الدرس الأول

فضيلة الشيخ د. سهل بن رفاع العتيبي

إحصائية السلسلة

5247 12
الدرس الأول

العقيدة الطحاوية (1)

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين، والعاقبة للمتَّقين، وأصلِّي وأسلِّم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ومَن سار على هديهم إلى يوم الدِّين.
اللهمَّ علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا حي يا قيوم، اللهمَّ مُعلمَ إبراهيم علمنا، ومُفهم سليمان فهمنا، اللهمَّ ارزقنا الفقه في دينك، اللهمَّ ارزقنا العلم النَّافع، والعمل الصَّالح برحمتك يا أرحم الراحمين.
أمَّا بعد.. فأرحبُ بكم أيها الأبناء في الأكاديميَّة الإسلاميَّة المفتوحة، وفي برنامج البناء العلمي في مرحلته الثَّانية، وفي مقرَّر العقيدة، وأرحبُ كذلك بالإخوة والأخوات المشاهدين عبر البثِّ المباشر لبرنامج البناء العلمي.
ثم نشكر الله -عز وجل- أولًا وآخرًا على توفيقه وإعانته، ثم الشُّكر للقائمين على هذه الأكاديميَّة، وعلى رأسها معالي الشَّيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، وكذلك جميع الإخوة القائمين على هذه الأكاديمية وهذا البرنامج، وعلى رأسهم مدير الأكاديمية فضيلة الشَّيخ الدكتور راشد الزهراني والزملاء العاملين معه، وكذلك الزملاء العاملين بهذا الاستوديو وفي هذا البرنامج، نسأل الله -عز وجل- أن يكتب ذلك في موازين حسناتهم، وأن يجعل هذا العمل من الصدقات الجارية، ومن العلم الذي ينتفع به.
لا شكَّ -أيُّها الأبناء، وأيُّها الإخوة والأخوات المشاهدون- أنَّ مِنْ أجلِّ الطَّاعات وأعظم القربات التي يتقرَّب بها المسلم إلى ربه -عز وجل: طلب العلم، ولذا رفع الله -عز وجل- في كتابه شأن أهلَ العلم، وكذا في سنَّة النَّبي صلى الله عليه وسلم، وَبَيَّن أنَّ طلب العلم مِنَ العبادات المقرَّبة إلى الله -عز وجل- وأنَّ مَن يُرد الله به خيرًا يَرزقه الفقه في دينه.
والعلوم الشَّرعيَّة -كما لا يخفى عليكم- متنوِّعة وكثيرة، منها: علومٌ تتعلَّق بالقرآن، وعلومٌ تتعلَّق بالسُّنَّة، وعلومٌ تتعلَّق بالفقه، وعلومٌ مسانِدة ومساعِدة، وعلومٌ تتعلَّق بالعقيدة.
ولا شك أنَّ العلم المتعلِّق بالعقيدة هو أجلُّ هذه العلوم وأشرفها؛ لأنَّ شَرَفَ العلم بشرف المعلوم، والمعلوم في موضوع العقيدة هو ما يتعلَّق بالخالق -عز وجل- وبحقوقه على عباده.
فموضوعات عِلم العقيدة تتعلَّق بالتوحيد والإيمان، وحقوق الخالق -عز وجل- على عباده، فهو أجل وأشرف العلوم الإسلاميَّة، ولهذا فإنَّ هذا العلم تُسأل عنه حتى وأنت في القبر، فتُسأل عن ربِّك وعن دينِك وعن نبيِّك؛ فحريٌ بالمسلم أن يعتني بهذا العلم تعلمًا وتعليمًا وفقهًا، بل إنَّ الفقه الأكبر الذي يدخل في  عموم قول النَّبي -عليه الصَّلاة والسَّلام: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»[1] يدخل فيه الفقه في علوم العقيدة.
وإذا رأيتَ المسلم ورأيتَ الشاب ورأيتَ المسلمة؛ كلٌّ منهم يحرص على الفقه في دينه بأيِّ وسيلة كانت، سواء عبر هذه البرامج التي تبث على الهواء، أو البرامج المسجلة، أو بشتى الوسائل؛ فاعلم أنَّ ذلك دليل وعلامة أنَّ الله -عز وجل- قد أراد به خيرًا، «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ»، أسأل الله -عز وجل- أن يفقهنا وإياكم في دينه.
ولذا عُني العلماء بهذا العلم - علم العقيدة- تأصيلًا وتصحيحًا ودفاعًا عنه، فألَّفوا المؤلفات الكثيرة والمتنوعة، فكان هذا العلم أولًا مِن جهة التَّصنيف والتَّدوين ضمن المصنفات الحديثيَّة، فكُتب العقائد وأبواب العقائد الموجودة في المصنفات الحديثية كصحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وسنن ابن ماجه، وباقي المسانيد والصِّحاح، كلها تحتوي على كتب وأبواب تُعنى بالعقيدة، تأصيلًا وتصحيحًا. وهذا يدلُّك على عناية أهل العلم بعلوم العقيدة.
ثمَّ استقلَّ هذا العلم بعد ذلك في مصنفات خاصَّة، وهذه المصنفات متنوِّعة، منها ما يُسمى بكتب العقائد المسندة التي تقرر فيها العقيدة بالأسانيد، وهي كثيرة وتعتبر هي الأصل، وهي الموسوعات، مثل: كتاب الإيمان لأبي عبيد القاسم بن سلام، ونحوها من الكتب.
وكتب العقائد المسندة منها الكتب الشاملة لكل أبواب ومسائل الاعتقاد، ومنها كتب متخصصة في باب من أبواب العقيدة، مثل:
كتب التوحيد، فهي تُعنى بتقرير التوحيد، وأنواع التوحيد والمسائل المتعلقة بالتوحيد فقط.
وكتب الإيمان تُعنى بباب الإيمان فقط، شُعب الإيمان، وأركان الإيمان، ودخول الأعمال في مسمى الإيمان.
وهناك كتب تكون في باب مِن أبواب العقيدة مثل: كتب القدر، وهي خاصة بأبواب القدر، وهناك كتب تكون في مسألة واحدة مثل كتب العلو، وكتب صفة الكلام، وكتب الاستواء، وكتب الرؤية، فتعنى بهذه المسألة العقدية في باب من أبواب العقيدة.
وكتب العقائد تمتاز بالشمول، أما كتب التوحيد وكتب الإيمان فهي متخصصة في باب من أبواب العقيدة، مثلها كتب السنة، وكانت في القرون الأولى تسمى كتب العقائد بكتب السنة، مثل أصول السنة للإمام أحمد، شرح السنة للإمام المزني، ونحوها من الكتب التي تسمى بالسنة، فهي مثل كتب العقائد تمتاز بالشمول، بكل ما يتميز به أهل السنة والجماعة في أبواب العقيدة.
بعد كتب العقائد المسندة، جاءت كتب العقائد المختصرة، التي هي تقريب لمسائل العقيدة لطلاب العلم لكي تحفظ هذه المتون، فهي تقريب، تحذف الأسانيد وتقرر المسائل الاعتقادية، إما بالدليل وإما مجردة عن الدليل مثل المتون الفقهية المختصرة، لأجل تقريب العلم وتسهيله لطلاب العلم.
وكتب العقائد المختصرة أيضًا كثيرة ومنها هذا الكتاب المقرر تدريسه في هذا البرنامج العقيدة الطحاوية، فتعتبر من كتب العقائد المختصرة على طريقة أهل السنة والجماعة.
تمتاز كتب العقائد المختصرة عند أهل السنة والجماعة بتقرير مسائل الاعتقاد التي تَميَّزوا بها عن غيرهم، سواء في الصِّفات العلميَّة أو الصِّفات العمليَّة أو الصِّفات الأخلاقيَّة.
فقد يذكرون في كتب العقائد المختصرة ما يميز أهل السنة والجماعة من مسائل عملية كما يقولون "ونرى المسح على الخفين، والصلاة خلف الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا، والحج والجهاد معهم"، فيذكرون هذه المسائل الفقهية في كتب العقائد المختصرة لأن هذه المسائل أصبحت سمات تميز أهل السنة والجماعة عن  غيرهم.
أيضًا من الكتب المختصرة ما يسمى بالمنظومات العقدية، فتقرر العقيدة على شكل منظومات، لأجل تقريب المسائل لطلاب العلم ولأن هناك من يهوى حفظ المنظومات، فأيضًا هذا نوع من أنواع التصنيف في العقائد.
إذن لدينا: كتب العقائد ضمن المصنفات الحديثية، كتب العقائد المسندة، كتب العقائد المختصرة، المنظومات العقدية، وكتب شاملة لكل أبواب العقيدة، كتب في باب من أبواب العقيدة، إما في التوحيد أو الإيمان، وكتب في مسألة من مسائل العقيدة مثل: الاستواء، صفة الكلام، الرؤية.
هذه مقدمة في أنواع المصنفات العقدية في هذا العلم.
هذا الكتاب الذي سيقرر إن شاء الله في هذا البرنامج، وهو ما يسمى بالعقيدة الطحاوية، يعتبر من الكتب المختصرة ويمتاز بالعديد من الميزات.
أولًا: ما يتعلق بمؤلف هذا الكتاب وهو الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الحجري الطحاوي، المولود سنة تسع وثلاثين بعد المائة الثانية، والمتوفى سنة إحدى وعشرين بعد المائة الثالثة من الهجرة.
الأزدي نسبة إلى قبيلة من قبائل العرب، ومن أشهر بطونها وهي من القبائل القحطانية، والحجري أيضًا فخذ من فخذ الأزد، والطحاوي نسبة إلى قرية عاش فيها وهي قرية طحا من صعيد مصر.
هذا هو مؤلف هذه العقيدة، إذن هو الإمام  أبو جعفر الطحاوي من علماء القرن الثاني.
هذا الإمام عاصر الحفاظ من أصحاب الكتب الستة، عاصر بالتدوين المصنفات الحديثية، وما تتضمنه من الكتب والأبواب العقدية، بل هو من طبقة الحفاظ أصحاب الكتب السِّتَّة، وشاركهم في بعض المرويَّات.
من أشهر شيوخه: الإمام المزني -الإمام المشهور- بل هو خاله، كان يتلقى العلم في مسجد عمرو بن العاص، وتفقَّه في أوَّلِ حياته على المذهب الشَّافعي، فكان في أوَّل حياته شافعيًّا، ثم لما بلغ العشرين من عمره تحوَّل إلى المذهب الحنفي، ولهذا يلقب بالحنفيِّ.
له من المؤلفات: شرح معاني الآثار، وهو من أول مؤلفاته، وله كذلك شرح مشكل الآثار، إذن هو له عناية بالحديث، وله هذه العقيدة التي اشتهرت وعرف بها العقيدة الطحاوية.
موضوع هذه العقيدة المختصرة على طريقة أهل السنة والجماعة: تتضمن مسائل التَّوحيد، فبدأ بالتوحيد لأهميَّته، ومسائل النُّبوة، ومسائل القدر والإيمان وكذلك ما يتعلَّق بأشراط السَّاعة، وأحوال الآخرة، وأحكام التَّعامل مع المسلمين، وما يتعلَّق بمعتقد أهلِ السُّنَّة والجماعة في الصَّحابة، ونحو ذلك من المسائل العمليَّة والأخلاقيَّة التي تميَّز بها أهلُ السُّنَّة والجماعة كسائر المصنَّفات العقديَّة المختصرة على طريقة أهلِ السُّنَّة والجماعة.
هذا المتن العقدي له عناية عندا العلماء وله شهرة، ولهذا لا يكاد عالم إلا وقد درس هذا الكتاب، وأوصى به، فيمتاز هذا المتن العقدي من جهة أنَّه أُلف في القرن الثَّاني، فيعتبر هو من المتون التي ألفت مبكرًا.
أيضًا المكانة العلميَّة لمؤلف هذا الكتاب، وتمتاز هذه العقيدة بأنها مختصرة شاملة، وسهولة الألفاظ والعبارات، بلفظ موجز، ولذا عني العلماء بها، بل كثرت عليها الشروح، وكثرت عليها التعليقات، وهناك من نظم هذه العقيدة.
ومع هذه الشهرة لهذا الكتاب والعناية به، شرح من مدارس مختلفة، وكلٌّ يدَّعي أنَّ الإمام الطحاوي هو على طريقتهم ومذهبهم، وهذه الشُّروح المتنوعة قد يكون بينهما شيء من التَّباين أحيانًا في شرح كلام الطحاوي -رحمه الله- ولذا عني أحد الباحثين وهو الشيخ حماد بن زكي الحماد بهذه الشروح الكثيرة للعقيدة الطحاوية في رسالة سماها "شروح العقيدة الطحاوية بين أهل السنة والمتكلمين دراسة تحليلية نقدية" وطبع هذا الكتاب النفيس في جزأين، ويمتاز هذا الكتاب بأنه قارن بين الشروح المتنوعة للعقيدة الطحاوية، وبين أقوال الإمام الطحاوي في كتبه الأخرى، فيأتي بالقول الذي اختلفت فيه آراء الشراح للإمام الطحاوي، ثم وضحه من خلال كتب الإمام الطحاوي حتى يتبين المراد.
ثم يقارن بين هذه الشروح، فتعتبر هذه الرسالة موضحة وكاشفة لمراد الإمام الطحاوي -رحمه الله- في هذه العقيدة خلافًا لمن جاء وحرّف بعض ألفاظ هذه العقيدة، أو بعض مرادات الإمام الطحاوي رحمه الله.
وهذا الحقيقة مسلك جيد، وهو أيضًا منهج لطالب العلم، فلكي تفهم كلام العالم ماذا تفعل؟ في كتبه المتنوعة تجد أحيانًا هناك من يحمّل أقوال العلماء ما لا تحتمل، وأحيانًا ينسب لبعض العلماء أقوالٌ وآراءٌ وترجيحاتٌ وهم لا يقولون بها، فكيف تحرر مذهب العالم في هذه المسألة؟
السؤال موجه لكم.. خاصة إذا وجدت هناك آراء متنوعة في نسبة هذا القول لهذا العالم، وقد تجد عند من ينسبون للعالم هذه الأقوال من يحتج بقول، وهذا القول قد يكون مجمل، قد يكون متشابه، قد يكون مشكل، قد يكون متقدم، قد يكون متأخر، فكيف تُحرِّرُ مذهب العالم في هذه المسألة؟
{أحسن الله إليكم.
يرد كلامه المتشابه إلى كلامه المحكم في تصانيفه ومؤلفاته}
أحسنت، هذا هو المسلك الصحيح، فلكي تعرف مراد العالم تقوم بتحرير أقوال هذا العالم في مجموع كتبه، ثم يتبيَّن لك المراد، وهو الذي سلكه الباحث هنا في بيان مراد الإمام الطحاوي -رحمه الله.
فلكي تفهم مراد الإمام الطحاوي في هذه العقيدة، انظر في أقواله في بقيَّة كتبه فيتضح لك المراد، وأقوال أهل العلم فيها محكم وفيها متشابه، فيها مجمل وفيها مفصل، كسائر الأدلة إذا كانت الأدلَّة الشَّرعيَّة فيها المحكم وفيها المتشابه، فيها المجمل وفيها المفصَّل، فيها العام وفيها الخاص، وكذلك الأحاديث النَّبوية فتجد أهل العلم يجمعون بين الأدلَّة ثم يزول هذا الإشكال ويتَّضح هذا المتشابه وهذا ما يوجد في أقوال أهل العلم من أقوال متشابهة، فيزول هذا التَّشابه وهذا الإشكال باستقراء أقوال العالم في مجموع كتبه فيتضح المراد.
هذه العقيدة يؤخذ عليها بعض الملحوظات التي لا تقلل من مكانتها ومن قيمتها.
ففي بعض الألفاظ والعبارات والمصطلحات التي استعملها المصنف -رحمه الله- واستدركها عليه الشُّراح تأثُّره أحيانًا بمذهب مرجئة الفقهاء الأوائل في بعض المسائل، وأحيانًا التَّكرار في بعض المواضع، فقد يُكرِّر مثلًا مسائل القدر في مواضع عديدة، ويستعمل أحيانًا السَّجع، وربما يكون هذا طبيعة المؤلفات في تلك الفترة، وفي ذلكم العصر.
ممَّا يُبيِّن مكانة هذا الكتاب أن هناك العديد من المؤلفات في عصر المصنف -رحمه الله- وكانت كلها تتَّفق في تقرير معتقد أهل السُّنة والجماعة -وهذا ممَّا يمتاز به معتقد أهل السنة والجماعة- وهو الوضوح وعدم التناقض، فتجد أغلب المصنفات التي صُنِّفت في عصر المصنف -رحمه الله- كلها تتفق معه في تقرير العقيدة، ومن أشهر المصنفات في ذلكم العصر "الفقه الأكبر" الكتاب المنسوب للإمام أبي حنيفة، كتاب "الإيمان" لأبي عبيد القاسم بن سلام، كتاب "الإيمان" لابن أبي شيبة، "السنة والرد على الجهمية" للإمام أحمد، كتاب "خلق أفعال العباد" للإمام البخاري، "السنة" للأثرم، "السنة" لأبي داود، "الرد على الجهمية" و"الرد على بشر المريسي" كلاهما للإمام الدارمي، وكتاب "السنة" لعبد الله ابن الإمام أحمد، ، "التوحيد" لابن خزيمة، ونحوها من المصنفات، فكان هذا العصر عصر التَّصنيف والتأليف، والمتأمل في هذه المؤلفات العقدية يجد أنها تتفق على طريق أهل السُّنة والجماعة في تقرير مسائل العقيدة.
أول المتن لهذه العقيدة ابتدأها المصنف -رحمه الله- بالبسملة، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم) وأهل العلم يبدأون كتبهم بالبسملة تأسيًا بكتاب الله -عز وجل- فكل سورة في القرآن مبدوءة بالبسملة، عدا سورة التوبة، والخلاف بين الصحابة هل هي جزء من سورة الأنفال أو هي سورة مستقلة، ومنهم من قال أنه لم يبدأ فيها بالبسملة لأن فيها براءة من المشركين، وجميع سور القرآن بما في الفاتحة مبدوءة بالبسملة، فيبدأون الكتب بالبسملة تأسيًا بكتاب الله -عز وجل.
ثم أيضًا تأسيًا بسنة النبي -عليه الصلاة والسلام- ففي كتب النبي صلى الله عليه وسلم وفي رسائله التي أرسلها إلى الملوك والأمراء يبدأها بالبسملة، ومن ذلك رسالته إلى هرقل قال فيها: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِن محمَّدٍ عبدِ اللهِ ورسولِهِ، إلى هِرَقلَ عَظيمِ الرُّومِ»[2]، وفي رسالة سليمان إلى ملكة سبأ بدأها بالبسملة، ﴿إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾ [النمل: 30، 31].
وأيضًا يبدؤون بالبسملة لما ورد في بعض الأحاديث والآثار التي يقوي بعضها بعض في فضل البدء بالبسملة، واسم الله مبارك ما ذكر على شئ إلا تبارك، ولهذا المسلم يبسمل عند ذبح الذبيحة، ويبسمل عند أكله وشربه، ولهذا يبدأ أهل العلم كتبهم بالبسملة استعانة وتبركا بالبدء بسم الله الرحمن الرحيم.
ثم بعد البسملة يأتون بالحمدلة، ومن طريقة أهل العلم أنهم في المصنفات والكتب يجمعون بين البسملة والحمدلة، والرسائل يبدأونها بالبسملة، والخطب يبدأونها بالحمدلة، هذا هو المصطلح السائد عند أهل العلم، الكتب يجمع فيها بين البسملة والحمدلة، والخطب تبدأ بالحمدلة، والرسائل سواء عامة أو خاصة يبدأونها بالبسملة.
ولهم في البدء بالحمدلة طريقتان: إما أن يبدأوا بخطبة الحاجة وهي المشهورة المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عديدة: «الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُه ونستعينُه ، ونستغفرُه ، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ، ومن سيئاتِ أعمالِن»[3] إلى آخره، إما أن يبدؤوا بخطبة الحاجة في الخطب والأعياد والجمع وفيها غيرها، أو يبدأوا بما يسمى ببراعة الاستهلال، وهو أن يُضَمِّن المؤلف قول خطيب الحمدلة ما يبين المراد، فإن كان يتحدث عن التوحيد يُضَمِّن الخطبة بعض الآيات أو بعض المسائل التي تبين أهميَّة التوحيد، وإذا كان يتحدث عن مثلًا الأسماء والصفات يُضَمِّن الحمدلة ما يبين أهمية العلم أو يثني على الله -عز وجل- بأسمائه وصفاته العلى، وهو ما يسمونه ببراعة الاستهلال.
هنا قال: (بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين، الحمد لله رب العالمين.. قَالَ الْعَلَّامَةُ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ أَبُو جَعْفَرٍ الْوَرَّاقُ الطَّحَاوِيُّ -بِمِصْرَ- رحمه الله) ويظهر أن هذه المقدمة ليست من المصنف، لأنه لا يمكن أن يثني على نفسه بهذا الثناء، فيظهر أنها من التلاميذ أو من النسَّاخ، ولهذا تجد هناك اختلافًا في نسخ الطحاوية في البدء بالحمدلة، فيظهر أنها من تصرف النسَّاخ أو التلاميذ.
قال: (هَذَا ذِكْرُ بَيَانِ عَقِيدَةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ: أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ بْنِ ثَابِتٍ الْكُوفِيِّ، وَأَبِي يُوسُفَ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الشَّيْبَانِيِّ -رحمة الله عليهم أجمعين-) وفي بعض النسخ: (رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ- وَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ).
هذه العقيدة لم يسمِّها المؤلف -رحمه الله- وإنما اشتُهرت بنسبتها إليه، فيقال "العقيدة الطحاوية" فاشتهرت بهذا الاسم، فكانت هذه التسمية من التلاميذ، ومن النُّساخ، فعُرفت بهذا الاسم المشتهر عند أهل العلم، والموجود في طبعات العقيدة بنسبتها إلى المؤلف، المسمى بالعقيدة الطحاوية.
قال المؤلف -رحمه الله: (هَذَ) اسم الإشارة هنا يعود إلى أي شيء؟
معلوم أن اسم الإشارة يعود إلى شيء ظاهر محسوس، أنت إذا قلت: "هذا"، فأنت تشير إلى شيء ظاهر محسوس، فهنا المصنف -رحمه الله- يشير إلى أي شيء؟
الجواب -وهذا يصلح في كل الكتب التي تُبدأ بمثل هذا الأسلوب- أن يُقال: أن المصنف -رحمه الله- يشير في هذه المقدمة إلى الكتاب بعد الانتهاء منه؛ لأنَّ أهل العلم الذين يؤلفون الكتب يكتبون المقدمة بعد الانتهاء من الكتاب، فتجد الباحث يؤلف الكتاب أولًا، ثم إذا انتهى كتب المقدمة، أو يشير إلى الكتاب بعد الانتهاء منه، بمعنى أن المقدمة كُتبت بعد الانتهاء من تدوين الكتاب، فهذا وجه، فيكون اسم الإشارة هنا بما تم تدوينه والانتهاء منه كعادة بعض المؤلفين، أنه يكتب المقدمة بعد الانتهاء من الكتاب.
الاحتمال الثاني: أنه يشير إلى ما قام في ذهنه من المعاني التي سيدونها في هذا الكتاب، فهو يشير إلى ما قام في ذهنه من المعاني التي استحضرها والتي سيدونها في هذا الكتاب، فهذا وجه.
الوجه الثالث: أن الإشارة هنا بحسب حال المخاطب، والمخاطب إنما اطلع على هذا الكتاب بعد الانتهاء من تدوينه، فهو يشير هنا باعتبار حال المخاطب، وأنه لم يخاطب بهذا الكتاب إلا بعد الانتهاء من تدوينه، فكأنه يقول لك: فهذا الذي بين يديك هو ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة، وهذه الأوجه الثلاثة كما ذكرت لك تصلح في جميع الكتب التي تبدأ بمثل هذا الأسلوب.
كما أن التعليل الذي ذكرته لك في البدء بالبسملة، والجمع بين البسملة والحمدلة، يصلح في جميع الكتب التي أُلِّفت بهذه الطريقة.
قال: (هَذَا ذِكْرُ بَيَانِ اعتقاد) الاعتقاد يُطلق على شيئين:
الأول: يُطلق الاعتقاد على ما يعقد الإنسان قلبه عليه، ويجزم به، فيُقال مثلًا: هذا اعتقاد فلان، فيُطلق على ما يعقد الإنسان قلبه عليه، ويجزم به، فيُقال: هذا اعتقاد فلان.
الثاني: يُطلق الاعتقاد على نفس الشئ المعتقد به المعلوم، فيقال مثلًا: هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهو الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والإيمان بالقدر خيره وشره، وهذا مثل لفظ العبادة، فإن لفظ العبادة يُطلق على شيئين:
-       يطلق على نفس التعبد الذي هو التذلل، والخضوع لله -تبارك وتعالى.
-       وتطلق العبادة على الطاعة والقربة، التي يتعبد بها الإنسان ربه -تبارك وتعالى.
 ولهذا العبادة لها تعريفان:
التعريف الأول: التذلل والخضوع لله محبة وتعظيمًا، فهذا تعريف لها من جهة ذاتها.
التعريف الثاني: تُعرَّف العبادة من جهة المتعبد به، ومن جهة أنواعه، فيقال في تعريفها حينئذ كما عرَّفها شيخ الإسلام في كتاب العبودية: "اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة"، وهذا التعريف صحيح.
التعريف الأول تعريف لها من جهة ذاتها، والتعريف الثاني تعريف لها من جهة أنواعها، لهذا قال لك: "هي اسم جامع، لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة"، الصلاة على سبيل المثال هي عبادة من جهة أنها تذلل وخضوع لله -تبارك وتعالى- مع المحبة والتعظيم، وهي كذلك كمتعبد به، طاعة وقربة يتعبد بها المسلم لربه -تبارك وتعالى- وهكذا إذا قيل هذا اعتقاد، فيشمل هذين المعنيين، ما يعتقده المسلم ويجزم عليه، وكذلك الأمور التي يعتقدها، كما يقال: هذا اعتقاد أهل السنة والجماعة ثم يبدأ يعدد لك ما يعتقدونه في الله -تبارك وتعالى- وفي أسمائه وصفاته، وفي الإيمان بالملائكة، والكتب، والرسل، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وما يتفرع عن ذلك من مسائل.
قال: (هَذَا ذِكْرُ بَيَانِ اعْتِقَادِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ) لماذا سموا بهذا الاسم؟ أهل السنة والجماعة لماذا سموا بأهل السنة؟ وسموا بالجماعة؟
{أهل السنة لأنهم تمسكوا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والجماعة لأنهم اجتمعوا عليها، وتمسكوا بها جميعًا}.
أحسنت.
وهذا الحقيقة أبرز وصف يميزهم عن غيرهم، انتسابهم لسنة النبي صلى الله عليه وسلم بينما تجد من انحرف عن هذا المنهج، إما أن ينتسب للبدعة، أو ينتسب إلى مؤسِّس البدعة، فيقال: قدري، جهمي، معتزلي، ونحو ذلك من المسميات، التي ينتسب أصحابها إما إلى البدعة، أو إلى مؤسس البدعة، بينما أهل السنة لا ينتسبون إلى الأشخاص، وإنما ينتسبون إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم فلذلك يقال لهم: أهل السنة، لأنهم عُنوا بها، عُنوا بالسنة رواية ودراية، فعنوا بها من جهة أسانيدها وصحتها، وعُنوا كذلك من جهة العمل بها، والاستدلال والاحتجاج، فيحتجون بها في مسائل الاعتقاد، ويحتجون بها في مسائل الفقه.
وكذلك هم أهل الجماعة؛ لاجتماعهم على ما كان عليه صحابة النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من أئمة الدين، وتسميتهم بهذا الاسم لا إشكال فيه، هذا الإمام الطحاوي -رحمه الله- يبيِّن أن هذا معتقد أهل السنة والجماعة وهذا مصطلح مشهور، وله مسميات أخرى، فقد يسمون بأهل السنة هكذا بإطلاق، أو الجماعة، أو السلف الصالح، أو أهل الأثر، أو أهل الاتباع، ونحوها من المسميات التي تدل على تمسكهم بالكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة في الصدر الأول، فقال لك: فهذا اعتقاد أهل السنة والجماعة.
ما اعتقادهم؟
قال: (عَلَى مَذْهَبِ فُقَهَاءِ الْمِلَّةِ) أي أنهم على طريقة الفقهاء المعتبَرين، كالإمام أبي حنيفة، كالإمام مالك، والشافعي، الإمام أحمد، ونحوهم من الفقهاء الذين كتب الله لهم الإمامة، ولهم أتباع كُثُر، ولهذا بحمد الله هؤلاء الفقهاء وأصحاب الحديث، كلهم على طريقة أهل السنة والجماعة في تقرير الاعتقاد، وهذا أيضًا فيه رد لمن يتبعون هؤلاء الأئمة في الفقه، ويخالفهم في المعتقد، فتجده مثلًا في الفقه يقول حنفي، وشافعي، ومالكي، وحنبلي، وفي الاعتقاد يخالف، فيقال له: كيف تتبع هذا الإمام في الفقه، ثم تخالفه في الاعتقاد؟!
 فمن الردود التي يُرد بها على أتباع هؤلاء الأئمة الذين يتبعونهم في الفقه، بل أحيانًا ربما تعصَّبوا لبعض آرائهم في الفقه، ثم يخالفه في المعتقد، فمما يُردُّ به على أتباع هؤلاء إما أن يُقال انظر في عقيدتهم، ولهذا ألَّف أهل العلم المؤلفات خاصة في العصور المتأخرة في جهود هؤلاء الأئمة في تقرير العقيدة، فهناك الكتب والرسائل العلمية في جهود أئمة الأحناف بل أُلِّفَ لأبي حنيفة المؤلفات في بيان عقيدته، وفي جهود تلامذة الإمام أبي حنيفة، وكذلك جهود الشافعية في تقرير توحيد العبادة، وجهود الإمام مالك، وأئمة المالكية، وهكذا جهود أئمة المذهب الحنبلي، فضلًا عن الإمام أحمد، وكل هذه الجهود التي ألَّفها هؤلاء الفقهاء وتلامذتهم، وأئمة هؤلاء الفقه، كلها مما يُردُّ بها على المتأخرين الذين حادوا عن طريقة هؤلاء الأئمة في تقرير العقيدة.
فاليوم الطحاوي يقول لك: (عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة عمومًا، أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبي يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني) رحمة الله عليهم أجمعين.
لماذا خصَّ هؤلاء الأئمة دون غيرهم؟ مع أن هذه العقيدة هي عقيدة أئمة السنة عمومًا، وعقيدة فقهاء الملة، سواء من الأحناف، أو المالكية، أو الشافعية، أو الحنابلة، فلماذا خصَّ هؤلاء؟
والجواب: أن هذا الإمام حنفي، ولهذا خصَّ هؤلاء لأنه يتبعهم في الفقه الحنفي، طبعًا هو كان شافعي، ثم تحول إلى الفقه الحنفي، فخصَّ هؤلاء لأنه حنفي، وأيضًا فيه إشارة إلى أتباع هؤلاء الذين جاءوا في العصور المتأخرة، فخالفوا هؤلاء الأئمة في المعتقد، فيقال لهم أن هذه العقيدة هي عقيدة هؤلاء الفقهاء، وإلا لا خصوصية لما ذكرهم، بل هي عقيدة فقهاء الملة عمومًا.
ولهذا بعض الشراح يقولون: لو أن المؤلف -رحمه الله- قال: "على مذهب فقهاء الملة ومنهم..."، لكانت العبارة أكثر استقامة وأكثر شمولًا من التخصيص، والكمال لله والعبارات تختلف أحيانًا حسب سياقاتها أو حسب الظروف التي قال فيها المؤلف مثل هذه العبارات، وإلا هذه العقيدة هي عقيدة فقهاء الملة عمومًا، ومنهم هؤلاء الفقهاء، أبو حنيفة الإمام المشهور المعروف، أما أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم فهو الفقيه الثاني في المذهب الحنفي، صَحِب الإمام أبي حنيفة -رحمة الله عليه- سبعة عشر سنة، ويعتبر هو من أخص تلاميذ الإمام ومن أعلمهم، إن كان يميل إلى أصحاب الحديث، ولذا بعض أهل العلم رجَّحه على الإمام الثاني وهو محمد بن الحسن أبو عبد الله، محمد بن الحسن أيضًا فقيه العراق، وهو الإمام الثالث في المذهب الحنفي، ولهذا الإمام الطحاوي خصَّ الإمام، وخصَّ الإمام الثاني، وخصَّ الإمام الثالث في الفقه الحنفي، وأن هذه العقيدة هي عقيدة هؤلاء الفقهاء، وهي كذلك عقيدة جميع فقهاء أهل السنة والجماعة، من الأحناف والمالكية والشافعية والحنابلة، أبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني أيضًا وافق أهل الحديث في مسائل عديدة، وتتلمذ على الإمام مالك، قرأ عليه الموطأ، ولهذا تجد هؤلاء الأئمة بعضهم تلامذة بعض، فالإمام أحمد هو تلميذ الشافعي، محمد بن الحسن هو تلميذ الإمام مالك، وهكذا تجد التآلف بينهم، والاختلاف إنما هو اختلاف في الاجتهادات.
قال: في بعض النسخ: (رضوان الله عليهم أجمعين) في النسخة التي هنا: (رحمة الله عليهم أجمعين) وهذا من حق أهل العلم على من جاء بعدهم ممن استفاد من كتبهم، وأيضًا من حق المسلم على أخيه الميت أن يترحم عليه، وأن يدعو له، في بعض النسخ قال: (رضوان الله تعالى عليهم أجمعين) والتَّرضي هنا هو من باب الدعاء، وإلا المصطلح المشهور عند أهل العلم أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- عند ذكر اسمه يقال: "صلى الله عليه وسلم" فيُجمع له بين الصلاة والسلام، ومن عداه من الرسل والملائكة يقال "عليه السلام"، والصحابي يترضى عنه من باب الخبر، ومن بعدهم من علماء الإسلام يترحم عليهم، هذا هو المصطلح السائد عند أهل السنة، خلافًا للرافضة الذين يخصون بعض الصحابة بـ "كرَّم الله وجهه"، أو "عليه السلام"، هذه من شعارات الرافضة، وإلا المصطلح السائد هو الترضي عن عموم الصحابة، ومن بعدهم الترحم عليه، والنبي صلى الله عليه وسلم يُجمع له بين الصلاة والسلام، ومن عداه من الأنبياء والملائكة يقال "عليه السلام".
إذا وجدت في بعض النسخ الترضي عن هؤلاء الأئمة، الذين بعد الصحابة فهو من باب الدعاء، لا من باب الخبر.
قال: (وَمَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَيَدِينُونَ بِهِ رَبَّ الْعَالَمِينَ)، يعتقدون أي بقلوبهم، الاعتقاد الجازم، ويدينون به رب العالمين، ما يعتقدون من أصول الدين، وهذا من مسميات هذا العلم، فمن مسميات هذا العلم يسمى بأصول الدين، ويسمى بالتوحيد، ويسمى بالسنة، ويسمى بأصول الديانة، وأصول الاعتقاد، وأركان الإيمان، ونحوها، ويقصد بأصول الدين، أي أركان الإيمان وأصول الإيمان.
قال: (وَيَدِينُونَ بِهِ) أي يدينون أي يتعبدون الله -عز وجل- ومعلوم أن العبادة تكون بالقلب، وتكون باللسان، وتكون بالجوارح، فيعتقدونه اعتقادًا جازمًا لا شك فيه، ولا ريب فيه، ويدينون به ديانةً أي يتعبدون الله -عز وجل- بهذه العقيدة، كما أن المسلم يدين بالنصيحة ويدين بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي أنه يتعبد الله -عز وجل- بهذه العبادات.
قال: (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ بتوفيق الله: إنَّ الله تعالى واحدٌ لا شريكَ لَهُ) لاحظ العبارة (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ) ما الفرق بين القول والاعتقاد؟
(نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ) لاحظ دقة العبارة، القول باللسان، والاعتقاد بالقلب، والقول باللسان لابد أن يكون مبني على اعتقاد، ولهذا المسلم إذا قال: "أشهد أن لا إله إلا الله"، فهو ينطق بلسانه معتقدًا بقلبه، أنه لا إله إلا الله، أي لا معبود بحق إلا الله، وهكذا إذا قال: "أشهد أن محمدًا رسول الله"، فيقول بلسانه معتقدًا بقلبه أن محمدًا عبد الله ورسوله، فلهذا قال لك: (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ)؛ لأن مجرد القول لا يكفي، فلا ينفع القول إلا بأن يكون مبنيًّا على اعتقاد، وهكذا الأعمال الظاهرة، لابد أن تكون مبنية على اعتقاد، فلهذا قال لك: (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ) ليس مجرد القول وإنما هذا القول مبني على العقيدة الجازمة، التي لاشك ولا  ريب فيها.
(نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ بتوفيق الله)، "توحيد الله" ما المراد بقوله:"نقُولُ في تَوحيدِ الله"؟
التوحيد هنا يشمل جميع أنواع التوحيد، الذي هو: إفراد الله -تبارك وتعالى- بما يختص به.
أو يُقال: إفراد الله بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
أو يعرَّف التوحيد فيُقال: هو إفراد الله بالعبادة.
وكلها تعريفات صحيحة، فمن عرَّفه بالعبادة، عرَّف التوحيد بأهم أنواعه التي تتضمن الأنواع الأخرى، ومن قال: التوحيد هو إفراد الله بما يختص به؛ فهو يختص بالربوبية والألوهية والأسماء والصفات، ومن فصَّل فقال: إفراد الله بما يختص به من الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فكلها تعاريف صحيحة تدل على حقيقة التوحيد، الذي جاء به الرسل، وهو عبادة الله -عز وجل- كما قال -سبحانه وتعالى-: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25].
لماذا بدأ بالتوحيد؟ (نقُولُ في تَوحيدِ الله).
{لأن التوحيد هو أصل رسالة الرسل، وما أتوا به}.
وهو أول واجب، هو أول واجب على المكلف، ولهذا الكافر إذا أراد الدخول في الإسلام، ما أول ما يُطلب منه؟
التوحيد، أن يشهد أن لا إله إلا الله، والنبي -عليه الصلاة والسلام- لما أرسل معاذًا إلى اليمن، قاضيًا ومُعلمًا، قال: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ، فَلْيَكُنْ أَوَّلُ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»[4]، فبدأ بالتوحيد لأهميته، وهو أول واجب بل هو آخر واجب، «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، دَخَلَ الْجَنَّةَ»[5] فبدأ به لأهميته، لكن لاحظ العبارة هنا، قال: (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ بتوفيق الله)، وهذا فيه تنبيه إلى أن الهداية إنما تكون بتوفيق الله -تبارك وتعالى- فالموفق مَنْ وفقه الله، والمهتدي مَنْ هداه الله، فلا حول للإنسان ولا قوة له إلا بالله -تبارك وتعالى- ولهذا المسلم إذا سمع المؤذن ينادي للصلاة: "حي على الصلاة، حي على الفلاح"، يقول: "لا حول ولا قوة إلا بالله".
ولهذا يقول لك: (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ بتوفيق الله)، هذا ليس بذكائنا، ولا بقوتنا، وإنما ذلك توفيق من الله -تبارك وتعالى- فهذا فيه وجوب التعليق بالله، والاستعانة بالله -عز وجل.
فقال لك المصنف، وهذا فيه تنبيه مهم لطالب العلم، وللعالم إذا أراد أن يقرر المسائل، لا يغفل عن هذه التنبيهات المهمة.
(نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ بتوفيق الله عزَّ وجلَّ)، فهذا ليس بذكائنا، ولا بقوتنا، وإنما هو بتوفيق من الله -تبارك وتعالى-، وهدايته -تبارك وتعالى-، وإعانته.
(إنَّ الله تعالى واحدٌ لا شريكَ لَهُ) هذا هو الأصل الأول، التوحيد، إن الله واحد، لا شريك له، لا في ربوبيته، ولا في ألوهيته، ولا في أسمائه وصفاته، هذا فيه نفي للشريك (إنَّ الله تعالى واحدٌ)، هذا هو التوحيد، ولا يتحقق التوحيد إلا بنفي الشرك.
 أما من عبدَ الله وعبدَ غيره معه، فهل يكون موحدًا؟
هذا ليس بتوحيد، هذا شرك، ولهذا المشركون في زمن النبوة، كانوا يحجُّون، وكانوا يحبُّون الله، وكانوا يعظِّمون البيت، وكانوا يلجئون إلى الله في الشدائد، ومع ذلك كل هذه العبادات ما نفعتهم، لماذا؟ لأنهم جعلوا مع الله شركاء، فالتوحيد الذي جاءت به الرسل، هو إفراد الله -تبارك وتعالى- بالعبادة، ولهذا قال لك المصنف في أول هذا المتن: (نقُولُ في تَوحيدِ الله) انتبه أيها الموحد إلى حقيقة التوحيد، وما أكثر من يدعي التوحيد اليوم، وهو يقع في بعض الشركيَّات، لجهله بحقيقة التَّوحيد، فقال لك هذا الإمام: (نقُولُ في تَوحيدِ الله مُعتَقدينَ) ليس مجرد كلام، (مُعتَقدينَ بتوفيق الله: إنَّ الله تعالى واحدٌ لا شريكَ لَهُ) فهذا نفي للشريك في جميع أنواع التوحيد، فنفي للشريك في الربوبية، وللشريك في الأسماء والصفات، وللشريك في الألوهية التي هي العبادة، فبدأ بهذا المعتقد المهم، الذي هو التوحيد، والذي هو أول ركن من أركان الإسلام: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله.
لعلنا في هذا الجزء نكتفي بما يتسع به وقت الدرس لهذا اليوم، في المحاضرة القادمة -إن شاء الله- سنكمل التعليق على هذا المعتقد المبارك، ونسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعل وسيلتنا إليه التوحيد والإيمان، إنه جواد كريم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك