بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العَالمين، والعاقبةُ للمتَّقين، وأصلي
وأسلم على المبعوثِ رحمةً للعالمين نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ
إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد.
فأرحبُ بِكم أَيُّها الأبناء هنا في الأكاديميَّة الإسلاميَّة العالميَّة المفتوحة،
وفي برنامج البناء العلمي، كذلك أُرحب بالأبناء الطُّلاب والطَّالبات المُتابعين
لدروس هذه الحلقات عبر البرامج المختلفة للأكاديميَّة الإسلاميَّة العالميَّة
المفتوحة.
وأرحبُ كذلك بالإخوة والأخوات المشاهدين لهذه الحلقات عبر البث المباشرة أو المسجل،
وأسأل الله لنا ولكم العلم النافع والعمل الصالح.
لا يَزال الحديث موصولًا في شرح "العقيدة الطَّحاوية"، ونحن الليلة في الدرس الخامس
في التعليق على هذا الكتاب المبارك، وكنَّا قد -انتهينا بحمد الله وتوفيقه- من
التَّعليق على ما قاله المصنِّف في الفقرة الماضية في قوله: (حَيٌّ لا يَمُوتُ،
قَيُّومٌ لا يَنَامُ، خَاِلقٌ بِلا حَاجَة، رَازقٌ بلا مَؤُونَة) وفي بعض النسخ
(بلا مَؤُونَة، مُمِيتٌ بِلا مَخَافَةٍ، بَاعِثٌ بِلا مَشَقَّةٍ).
نبدأ دَرس الليلة، تفضل يا شيخ.
{الحمدُ لله ربِّ العَالمين، والصَّلاة والسَّلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه
وسلم، اللهم اغفر لنا ولشيخنا، وللمستمعين والمشاهدين ولجميع المسلمين.
قال الإمام أبو جعفر الطحاوي: (مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا قَبْلَ خَلْقِهِ،
لَمْ يَزْدَدْ بِكَوْنِهِمْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ مِنْ صِفَتِهِ، وَكَمَا
كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّا كَذَلِكَ لَا يَزَالُ عَلَيْهَا أَبَدِيًّا.
لَيْسَ بَعْدَ خَلْقِ الْخَلْقِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْخَالِقِ"، وَلَا بِإِحْدَاثِ
الْبَرِيَّةِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْبَارِي". لَهُ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَلَا
مَرْبُوبَ، وَمَعْنَى الْخَالِقِ وَلَا مَخْلُوقَ.َ وَكَمَا أَنَّهُ مُحْيِي
الْمَوْتَى بَعْدَمَا أَحْيَا اسْتَحَقَّ هَذَا الِاسْمَ قَبْلَ إِحْيَائِهِمْ،
كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْخَالِقِ قَبْلَ إِنْشَائِهِمْ.
ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ،
وَكُلُّ أَمْرٍ عَلَيْهِ يَسِيرٌ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾[الشورى:11])}.
هَذا التَّقرير مِن الإمام الطحاوي -رحمه الله- هو تأصيلٌ لِما أَجمله في الفقرات
السَّابقة في بيان مُعتقد أهل السُّنَّة والجماعة في صفات الله -عَزَّ وَجَلَّ-
وأنَّهم يُثبتون لله مَا أَثبته لنفسه بكتابه، ومَا أثبته له رسوله صلى الله عليه
وسلم في سنَّته الصَّحيحة بلا تحريفٍ ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ ولا تعطيلٍ، ويُنزِّهون
الله -تبارك وتعالى- عمَّا نزَّه نفسه عنه في كتابه، ومَا نَزَّهه عنه رسوله صلى
الله عليه وسلم.
وتلاحظون أنَّ المصنِّف -رحمه الله- يُعيد ويُكرِّر ويُؤكِّد ويُجمِل ويُفصِّل في
بيان مُعتقدِ أهل السُّنَّة والجماعة في باب "الأسماء والصِّفات"، وأيضًا يَستحضر
النِّزاعَ الذي حَصَلَ في عصره في هذا بالباب -باب الأسماء والصِّفات- بسبب
المعطِّلة، إمَّا تَعطيلًا كُليًّا للأسماء والصِّفات أو تعطيلًا للصِّفات مع إثبات
الأسماء، أو تعطيلاً لبعض الصِّفات دون بعض، وكل هذا خِلافُ مَا دَلَّ عليه الكتاب
والسُّنَّة وما كان عليه سَلف الأمَّة الصَّالح، الذين لا يُفرِّقون بين صفات الله
-عَزَّ وَجَلَّ- ويُثبتون لله مَا أَثبته لنفسه في كتابه، ومَا أثبته له رسوله صلى
الله عليه وسلم؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- أَعلم بنفسه وأصدق قيلًا، وأحسن حديثًا،
فَمَا أثبته لنفسه مِن الأسماء والصِّفات نُثبته له -تبارك وتعالى- فلا نُفرق بين
الأسماء والصِّفات، ولا نُفرق بين الصِّفات الذاتيَّة والصِّفات الفعليَّة.
ولهذا ممَّا يَنبغي أن يُعلم في هذا الباب -وقد ذكرناه سابقًا: أنَّ الصِّفات
الواردة في كتاب الله تعالى على نوعين:
- هناك الصِّفات التي أثبتها -تبارك وتعالى- لنفسه على الوجه اللائق به.
- وهناك الصِّفات المنفيَّة التي نفاها الله -تبارك وتعالى- عَن نَفسه، كـ
نفي "السِّنَة" ونفي "النَّوم" مع إِثبات ضدها من صفات الكمال.
والصِّفات الثُّبوتيَّة نوعان:
· هناك صفات ذاتيَّة ملازمة لله -تبارك وتعالى- لا تَنفك عنه بأي حَال مِن
الأحوال، بمعنى أنها لا تَتَعلق بالمشيئة، فهو مُتَّصف بها -عَزَّ وَجَلَّ- من غَير
تَعلق بالمشيئة، فلا يقال: إن الله يَعلم مَتى شَاء، أو أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ-
مثلًا يسمع متى شاء، بل هو مُتَّصف بهذه الصِّفة اتِّصافًا ذاتيًّا لا تنفك عنه.
· أمَّا الصِّفات الفعليَّة –أو الصِّفات الاختياريَّة- فهي المتعلِّقة
بالمشيئة، فيتكلم متى شاء، ويجئ متى شاء، وينزل متى شاء على الوجه اللائق به
سبحانه.
الصِّفات الفعليَّة -أو التي يُسميها أَهل العِلم بالصِّفات الاختيارية- من حيث
النوع ذاتيَّة: أي: لا تنفك عن الخالق -عَزَّ وَجَلَّ- وهو مُتَّصف بها في الأزل
والأبد.
أمَّا مِن حيث الآحاد فهي فعليَّة، ولهذا يقال في الصِّفات الفعليَّة الاختياريَّة:
إنَّها ذاتيَّة من حيث الأنواع، وهو مَا قَصَده المُصنِّف هنا.
فقال في تقرير مُعتقد أهل السُّنَّة والجماعة في صفات الله -تبارك وتعالى: (مَا
زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا قَبْلَ خَلْقِهِ، لَمْ يَزْدَدْ بِكَوْنِهِمْ شَيْئًا
لَمْ يَكُنْ قَبْلَهُمْ مِنْ صِفَاتِه) وفي بعض النُّسخ (مِنْ صِفَتِهِ، وَكَمَا
كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّا كَذَلِكَ لَا يَزَالُ عَلَيْهَا أَبَدِيًّ).
هذا هو تفصيل لما ذكره في الفقرات السابقة، والفرق بين (مَا زَالَ) وبين قوله: (لَا
يَزَالُ) هو بيان لاتِّصافه -عَزَّ وَجَلَّ- بهذه الصِّفات في الأزل والأبد كما
تقدم في معنى قوله: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾ [الحديد: 3].
فالأوَّل: هو الذي ليس قبله شيء، والآخر: هو الذي ليس بعده شيء. فهو مُتَّصف بهذه
الصِّفات في الأزل والأبد.
(مَا زَالَ) و (لَا يَزَالُ) معنيان متقابلان، (مَا زَالَ) أي: يَدل على الدوام في
الماضي، و(لَا يَزَالُ) يدل على الدوام في المستقبل.
والله -تبارك وتعالى- مُتَّصف بصفات الكمال، سواء صفات ذاتيَّة أو صفات فعليَّة،
فهو مُتَّصف بها في الأزل والأبد، بمعنى أنَّه لم يكن فاقدًا لصفةٍ من هذه الصِّفات
في وقت من الأوقات، فهو مُتَّصف بها قبل خَلقِه لِخَلقه وبَعد خَلقه للخلق.
قال: (مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ) "الباء" يُسميها أهل العلم هنا "باء" المُصاحبة، أي:
المُتَّصف بهذه الصِّفات.
ولهذا لا يُقال: إنَّ الله -تبارك وتعالى- قد اتَّصف بصفةٍ بعد أن لم يكن مُتَّصفا
بها. لماذا؟
لأنَّه له الكمال المطلق، وإذا قلت: إنَّه اتَّصف بالصِّفة بعد أن لم يكن مُتَّصفًا
بها، فهذا يدلُّ عَلى النَّقص، والله -تبارك وتعالى- مُنزَّهٌ عَن النَّقص -جل
جلاله- فَلَه الكَمال المُطلق في كل شيء.
إذن فهو –سبحانه- مُتَّصفٌ بهذه الصِّفات في الأزل، وكذلك لا يزال مُتَّصفًا بها
للأبد، وهو معنى قوله: ﴿الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ﴾.
هل يَرِد على ذلك صفات الأفعال التي تتعلق بالمشيئة كالمجيء؟
والجواب: لا يَرد ذلك؛ لأنَّ صفات الأفعال مِن حَيث الآحاد يَفعلها مَتى شَاء.
أمَّا من حيث النوع فهو -عَزَّ وَجَلَّ- مُتَّصف بها في الأزل.
فلا يُقال: إنَّه اتَّصف بها بعد أن لم يكن مُتَّصفًا بها، بل هو مُتَّصف بها في
الأزل، وتتجدد مِن حيث الآحاد، مثل: اتِّصافه تعالى بصفة الكلام -فالله عَزَّ
وَجَلَّ- لما خلق آدم كلمه، وكلم الملائكة، وكلم موسى، وكلم محمد -صلى الله عليه
وسلم- في ليلة الإسراء والمعراج، ويكلم عباده، ويكلم آدم يوم القيامة، بل "مَا
مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ رَبُّهُ"[30]، فهذا التَّجدد إِنَّما هُو
بحسب المشيئة في آحادها، أمَّا ذات الصِّفة ونوع الصِّفة فهو -جل جلاله- مُتَّصف
بها في الأزل فلا يرد هذا الإيراد.
