء؛ لأنَّه حقَّق صفات المتَّقين.
وتأمَّلوا في صفات المتَّقين في كتاب الله تعالى، فالنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- قد حقَّق هذه الصِّفات في أعلى مقاماتها، كما أنَّه حقَّق العبوديَّة في أعلى مقاماتها، فهو أخشى النَّاس، وأتقى النَّاس، وأعلم النَّاس بالله -تبارك وتعالى- كما قال -عليه الصَّلاة والسَّلام.
ما أوَّل وصفٍ للأتقياء في كتاب الله؟
{أحسن الله إليك.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 3]}.
نعم في أول سورة "البقرة" ﴿الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ [البقرة: 1- 3]، النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- حقَّق هذا الوصف في أعلى مقاماته، وتأملوا أيضًا في صفات المتقين في كتاب الله -تبارك وتعالى.
ولهذا لما سُئِلَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها عن خُلُقِ النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- قالت: "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ"[50] فهو القدوة -عليه الصَّلاة والسَّلام- وهو الأُسوَة لجميع الأتقياء، فهو إمام الأتقياء عمومًا.
وبناءً عليه، هل يجوز للمسلم أن يدعو الله أن يجعله للمتقين إمامًا؟
قد يقول قائل: إنَّ المُصنِّف يقول في وصف النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- إنَّه إمام الأتقياء، فهل يجوز لمسلم أن يدعو الله أن يجعله إمامًا للمتقين؟
{نعم، شيخ}.
والدليل؟
{ما ورد في دعاء صفات الرحمن مِن قولهم: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامً﴾ [الفرقان: 74]}.
فيجوز للمسلم أن يدعو الله أن يجعله الله للمتقين إمامًا، أي: قدوة وأسوة، فيتَّصف بصفات الأتقياء ويكون قدوة لمن بعده في هذه الصفات التي جاءت في كتاب الله -عزَّ وجلَّ- والتي يحبها الله، فالله يحب المتقين، والله مع المتقين: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128].
فله أن يدعو الله -عزَّ وجلَّ- أن يجعله للمتقين إمامًا، كما أثنى الله -عزَّ وجلَّ- على عباد الرحمن، وأنهم دعوا الله -عزَّ وجلَّ- بقولهم: ﴿وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامً﴾.
بِمَ تُنال الإمامة في الدِّين؟
{أحسن الله إليك.
تنال الإمامة بالصبر واليقين}.
والدليل؟
{قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24]}.
نعم، أحسنت.
بالصبر واليقين تُنال الإمامة في الدين، الصبر بجميع أنواعه، صبرٌ على طاعة الله، صبرٌ عن معاصي الله، وصبرٌ على أقدار الله، فيُحقِّق هذا المقام العظيم وهذه العبوديَّة التي يكون الجزاء عليها بغير حساب ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10] ويُحقِّق اليقين.
فبهذين الوصفين تكون الإمامة في الدين، ولهذا وُصف النَّبي صلى الله عليه وسلم بأنَّه هو الإمام وهو القدوة: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]، أي: في أوصافه، في هديه، في معاملاته، فهو إمام الأتقياء، لتحقيقه جميع صفات الأتقياء، فكان أسوة للمتقين.
قال: (وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ) هو سيدهم -عليه الصَّلاة والسَّلام- والدليل على هذا قوله -عليه الصَّلاة والسَّلام: «أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[51]، وقال: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدمَ يومَ القيامةِ»[52].
وقوله: (وَسَيِّدُ الْمُرْسَلِينَ) يدلُّ على مراتب الفضل، كما قلنا: إنَّ الرُّسل أفضل من الأنبياء؛ فكذلك الرُّسل بعضهم أفضل من بعض، فوهو سيدهم -عليه الصَّلاة والسَّلام- وأفضلهم.
قوله: (وَحَبِيبُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فيه إثباتُ صفةِ المحبَّة لله، فالله -تبارك وتعالى- يحب مَن يشاء مِن عباده، ويحب ما يشاء مِن الأعمال، ويحب ما يشاء مِن الأزمنة، ويحب ما يشاء مِن الأمكنة، فمن ذلك: أنَّ الله -تبارك وتعالى- يُحب المتقين، ويحب المحسنين، ويحب الصابرين، ويحب المتوكلين، وأحَبُّ الأماكن إلى الله المساجد، وأحَبُّ البلاد إلى الله مكة، وأبغض الأماكن إلى الله الأسواق، وأحَبُّ الأزمنة العشر الأول من ذي الحجة، فالعمل الصالح فيها أحب إلى الله -تبارك وتعالى.
وكذلك من الأعمال، قوله صلى الله عليه وسلم:«أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ، سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ»[53].
 و كذلك من الأعمال، قوله صلى الله عليه وسلم: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ»[54].
ففي هذا إثبات المحبة لله، وهذه المحبة متفاضلة، ولذا لاحظوا أنَّ لفظة "أحب" صيغة تفضيل، كما في قوله صلى الله عليه وسلم «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ»[55]؛ ولهذا لما تقرَّر هذا التَّفضيل عند الصَّحابة؛ كانوا كثيرًا ما يسألون النَّبي صلى الله عليه وسلم عن أحبِّ الأعمال إلى الله، فهو -عليه الصَّلاة والسَّلام- حبيب رب العالمين.
 هذه العبارة التي فيها وصف النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- بأنَّه حبيب رب العالمين، انْتُقِدَ المؤلف فيها. لماذا انْتُقِدَ؟
لأن هذا الوصف عام، فالله يحب الرُّسل ويحب الأنبياء، ويحب الصالحين، ويحب الأتقياء، فليس هناك ميزة يختص به النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قالوا: لو أنَّ المُصنِّف -رحمه الله- قال "وخليل رب العالمين"، لكان أفضل وأدق في التَّعبير. لماذا؟
لأن الخُلَّة خاصَّة، والخُلَّة أعلى درجات المحبَّة، وقد قال الله تعالى في إبراهيم: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلً﴾ [النساء: 125]، وقال -عليه الصَّلاة والسَّلام: «فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى، قَدِ اتَّخَذَنِي خَلِيلًا، كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلً»[56] كما جاء في صحيح مسلم عنه -عليه الصَّلاة والسَّلام.
ولهذا فالأفضل هو التَّعبير بعبارة "وخليل رب العالمين"؛ لأنَّ فيها ميزة وخصوصيَّة للنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- أمَّا المحبَّة فهي عامَّة للأنبياء والرُّسل، وكذلك للصالحين، ولهذا قال النَّبي صلى الله عليه وسلم في علي رضي الله عنه: «لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلٌ يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَوْ قَالَ يُحِبُّ اللَّهَ»[57] كما جاء في الصحيحين.
فهذا فيه إثباتُ محبَّة الله لعليٍّ، ومحبة النَّبي صلى الله عليه وسلم لعليٍّ، ومحبَّة علي رضي الله عنه لله ورسوله، إذن فالمحبَّة عامَّة، فلا خصوصية حينئذٍ، ولهذا لو عبَّر المُصنِّف -رحمه الله- بلفظة "وخليل رب العالمين"، لكانت العبارة أدق لبيان خصائص النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام.
بعض الصُّوفية يردد: حبيب الله. ونقول: هذا التَّعبير فيه نقص في حقِّ النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- لأنَّ قولهم: "حبيب الله"، ليس فيه خصوصية، فالمؤمن حبيب الله، وكذلك كل عبدٍ يحبه الله فهو حبيب الله، ولهذا ترديدهم لمثل هذه العبارات في مدح النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- هذا في الواقع انتقاص للنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لأنَّه لا خصوصية للمحبَّة، بخلاف الخُلَّة ففيها بيانُ الخصوصيَّة للنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام.
قال: (وَكُلُّ دَعْوَى النُّبوَّة بَعْدَهُ فَغَيٌّ وَهَوَى) كل دعوى للنُّبوَّة بعد النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- فهي غيٌّ، والغي هو: الانحراف. والهوى هو اتَّباع النَّفس هواها، فكل دعوى للنُّبوَّة بعده -عليه الصَّلاة والسَّلام- فهي باطلة، وهي إمَّا انحراف وإمَّا هوى وشهوة ممَّن ادَّعى النُّبوَّة.
قال: (وَهُوَ الْمَبْعُوثُ إِلَى عَامَّةِ الْجِنِّ وَكَافَّةِ الْوَرَى) وهذه من خصائصه -عليه الصَّلاة والسَّلام- أنَّه مبعوث إلى عامَّة الجن، قد بُعث -عليه الصَّلاة والسَّلام- للإنس والجن، كما دلَّ على ذلك القرآن الكريم في مواضع كثيرة، منها قوله -تبارك وتعالى- في سورة الجن: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدً﴾ [الجن: 1-  2]، والجن لا يكون منهم رسل، وإنما يكون منهم منذرين، والدليل على ذلك قوله -تبارك وتعالى- في سورة الأحقاف: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ﴾ [الأحقاف: 29].
كذلك هو مرسلٌ لكافَّة الورى، أي للنَّاس عمومًا، وليس خاصًا بالعرب، كما قال الله -تبارك وتعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاس إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعً﴾ [الأعراف: 158]، وقال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾ [سبأ: 28]، وقال: ﴿وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدً﴾ [النساء: 79]، وغيرها من الآيات التي تدل على أنَّه -عليه الصَّلاة والسَّلام- مُرسل إلى كافة الورى، أي: للنَّاس عمومًا، ومرسل للإنس والجن، وهذا العموم من خصائصه التي خصَّ بها -عليه الصَّلاة والسَّلام.
وقد خُصَّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- بخصائص أخرى منها ختم النُّبوَّة، ومنها أنه بعث للناس كافة وكان النَّبي يبعث إلى قومه خاصة.
قد يزعم بعض اليهود وبعض النصارى أنَّ محمدًا -عليه الصَّلاة والسَّلام- بُعث للعرب خاصَّة، فنقول لمن يدعي هذه الدعوى: إذا أثبتُّم أنَّه رسول ثم زعمتم أنَّه خاص بالعرب، فيلزمكم تصديقه فيما أخبر به عن ربه -تبارك وتعالى- كما يُلزمكم طاعته فيما أمر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع.
ولهذا قال -عليه الصَّلاة والسَّلام- كما في صحيح مسلم: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ»[58].
فلهذا اليهود لما كذبوا عيسى -عليه السَّلام- كفروا، والنصارى لما كذبوا محمدًا صلى الله عليه وسلم كفروا، والمسلم يؤمن برسالة موسى وبالكتاب الذي جاء به، ويؤمن برسالة عيسى وبالكتاب الذي جاء به، ويؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم وبالكتاب الذي جاء به: ﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ﴾ [البقرة: 285].
قال: (وَهُوَ الْمَبْعُوثُ إِلَى عَامَّةِ الْجِنِّ وَكَافَّةِ الْوَرَى بِالْحَقِّ وَالْهُدَى، وَبِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ).
 في بيان وصف الدِّين الذي جاء به النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام-، والوحي الذي نزل عليه، فإنه جاء بالحق، وهو العمل الصالح، (وَالْهُدَى) وهو العلم النافع، كما قال الله -تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ [التوبة: 33].
الهدى: هو العلم النافع. ودين الحق: العمل الصالح، فأرسل -عليه الصَّلاة والسَّلام- بالعلم النافع والعمل الصالح، وبالنور الذي جاء به، وهو الوحي، وهو القرآن والأحكام التي جاء بها -عليه الصَّلاة والسَّلام.
كما قال -عزَّ وجلَّ: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ولَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَ﴾ [الشورى: 52]، فهو النُّور وهو الرُّوح التي تحيا به الأبدان، وهو الشِّفاء مِن كلِّ داءٍ.
كذلك هو الضِّياء لمن تمسَّك بالطريق، فهذا وصفٌ لما جاء به النَّبي -صلى الله عليه وسلم- ووصفٌ للقرآن الذي هو الوحي، وكذلك وصفٌ السُّنَّة؛ لأنَّ السُّنَّة وحيٌ من الله -تبارك وتعالى.
قال: (بِالْحَقِّ وَالْهُدَى، وَبِالنُّورِ وَالضِّيَاءِ) فجاء بالعلم النَّافع والعمل الصالح، وهذا هو الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضَّالِّين، المغضوبِ عليهم عندهم علم ولا يعملون به، والضَّالُّون يعملون على جهالة وضلالة، والذين أنعم عليهم جمعوا بين العلم النافع والعمل الصالح، فالنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- بُعث بالحق والهدى وبالنُّور والضياء.
يكون المُصنِّف -رحمه الله- بهذا الجزء قد أنهى ما يتعلَّق بتحقيق شهادة أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخلاصة ما ذُكر فيما يتعلَّق بتحقيقِ هذا الرُّكنِ، ما ذكره في أول العقيدة من عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة، وأنهم يعتقدون أنه: (عَبْدُهُ الْمُصْطَفَى، وَنَبِيُّهُ الْمُجْتَبَى، وَرَسُولُهُ الْمُرْتَضَى) فالإيمان به -عليه الصَّلاة والسَّلام- يتضمَّن الإيمان بهذه الأمور، تؤمن بأنَّه عبدٌ حقَّق أعلى مقامات العبوديَّة في أعلى مقاماته ، فلا يُعبد من دون الله، وهو نبي مجتبى، نبأه الله واجتباه، نبأه بـ "اقرأ" ورسوله المرتضى، أرسله بسورة "المدثر" للجن وكافة الورى.
كذلك تؤمن بالخصائص التي خصَّ بها -عليه الصَّلاة والسَّلام- من كونه إمام الأتقياء، وخاتم الأنبياء، وسيد المرسلين، وخليل رب العالمين.
كذلك ما يتعلق بالإيمان بما جاء به -عليه الصَّلاة والسَّلام- من النُّور والهدى، وكذلك بالحقِّ والهدى والنُّور والضِّياء، وصف الوحي الذي جاء به، ووصف القرآن، وصف الشَّرع الذي جاء به -عليه الصَّلاة والسَّلام.
هذا ما يتضمَّنه الإيمان بالرسول -عليه الصَّلاة والسَّلام.
وكذلك ممَّا يتضمَّنه الإيمان به: الشَّهادة له -عليه الصَّلاة والسَّلام- فهذه الشَّهادة تتضمَّن أمورًا جاءت في الكتاب والسُّنَّة، كالإيمان بخصائصه صلى الله عليه وسلم، وحقوقه، وصفاته، وكذلك في الالتزام بهديه وشرعه.
أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا حبه صلى الله عليه وسلم، وأن يجعلنا من المهتدين بهديه، المتَّبعين لسنَّته، فإنَّ الاتَّباع الحق لسُنَّته -عليه الصَّلاة والسَّلام- هو الحبُّ الحقيقي له -عليه الصَّلاة والسَّلام-، كما قال الله -تبارك وتعالى- في آية المحنة، وتسمى آية المحبة: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران: 31].
نسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل، وأن يجعلنا هداة مهتدين، نسأله -تبارك وتعالى- أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يجعلهم متَّبعين لهدي نبيهم -عليه الصَّلاة والسَّلام- في العقائد والعبادات والأقوال والأفعال، غيرَ ضالِّين ولا مضلِّين.
اللَّهمَّ إنا نسألك حبَّك، وحب مَن يحبُّك، وحبَّ العمل الذي يقربنا إلى حبِّك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى كل من صلى وسلم عليه.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك