بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، والعاقبةُ للمتقين، وأصلي وأسلم
على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وعلى كل من
صلَّى وسلَّم عليه، أمَّا بعد:
فأرحبُ بكم أيُّها الأبناء هنا في الأكاديميَّة الإسلاميَّة العالميَّة
الإلكترونيَّة المفتوحة، وأرحبُ كذلك بالإخوة والأخوات المشاهدين، عبر البثِّ
المباشرِ لهذه الحلقات العلميَّة، وأرحبُ كذلك بالأبناء الطُّلاب والطَّالبات،
المتابعين لدروس البناء العلمي، ومقرَّرِ شرح العقيدة الطَّحاوية.
في هذا الدرس “الثالث”، نواصل على بركة الله الجزء المخصَّص لهذه الحلقة، فليقرأ
الشيخ سعيد.
{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا
محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى: (قَدِيمٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ بِلَا
انْتِهَاءٍ، لَا يَفْنَى وَلَا يَبِيدُ، وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ، لَا
تَبْلُغُهُ الْأَوْهَامُ، وَلَا تُدْرِكُهُ الْأَفْهَامُ، وَلَا يُشْبِهُ
الْأَنَامَ)}.
الإمام الطَّحاوي -عليه رحمة الله- يقول هنا: (قَدِيمٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ
بِلَا انْتِهَاءٍ) بعد ما ذكر -رحمه الله- تنزيه الرَّب -تبارك وتعالى- عَن الشريك،
وعَن مماثلة المخلوقين، ونَزَّهه عَن العَجز والنَّقص، في قوله: (وَلَا شَيْءَ
مِثْلُهُ، وَلَا شَيْءَ يُعْجِزُهُ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ)، وتقدَّم في الحلقة
الماضية الشَّرح والتعليق على هذا الجزء مِن قول الإمام الطحاوي -رحمه الله.
وذكرنا في أثناء الشَّرح أنَّ المُصنف -رحمه الله- أشار بهذه الجمل الثلاث إلى
أنواع التوحيد الثلاثة، (وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ، وَلَا شَيْءَ يُعْجِزُهُ، وَلَا
إِلَهَ غَيْرُهُ)، فكيف دلَّت هذه الجُمل على أنواع التوحيد؟ مَن يجيب منكم؟
{بسم الله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، قال المصنف: (وَلَا شَيْءَ
مِثْلُهُ، وَلَا شَيْءَ يُعْجِزُهُ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ).
قلنا: إنَّ قول المصنف (وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ) يعني: توحيد الأسماء والصِّفات.
وقوله: (وَلَا شَيْءَ يُعْجِزُهُ) يعني: توحيد الربوبية.
وقوله: (وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ) يعني: توحيد الألوهيَّة}.
لقد أشار في هذه الجمل الثلاث إلى أنواع التوحيد.
وتقسيم التوحيد إلى هذه الأقسام الثلاثة، هل هو تقسيمٌ اصطلاحيٌّ حادثٌ؟ أم هو
تقسيمٌ شرعيٌّ؟
{تقسيم شرعي}.
والدليل؟ إذا قلنا: إنَّ التَّقسيم شرعيٌّ، فمعناه أنَّه مأخوذٌ بالاستقراءِ
والتَّتبعِ لنصوصِ الكتاب والسُّنَّة، فكيف دلَّت نصوصُ الكتاب على هذا التَّقسيم؟
{نجد في القرآن الكريم أنَّ الله -سبحانه وتعالى- في سورة الفاتحة يقول: ﴿الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾
[الفاتحة: 2- 4].
الجزء الأول ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، هذا توحيد الألوهية، ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ توحيد
الربوبية؛ ﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ توحيد الأسماء والصِّفات، فهذا دليل التَّقسيم
في أول آية في القرآن الكريم.
كذلك في آخر سورة، ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس﴾ [النَّاس: 1].
{﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس﴾ توحيد الربوبية، ﴿مَلِكِ النَّاس﴾ [النَّاس: 2]
توحيد الأسماء والصِّفات، ﴿إِلَهِ النَّاس﴾ [النَّاس: 3] توحيد الألوهية}.
إذن، هذا التَّقسيم هو تقسيمٌ شرعي، دلَّت عليه نصوص الكتاب بالاستقراء والتَّتبع،
وهي صريحة في هذا التَّقسيم.
ثُمَّ ذَكَرَ هنا ما يجب إثباته للرَّب -تبارك وتعالى- من صفة الأزليَّة
والأبديَّة، فذكر أنَّه -سبحانه وتعالى- (قَدِيمٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ بِلَا
انْتِهَاءٍ)، أي: أنه -تبارك وتعالى- الأول، الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس
بعده شيء.
وهنا لنا وقفات مع هذه العبارة للمصنف:
§ ما مُراد المصنف بهذا الوصف؟ ولماذا قيَّده بهذا القيد؟ فقال: (قَدِيمٌ
بِلَا ابْتِدَاءٍ) ما فائدة هذا القيد؟ (دَائِمٌ بِلَا انْتِهَاءٍ) لماذا أتى بهذا
القيد؟
§ ثم السؤال الآخر: هل "القديم والدائم" مِن أسماء الله الحسنى؟
والجواب:
نقول: إنَّ هذه المعاني، وهي قوله: (قَدِيمٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ بِلَا
انْتِهَاءٍ) دلَّ عليها قول الله -تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ
وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد: 3]، وقد جاء في
الحديث تفسير معنى "الأول"، وتفسير معنى "الآخر" ففي حديث أبي هريرة، قال: كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام، أن يضطجع على شقِّه
الأيمن، ثم يقول: «اللَّهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ وَرَبَّ الْأَرْضِ، وَرَبَّ
الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى
وَمُنْزِلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْفُرْقَانِ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ
كُلِّ شَيْءٍ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ»[11]، الشاهد قوله: «اللَّهُمَّ أَنْتَ
الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ،
وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ
دُونَكَ شَيْءٌ، اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ وَأَغْنِنَا مِنَ الْفَقْرِ».
فالنَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام- بيَّن معنى "الأول"، ومعنى "الآخر"، الذي جاء
في قوله -تبارك وتعالى: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾
[الحديد: 3].
ولذلك يُحمل قول المصنف: (قَدِيمٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ) على "الأول"، و(دَائِمٌ بِلَا
انْتِهَاءٍ) على "الآخر"، فهذا هو مراد المصنف -رحمه الله- مِن هذا الوصف.
"والأول والآخر والظَّاهر والباطن" هذه الأسماء تدل على الإحاطة الزمانيَّة،
والإحاطة المكانيَّة، وأنَّ الله -تبارك وتعالى- محيطٌ بكل شيء، ولهذا قال الله
-تبارك وتعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ
اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطً﴾ [النساء: 126]، فهو -عز وجل- المحيط بكل شيء
عِلمًا وقُدرةً، ورحمةً، وقهرًا، ومِن صفاته -عز وجل- الإحاطة الزمانيَّة، والإحاطة
المكانية.
فيكون مُراد المصنف -رحمة الله عليه- بقوله: (قَدِيمٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ
بِلَا انْتِهَاءٍ) الإحاطة التي دلَّت عليها هذه الأسماء المتقابلة "الأول والآخر
والظاهر والباطن".
وهذان الاسمان "القديم والدائم"، لم يَرِدا في الكتاب والسُّنَّة، ولهذا انتُقِدَ
على المُصنف -رحمه الله- في استعمال مثل هذه الألفاظ التي تَكثر في كُتب المتكلمين،
والقاعدة عند أهلِ السُّنَّة والجماعة تقول: إنَّ الله -تبارك وتعالى- يُوصف بما
وَصَفَ به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ويُنفى عن الله ما نَفاه
عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، وما لم يرد فيه نفي ولا إثبات،
فإنَّه يُتوقف في اللفظ، ويُستفصل في المعنى.
فلهذا لا يُوصَف الرَّب -تبارك وتعالى- بالقديم، ولا يُسمى بالقديم.
أمَّا من جهة المعنى: فإنَّ هذا المعنى يُحمل على المعنى الذي دلَّ عليه "الأول"،
والذي دلَّ عليه "الآخر".
وأهل العلم يقولون: باب الخبر أوسع من باب الوصف. وهذا مما يُعتذر للمصنف -رحمه
الله- فيه من استعمال مثل هذه العبارات، فيمكن للإنسان أن يُخبِر عن الله -تبارك
وتعالى- لا على جهة الوصف، وإنما على جهة الخبر، فباب الإخبار أوسع من باب
الصِّفات، كما أنَّ باب الصِّفات أوسع من باب الأسماء. ما معنى هذه القاعدة؟
باب الصِّفات أوسع من باب الأسماء. من جهة أن الصِّفات مصادرها أوسع، فتؤخذ الصِّفة
مِن الفعل، وتؤخذ الصِّفة من الاسم، أو يُنَصُّ على الصِّفة، بينما الأسماء
توقيفية، ولا تُشتق، أمَّا الصِّفات فتُشتق من الأفعال، وتُشتق من الأسماء، أو
يُنَصُّ عليها، فباب الصِّفات أوسع من باب الأسماء، وباب الإخبار أوسع من باب
الصِّفات، فانتبهوا إلى هذه القواعد المهمَّة في باب الأسماء والصِّفات.
وما لم يرد فيه نصٌّ بنفيٍ ولا إثباتٍ من الأسماء والصِّفات، فإن أهل العلم
يتوقَّفون في الألفاظ، ويستفصلون في المعاني.
فهنا المعنى الذي أراده الإمام الطحاوي -رحمه الله- بقوله: (قَدِيمٌ بِلَا
ابْتِدَاءٍ، دَائِمٌ بِلَا انْتِهَاءٍ) يُحمل على معنى "الأول"، ومعنى "الآخر"،
ولهذا لاحظوا كيف قيَّد عبارة (قَدِيمٌ) بقوله: (بِلَا ابْتِدَاءٍ) وقيَّد عبارة
(دَائِمٌ) بقوله: (بِلَا انْتِهَاءٍ) لماذا؟
لأن القِدَم نوعان:
- هناك قِدَم مُطلق.
- وهناك قِدم نسبي.
القدم النِّسبي يكون بين المخلوقات، فتقول: هذا المخلوق قديم، نسبة لما قبله، كما
قال الله -تبارك وتعالى: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ
كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ [يس: 39]، هذا العُرجون قديم بالنِّسبة إلى ما قبله،
هذا يسمونه القِدَم النِّسبي الذي يكون بين المخلوقات، فيقال: هذا الشيء قديم
بالنِّسبة لما قَبله، بينما الخالق -عزَّ وجل- يوصف بالقِدم المُطلق، الذي ليس قبله
شيء، ولهذا لاحظوا النَّبي -صلى الله عليه وسلم- كيف فسَّر "الأول" الذي ليس قبله
شيء، ففسَّر الصِّفة الثبوتيَّة بالنَّفي المطلق، أي الذي ليس قبله شيء، وقال:
«الآخِرُ الذي لَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ»[12]، فيوصف بالقِدَم المطلق.
أمَّا القِدَم النِّسبي يكون بين المخلوقات، ولهذا بعض أهل العلم يعبِّرون بـ
"الأزل والأبد"، الأزل: هو الماضي الذي لا حدَّ له. و الأبد: يكون في المستقبل.
فهما لفظان متقابلان، فيقولون: "أزلًا وأبدًا" في الماضي الذي لا حدَّ له، وكذلك في
المستقبل الذي لا حدَّ له.
ولاشكَّ أنَّ التَّعبير بالألفاظ الواردة في الكتاب والسُّنَّة هو الأسلمُ وهو
الأدلُّ في المعنى، وإذا وَرَدَت هذه الألفاظ التي هي مِن باب الخبر، فتُحمل على
المعاني التي جاءت في الكتاب والسُّنَّة.
القديم: هو ضد الحديث، وكما تقدَّم، القِدم لفظ مُجمل، فيحتاج إلى التفصيل، ولهذا
قيَّد المصنف -رحمه الله- هذه العبارات بقوله: (قَدِيمٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ) لم
يُطلِق، لو أطلق ربما يشمل القدم المطلق والقدم النِّسبي، ولهذا قال: (قَدِيمٌ
بِلَا ابْتِدَاءٍ) هذا فائدة القيد، (دَائِمٌ بِلَا انْتِهَاءٍ) فيدلُّ على هذا
معنى قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «أَنتَ الأوَّلُ الذي لَيْسَ قَبْلَكَ شَيءٌ،
وأنت الآخِرُ الذي لَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ»[13]، هذا هو مراد المصنف -رحمه الله.
لا يَرِدُ على هذا كون الجنة والنار لا تفنيان أبدًا، فالنَّاس إذا بُعثوا يبقون في
الجنة خالدين فيها -جعلنا الله وإياكم منهم- وأهل النار كذلك فيها خالدين أبدًا،
فوجودهم بإيجاد الله لهم، وبقاؤهم بإبقاء الله -تبارك وتعالى- لهم، فلا يرِد على
هذا المعنى في مسألة القدم بلا ابتداء، والدوام بلا انتهاء، فهذه المخلوقات بقاؤها
ودوامها إنما هو بإبقاء الله -تبارك وتعالى- لها، أما الرَّب -تبارك وتعالى- فهو
الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء.
ثم قال بعد ذلك: (لَا يَفْنَى وَلَا يَبِيدُ). كرر هذه العبارة؛ تأكيدًا للمعنى
السابق، في قوله: (دَائِمٌ بِلَا انْتِهَاءٍ)، ولهذا قال: (لَا يَفْنَى وَلَا
يَبِيدُ).
وأيضًا فيها فائدة أخرى، وهي: الرَّد على أهل البدع الذين يزعمون أنَّ بعض الصِّفات
تَفنى، أو أنَّ بعض آثار الأسماء تَبيد، فهو يستحضر في هذه العبارات الرَّد على مَن
يزعمون أنَّ بعضَ الصِّفات تفنى، أو أنَّ بعض آثار الأسماء تبيد، فأراد بهذا الرَّد
بقوله: (لَا يَفْنَى وَلَا يَبِيدُ) فصفاته -تبارك وتعالى- دائمة، فهو -تبارك
وتعالى- دائم بلا انتهاء، أي: هو الآخر الذي ليس بعده شيء، فهذا مراده بقوله: (لَا
يَفْنَى وَلَا يَبِيدُ).
ولاحظوا أنه أتى بها على طريقة السَّجع، وهذه الجزئية -أيضًا- مما أُخذت على الإمام
الطحاوي، وهو التَّكلف أحيانًا في بعض الألفاظ لأجل السَّجع، حيث قال على طريقة
السجع، (دَائِمٌ بِلَا انْتِهَاءٍ، لَا يَفْنَى وَلَا يَبِيدُ).
هنا قد يَرِد سؤالٌ: هل ثمَّة فرق بين الفناء والبَيد؟
والجواب: هما معنيان متقاربان، الفناء دلَّ عليه قول الله -تبارك وتعالى: ﴿كُلُّ
مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾
[الرحمن: 27]، والبَيْد دلَّ عليه قوله -تبارك وتعالى- في خبر المُنْكِر للبعث:
﴿مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدً﴾ [الكهف: 35]، فهما معنيان مُتقاربان،
ولهذا قال لك: (لَا يَفْنَى وَلَا يَبِيدُ) تأكيدًا لمعنى قوله: (دَائِمٌ بِلَا
انْتِهَاءٍ)، وهذه المعاني كلها يدل عليها قوله صلى الله عليه وسلم: «الآخِرُ الذي
لَيْسَ بَعْدَكَ شَيءٌ»[14].
ثم قال: (وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ)، لا يكون في مُلك الله -تبارك وتعالى-
إلا ما يُريد.
لكن قد يَرِدُ هنا إشكال، وهو أنَّ الله -عز وجل- يأمر بالأوامر وينهى، وقد لا
تُنفَّذ، فكيف يقول: (وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ)؟
على سبيل المثال: أراد الله مِنَ الكافر الإسلام، ومع ذلك لم يُسلم، فهل هذه
العبارة صحيحة (وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ)؟ مع أنه قد يرد على بعض النَّاس
أنَّ هناك مَن عُرض عليهم الإسلام والإيمان، وهناك مَن يخالف الأمر، ويخالف النهي،
فمعنى ذلك أنَّه يقع خلاف مَا أَمَرَ الله به، وقد يرتكب العاصي ما نهى الله عنه،
فكيف يقول الإمام: (وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ)؟
{أحسن الله إليكم، لأن إرادة الله تنقسم إلى قسمين: إرادة شرعيَّة، وإرادة قدرية}.
أحسنت. إذن، مراد الإمام الطحاوي بالإرادة هنا هو: الإرادة الكونيَّة، فقوله:
(وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ) أي: يقصد الإرادة الكونيَّة، التي هي ترادف
المشيئة، فالمشيئة مرادفة للإرادة الكونيَّة، فهل يُقال إنَّ المشيئة تنقسم إلى
قسمين؟
والجواب: المشيئة مرادفة للإرادة الكونيَّة، فلا يُقال إنَّ المشيئة تنقسم إلى
قسمين، إلا ما يُقال في مشيئة الخالق ومشيئة المخلوق، أمَّا مشيئة الخالق فهي بمعنى
الإرادة الكونيَّة، ولهذا يُقال: "مَا شاء الله كان، وما لم يَشأ لم يكن"، فالمشيئة
هي مُرادفة للإرادة الكونيَّة، والإرادة والقضاء والإذن؛ هذه الصِّفات تنقسم إلى
قسمين بحسب هذا الجدول.
القسم الأول: الإرادة الكونيَّة، أو القدريَّة، أو الخلقيَّة.
القسم الثاني: الإرادة الدينيَّة، أو الشرعيَّة، وهي المتعلقة بالأمر والنَّهي.
مثال الإرادة الكونيَّة: قوله -تبارك وتعالى: ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾ [البروج:
16]، وهذا الذي قصده المؤلف -رحمه الله- بقوله: فما شاء الله كان وما لم يشأ لم
يكن.
وأمَّا مثال الإرادة الشرعيَّة: كقوله -تبارك وتعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، المشيئة هي المرادفة
للإرادة الكونيَّة، أمَّا الإرادة الشرعيَّة هي متعلقة بالأحكام الشرعيَّة، الأوامر
والنواهي.
الإرادة الكونيَّة هذه عامة لكل مَا يُحبه الله ويَرضاه، وما لا يحبه ولا يرضاه.
قد يقول قائل: كيف يريد أشياء كونًا وهو لا يحبها ولا يرضاها شرعًا؟
والجواب نقول: أرادها -تبارك وتعالى- لحكمة وابتلاء، ولهذا لا يَلزم مِن الإرادة
الكونيَّة أن تكون محبوبة لله، فقد يريد أشياء وإن كان لا يحبها ولا يرضاها لحكمة،
والله -عزَّ وجل- هو الحكيم في خلقه، حكيم في قدره، حكيم في أمره ونهيه.
أمَّا الإرادة الشرعيَّة فيلزم منها المحبة والرضا، فهي المحبوبة لله، أوامره
محبوبة له -تبارك وتعالى- وكذلك ترك نواهيه محبوب لله -تبارك وتعالى.
الإرادة الكونيَّة يلزم منها الوقوع، فلابد أن تقع، وهي متعلقة بالقدر، أمَّا
الإرادة الشرعيَّة، فلا يلزم منها الوقوع.
إذن، هذه الصِّفات تنطبق على أي "إرادة" في قول المصنف: (وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا
يُرِيدُ)؟ وفي بعض كتب أهل العلم يقولون: "ولا يكون في مُلكه إلا ما يريد"؟
الجواب: تنطبق على الإرادة الكونيَّة.
والتفريق بين الإرادتين مُهم، وتزول به إشكالات كثيرة؛ لأن مَن جَعل الإرادة واحدة
ضلَّ في باب القدر، وهذا هو سبب ضلال "الجبريَّة"، وسبب ضلال "القدريَّة" هو عدم
التَّفريق بين الإرادتين.
ولهذا لمَّا فرَّق أهل السُّنَّة بين الإرادتين زالَ الإشكال، وكما تقدَّم لنا في
باب الأسماء والصِّفات، لمَّا غلَّب المعطِّلة النَّفي، وقعوا في إشكالات كثيرة،
ولما غلَّب المُمثِّلة الإثبات، وقعوا في إشكالات كثيرة، وأهل السُّنَّة جمعوا بين
النَّفي والإثبات فزالت الإشكالات عنهم التي وقع فيها المعطلة، ووقع فيها الممثلة
المشبِّهة المجسِّمة.
وهكذا في باب القدر، فمَن فرَّق بين الإرادتين -الإرادة الكونيَّة والإرادة
الشرعيَّة- زالت الإشكالات عنه في باب القدر، ومن جعل الإرادة واحدة، وقع في
إشكالات كثيرة، ما بين جبريٍّ أو قدريٍّ.
إذن، قول المصنف -رحمة الله عليه: (وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ) أرادَ بذلك
الإرادة الكونيَّة، التي يلزم منها الوقوع، وهي المرادفة للمشيئة، ولا يَلزم منها
المحبة والرضا، فقد يريد أشياء وإن كان لا يحبها ولا يرضاها، لكن يريدها لحكمة،
والله -عز وجل- هو الحكيم، فلا يكون في مُلكه إلا ما يريد.
هاتان الإرادتان قد تجتمعان وقد تفترقان، ولهذا يُقسِّمها أهل العلم على طريقة
السَّبر والتَّقسيم إلى أربعة أقسام، فيقولون:
- هناك إرادة كونيَّة شرعيَّة.
- وهناك إرادة كونيَّة لا شرعيَّة.
- وهناك إرادة شرعيَّة لا كونيَّة.
- وهناك إرادة لا شرعيَّة ولا كونيَّة.
فالقسمة أربعة أنواع.
مثال الإرادة الكونيَّة الشرعيَّة: كإيمان أبي بكر رضي الله عنه، كيف عرفنا أنها
إرادة كونيَّة؟ دليل الوقوع، أنت لا يمكن أن تعرف أنَّ هذا مراد لله كونًا إلا
بالوقوع، فوقوع هذا الشيء يدل على أنَّه مراد لله تعالى كونًا.
وإيمان أبي بكر محبوب لله تعالى، فإيمان أبي بكر مثال للإرادة الكونيَّة
الشرعيَّة.
إرادة كونيَّة وقعت ولكنها غير محبوبة لله، مثل:
{أفعال الكافرين والفُسَّاق}
أي نعم، ومثل كفر أبي جهل، فقد وقع كونًا وهو غير محبوب لله شرعًا.
إرادة شرعيَّة لا كونيَّة: يعني محبوبة شرعًا، ولكن ما وقعت كونًا، مثل إيمان أبي
جهل، وإيمان أبي طالب، حيث إنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم عَرَضَ على عمِّه أبي
طالب الإيمانَ، ومع ذلك لم يؤمن، فإيمانه محبوب شرعًا، ولكنه لم يقع كونًا.
إرادة لا شرعيَّة ولا كونيَّة: وهذه قد تكون غريبة، وهو من باب الافتراض الذِّهني،
غير شرعيَّة وغير محبوبة لله، وغير مطلوبة، ولم تقع بحمد الله كونًا -وهي عكس
الأولى- مثل: كفر أبي بكر. فهي لم تقع كونا بحمد الله، وكذلك غير محبوبة لله شرعًا.
فهذه الأقسام الأربعة كما هي ظاهرة معكم في الجدول.
- إرادة كونيَّة شرعيَّة.
- إرادة كونيَّة لا شرعيَّة.
- إرادة شرعيَّة لا كونيَّة.
- إرادة لا شرعيَّة ولا كونيَّة.
إذن فالإرادتان -الكونيَّة والشرعيَّة- قد تجتمعان، وقد تفترقان كما هو ظاهر معكم
في هذا الجدول.
ثم قال الإمام -رحمة الله عليه- بعد ذلك: (وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ). تقدم
الإشكال الذي قد يرد، فقد يُقال إنَّ هناك أشياء تقع لا يريدها شرعًا، كالمعاصي
والفسوق والفجور، فنقول: إنَّ المصنف أراد الإرادة الكونيَّة ولم يرد بهذه الجملة
الإرادة الشرعيَّة.
هذه الجملة أيضًا فيها رد على القدريَّة -نفاة القدر- وهم المعتزلة، ومعلوم أنَّ
القدريَّة على نوعين:
- هناك القدريَّة الأوائل أتباع معبد الجهني وغيلان الدِّمشقي، الذين نفوا
مراتب القدر الأربعة، نفوا علم الله بأفعال العباد، ونفوا كتابته لأفعال العباد،
ونفوا مشيئته وخلقه، ولكن هل يعني هذا أنهم نفوا العلم المطلق والكتابة المطلقة
والمشيئة المطلقة والخلق المطلق؟
ليس هذا المراد، وإنما المراد أنَّهم نفوا علم الله بأفعال العباد، وكتابته لأفعال
العباد، ومشيئته لأفعال العباد، وخلقه لأفعال العباد، وهؤلاء يُسَمَّون القدريَّة
الغلاة، وهؤلاء انقرضوا وحَكَم السَّلف بكفرهم.
- ثم جاء بعدهم القدريَّة الثَّانية وهم المعتزلة، أثبتوا عِلم الله بأفعال
العباد، وأثبتوا كتابته لأفعال العباد، ولكنهم قاموا بنفي المشيئة والخلق.
هل المقصود نفيهم "المشيئة المطلقة" لله أو يقال: نفيهم "الخلق المطلق" لله؟
ليس هذا المراد، وإنما نفوا مشيئة الله لأفعال العباد، وخلقَه لأفعال العباد،
ولهذا يُسمون بالقدريَّة، بل إذا أُطلق القدريَّة فإنه يُقصد بهم المعتزلة.
فهذه الجملة فيها ردٌّ على المعتزلة القدريَّة، الذين يُخرِجُون أفعال العباد عن
مشيئة الله -تبارك وتعالى- فيُردُّ عليهم بقوله -تبارك وتعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ
إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: 30] ولهذا قال: (وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا
يُرِيدُ).
لماذا يجعل المصنف -رحمه الله- وكثيرٌ من أهل العلم الذين كتبوا في العقائد مسائلَ
القدر ضمن مسائل الأسماء والصِّفات؟
{نعم، أحسن الله إليكم: لأن الأسماء والصِّفات هي متضمِّنة لأفعال الله -سبحانه
وتعالى- وأفعال الله تكون قدريَّة}.
الإيمان بالقدر هو إيمان بالربوبية، وإيمان بالأسماء والصِّفات، إيمان بعلم الله،
إيمان بكتابته، إيمان بمشيئته، إيمان بخلقه، عندما تنظر في مراتب القدر وما
يتضمَّنه الإيمان بالقدر، فهو إيمان بربوبية الله -تبارك وتعالى- وإيمان بأسمائه
وصفاته.
فالإيمان بأن الله يعلم كل شيء بما في ذلك أفعال العباد، وبأنه قد كتب كل شيء، وأنه
الخالق لكل شيء، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن؛ فهذه مراتب الإيمان
بالقدر. ولذلك كان الإيمان بالقدر هو إيمان بأسماء الله وصفاته، وإيمان بربوبيته،
وهذا الذي يجعل أَهل العلم يضعون مسائل القدر ضمن مسائل الأسماء والصِّفات،
فيجعلونها في أول مسائل الاعتقاد ضمن مسائل الأسماء والصِّفات، والمصنف -رحمه الله-
تلاحظون أنه يشير إلى هذه المسائل ويقصد بها الرَّد على القدريَّة المعتزلة.
قال: (لَا تَبْلُغُهُ الْأَوْهَامُ، وَلَا تُدْرِكُهُ الْأَفْهَامُ)، ودليل هذا
قوله -تبارك وتعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ
وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 103]، لكن ما الفرق بين الأوهام،
والأفهام؟
الأوهام ترجع إلى الخيالات والظُّنون، والأفهام ترجع إلى القياسات والمقارنات،
والرَّب -تبارك وتعالى- لا يمكن أن تتخيَّله العقول، ولا يمكنُ أن تُدْرَكُ كيفيَّة
ذاته ولا كيفيَّة صفاته -تبارك وتعالى- فالكيفيَّات لا تُدرك بالفهم، ولا بالوهم،
ولا بالظنون. لماذا؟ لأن الله -تبارك وتعالى- ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:
11]. وكما قال -عز وجل- عن نفسه: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ
الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام: 103]، فلا يمكن للعقول أن تُدرك ذات الربِّ، ولا أن تدرك
كيفيَّات صفاتِ الرَّب لأنها قاصرة، وكذلك الأبصار لا تُدرِك كُنْهه، ولا تحيط
العقول والقلوب به علمًا لكماله -تبارك وتعالى.
في بعض كتب المتكلمين يقولون: كل ما خطر ببالك عن الله فإن الله بخلاف ذلك. فهل هذه
العبارة مستقيمة؟
والجواب: مِثل هذه العبارات عباراتٌ مجملة تحتمل معانٍ صحيحة، وتحتمل معانٍ باطلة،
ولهذا فالعبارات التي لم تَرِد في الكتاب ولا في السُّنَّة تُعامل مثل معاملة
المصطلحات والأسماء المجملة، يعني مثل: "وصف الجسم، وصف الحيز، نفي الجهة"، وهذه
العبارات المُجملة التي تحتمل احتمالات صحيحة واحتمالات باطلة، فإنه يُستفصَل فيها.
فإذا قَصَدَ مَن أَطلق هذه العبارة: "كل ما خطر ببالك عن الله فإنَّ الله بخلاف
ذلك"، نفي العِلم بالكيفيَّات كما أراد المصنف هنا، أي: إذا قصد أنَّه لا تبلغه
الأوهام، ولا تُدركه الأفهام؛ فيقال: هذا منفٍ، فالكيف مجهول.
وأمَّا إذا قصد إثبات معاني الأسماء والصِّفات، فهذا باطل.
فلهذا أهل السُّنَّة يُثبتون المعاني، ويفوضون الكيف، كما قال الإمام مالك -رحمه
الله- لما سُئل عن الاستواء، قال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به
واجب، والسؤال عنه بدعة"[15].
فعبارة "كل ما خَطَرَ ببالك عن الله فإن الله بخلاف ذلك"، هي عبارة مجملة، إن قصد
نفي العلم بالكيفيَّة فهي حق، وإن قَصَدَ نفي العلم بمعاني الأسماء والصِّفات فهذا
باطل.
وهذا مثل عبارات تجدونها في كتب بعض المتكلمين، يقولون: "كان الله ولا مكان، وهو
الآن على ما كان عليه قبل خلق المكان"، يقصد بهذه العبارة نفي العلو ونفي الاستواء
على العرش.
فمثل هذه العبارات التي تُطلق ويُقصد بها معانٍ باطلة، فإنَّ الله -تبارك وتعالى-
يُنزَه عنها، ويُستفصَل فيمن يطلق هذه العبارات المحتملة.
ولهذا فالقاعدة عند أهل السُّنَّة والجماعة: أنهم يصفون الرَّب -تبارك وتعالى- بما
وصف به نفسه.
وأهل العلم في كتبهم يَستعملون العبارات التي جاءت في القرآن وفي السُّنَّة، فهذا
أَسْلم؛ بل حتى في باب الدعاء، كلما دعا المسلم بالأدعية الثَّابتة في الكتاب
والسُّنَّة لكان ذلك أجمع للخيرِ، وأدفع للشَّرِ، وأبلغ في الثناء على الله، وأَسلم
مِن الوقوع في الزلل والخطأ.
ابن قدامة -المتوفى سنة 620- يقول في كتابه "لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل
الرشاد": "لا تمثِّله العقول بالتفكير، ولا تتوهَّمه القلوب بالتصوير، ﴿لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]"، وهذه العبارة هي
قريبة المعنى من عبارة الإمام الطحاوي في قوله: (لَا تَبْلُغُهُ الْأَوْهَامُ،
وَلَا تُدْرِكُهُ الْأَفْهَامُ)، وابن قدامة يقول: "لا تمثله العقول بالتفكير" يعني
مهما حاولت العقول أن تدرك كيفية الرَّب -تبارك وتعالى- فهي قاصرة.
"ولا تتوهمه القلوب بالتصوير" يعني: لو تخيَّلت العقولُ الصِّفات فإنها لا يمكن أن
تدرك ذلك؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ﴾.
ولهذا أهل العلم يقولون: التَّمثيل لا يجوز، وحرام حتى ولو كان بخيالات العقول،
فضلًا عَن التَّلفظ باللسان، فلا يجوز تمثيل الخالق -تبارك وتعالى- بخلقه ولو
بخيالات العقول؛ لأنه -سبحانه وتعالى- لا تبلغه الأوهام ولا التخرُّصات ولا
الظُّنون، فيكون التَّمثيل حرامًا ولو كان بخيالات العقول.
ولهذا جاء في الأثر عن ابن عباس أنه قال: "تفكروا في مخلوقات الله ولا تفكروا في
ذات الله عز وجل"، وهذا المعنى تدل عليه الأدلة.
بعض النَّاس قد تَرِدُ عليه مثل هذه الأوهام وهذه الخيالات، فكيف يدفعها؟
كيف يُعَالج مَا يُوقعه الشيطان في بعض نفوس النَّاس مِن هذه الخيالات والأوهام
التي ترد عليهم في صفات الرَّب -تبارك وتعالى؟
قد جاء في الصحيحين أنَّ ناسًا مِن أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم سألوه فقالوا:
"إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به"، يعني: مثل هذه الخواطر والوساوس
التي تَرِد على بعض النَّاس قد اشتكى منها الصحابة -رضوان الله تعالى عليهم- فقال
النَّبي صلى الله عليه وسلم: «وقَدْ وَجَدتُّمُوه؟» يعني إنكار القلوب وتعاظم
القلوب من أن تتكلم بهذا. قالوا: نعم -وهو الإنكار- قال: «ذاكَ صَريحُ
الإيمانِ»[16].
هل صريح الإيمان المقصود في الحديث هو وجود الوساوس أو إنكار القلوب لها؟
بالطبع هو إنكار القلوب لها.
أيضًا جاء في حديث عبد الله بن مسعود أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قد سُئل عَن
الوسوسة، فقال: «تِلكَ مَحضُ الإيمانِ»[17]، وهذا الحديث يُحمل على الحديث الأول،
يعني إنكار القلب لها، وتعاظم القلوب لها، فذلك دليل الإيمان وصريح الإيمان، وهو
تألُّم المسلم منها، وخوفه مِن أن يَنطق بهذه الوساوس التي تحصل له.
يقول الإمام النووي -رحمه الله- في شرحه لهذين الحديثين -حديث أبي هريرة وحديث ابن
مسعود- قوله: "«ذاكَ صَريحُ الإيمانِ» و«تِلكَ مَحضُ الإيمانِ»، معناه: "استعظامكم
الكلام به هو صريح الإيمان".
فكون المسلم يُنكر هذه الألفاظ، ولا يُحب التَّحدُّث بها، واستعظام هذا وشدة الخوف
منه ومن النطق به -فضلا عن اعتقاده- لمن ترد عليه مثل هذه الوساوس الشَّيطانية؛
إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالًا محقَّقًا، وانتفت عنه الرَّيبة والشكوك.
فمثل هذه الخواطر والتَّوهمات التي ترد ويوردها الشيطان على بعض المسلمين، فإنها
بحمد الله لا تضره، ويؤيد هذه الأحاديث أيضًا ما أخرجه الإمام أحمد وأبو داود
وغيرهما من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "جاء رجل إلى النَّبي صلى الله
عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا أحدنا يجد في نفسه يُعرِّض بالشيء -ما صرح- لأن
يكون حممة أحب إليه من أن يتكلم به"، فهذا هو الإنكار لمثل هذه الوساوس، فقال
النَّبي صلى الله عليه وسلم: «اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، اللهُ أكبرُ، الحمدُ للهِ
الذي ردَّ كيدَه إلى الوسوسةِ»[18].
فهذه الوساوس التي ترد والقلوبُ تُنكرها دليل على الإيمان، ودلَّت هذه الأحاديث أن
ما يجده العبدُ في قلبه من هذه الوساوس والخواطر خاصَّة فيما يتعلق بصفات الرَّب
-تبارك وتعالى- وأن إنكار القلب لها دليل على قوة إيمانه، والحمد لله -تبارك
وتعالى.
وقد جاء في الصحيحين أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ تجاوزَ
لأُمَّتِي عما وسوستْ، أو حدَّثت به أنفُسَها، ما لم تعمل بهِ أو تكلَّمَ»[19]،
فإذا تكلم بهذه الوساوس أو عمل بها يؤاخذ، أمَّا إذا كانت وساوس وخواطر ترد عليه
ولكنه ينكرها ويستعيذ بالله منها؛ فإنَّها لا تضره، أمَّا هذه الأوهام وهذه الظنون،
فإنها لا تضره.
جاء في علاجها أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقولُ:
مَن خلَق كذا، مَن خلَق كذا، حتى يقولَ: مَن خلَق ربَّك؟ فإذا بلَغه» أي: بلغ إلى
الوساوس، فماذا يفعل؟ «فلْيَستَعِذْ باللهِ ولْيَنتَهِ»[20]، فهذا العلاج الذي أرشد
إليه طبيب القلوب -صلوات الله وسلامه عليه.
أيضًا جاء في لفظ مسلم، قال -عليه الصَّلاة والسَّلام: «لا يزالُ النَّاس يتساءلونَ
حتى يقال: خلقَ اللهُ الخلقَ، فمَنْ خلَقَ اللهَ. فمن وجَدَ مِن ذلِكَ شيئًا
فلْيِقُلْ: آمنتُ باللهِ».
في لفظ آخر: «فليقل: صدق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم».
وفي لفظ لأبي داود: «فقولوا: اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ
يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدْ } ثمَّ لِيتفِلْ عن يسارِه ثلاثًا
وليستعذِ بالله من الشَّيطانِ».
وفي رواية عندا لإمام أحمد من حديث عائشة قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «فإذا وجَدَ
أحدُكمْ ذلِكَ فلْيَقُلْ: آمنْتُ بِاللهِ ورُسُلِهِ، فإنَّ ذلِكَ يَذهبُ عنْهُ».
فهذه الأحاديث كلها تدلُّ على العلاج لهذه الأوهام والوساوس التي تَرِد على بعض
النفوس، والتي يُوردها الشيطان بالذات فيما يتعلق بصفات الرَّب -تبارك وتعالى-،
فنقول: العلاج كما دلَّت عليه هذه الأحاديث:
أولا: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم.
ثانيا: ينتهي عن الاسترسال.
ثالثا: ضبط النَّفس بذكر الله -تبارك وتعالى- وعدم الاستمرار في هذه الوساوس.
رابعًا: الانشغال بالعبادة، ومن ذلك الانشغال بذكر الله والاستغفار، فإنَّ الله
-عزَّ وجل- يُذهب عنه هذه الوساوس.
خامسًا: اللجوء إلى الله بالدعاء والمعافاة مِن هذه الوساوس.
هذا هو العلاج لمثل هذه الوساوس التي تَرِد عليه بالذات فيما يتعلق بصفات الرَّب
-تبارك وتعالى.
يقول الإمام الألباني -رحمه الله تعالى- بعد أن أوردَ في كتابه سلسلة الأحاديث
الصحيحة وفقهها، قال معقبًا على فقه هذه الأحاديث: "دلَّت هذه الأحاديث الصحيحة على
أنَّه يجب على مَن وسوس إليه الشيطان بقوله مَن خلق الله؟ أن ينصرف عن مجادلته إلى
إجابته بما جاء في الأحاديث المذكورة، وخلاصتها أن يقول: آمنت بالله ورسوله، الله
أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، ثم يتفل عن يساره ثلاثًا،
ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم ينتهي عن الانسياق من الوسوسة".
هذا هو العلاج بحمد الله لهذه الوساوس.
ثم قال: "وأعتقد أنَّ مَن فَعَلَ ذلك طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم مخلصًا في
ذلك، فلابدَّ أن تذهب الوسوسة عنه، ويندحر شيطانه، لقوله صلى الله عليه وسلم:
«فإنَّ ذلك يذهب عنه»"، وقال: "وهذا التعليم النَّبوي الكريم أنفع وأقطع للوسوسة من
المجادلة العقليَّة".
تجد بعض النَّاس أحيانًا يدخل في جدل عقلي فتزيد وساوسه. ولهذا فما الذي أوقع
المعطلة وأوقع المشبِّهة في هذه الوساوس التي يوردها الشيطان عليهم؟!
هم شحنوا الكتب بمثل هذه المجادلات والوساوس التي أوقعهم الشيطان فيها.
قال: "وهذا التعليم النبوي الكريم أنفع وأقطع للوسوسة مِن المجادلة العقلية في هذه
القضية، فإنَّ المجادلة قلَّما تنفع في مثلها، ومن المؤسف أن أكثر النَّاس في غفلة
عن هذا التعليم النَّبوي الكريم، فتنبهوا أيُّها المسلمون وتعرفوا إلى سنة نبيكم
صلى الله عليه وسلم واعملوا بها فإنَّ فيها شفاءكم وعزكم".
ثم نختم بقول الإمام الطحاوي: (وَلَا يُشْبِهُ الْأَنَامَ) هل هذا تكرار لقوله فيما
سبق: (وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ)؟
والجواب: لعلَّه قصد بقوله: (وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ) نفي مماثلة المخلوق للخالق،
وهنا نفي مماثلة الخالق للمخلوق، والتَّمثيل -كما مرَّ معنا- يكون من وجهين:
- إما تمثيل المخلوق بالخالق،أي: إعطاء المخلوق صفات لا تليق إلا بالخالق
سبحانه، من صفات الربوبيَّة، أو خصائص الألوهيَّة.
- أو العكس، وهو مماثلة الخالق بالمخلوق والله -تبارك وتعالى ﴿لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾.
وقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ يشمل نفي التَّمثيل من الجهتين، سواء مماثلة
الخالق للمخلوق، أو مماثلة المخلوق للخالق، فيكون مراد المصنف -رحمه الله- بقوله:
(وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ) نفيٌ لمماثلة المخلوق للخالق، ومراده: (وَلَا يُشْبِهُ
الْأَنَامَ) نفيٌ لمماثلة الخالق بالمخلوق.
و (الْأَنَامَ): إمَّا يَقصد بهم الإنس، كما قال -تبارك وتعالى: ﴿وَالْأَرْضَ
وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ﴾ [الرحمن: 10]، أو يقصد بهم الجن والإنس، أو يقصد بهم جميع
المخلوقات بما فيهم كل ذي روح.
في بعض النُّسخ: قال: (وَلَا يُشْبِهُه الْأَنَامَ) وهذا أيضًا نفي لمماثلة المخلوق
للخالق، كما قال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾، ولهذا فالنُّسخ تُوضح بعضها بعضًا.
في هذا الجزء ردٌّ على المشبِّهة، ولهذا نقول: لمَّا شبَّه المشبهةُ الخالقَ
بالمخلوق فقد وقعوا فيما فرُّوا منه من نفي صفات الله -تبارك وتعالى- لأنَّ هؤلاء
الذين عطَّلوا بعض الصِّفات. قد أرادوا الفِرار مِن التشبيه؛ فوقعوا في تشبيه أسوأ
منه. فالذين نفوا الصِّفات أرادوا نفي مشابهة الخالق للمخلوق بزعمهم، فشبَّهوه
بالمعدوم؛ فوقعوا فيما فرُّوا منه، ولهذا لو أنَّهم أثبتوا لله ما أثبته لنفسه،
ونفوا عَن الله مَا نفاه عن نفسه لسَلِمُوا من الوقوع فيما فروا منه.
فقوله: (وَلَا يُشْبِهُه الْأَنَامَ) رد على المشبِّهة من الجهتين.
نكون بهذا بحمد الله قد انتهينا مِنَ التعليق على هذا الجزء، وأسأل الله -عزَّ وجل-
لنا ولكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأسأله -تبارك وتعالى- أن يفقهنا في الدين
وأن يفقهنا في أسمائه وصفاته، وأن يجعلنا ممن يحفظ أسماء الله -تبارك وتعالى- فيعرف
المعنى، ويعمل بالمقتضى.
أسأله -تبارك وتعالى -أن يصلح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكان، وأن يرزقنا
وإياهم العلم النافع والعمل الصالح، وصلِّ الله وسلم على نبينا محمد.