والذي دعا المُعَطلة إلى نفي هذه الصِّفات: أنَّهم ظنوا أنَّ إثبات الصِّفات لله في
الأزل يَقتضي تَعدد الأرباب، وهذا غير وارد. لماذا؟
لأن الصِّفات غير منفكة وغير منفصلة عن الذَّات، والذي أوقعهم في هذا الإنكار هو
تَوهمهم أنَّ الصِّفات مُنفكة عن الذات، ولهذا قالت المعتزلة: إنَّ الصِّفات
مَخلوقة وإنَّ القرآن مَخلوق -تَعَالى اللهُ عَن ذلك؛ لأنَّهم ظنوا أنَّ الصِّفة
مُنفكة عن الذات، والصحيح أنَّ صفاته -عَزَّ وَجَلَّ- مُتعلقة بذاته، فإثبات
الصِّفات في الأزل لا يَلزم منه تَعدد الأرباب؛ لأن الصِّفة ليست منفكة عن الذات.
المضافُ إلى الله كيف تعرف أنه صفة؟ وكيف تعرف أنَّه مخلوق؟ مثل: "ناقة الله"، "بيت
الله".
كيف تفرق بين كون المُضاف لله من صفاته، وبين كون المضاف إلى الله من مخلوقاته؟
{أحسن الله إليك، إذا كَان المُضاف إلى الله أمرًا قائمًا بنفسه كـ "ناقة الله" و
"بيت الله"، فتكون الإضافة هنا إضافة تشريف}.
أحسنت. مِن بَاب إضافة مخلوق إلى خالقه؛ لأنَّ المضاف هُنا عين مستقلة، وأمَّا إذا
كان المضاف إلى الله ليست عينًا مستقلة، كما تقول: "كلام الله". فحينئذ تكون
الإضافة هنا من باب إضافة الصِّفة إلى الموصوف.
إذن، الصِّفات ليست مُنفكة عَن الذات، فإذا قُلنا: إنَّ الصِّفات قديمة؛ فلا يَلزم
مِنه تَعدد الأرباب؛ لأنَّ صفات الرب -تبارك وتعالى- تابعة لذاته، لا تنفك عنه، فهي
ليست أعيانًا مُنفكة، فَلا يَلزم مِن إثباتها في القِدَمِ تعدد الأرباب كما زَعَمَ
المعطِّلة.
قال: (مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمً) تقدم الكلام على لفظة (قَدِيمً) وقلنا:
إنَّها من المصطلحات الحادثة التي لم تَرِد لا في الكتاب ولا في السُّنَّة، ولهذا
أهل العلم يتوقفون في مثل هذه الألفاظ إِلَّا إِذا قُيِّدَتْ وَبُيِّنَ المعنى
الصحيح، ولهذا لاحظوا قول المصنِّف هنا: (مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمًا قَبْلَ
خَلْقِهِ) وقد تَقَدم في قوله: (قديم بلا ابتداء) وهذا هو معنى الأول الذي ليس قبله
شيء.
والقِدم نوعان: قِدم نسبي، وقِدم مُطلق.
القدم النِّسبي: هو الغالب في استعمالات النَّاس، فيقولون: هذا الشيء قديم. أي:
بالنَّسبة لما بعده. قال تعالى: ﴿كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ﴾ [يس: 39]. فهذا
العرجون هو قديم بالنَّسبة لما بَعده، ثُمَّ إذا جاء العُرجون الجديد، يُصبح هذا
الذي قبله قديمًا.
القدم المطلق: هو الذي بمعنى "الأوَّل" أي: الذي ليس قبله شيء، فَقَصَدَ المصنِّف
بقوله: (مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ قَدِيمً) القِدم المُطلق، بمعنى أنَّه مُتَّصف بهذه
الصِّفات في الأزل، فهو الأوَّل الذي ليس قبله شيء.
(قَدِيمًا قَبْلَ خَلْقِهِ) أي: قبل وُجود الخلق كان مُتَّصفًا بهذه الصِّفات.
(لَمْ يَزْدَدْ بِكَوْنِهِمْ) أي: بوجودهم وخلقهم لم يزدد شيئًا مِن كَماله، بل هو
مُتَّصف بصفات الكمال ولا يتوقف هذا الكمال على إيجاد الخلق.
قال: (وَكَمَا كَانَ بِصِفَاتِهِ أَزَلِيًّ)، (أَزَلِيًّ) هذا نسبة للأزل، والأزل
يُقابل الأبد، فهو كما كان في صفاته أزليًّا –أي: اتصف بها في الماضي- كذلك لا
يَزال عليها أبديًّا، فهذا الأزل وهذا الأبد في الماضي وفي المستقبل، وهذا يدل على
كماله -عَزَّ وَجَلَّ-.
ويُشير هنا إلى المُعطلة الذين يقولون: إنَّ الصِّفات حدثت له بعد أن لم تكن، خاصةً
صفات الأفعال، أو يقولون مثلًا: إنَّ الصِّفات تحدث ثم لا تحدث. فهو يُشير هنا إلى
أنَّ الرب -تبارك وتعالى- مُتَّصف بصفات الجلال والكمال في الأزل والأبد.
قال: (مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ) أي: جميع الصِّفات، هنا لم يَذكر نوعًا معيَّنًا من
الصِّفات، ولذلك فقوله هذا يشمل: الصِّفات الذاتيَّة والصِّفات الفعليَّة، خِلافًا
لمن فرَّق مِن المعطلة بين الصِّفات الذاتيَّة والصِّفات الفعليَّة، فقالوا: إنَّه
مُتَّصف بالصِّفات الذاتيَّة في الأزل، أمَّا الصِّفات الفعليَّة فكانت له بعد أن
لم تكن. أو مَن يُفرِّق بين الصِّفات الفعليَّة، فيُثبت صفةً بزعم أنَّ العقل دلَّ
عليها، وينفي أخرى بزعم أنَّ العقل لم يدل عليها.
ولهذا يُقال في الرد على هؤلاء وهؤلاء: القول في الصِّفات كالقول في الذَّات، فكما
نُثبت أنَّ لله -عَزَّ وَجَلَّ- ذاتًا تليق بجلاله، كذلك نُثبت أنَّ لله -عَزَّ
وَجَلَّ- صفاتًا تليق بجلاله، فالقول في الصِّفات كالقول في الذات.
وكذلك الذين فَرَّقوا بين الصِّفات فأثبتوا بعضًا وأنكروا بعضًا، يقال لهم:
القولُ في بعض الصِّفات كالقول في البعض الآخر، مَا الذي جَعلكم تُثبتون لله بعض
الصِّفات وتنفون عنه بعضها أو تحرفونها وتؤولونها؟!
الباب واحد، وما تقولونه فيما أثبتموه يقال فيما نفيتموه، وما تقولونه من الشُّبَه
والاعتراضات فيما نفيتموه يقال فيما أثبتموه، فالباب واحد والذي أثبتها هو الرب
-تبارك وتعالى- في كتابه، فيُثبَت لله ما أثبته لنفسه دون تفريق بين صفاته -عَزَّ
وَجَلَّ.
ولهذا قال لك المصنِّف هنا: (مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ) هذا يشمل جميع الصِّفات،
الصِّفات الذاتيَّة والصِّفات الفعليَّة، لا تفريق بينها، فهو مُتَّصف بهذه
الصِّفات في الأزل والأبد، وهذه الصِّفات ليست متجددة له بعد أن لم تكن.
قال بعد ذلك: (لَيْسَ بَعْدَ خَلْقِ الْخَلْقِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْخَالِقِ"،
وَلَا بِإِحْدَاثِ الْبَرِيَّةِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْبَارِي") وهذا كله تأكيد لما
سبق أنَّ الله -تبارك وتعالى- لم تَحدث له الصِّفات بعد أن لم تكن، وخَلْقُ الخلقِ
وإيجادُ البريَّةِ لم يَزده ذلك صفةً لم يكن مُتَّصفًا بها، بل هو مُتَّصف بهذه
الصِّفات في الأزل والأبد.
قال: (لَيْسَ بَعْدَ خَلْقِ الْخَلْقِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْخَالِقِ"، وَلَا
بِإِحْدَاثِ الْبَرِيَّةِ اسْتَفَادَ اسْمَ "الْبَارِي") والله -تبارك وتعالى- من
أسمائه الحسنى: الخالق البارئ، كما جاء في آخر سورة الحشر ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ
الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ [الحشر: 24]
فَمِن أَسمائه "الخالق" ومن صفاته "الخلق" وصفة الخلق: هي الإيجاد والتدبير
والتقدير.
ومن أسمائه البارئ، والبارئ: هو الذي يُحدث الشيء مِن العدم.
قيل في الفرق بين الخالق والبارئ:
الخالق: الذي خَلَقَ كُل شيء وأوجده ودَبَّرَ شؤونه.
والبارئ: الذي جعل لكل مخلوق صُورة يَتميز بها.
فالرب -تبارك وتعالى- مُتَّصف بهذه الصِّفات، وكذلك مِن أسمائه الخالق ومن أسمائه
البارئ، فقبل الخلق كان –سبحانه- يُسمى بهذه الأسماء، وقبل الخلق كان –سبحانه-
مُتَّصفًا بهذه الصِّفات.
قال: (لَهُ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ وَلَا مَرْبُوبَ، وَمَعْنَى الْخَالِقِ وَلَا
مَخْلُوقَ) أي أنه -تبارك وتعالى- موصوف بهذه الصِّفات قبل إيجاد الخلق، وهذه
العبارات هي تأكيد لما سبق، وتأكيد كذلك لبعض الصِّفات والأسماء التي يحصل فيها
النِّزاع.
فمن خصائص الربوبية:" الخلق والتدبير والإيجاد"، فصفة الخلق مُتَّصف بها قبل إيجاد
المخلوقات. والربوبية تشمل الخلق وتشمل تربية عباده، فهو المربي لهم، وهو حافظهم
ومدبر أمورهم.
قال: (وَكَمَا أَنَّهُ مُحْيِي الْمَوْتَى بَعْدَمَا أَحْيَا اسْتَحَقَّ هَذَا
الِاسْمَ قَبْلَ إِحْيَائِهِمْ)، كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم.
(لَهُ مَعْنَى الرُّبُوبِيَّةِ)، الرُّبُوبِيَّةِ نسبة إلى الرب، (لَهُ مَعْنَى
الرُّبُوبِيَّةِ وَلَا مَرْبُوبَ، وَمَعْنَى الْخَالِقِ وَلَا مَخْلُوقَ) تقدَّم
معنا الربوبية وتقدم معنا الخلق والفرق بينهما.
قال: (وَكَمَا أَنَّهُ مُحْيِي الْمَوْتَى بَعْدَمَا أَحْيَا اسْتَحَقَّ هَذَا
الِاسْمَ قَبْلَ إِحْيَائِهِمْ).
أي اسم؟ وهل المحيي والمميت مِن أسماء الله؟
{نعم يا شيخ}.
(وَكَمَا أَنَّهُ مُحْيِي الْمَوْتَى) هذا خبر، وقلنا لكم: باب الإخبار أوسع من باب
الصِّفات، وباب الصِّفات أوسع من باب الأسماء، والأسماء توقيفية.
قال: (وَكَمَا أَنَّهُ مُحْيِي الْمَوْتَى بَعْدَمَا أَحْيَا اسْتَحَقَّ هَذَا
الِاسْمَ قَبْلَ إِحْيَائِهِمْ) أي اسم؟
اسمه: "الحي"، أمَّا "المحيي" و "المميت" فهما وصف ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [آل عمران:
156] وأمَّا الاسم الثابت فهو: "الحي".
(كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْخَالِقِ) لاحظوا هنا اسم "الخالق" ليس فيه إشكال وهو
ثابت لله -عَزَّ وَجَلَّ- وتقدم بأنه "الخالق" و "الخلاق"، فالرب -تبارك وتعالى-
موصوفٌ بأنه "يحيي" و "يميت" قبل إحياء خلقه وإيجادهم، وكذلك من أسمائه "الحي"،
فإذن هو يسمى بالحي قبل إحيائهم، وكذلك مُتَّصف بصفتي "يحيي" و "يميت" قبل إيجادهم
وإماتتهم.
(كَذَلِكَ اسْتَحَقَّ اسْمَ الْخَالِقِ قَبْلَ إِنْشَائِهِمْ) يعني: لم تزده -جل
جلاله- الخلق صفة لم يكن مُتَّصفا بها فهو موصوفٌ بهذه الصِّفات في الأزل، صفة
"الحياة" وصفة "الإماتة" وكذلك يُسمى بـ "الحي"، ويسمى بـ "الخالق" قبل إيجاد
الخلق.
قال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُ)، "ذَلِكَ" تعليل، أي: لماذا هو –سبحانه- مُتَّصف بهذه
الصِّفات قبل الخلق؟
لأنَّها صفات كمال، لم تحدث له بعد أن لم تكن.
و (ذَلِكَ) هذا تعليل لما سَبَق، وأراد به الرد على المعطلة كالمعتزلة والجهمية
الذين يقولون: حدثت له بعد أن لم تكن، هنا مع الدليل يذكر التعليل.
وأهل السُّنَّة والجماعة كما يستدلون بالأدلة النقلية، يستدلون كذلك بالأدلة
العقلية، فهم أهل أدلة النقل والعقل الصحيح، فهم ليسوا ضد الأدلة العقلية، بل
الدليل العقلي الصحيح الصريح لا يُخالف الدليل النقلي الصحيح.
لهذا ألَّف شيخ الإسلام في كتابه الكبير "درء تعارض العقل والنقل" أو "درء تعارض
المعقول الصريح مع المنقول الصحيح" فكما يستدلون بالأدلة العقلية يستدلون بالأدلة
النقلية، ولكنهم يقدمون الأدلة النقلية، ثمَّ بعد ذلك تأتي الأدلة العقلية.
النقل مُقدم على العقل، لماذا؟
لأن النقل صادر عن الوحي، أمَّا الأدلة العقلية فَيَعتريها مَا يَعتريها مِنَ
النقص، ويعتريها مَا يعتريها مِن الوهم، ويعتريها مَا يعتريها مِنَ المُكابرة
أحيانًا، ولهذا كان النقل هو الأصل وهو المقدم، والعقل هو التابع له.
لذلك بعد أن قَرر مَا سَبَق قال: (ذَلِكَ) أتى بالتعليل.
(ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ،
وَكُلُّ أَمْرٍ عَلَيْهِ يَسِيرٌ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ) أي أنه استدل على
اتصافه بصفات الكمال بالأدلة النقلية مع الدليل العقلي.
(ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فهو -عَزَّ وَجَلَّ- على كل شيء
قدير، كما ذكر لنا في كتابه: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل
عمران: 165]، ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرً﴾ [الكهف: 45] فهو
على كل شيء قدير، ما يشاء وما لا يشاء.
هل يصح أن يُقال: إنَّ الله على مَا يشاء قدير؟ أو يقال: إن الله على كل شيء قدير؟
هل قدرته متعلقة بما يشاء؟ أو هو قدير على ما يشاء وما لا يشاء؟
فهمتم الفرق بين قولنا: إنَّ الله على كل شيء قدير، وبين قول: "إن الله على ما يشاء
قدير"؟
نعم، الجواب.
{إنَّ الله عَلى كُل شيء قدير}.
ولماذا لا يقال: إنَّ الله على ما يشاء قدير؟
{لأن قدرته ليست معلقة بما يشاء، بل هو على كل شيء قدير، ما يشاء وما لا يشاء}.
ولهذا تجد مثل هذه المسائل، وإن كانت هي عقلية يُفرِّعون عنها أمورًا لا وجود لها،
مثل:
هل الله قادر على كذا أو قادر على كذا؟
نقول: إنَّ الله عَلى كل شيء قدير، نَعم هناك أمور نَزَّه نفسه عنها، مثل:
كَتَبَ عَلى نَفسه الرَّحمة وحرم على نَفسه الظلم، هل لعجز؟
نقول: ليس لعجز، فهو على كل شيء قدير ولكنه نَزَّه نَفسَه.
ولذلك كانت العبارة الشاملة لكمال قدرته هي: إنَّ الله على كل شيء قدير. ومثله مَا
يُقال في العِلم:
إنَّ الله يَعلم كُل شيء أزلًا وأبدًا، جملةً وتفصيلًا، يَعلم مَا يَتَعَلق بأفعال
العباد، يَعلم مَا يَشاء، يَعلم مَا كَان في الماضي، وما يكون في الحاضر، وما يكون
في المستقبل، وما لم يكن لو كان كيف يَكون، يعلم المستحيل الذي لم يقع لو وقع كيف
يَقع، فلاحظ الكمال المطلق، ﴿وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا
لَّأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُم مُّعْرِضُونَ﴾ [الأنفال:
23]، ﴿وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُو﴾ [الأنعام: 28]، فلاحظ الكمال المطلق يَعلم
المستحيل الذي لم يقع لو وقع كيف يَقع.
وهكذا يُقال في قدرته: إنَّ الله على كل شيء قدير لا يُعجزه شيء، لا مُكرِه له،
ولهذا قال معللًا لما ذكره من اتصافه بصفات الكمال في الأزل والأبد قبل خلق الخلق:
"إنَّه على كل شيء قدير"، فَما حَدثت له صفة بعد أن لم يكن مُتَّصف بها، بل هو على
كل شيء قدير. ويشمل ذلك القدرة التَّامة على إيجاد خلقه وعلى بَعثهم، وتقدم لنا
فِيما سَبق في البعث، فالذي أوجدهم مِنَ العَدم يُعيدهم على أي حال كانوا، حتى وإن
أحرقتهم النيران، أو أكلتهم الحيتان والسباع، فإنَّ الله قادر على إعادتهم، فهو
الذي خلقهم مِن عَدَم وهو على كل شيء قدير، كما قال -سبحانه وتعالى: ﴿كَمَا
بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾
[الأنبياء: 104]، فهو على كل شيء قدير فيما يتعلق بإيجاد خلقه -عَزَّ وَجَلَّ.
قال: (وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ) كما قال -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَا أَيُّهَا
النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ﴾ [فاطر: 15]، فهو -سبحانه وتعالى-
الغني وعباده فقراء إليه، فقراء إليه في وُجُودِهم، فقراء إليه في مَصَالِحهم وفي
كل شئونهم، ولا وجود ولا قيام لهم إلا بإعانته سبحانه.
(وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ) وهذا الشيء يَشمل جميع المخلوقات، فالكل مُفتَقر
إليه -تبارك وتعالى، ولهذا كَان مِن كَمَال العبودية أن يُظهِرَ العبد فَقره إلى
الله، كما في دعاء الاستسقاء: "اللهم أنت الغني ونحن الفقراء" فَيُظهر العبد
افتقاره إلى الله وحاجته إلى الله وتضرعه بين يدي الله -عَزَّ وَجَلَّ-، هذا من
كمال عبودية العبد لربه -تبارك وتعالى.
ولذا كان الواجب على العبد أن يَعتقد أنَّ الله على كل شيء قدير، لا يُعجزه شيء، لا
يَستَكرِه أن يَسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- شيئًا، وأيضًا يستشعر حاجته إلى الله،
وأنه فقير إلى الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فكل شيءٍ إليه فقير محتاج إليه -سبحانه
وتعالى-.
قال: (وَكُلُّ أَمْرٍ عَلَيْهِ يَسِيرٌ) أيًا كان ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ ولَا فِي الْأَرْضِ﴾ [فاطر: 44]، لا
يُعجزه شيء مِن أَمر الخلق وضعفهم وتدبير شئونهم، فَبيده -عَزَّ وَجَلَّ- تيسير
الأمور كلها، يُيسر مَن يَشاء لليُسرى، ويُجنب العُسرى، ولهذا كان على الإنسان إذا
دعا ربه -عَزَّ وَجَلَّ-، أن لا يعلق الدعاء بالمشيئة، أي لا يقول: "اللهم اغفر لي
إن شئت"، أو "اللهم ارحمني إن شئت"، أو "اللهم ارزقني إن شئت"؛ لأنَّ الله -عَزَّ
وَجَلَّ- لا مُكرِه له، بل يَعزم، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- كُل أَمر عليه يَسير.
قال: (لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ) لا يحتاج إلى شيء، لماذا؟
لأنَّه هو الغني -سبحانه وتعالى- بذاته، فلا يَحتاج إلى أحد مِن خلقه، وتقدم تفصيل
هذا فيما سبق.
بعض أهل العلم قالوا: لو أنَّ المصنِّف -رحمه الله- قَدَّمَ وأَخر بين هذه الجمل،
لكان أفضل، لماذا؟ لأنه قال: (ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ،
وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ عَلَيْهِ يَسِيرٌ، لَا يَحْتَاجُ
إِلَى شَيْءٍ).
قال بعض أهل العلم: لو أنَّ الفقرة الثالثة تقدمت على الثانية، لتناسب المعنى بحيث
يكون (ذَلِكَ بِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيتعلق بالقدرة (وَكُلُّ
أَمْرٍ عَلَيْهِ يَسِيرٌ) فيتفق المعنيان، (وَكُلُّ شَيْءٍ إِلَيْهِ فَقِيرٌ، لَا
يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ) لكمال غناه.
ثُمَّ خَتَمَ هذه الجمل بقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، ختم بهذه الآية، وتقدم الكلام حول هذه الآية، وقلنا:
إنَّ هذه الآية قاعدة عند أهل السُّنَّة والجماعة في باب الأسماء والصِّفات، لكن ما
وجه إيراد هذه الآية هنا بعد هذا التقرير؟ بعد أن قال: (مَا زَالَ بِصِفَاتِهِ
قَدِيمً).
جاء بهذه الآية هنا للرد على المعطلة الذين قالوا: إنَّ الصِّفات حصلت له بعد أن لم
يكن مُتَّصفا بها، فيقال: إنَّ الله لا يُقاس بخلقه، وصفاته تليق به، ولا يتصور
أنَّ صفات الرب كصفات المخلوق العاجز القاصر، بل صفاته –سبحانه- تليق به، سمعه
يَليق به وَبصره يَليق به.
ولهذا نسأل: هَل يَلزم مِن إثبات هذه الأسماء والصِّفات تشبيه الخالق بالمخلوق؟
الإجابة: لا، فأهل السنة يقولون: إنَّه سميعٌ بصيرٌ مع اعتقادهم بأنه ليس كمثله
شيء. فأهل السنة يُثبتون النزول ويُثبتون المجيء، فهل يَلزم مِن هَذا تشبيه الخالق
بالمخلوق؟
الإجابة: لا، لماذا؟ لأن صفات الخالق تَليق به -عَزَّ وَجَلَّ-، ولهذا أتى هنا
بالدليل تأكيدًا لما سبق؛ لأن إثبات هذه الصِّفات لا يَلزم منه تشبيه الخالق
بالمخلوق، صفات الرب -تبارك وتعالى- تليق به، ذلك لأنَّه -عَزَّ وَجَلَّ- ﴿لَيْسَ
كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
هذه الآية قد تحدثنا -من قبل- عن القواعد المستنبطة منها، وقلنا: إنَّ الله جَمَعَ
بين النفي والإثبات، وأنَّ النَّفي مُجمل والإثبات مفصَّل، وأنَّ النَّفي مُقَدم
على الإثبات، وفيها الصِّفات المنفيَّة والصِّفات المثبتة، وفيها أن الإثبات لا
يَستلزم التمثيل والتشبيه، وأنَّ التنزيه لا يَستلزم التعطيل، كما زعم المعطلة
والمشبه. فيثبت أهل السُّنَّة إثباتًا من غير تمثيل، ويُنزهون تنزيهًا مِن غَير
تعطيل.
والكلام في باب الأسماء والصِّفات مِن أَهم أَبواب الدين، فتجد أنَّ أَهل العلم
-رحمة الله عليهم- يُفصِّلون في هذا الباب لأهميته، ولكثرة مَن ضلَّ في هذا الباب،
خاصةً ممن حادوا عن طريقة القرآن وطريقة النَّبي صلى الله عليه وسلم وطريقة السلف
الصالح، بسبب الشبهات.
والمتأمل في القرآن الكريم وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، يجد كيف أنَّ الله
-عَزَّ وَجَلَّ- قد أثنى على نفسه بصفات الكمال، بل غالب القرآن -كما تلاحظون يا
أهل القرآن- غالب القرآن ثَناء على الله -عَزَّ وَجَلَّ- بأسمائه وصفاته.
تأملوا كيف يُثني الله -عَزَّ وَجَلَّ- على نفسه بهذه الصِّفات العظيمة الجليلة، في
آخر سورة الحشر: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ
الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ *
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى
يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
[الحشر: 22 - 24]، فيثني الله -عَزَّ وَجَلَّ- على نفسه بصفات الكمال.
تأملوا في كثير من الأسماء والصِّفات كيف أنَّ الله -تبارك وتعالى- يُثني عَلى
نَفسه بهذه الصِّفات، صفة "الحي"، الله -عَزَّ وَجَلَّ- يصف نفسه بهذه الصِّفة، في
أَعظم آية في القرآن ﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾
[البقرة: 255]، ويقول: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ﴾ [الفرقان:
58]، ولاحظ الرب هنا بين هذه الأسماء وبين العبودية، ولهذا المسلم يتعبد لله -تبارك
وتعالى- بأسمائه الحسنى وصفاته، ويُثني عَلى الله -عَزَّ وَجَلَّ- بما أثنى به على
نفسه في كتابه بهذه الأسماء والصِّفات، يُثني على نَفسه بالعلم.
وتأملوا في القرآن ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: 7]، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ
الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]، يُثني على نفسه بالقدرة ﴿إِنَّ
اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 20]، بل حتى تلاحظون في آيات
الأحكام، تجد أنَّ آيات الأحكام تُختم بالأسماء والصِّفات، خُذ على سبيل المثال آية
المستحقين للزكاة ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ
وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ﴾ ثم قال -عَزَّ
وَجَلَّ: ﴿فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60].
لماذا خُتمت هذه الآية بهذين الاسمين؟
بمعنى أنَّ هذه الأحكام صادرة مِن عَليم حَكيم، يَعلم مَن يَستحق الزكاة وَمَن لا
يَستحقها، والله حكيم يَضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها.
الشاهد أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد أَثنَى على نفسه في كتابه بهذه الأسماء
والصِّفات العظيمة؛ ولذا فينبغي على قارئ القرآن والمستمع له أن يتدبر هذه المعاني
العظيمة، وأن يُكثر مِن الثَّناء على الله -عَزَّ وَجَلَّ- بأسمائه وصفاته.
بل لاحظوا في قَصص الأنبياء وفي أدعية الأنبياء، تجدون الثَّناء عَلى الله -عَزَّ
وَجَلَّ، في دُعاء إِبراهيم -عليه السلام- ﴿رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ
أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [البقرة: 127]، ﴿وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 128].
وتأمَّلوا في قصص الأنبياء تجدون الثناء على الله -عَزَّ وَجَلَّ- بأسمائه وصفاته،
هكذا ينبغي أن يُربَّى الجيل، يُلقَّن الصغار الثناء على الله والتعلق به -عَزَّ
وَجَلَّ، ولهذا لاحظوا المسلم في أكله وشربه ونومه واستيقاظه يُثني على الله، إذا
بدأ في الأكل قال: "بسم الله"، وإذا انتهى قال: "الحمد لله" وهكذا في دعاء النوم،
وهكذا إذا استيقظ قال: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا"، فيلقن الصغار هذه
المعاني العظيمة، وينشأ الجيل على ذلك.
بل لاحظوا الصَّلاة التي هي أعظم الفرائض بعد التوحيد، كُلها ثناء على الله، سورة
"الفاتحة" أعظم سورة، وهي ركن من أركان الصلاة، كُلها ثناء على الله، كما جاء في
الحديث القدسي: «فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ﴾،
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: ﴿الرَّحْمَنِ
الرَّحِيمِ﴾، قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: ﴿مَالِكِ
يَوْمِ الدِّينِ﴾ أو ﴿مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾، قال: مَجَّدَنِي عَبْدِي».
والذي يَنبغي للمُصلي إِذا قَرأ سورة "الفاتحة" أن يَستحضر هَذه المُنَاجاة، بل
ذَكَرَ أهل العلم أنَّه يَقف على رؤوس الآي ويستحضر هذا الجواب ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ
رَبِّ الْعَالمِينَ﴾ [الفاتحة: 2] يستحضر أنَّ الله يقول: «حَمِدَنِي عَبْدِي»
﴿الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ «أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي» وكثرة المحامد هي الثناء على
الله، ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ «مَجَّدَنِي عَبْدِي»[31].
ومِن أَدعية الركوع "اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الْحَمْدُ مِلْءَ السَّمَوَاتِ
وَالْأَرْضِ، وَمِلْءَ مَا شِئْت مِنْ شَيْءٍ بَعْدُ، أَهْلَ الثَّنَاءِ
وَالْمَجْدِ، أَحَقُّ مَا قَالَ الْعَبْدُ" وإذا انتهى من الصلاة بعد الاستغفار
يقول: "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ
وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٍ، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ
إِلَّا بِاللَّهِ، لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاهُ، لَهُ النَّعْمَةُ وَلَهُ
الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ".
فهذا هو التَّعبد لله -تبارك وتعالى- بأسمائه وصفاته، والله يقول: ﴿وَلِلَّهِ
الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَ﴾ [الأعراف: 180]، ومِن الدعاء كثرة
الثَّناء على الله -تبارك وتعالى- بهذه المعاني العظيمة، خاصةً في هذا العصر الذي
كثرت فيه الشبهات، وكثرت فيه المشاغل، ولهذا لاحظوا أهل السُّنَّة والجماعة لمَّا
عنوا بهذا الباب العظيم كان ذلك -بحمد الله- مِن أَسباب ثباتهم وتعظيمهم لكلام
الله، وتعظيمهم لكلام النبي -صلى الله عليه وسلم- وتعظيمهم لأوامر ونواهي الله
-تبارك وتعالى؛ لأنهم عظَّموا الله -عَزَّ وَجَلَّ- بِما يَستحق مِن أسماء وصفات،
وكلما ضَعف هذا الباب كُلما تَسَاهل وتهاون النَّاس في الأوامر والنَّواهي، فهذا
الجيل يحتاج في الحقيقة إلى تعزيز هذه المعاني العظيمة، مِن كَثرة الثَّناء على
الله -تبارك وتعالى- بأسمائه وصفاته، كما أَثنى الله -تبارك وتعالى- على نفسه،
وأثنى عليه رسوله صلى الله عليه وسلم.
أَسأل الله -تبارك وتعالى- أن يَنفعنا وإيَّاكم جميعًا بالعلم النَّافع والعَمل
الصَّالح، وأن يجعلنا من المعظمين لله -تبارك وتعالى- المثنين عليه بما هو أهله،
الذاكرين الله -عَزَّ وَجَلَّ- ذكرًا كثيرًا.
نَسأله -تبارك وتعالى- أن يُصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يُصلح شبابهم، وأن
يُوفقنا وإيَّاهم للعلم النَّافع والعمل الصالح، ونسأله -تبارك وتعالى- أن يُوفق
وُلاة أمور المسلمين في العناية بكتاب الله، والعناية بسنة النبي -صلى الله عليه
وسلم-، وممَّا يُحمد في هذه البلاد وفي بلاد المسلمين، العناية بالقرآن الكريم،
العناية بالمسابقات التي تحفِّز الجيل على الارتباط بكلام الله -عَزَّ وَجَلَّ-،
وكذلك العناية بسنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما عُني بها أهل السُّنَّة في
القديم والحديث روايةً ودرايةً، وكذلك الجهود التي تُبذل في العناية بالسُّنَّة
وخدمة السُّنَّة وطباعة السُّنَّة، وهو بإذن الله صمام أمان لهذا الجيل، لإرجاعهم
إلى كتاب الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وهو قَارب النَّجاة في عصر كَثرت
فيه الفتن، وكَثرت فيه الشُبهات والشهوات.
أَسأل الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يُصلح أَحوال المسلمين، وأن يرزقنا وإيَّاكم العلم
النافع والعمل الصالح، وهذا -والله اعلم-، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد.