الدرس الثالث عشر
فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان
إحصائية السلسلة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله حمد الشاكرين، وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه
وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أمَّا بعد..
فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يُتِمَّ علينا الأجر والثواب، وأن يكمل لنا الشرح
والإعانة على التمام، إن ربنا جوادٌ كريمٌ.
أيُّها الإخوة ربما يكون هذا المجلس هو آَخِرُ هذه المجالس في هذه الدورة المباركة
التي نسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يجعلها حُجةً لنا لا حجةً علينا، وأن يجعل عملنا
لوجه الله -جلَّ وعلَا- خالصًا، وأن يجعلنا مُسددين مُعَانين مخلصين لله -سبحانه
وتعالى.
وربما نحتاج إلى شيءٍ من الإسراع؛ لأنه بقي علينا جملةٌ من الأحاديث فربما نُجمل في
بعض شرحها أو الإشارة إلى مجمل فوائدها.
وبين يدي ذلك أحب الإشارة إلى أنَّنا لما ذكرنا في حديثٍ سابقٍ، حديث العرباض بن
سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين
المهديين من بعدي» وقلنا: إنها ثلاثون عامًا، أبو بكر سنتان، وعمر عشر، وعثمان إلى
خمس وثلاثين، يعني قرابة اثني عشر عامًا، ثم ست سنواتٍ وشيئٌ لعليٍّ، وتمت بما جرى
للحسن في ستة أشهرٍ، فهذه ثلاثون عامًا كما جاء عن أهل العلم الكلام عليها، ربما
أني زدتُ أو نقصتُ بشيءٍ عزب عني الخاطر فحصل فيه شيء من الوهم.
كنا أيضًا ابتدأنا حديث أبي سعيد الخدري في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى
منكم منكرًا فليغيره بيده»، وقلنا: إن هذا من الأحاديث العظيمة التي بها تمام
الأمور، وصلاح المجتمعات، ونقائها، وذهاب بلائها، وأيضًا هو تمام ما تقدم من
النصيحة التي مر الحديث عنها، والفرق بين النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر، هو:
أن باب النصيحة بابٌ أوسع، فربما يكون في المستحبات، وربما يكون في المكروهات،
وربما يكون في أشياءٍ من الأمور الدينية، وربما يكون في الأمور الدنيوية.
أما باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو أخص من ذلك، وهو فيما يتحتم بالأمور
الواجبة، أو الأمور المحرمة.
من جهةٍ ثانيةٍ أن باب النصح إنما هو توجيهٌ، وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
فإنه حملٌ على الواجب ومنعٌ من الشر وقطعٌ لدابره، فيكون ذلك على سبيل الإلزام إذا
كان باليد، وعلى سبيل القوة إذا كان باللسان، وربما كان فيه شيءٌ من اللين على ما
يأتي الإشارة إليه.
أيضًا هنا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرً» فالمنكر ما
تنكره النفوس، وإنكار النفوس إنما مناطه ما جاءت به الشريعة، فكان إنكار النفوس إما
بترك أوامر الله وأوامر رسوله، أو فعل المحرمات والمنهيات من الموبقات والمعاصي
والسيئات.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرً» يقول أهل العلم: إن تعلق
الحكم إمَّا بالرؤية البصرية أو ما يكون قائمًا مقامها وهو التحقق والتيقن، فبناءً
على ذلك لا ينبغي التنقيب والتفتيش والتحسس والتجسس بما يوصل إلى المنكرات ونحوها.
فما ظهر من ذلك أنكر وما خفي من ذلك ترك، إلا أنَّ بعض أهل العلم يتكلم على مسألة
إذا كان محلًا للفساد ووكرًا من أوكاره وتحقق حصوله، ولا يمكن إنكاره إلا بالتسوِّر
عليه، فلأهل العلم في ذلك تفاصيل ذكروا ذلك في كتب الأحكام السلطانية، والسياسات
الشرعية ونحوها، ولهم في ذلك تفصيلٌ يمكن أن يكون مما يصار إليه.
لكن في الجملة أن هذه أحوالٌ خاصةٌ، لها مقامات يحكم فيها، وما سواها باقٍ على أن
إنكار المنكر فيما ظهر، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«إنما تؤخذ العامة بأمور الخاصة إذا ظهر فيهم المنكر وهم قادرون على أن يغيروه فلم
يغيروه أخذ الله الخاصة والعامة»، أنهلك وفينا الصالحون؟، قال: «نعم إذا كثر
الخبث»، فكل ذلك يدل على تمكين الخبث وعدم إنكاره، وظهوره وعدم استتاره، وعدم قيام
الناس بما يجب عليهم فيه.
هنا جاء في الحديث التدرج، التغيير باليد، ثم باللسان، ثم بالقلب، وينبغي أن يُعلم
أن التغيير باليد واللسان مناطه القدرة على ذلك، فمن لم يقدر فيكون بالقلب، والقلب
لا مناص عنه لأن كل واحدٍ قادرٌ على ذلك، ولا أحد يتعذر عليه هذا الأمر.
وإنكار القلب يكون بكراهية هذا المنكر، وإرادة تغييره عند القدرة على ذلك، وبذل ما
يمكن أن يُبذل في هذا وترك هذا المكان، إذا كان المنكر بحضرته، فإنه يقوم ما دام
المنكر باقيًا.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «وذلك أضعف الإيمان» المقصود أن الإنكار من خصال
الإيمان، فمن لم ينكر بقلبه، فإنه لم يُحَصِّل عملًا يمكن أن يكون مما يزيد في
إيمانه، ويكتب في درجاته وحسناته، وليس المقصود من ذلك أن من ترك الأمر بالمعروف
فإنه ذهب إيمانه بالكلية فلم يبق له شيءٌ من ذلك، فإن هذا معنى ليس بصحيحٍ، ولا
مقصودٌ كما نبه على ذلك أهل العلم.
هنا مسألةٌ، وهي الإنكار على الولاة، هذه مسألةٌ من المسائل التي تكلم عليها أهل
العلم، والأصل أن إنكار المنكر على سبيل الإطلاق، لكن ينبغي أن يُعلم هنا أنه إذا
ترتب على الإنكار على الولاة، إذهابٌ لهيبتهم وتسلُّط السُّفهاء عليهم، أو حصول
منكرٍ أكبر من ذلك فإنه لا ينكر، ومثل ذلك الخروج عليهم، فإنَّ أهل العلم قد نَصّوا
على أنه لا يُخرج عليهم.
وطريقة أهل الأهواء كالمعتزلة أنَّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر -يقصدون بذلك
الخروج على الولاة- بينما أهل السنة والجماعة لا يرون ذلك طريقًا صحيحًا البتة، لما
يترتب عليه من المفاسد العظام.
من المسائل المشهورة عند أهل العلم أن الأمر بالمعروف بما يحصل المعروف، وإنكار
المنكر لا يحصل مفسدةٌ أعظم من ذلك، ولا يكون على الإنسان فيه مضرةٌ، فإذا كان عليه
فيه مضرةٌ لم يجب عليه في ذلك الإنكار، فإن كان مما يحتمله فله أن يفعل، وإن لم
يحتمل فله مندوحةٌ في ذلك ومعذرةٌ عند الله -سبحانه وتعالى، ولذلك كان الإنكار
بقلبه في مثل تلك الحال.
على كل حالٍ فهذه عجالةٌ، وحديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وما يتعلق به فيه
مسائل كثيرةٌ، لكن كما ترون الوقت معنا والدقائق تزاحمنا ونحتاج إلى الإتيان على
جملة من الأحاديث.
بعد ذلك ننتقل إلى حديث أبي هريرة -وأيضًا- من جملة ما نختصره أننا نترك القراءة،
ولعل الإخوة يقرأون الحديث بما يصير عندهم في الشاشة.
يقول صلى الله عليه وسلم كما جاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «لا تحاسدوا ولا
تناجشوا ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض» هذا الحديث أمامكم
لعلكم تقرأونه، ونبدأ في شرحه.
هذا الحديث أعظم ما يكون بعد حديث الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما بين أهل
الإيمان من المحبة والتآخي، فمع ما هم منكرون للمنكرات فإن بينهم من الإخاء والمحبة
وإذهاب الضغائن ودغائل النفوس وفسادها ما يحمل على بقاء الإخوة والمحبة الإيمانية،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدو».
ومن أعظم الأدواء الحسد، وهو: تمني زوال نعمة المحسود، سواءً تمنى الإنسان حصولها
لنفسه وزوالها لغيره، أو مجرد زوالها عن الغير، فكل ذلك من الحسد، والنبي صلى الله
عليه وسلم يقول: «وداء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر،
ولكن تحلق الدين»، ولذلك كانت من أعظم ما يكون به ذهاب الحسنات كما جاء ذلك في
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
أمَّا من يجد في نفسه الرغبة في هذه النعمة مع عدم كراهيته لأخيه أو ما عند أخيه،
فإن ذلك من الغبطة، ولا يكون من الحسد، ودليل ذلك أن يكون قد فرحَ لأخيه بما عنده
أو يدعو لأخيه أن تكون بينهم المحبة ولا تحصل بينه وبينه الغيرة، فإن هذا دليلٌ على
أنه لم يحسده.
من يدير الحسد في قلبه ويكتمه ويحاول دفعه فإنَّ هذا لا يدخل في حديث النبي، وهو من
حديث النفس الذي يُطرد فلا يكون على الإنسان فيه شيءٌ.
أمَّا مَن مكَّن للحسد في نفسه، ولم يزله، ولم يعارضه، فيخشى عليه أيضًا أن يدخل في
ذلك أو ينتقل إلى ما هو أشد منه.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ولا تناجشو» النجش: هو نوعٌ من البيوعات، وهو أن
يزيد في السلعة من لا يريد الشراء إضرارًا بأحد المشترين أو إرادةً النفع للبائع في
تلك الحال، وقال بعض أهل العلم: إن النجش يدخل في كل ما يكون فيه حيلةٌ واحتيالٌ
ومكرٌ وخديعةٌ، حتى ولو كان في غير البيع، فهذا مما نهى عنه النبي صلى الله عليه
وسلم.
«ولا تباغضو» نهى عن البغضاء، وحصول ذلك بين أهل الإيمان، مما يحصل بينهم التباعد
والتنافر، وأهل الإيمان كالبنيان يَشد بعضه بعضًا، ولذلك مُنع من كل ما يكون سببًا
للبغيضة كالنميمة والغيبة والفحش وتناجي اثنين دون الثالث، إلى غير ذلك مما جاءت به
الشريعة.
كما أنَّ الأمر بالصلاة والاجتماع لها، والزكاة والصيام، كله يكون فيه اجتماعٌ
وائتلافٌ ويمنع من التباغض.
يُستثنى من أن يكون البغض لأجل أمرٍ شرعيٍّ كأن يكون متلبسًا بفسقٍ أو فجورٍ، فإن
هذا له حكمٌ خاصٌّ، ولأهل العلم في هجر المبتدع أو المجاهر بالفسق والعصيان أحكامٌ
تخصه، فإذا كانت المصلحة في ذلك فليفعل، كما جاء ذلك في الآثار والسنن عن النبي
-صلى الله عليه وسلم.
قال: «ولا تدابرو» والتدابر منزلةٌ لاحقةٌ للتباغض، بعد أن تحصل البغيضة بينهم
وتفسد القلوب، يتدابران، ويصد الواحد عن صاحبه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا
يحل لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثٍ، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي
يبدأ بالسلام».
ما أشد النفوس التي تعرض، وما أقبح النفوس التي تَصُد، وما أبعدها عن أهل الإيمان،
وخلق النبي عليه الصلاة والسلام، ولأجل هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا
تدابرو» مهما كان في قلبك من الشر، ومهما كان في نفسك من حملٍ على أخيك، أو مهما
أساء إليك بكلمةٍ أو وشى إليك أو وشى عنك، أو فحش في القول عليك، أو نحو ذلك فلا
يزيدك إلا رغبةً في الخير وتحملًا للخطأ والخلل، ولأجل ذلك يقول أهل العلم: وخيرهما
الذي يبدأ بالسلام.
لكن إذا بدأ بالسلام فهل ينتفي التدابر، بعض أهل العلم يقول: إذا كان بينهما مودةٌ
فلا ينتهي التدابر إلا بعودهما كما كانا، ولا ينقطع ذلك بالسلام، وأما إذا لم يكونا
فيكفي السلام في ذلك، كما لو كانا متباعدين أو نحوهما من الأصل.
لكن مع ذلك حتى ولو قلنا: إن التدابر ينتفي بحصول السلام، إلا أنه ينبغي على
الإنسان أن يحمل نفسه على ما يكون به صلاحٌ ما بينه وبين أخيه.
ثم قال: «ولا يبع بعضكم على بيع بعضٍ»، هذا أيضًا إذا استقر البيع كما لو كان
مزايدةً، ثم قام هذا وزاد عليه لما رآه سيعطيه هذا، فهذا مما يحمل على الضغينة ومثل
ذلك الخطبة على خطبة أخيه.
قال أهل العلم: وهذا مختصٌّ بأهل الإسلام فلو كان مع غيرهم فلا يتعلق به حكمٌ لأنه
قال: «على أخيه».
«وكونوا عباد الله إخوانً» هذا ما جاءت به الشريعة، الإخوة والمحبة، ﴿إِنَّمَا
المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، وجاءت في ذلك أحاديث كثيرةٌ، «المؤمن
للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضً»، ونهى الشرع عن كل ما يعكر على هذه الإخوة أو يقلل
من درجتها، وجعل لها منزلةً بها يدخل أهل الإيمان الجنة وبها يرتفعون، وبها يستظلون
بظل الرحمن كما جاءت بذلك الأحاديث «سبعةٌ يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله» فذكر
منهما رجلين تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه.
المسلم أخو المسلم بينهما أخوةٌ ولهما حقوقٌ، وكل يدفع لأخيه أو يبذل لأخيه حقه، لا
يظلمه، ونهي عن الظلم كما تقدم معنا في حديث أبي ذر.
«ولا يخذله» لابد للمسلم أن ينصر أخاه، ولأجل هذا جاء في الحديث: «ما من مسلمٍ يخذل
أخاه في موطنٍ يجب أو يحق له في نصرته إلا خذله الله جلَّ وعلَا في موطنٍ يحب أن
ينتصر له فيه، وما من أحدٍ ينصر أخاه في موطنٍ خذل فيه، إلا نصره الله جلَّ وعلَا
في ذلك» أو كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
«ولا يحقره» لأن ازدراء الناس وحقرانهم مما يحصل به فساد القلوب، ولذلك كان من أعظم
الكبر غَمط الحق وازدراء الناس، ولذلك نُهي عن الحقران، مهما كان الإنسان وضيعًا في
عمله، أو وضيعًا في شهادته أو في علمه أو نسبه أو غير ذلك فإن ذلك لا يزيد أهل
الإيمان إلا تماسكًا.
«التقوى ههن» فإنما يرتفع الناس بالتقوى، ولأجل ذلك لا فضل لأحدٍ على أحدٍ إلا
بالتقوى، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل سألهم عنه قالوا: حريٌّ إن
خطب أن يزوج، وإن شفع أن يُشفَّع، إلى غير ذلك، ثم رؤي رجلٌ لا يُعبأ به، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا خيرٌ من ملء الأرض من هذ».
ولذلك قال الله جلَّ وعلَا: ﴿خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ﴾[الواقعة: 3]، قال: تخفض يوم
القيامة أناسًا كانوا مرتفعين في الدنيا، وترفع أناسًا كانوا مخفوضين فيها، ويشير
إلى صدره ثلاثًا.
«بحسب امرئٍ من الشر أن يحقر أخاه المسلم»، ما أعظم أن يحقر المسلم أخاه، «كل
المسلم على المسلم حرامٌ، دمه وماله وعرضه» وهذا جاء في حديث خطبة النبي صلى الله
عليه وسلم يوم عرفة، «إن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا في
شهركم هذا في بلدكم هذ».
ما أحسن أن يقيم الإنسان لهذه الحرمة حقها، وألا ينتقصها، أو يدنسها أو يتسلط عليها
ويعتدي فيها، كل يبذل حقه لأخيه، أيا كان ذلكم الأمر.
هذه جملةٌ على عجلٍ وأرجو أن يعذرني الإخوة، بعد هذا ننتقل إلى حديث أبي هريرة رضي
الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن نَفَّسَ عن مؤمنٍ كربةً من
كرب الدنيا، نفس الله عنه كربةً من كرب يوم القيامة».
وهذا الحديث أيها الإخوة كالمكمل للحديث الذي قبله في معناه، فذاك في منع ما يعكر
صفو الإخوة، وهذا فيه الإحسان إلى الإخوان، والقيام بحقوقهم، ولذلك «مَن نَفَّسَ عن
مؤمنٍ كربةً من كرب الدني» إذا ضاق بالإنسان الأمر في ديْنٍ أو في مرضٍ أو في علةٍ
أو ذهاب قريبٍ أو في أي أمرٍ من أموره، فإن الله -جلَّ وعلَا- يعده بأن ينفس عنه
كرب يوم القيامة، وهي أعظم ما تكون من الكرب، حين تدنو منهم الشمس، ويعظم عليهم
العرق، فمنهم من يكون عرقه إلى عقبيه، ومنهم إلى ركبتيه، ومنهم إلى حقويه، ومنهم من
يلجمه العرق إلجامًا، في ذلك الموقف ينتصر الله -جلَّ وعلَا- ويوفق ذلك الذي كشف
كربة أخيه فيكشف الله -جلَّ وعلَا- كربته.
«ومن يسَّر على معسرٍ يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة»، ما أحوجنا إلى التيسر
على المعسرين الذين ضاقت بهم الحيل وأغلقت في وجوههم الأبواب، واشتدت بهم الأمور،
ونقصت منهم الأموال، أحوج ما يكون إلى أخيه، في التيسير عليه سواءً كان ذلك بإعانته
على قضاء دينه، أو بإنظاره، أو بخفض بعض الديْن، أو بتأجيله، أيا كان ذلك التيسير
بأي بابٍ من الأبواب، فهو داخلٌ في هذا، ويرجى أن ييسر الله عليه في الدنيا
والآخرة.
«ومن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة» والستر كذلك كل منا له عيبةٌ، وكل
منا له عورةٌ، وربما انكشفت لأحدٍ، لكن الله -جلَّ وعلَا- يسترها، فمن ستر عورة
أخيه ستره الله -سبحانه وتعالى- في الدنيا والآخرة.
وهنا قال: «في الدنيا والآخرة» مع أنَّ الكرب قال: «يوم القيامة»؛ لأن الكرب لا
تنزل بكل أحدٍ، لكن ستر العورات والتيسير على المعسرين ونحوهم، لا ينفك عنه أحدٌ في
حالٍ من الأحوال، ولذلك جاءت في الحالين.
والستر على المسلم المقصود به: العاصي لو حصل منه العصيان، قال أهل العلم: ويستثنى
من ذلك من شَهَّر بالعصيان فالأولى ألا يستر عليه حتى يؤدب ويمنع، وحتى يعذر ويبعد
شره عن المسلمين.
«والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه»، ينبغي للإنسان أن يسعى في الحوائج،
فهذا أبو بكر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- كان يحلب لنساء القوم، فقالوا: لما
استُخلف إنه لا يكاد أن يحلب، فحلب واستمر على ذلك.
ويذكر أن ابن عمر كان إذا سافر كان يخدم من معه، وعمر -رضي الله تعالى عنه -كان
يأتي إلى بعض النساء فيدخل عليهن فيكنس قوامتها ويعينها على حوائجها، حتى لما رآه
طلحة تتبعه ثم نظر فسأل فإذا هي امرأةٌ مُقعدةٌ، فقال: ويح لطلحة يتتبع عمر -رضي
الله تعالى عنه وأرضاه.
وهذه أحوالهم وهذا امتثالهم لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
«ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة» أسأل الله أن
يسهل لكم طريق الجنة، وأن يجعلكم ممن يلتمسون العلم، وسبيل العلم سواء كان سبيلًا
حسيًّا، بأن يذهب إلى مدرسته، أو أن ينتقل من بلده، أو غير ذلك، أو كان ذلك في
مجالس العلم، يعني: في الترقي في مجالسه، وفهم معانيه، والتدرج في مراحله، فإن هذا
مما يحصل به -بإذن الله جلَّ وعلَا- العبد هذا الوعد من الله -جلَّ وعلَا.
«وما اجتمع قومٌ في بيتٍ من بيوت الله جلَّ وعلَا يتلون كتاب الله ويتدارسونه
بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن
عنده»، هذا فيمن جلسوا في المساجد ويتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، ويتعرفون على
أحكامه، وينظرون في فرائضه وأوامره، هل يدخل في ذلك كل مجالس العلم؟
ظاهر الحديث أنه ما كان متعلقًا بالقرآن يُتلى فيه ويُشرح، أو يذكر ما يتعلق به من
أحكامٍ، لكن لا يبعد أن يدخل في ذلك سائرها، ولذلك جاء عن السلف: تعلموا الفرائض
والعلم بالأحكام، فكأنهم أدخلوا ذلك، ولأنها كلها علمٌ بكتاب الله -جلَّ وعلَا-
وبسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم.
وهنا منزلةٌ عظيمةٌ في نزول السكينة وغشيان الرحمة، حفتهم الملائكة يعني: أحاطت
بهم، أم غشيان الرحمة فهي تداخلهم، ولذلك ﴿فَلَمَّا تَغَشَّاهَ﴾ [الأعراف: 189]،
تغشي الزوج لزوجته يعني: أن يلتصقان ويجتمعان فكذلك غشيان الرحمة.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وذكرهم الله فيمن عنده» وهذا معروفٌ كما جاء في
الحديث القدسي: «من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملأٍ
خيرٍ منه».
«ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه» فيه إشارةٌ إلى أنَّ الأمور إنما مناطها
الأعمال، فلا تفاخر بالأنساب ولا بالأحساب، ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ
أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون: 101]، والنبي
-صلى الله عليه وسلم- قال: «لا أغني عنكم من الله شيئً» لآله وأهل بيته، وبين أن
ذلك إنما يكون بالأعمال.
فينبغي للإنسان أن يسرع إلى عمله، وأن يقتنص ساعات عمره، وأن يبذل، فربما يكون في
الدنيا رفيعًا ويكون عند الله وضيعًا، نسأل الله السلامة والعافية.
هذه على عجلٍ، ثم ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- حديث ابن عباس في كتابة الحسنات
والسيئات، «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنةٍ فعملها كتبها
الله عنده حسنةً كاملةً، ومن هم بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً كاملةً،
فإن هم بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسناتٍ إلى سبعمائة ضعفٍ إلى أضعافٍ
كثيرةٍ». الحديث.
هذا الحديث في كتابة الحسنات والسيئات فيه مسائل كثيرةٍ.
أولها: أن من عمل حسنة كتبها الله -عزَّ وجلَّ- حسنة وضاعفها إلى عشرة حسناتٍ، كما
جاءت به الآيات، وربما تضاعف إلى سبعمائة ضعفٍ، ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ
فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ﴾[البقرة:
261]، وقد تكون المضاعفة أكثر من ذلك، ومثل هذا ما جاء في حديث «إلا الصوم فإنه لي
وأنا أجزي به»، وفي حديث ابن حبان لما قرأ هذه الآية: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رب زد أمتي»،
فقال: ﴿مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافاً كَثِيرَةً﴾[البقرة: 245]، قال: «رب زد أمتي»، فأنزل الله جلَّ وعلَا:
﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].
ففضل الله عظيمٌ، ودرجاته كثيرةٌ لعبادته، ويتفاضل الناس بحسب ما قر في قلوبهم وما
كانوا عليه من الإحسان والإتقان والإخلاص لله سبحانه وتعالى.
«مَن هَمَّ بحسنةٍ فلم يعملها كتبها الله عنده حسنةً» والمقصود بالحسنة هنا أن تكتب
حسنةً كاملةً، لكنها لا تضاعف كما تضاعف لمن عملها، وما المقصود بذلك؟
قال أهل العلم: مَن هَمَّ بِهَا، عزم على ذلك، كما جاء عن أبي ذر، أنه من عزم على
قيام الليل حين أوى إلى فراشه فنام فإن الله جلَّ وعلَا يكتب له ذلك، وجاء هذا في
حديث أبي موسى «إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمً» باعتبار
أنه قاصدٌ لفعل ذلك مريدٌ له.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَمَن هّمَّ بسيئةٍ فعملها كتبها الله عنده سيئةً
واحدةً» نبدأ بهذا، من عمل السيئة فالله جلَّ وعلَا لا يضاعفها عليه، رحمةً منه
بعباده، لكن يقول أهل العلم إنها قد تعظم السيئة، فمن فعل سيئةً وهو متلبسٌ بالحج،
ليس كمن لم يكن كذلك.
﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلاَ رَفَثَ
وَلاَ فُسُوقَ﴾[البقرة: 197]، مع أن الفسوق لا يكون من المؤمن في سائر أحواله، لكنه
أخص في هذا.
والله -جلَّ وعلَا- قال في الأشهر الحرم: ﴿فَلاَ تَظْلِمُوا فِيهِنَّ
أَنْفُسَكُمْ﴾[التوبة: 36]، وقال في الحَرَمِ: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ
بِظُلْمٍ﴾[الحج: 25]، فخصه أنَّ من أراده بظلمٍ فإنه يحاسب على ذلك، ويكون عليه
سيئة ذلك.
قال أهل العلم أيضًا: وربما ضوعفت السيئة في أحوالٍ خاصةٍ، وذلك لشرف المتلبس بها،
لأن الله -جلَّ وعلَا- قال: ﴿وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ
إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ
المَمَاتِ﴾[الإسراء: 74، 75]، فجعل ذلك مضاعفةً عليه لو فعل السيئة لشرفه ولكونه
رسول الله صلوات ربي وسلامه عليه وحاشاه أن يفعل ذلك، ومثل ذلك ﴿مَن يَأْتِ
مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ﴾ [الأحزاب:30] فحصل
عليه المضاعفة مع كونهن أمهات المؤمنين، أما من هم بسيئةٍ فلم يعملها، فإن الله
يكتبها حسنةً، ما المقصود بذلك؟
قال أهل العلم: الذي ترك السيئة لأجل الله، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- جاء في
بعض الروايات إنما تركها من جرائي، يقابل ذلك من هم بسيئةٍ وأراد العمل، فمنع من
ذلك لم يصل إليه قدرًا، فإنه تكون عليه سيئةٌ، ولذلك قال: «القاتل والمقتول في
النار»، قيل: فما بال المقتول؟
قال: «إنه كان حريصًا على قتل صاحبه»، فهذا فيه عملٌ ليس فيه مجرد همٍّ، أما مَن
هَمَّ بسيئةٍ فكانت خاطرةً، فهذا لا تكتب عليه سيئةٌ البتة، لكن من استقر في نفسه
ولم يعلمها، فإن كانت تلك من عبادات القلوب، فإنها بمثابة العمل كالشك في نبوة
النبي -صلى الله عليه وسلم- فهذا عمل القلب، فتكون معصيةً، أما إذا كان من الأعمال
ولم يمشِ إليها، فلأهل العلم فيها كلامٌ، إذا استقرت في نفسه، والأكثر عند الجمهور
أنها لا تكتب عليه، وهذا هو الذي جاء عن ابن عباس.
لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الذي يخلط في ماله، أنه تكتب عليه سيئةٌ ثم
الرجل الذي يتمنى ما تمناه هذا في أن يخلط في ماله ويفعل، قال: فهما في الوزر
سواءٌ.
قال أهل العلم: إن هذا تكلمٌ، أي قال، فإنما كان عليه الإثم من جهة قوله لا من جهة
ما استقر في نفسه، ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «فإن همَّ بها فعملها، كتبه
الله عنده سيئةً واحدةً» هذا ما يتعلق بحديث كتابة السيئات والحسنات، ولا يهلك على
الله إلا هالكٌ، لعظم فضل الله يضاعف الحسنات، ويثيب على الهم والعزم عليها، ويجعل
السيئة واحدةً ويقلب السيئة حسنةً عند التوبة، وتكون من همَّ بالسيئة فتركها حسنةً،
فأين يكون للعباد عذرًا بعد ذلك في أن يهلكوا ولا يقيموا الصالحات ولا يستقيموا على
القربات، نسأل الله أن يعيننا على البر والطاعة.
بعد هذا نقل المؤلف -رحمه الله تعالى- الحديث الثامن والثلاثين، وهو حديث أبي هريرة
-رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: قال الله -تعالى: «من
عادى لي وليًّا فقد أذنته بالحرب» هذا من أعظم الأحاديث وهو حديثٌ عند البخاري في
صحيحه، وهو بيان منزلة أولياء الله -جلَّ وعلَا.
الولاية أولًا ما هي؟
الولاية هي النصرة في أصلها، والمقصود بذلك الأتقياء من عباد الله ولم يبلغوا درجة
الأنبياء بصلاحهم وإخلاصهم وإقبالهم على الله -جلَّ وعلَا- لكن تلك الولاية ليست
دعاية كما يفعل بعض الناس، وليست ممن يحبون الشهرة ولا الظهور ولا التكثر عند الخلق
بالجاه ونحو ذلك، فهؤلاء كاذبون في ولايتهم، أما أهل الولاية فهم أهل خشيةٍ وخضوعٍ
وورعٍ، وإعراضٍ عن الخلق وإقبالٍ على الله، ملئ قلوبهم أنهم لا يثقون إلا بربهم،
وأنهم يعترفون بتقصيرهم ويظهرون أسفهم على ما يفوت من أحوالهم وما يكون من عدم
قيامهم بما يليق بحق الله -جلَّ وعلَا- لعظم ما حصل في قلوبهم من الصلاح، فيقول
النبي -صلى الله عليه وسلم: «من عادى لي وليًّا فقد أذنته بالحرب» فأولياء الله هم
الذين يدفع عنهم الله، وهم الذين يرحمهم الله ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ
الَّذِينَ آمَنُو﴾ [الحج: 38] ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾ [الزمر: 36] من
كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة، فليمدد بسببٍ إلى السماء ثم ليقطع،
فلينظر هل يذهبن كيده وما يغيظ حد الله -جلَّ وعلَا- المشركين إذا كانوا يستطيعون
أن يحيلوا بينه وبين رسوله، ومن كان كذلك من أهل ولاية وأهل الاستقامة على دينه
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُو﴾ [المائدة: 55]،
فهؤلاء يدفع الله عنهم، ومن أذنه الله بالحرب فقد هلك، مهما طال به الزمان أو تقلبت
به الأيام، فإنه لا يكون إلا على هلكةٍ وبلاءٍ.
ثم يقول: «وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه» كثيرٌ من الناس لا
يعرف هذا المعنى، الفرائض أعظم ما يتقرب بها إلى الله -جلَّ وعلَا؛ لأنها أعظم
أجورًا، وبها وعيدٌ فيمن تخلف عنها بالوقوع في عذاب الله -جلَّ وعلَا- ونكاله،
ولأجل ذلك ربما تجد أن بعض الناس لا يجتهد في بذل زكاته، لكنه يجتهد في صدقته
المستحبة، لا يجتهد في صلاة ظهرٍ أو عصرٍ أو مغربٍ أو عشاءٍ، لكنه أكثر ما يكون
خشوعًا في صلاة ليلٍ أو وترٍ ونحوه، وهذا ليس بجيدٍ، بل ينبغي للإنسان أن يكون أحرص
ما يكون على تمام فريضته، ثم بعد ذلك ينتقل إلى النافلة والمستحبة، ومن كان من أهل
إقامة الفرائض فهم من المقتصدين كما جاءت بذلك آية فاطر، ومن كان من أهل النوافل
فإنه يكون من المسابقين.
ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل» التقرب إلى
الله بالنوافل التي شرعها الله، فلا تقرب إلى الله -جلَّ وعلَا- إلا بما شرع الله،
وبما سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يزيد العبد ولا ينقص، ثم يكون ذلك سببًا
لمحبة الله لعبده، المحبة أيها الإخوة تقدم الكلام عليها، وهو أن الله يحب عبده،
وهي محبةٌ تليق بجلال الله -جلَّ وعلَا- إن الله يحب المتقين ويحب المحسنين.
قال: «فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به» يعني أن الله
-جلَّ وعلَا- يتولى عبده بالتوفيق والتسديد والإعانة، فيحمله على الخير وييسر له
بابه، ويمنعه عن الشر ويغلق عليه طريقه ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾
[الفاتحة: 5] فالله المستعان وهو الموفق لعباده، ومن تخلى عن ذلك فهو المخلول،
والله -جلَّ وعلَا- يوفق الموفقين من عباده المسارعين على طاعته، هذا هو المقصود من
هذه الآية، ولذلك يقول بعض الصحابة: إننا لنظن أن الشيطان يهاب عمر أن يوسوس له
بالشر، لتوفيق الله له، ولإعانته لعبده -رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
ثم قال: «ولئن سألني لأعطينهن، ولئن استعاذني لأعيذنهن»، هذا توفيقٌ من الله، ولذلك
كان لأصحاب رسول الله شيءٌ من ذلك، سعد دعا على ذلك الرجل، فأصابته تلك الدعوة،
ومثل ذلك يقال إن الحسن دعا على رجلٍ من الخوارج، فمات في مجلسه ذلك، فهذا شأن
أولياء الله، وأهل طاعته «وما ترددتُ في شيءٍ ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا
أكره مساءته» المقصود بالتردد هنا، ليس أن الله -جلَّ وعلَا- يأتي عليه الأمران،
هذا وهذا، لكن لما كان الله -جلَّ وعلَا- يدفع عن عبده، والموت مكتوبٌ عليه، فلابد
له من حصوله، فكان ذلك يعني أنه يتجاذبه أمران، وهو ما يدفع الله عن عباده ويحميهم
من الشر، وما كتب الله -جلَّ وعلَا- كتاباً حاصل على كل عباده ﴿كُلُّ مَنْ
عَلَيْهَا فَانٍ * وَيبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾
[الرحمن:26-27].
ثم ذكر المؤلف حديث ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- قال: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه»، هذا
الحديث من الأحاديث العظيمة، وهو أصلٌ من الأصول الكبيرة التي قررها الفقهاء
والعلماء في كل المسائل، والمقصود بذلك أن كل من حصل منه الخطأ وهو من قصد شيئًا
فحصل له شيءٌ آخر، فإنه معفوٌّ عن فعله من جهة أنه لا يلحقه الإثم، فالمقصود هنا
رفع الإثم عنه، ومثل ذلك الناس وهو الذي ذهل عن الشيء حتى لم يشعر به، والمكره
سيأتي الكلام عليه، فليس المقصود في ذلك أن العمل صحيحٌ بكل حالٍ أو أن لا، بل من
نام عن صلاةٍ أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لكن المقصود رفع الإثم ﴿رَبَّنَا لَا
تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَ﴾ [البقرة: 286] قال الله -جلَّ وعلَا:
«قد فعلتُ»، لكن ما يتعلق بهل يكون نسيانه منهيًا للتبعة عليه، هذا يختلف باختلاف
الأفعال، ولذلك فرق فيها أهل العلم، فذكروا أن نسيان الصلاة يوجب فعلها، وأن من نسي
الطهارة فإنه يجب عليه إعادته، لكن من غطى رأسه وهو محرمٌ ناسيًا، فإنه لا شيء
عليه، فلهم في ذلك تفاصيل فيما يحلق الإنسان، ومثل ذلك الخطأ أيضًا، فالإنسان مثلًا
لو ضرب شخصًا ففقأ عينه خطأً، هنا نقول لا إثم عليه، لكن لا يعفيه ذلك من أن تلحقه
الدية، ويجب عليه بذل ما فوت على صاحبه من فقأ عينه، وأهل العلم لهم تفاصيل في ذلك
كثيرةٌ لا يسع الحديث عنها.
«وما استكرهوا عليه» أيضًا المكره لا قصد له، ومناط الأعمال إنما هي بالقصود والخطأ
والنسيان والإكراه أسقطه معبودنا الرحمن، والإكرام إما أن يكون بالإلجاء، يعني كان
يحمل الشخص ثم يضرب به شخصٌ آخر، فهذا لا حيلة للإنسان فيه، فإما أن يهدد، فيقول
أهل العلم لابد من التهديد الصادق لموقعٍ به، من عذابٍ شديدٍ كضربٍ أو قتلٍ أو
نحوه، والتهديد والإكراه إن كان في الأقوال فلا غضاضة على الإنسان فيها، إلا من
أُكره وقلبه مطمئنٌ بالإيمان، أما الإكرام على الأفعال فلهم في ذلك تفصيلٌ، فيقولون
لو أُكره على القتل لم يجز له، لأنه يقتل غيره ليستبقي نفسه، فليست نفسه بأولى من
غيره، أما ما سوى ذلك فلهم فيها اختلافٌ وتفاصيل مثل من أكره على شرب الخمر من
الأفعال، هل يجوز له أو لا يجوز، فأهل العلم مختلفون، ومثل ذلك من أُكره على الزنا،
ولأجل ذلك فيها تفاصيل يمكن أن لا يسع الحديث عنها في هذا المقام.
هذه إشارةٌ عابرةٌ حتى ما يدرك كله لا يترك جله، على أقل شيءٍ نأتي من الإشارات ما
يكفي عن كثيرٍ من العبارات، بعد هذا ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أو نقل حديث ابن
عمر، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: «كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر
سبيلٍ» هذا من الأحاديث العظيمة وهو في ختام هذه الأربعين مناسبٌ جدًّا، في حث
النفوس على التقنع من هذه الدنيا والتخلص من تبعاتها والإقبال على الآخرة، والرغبة
فيها والسعي فيما يكون مقربًا للعبد عند الله -جلَّ وعلَا- ﴿وَلَا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَ﴾ [طه:131]، ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ
وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأولًادِ﴾
[الحديد:20] كل ذلك وآياتٌ كثيرةٌ من كتاب الله دالة على الإعراض عن الدنيا
والإقبال على الآخرة، ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا كراكبٍ
استظل تحت شجرةٍ، ثم ذهب وتركه»، «إنما مثلي كمثل رجٍل دخل من هذا الباب وخرج من
هذا الباب» فالدنيا عابرةٌ، والدنيا هي دار الحيوان لو كانوا يعلمون، فكان العبد
متقللًا في الدنيا، قال أهل العلم: وفي هذا الحديث إشارةٌ إلى أن الغريب الأصل أنه
متطلعٌ إلى وطنه، فوطنك هو الآخرة.
فحيٌّ على جنـات عـدنٍ
فإِنـهـا منازلك الأُولى وفيها المخيم المخيــــم
ولكننا سبى العـدو
فـهل تـري نعود إِلى أَوطاننـا ونسلم
أو كما جاء في نونية ابن القيم -رحمه الله تعالى، فإذن العبد إنما ينظر إلى وطنه
ولا يعتبر بهذه الدنيا مهما ازدهرت ومهما علت، ومهما كبرت ومهما عظمت، ثم إنَّ حاله
حال المسافر، والمسافر مقبلٌ على زاده، يخشى أن ينقطع، يخشى أن يقل، يخشى أن يضعف،
فلا يزال عاملًا، والزاد إلى الآخرة هو ما يقرب إليها من الأعمال الصالحة، وفيما
يحول بينك وبين رحمة الله، من الابتعاد عن المعاصي والسيئات، ولأجل ذلك تتابع كلام
السلف في ترك الدنيا وعدم الركون إليها.
قبورنا تُبنى وما تُبنا ... يا ليتنا تُبنا قبل أن تُبنى
وبني القصور المشخمرات في الهوى ... وفي علمنا أنا نموت وتخرب
يسعى الفتى وحمام الموت يدركه ... وكل يوم يدني للفتى الأجلا
إلى غير ذلك مما جاء عن عليٍّ، أن للآخرة والدنيا بنون فكونوا
من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، إلى غير ذلك من الأحاديث العظيمة، أو
المقولات والآثار الكريمة، ولأجل ذلك كان ابن عمر يقول: إذا أمسيتَ فلا تنتظر
الصباح، وإذا أصبحتَ لا تنتظر المساء، تقلل من الأمل إنما بلاء الناس من أملهم،
ولأجل ذلك لما ذُكر لبعض أهل العلم، قال: إنني لا أنتظر شهرًا، قال: إنه لأملٌ
كبيرٌ، وقال الآخر: إني لآمل إلى أسبوعٍ، فقال: إنه لأملٌ كثيرٌ، وقال الثالث: وإني
لا أؤمل ونفسي بيد غيري، يعني: بيد الله -جلَّ وعلَا، فهذا حال المتقين الذين
يتقلون من الدنيا وينظرون إلى الآخرة، فما بين لحظةٍ وأنت تمشي على هذه الدنيا حتى
تكون في بطنها، وما أنت وأنت تحرك أعضاءك وتذهب وتجيء، حتى تقف هامدةً خامدةً لا
تتحرك ولا تستطيع شيئًا، نسأل الله أن يصلح قلوبنا، وأن يحرك نفوسنا، وأن يحملنا
على البر والتقوى، وأن يجعلنا ممن طال عمره وحسن عمله واستقامةً على طاعة الله
-جلَّ وعلَا، فكان من الغرباء في هذه الدنيا المتقللين منها، المتزودين للآخرة،
الراجين للقاء الله -جلَّ وعلَا.
بعد ذلك ننتقل إلى الحديث الحادي والأربعين، وهو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص،
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ
به»، وهذا أيضًا من الأحاديث العظيمة، لما كان أكبر ما يكون من أسباب حصول الضلال
على العباد هو الهوى، فلأجل ذلك أمر أهل الإيمان أن يكون هواهم ومحبتهم تابعةٌ لما
جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم- متبعين مقتفين مستنين بسنة النبي -صلى الله عليه
وسلم- لا يزيدون ولا ينقصون، ولذلك قال الله -جلَّ وعلَا- في الدلالة على أن الهوى
أعظم ما يكون إضلالًا للعباد ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾
[الفرقان: 43] فجعله بمثابة الهوى لكثرة ما يكون به من الضلال ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي
أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمً﴾ [النساء: 65]
والله -جلَّ وعلَا- يقول: ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا
يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ﴾ [القصص: 50] فاتباع الهوى سبب الضلال، ولأجل ذلك جاء
في الحديث «إذا رأيت شحًّا مطاعًا وهوًى متبعًا، وإعجاب كل ذي رأيٍ برأيه، فعليك
بخاصة نفسك» فهي من أعظم ما يكون به الضلال، ولذلك أمر النبي -صلى الله عليه وسلم-
إلى أن يؤطر بالحق وأن يطلب فيه إتباع السنة، وأن يكون تبعًا لما جاء به النبي -صلى
الله عليه وسلم، ولأن أصحاب الهوى يعلمون ويعرفون، لكن للهوى في نفوسهم والزيغ الذي
في قلوبهم يميلون ويعرضون، فأصل الهوى هو الميل، والغالب أن الهوى ميلٌ عن الحق
وإعراضٌ إلى الضلال، ولأجل ذلك قال الله -جلَّ وعلَا: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ
إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾، وأكثر الآيات والدلائل تدل على ذم الهوى مما يدل على أنه غالب
في الضلال والإضلال.
بعد هذا أيضًا نقف وقفةً سريعةً عند هذا، مع أن كان بإمكاننا أو نحن بحاجةٍ إلى
الإطالة فيه، لعلنا نصل إلى الحديث الأخير وهو الحديث القدسي في قول النبي -صلى
الله عليه وسلم- قال الله -تعالى: «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك على
ما كان فيك ولا أبالي» هذا الحديث القدسي حديثٌ عظيمٌ، وهو مناسبٌ لختام هذه
الأحاديث، فإنه ذكر أبوابًا مما تغفر به الذنوب، وتكفر به الخطيئات، ويحصل للإنسان
به الأجر والثواب عند الله -جلَّ وعلَا-، فأولها دعاء الله -سبحانه وتعالى- أيها
الناس أقبلوا على الله وادعو الله وارجو الله، فإن الله رحيمٌ بعباده، يعطيهم
ويزيدهم ويجزيهم ويتجاوز عنهم ويغفر لهم ويرحمهم، فكم من دعوةٍ صغيرةٍ حصل للإنسان
بها خيرٌ كبيرٌ، وكم من كلمةٍ يسيرةٍ فتح الله للإنسان بها باب الدنيا والآخرة، وكم
من دعوةٍ صعدتْ في جوف الليل كان فيها تنفيس كربةٍ أو ذهاب ملمةٍ، سواءً على الشخص
في نفسه أو على المجتمع أو على المسلمين أجمعين، والدعاء إنما يكون لله لا لغير
الله، لا لنبيٍّ ولا لملكٍ ولا لقبرٍ ولا لوليٍّ، الدعاء حق لله، فهذا أعظم ما يكون
به إجابة الدعاء، من تأدبٍ بآداب الدعاء استفتح بالحمد والثناء على الله، وتوسل إلى
الله بأسمائه وصفاته، وبالعمل الصالح الذي يعمله، وذكر من فاقته وضعفه أمام الله
-جلَّ وعلَا-، فإن ذلك أحرى أن يجاب، ومن توسل بالتوسلات الشركية، بجاه فلانٍ أو
بالاستشفاع بالمخلوقين، فإن ذلك لا يزيده من الله -جلَّ وعلَا- إلا بعدًا ﴿وَقَالَ
رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:60] ،ومن أضل ممن يدعون من دون من لا
يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون، وللدعاء آدابٌ كثيرةٌ ينبغي
للإخوة أن يتعرفوها وأن يتعلموها، لأنها من أعظم الأبواب التي يحصل للعبد بها خيرٌ
في الدنيا والآخرة، في نفسه وفي زوجه وفي ولده وفي المسلمين أجمعين، وما يكون من
أمر الدنيا والدين، ولذلك يدعو الإنسان حتى لمن سبقه من أهل الإيمان، ومن يأتي
بعده، ويسأل الله -جلَّ وعلَا- لهم الخير والبر والإحسان.
ثم يقول: «غفرتُ لك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغتْ ذنوبك عنان السماء، ثم
استغفرتني» هذا بابٌ آخر وهو باب الاستغفار واللهج إلى الله -جلَّ وعلَا- بطلب
المغفرة، والمقصود بالاستغفار يعني أن يطلب الإنسان المغفرة بأن يقول أستغفر الله،
فهو يطلب من الله -جلَّ وعلَا- أن يغفر ذنبه، ولذلك تقدم معنا حديث الأغر المزني في
أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستغفر الله في اليوم مائة مرةٍ، وفي حديث أبي
هريرة يستغفر الله سبعين مرةً، من أعظم ما يكون للإنسان الاستغفار، والاستغفار إن
اقترن بالتوبة وهو مشروطٌ بشروطها، فيكون ذلك توبةً ومحققًا لمحو الذنوب وذهابها،
وإن كان الاستغفار مجردًا، فهو دعاء وطلب المغفرة، فقد يتحصل للإنسان وقد لا يتحصل،
لكن من ألظ على الله -جلَّ وعلَا- وأقبل عليه واستغفر، فإنه يوشك أن يغفر له، وإن
الله -جلَّ وعلَا- يقول: «من يستغفرني فأغفر له» وكلما كان الإنسان طلبها في وقتٍ
أو في زمانٍ أو في حالٍ أو في هيئةٍ، كانت مما يجاب له فإنه حقيق بأن يجيب الله
دعاءه، وأن يغفر له ذنوبه، ومن ذلك أن يظهر الفاقة، ولأجل ذلك كان من أعظم
الاستغفار سيد الاستغفار، وهو ما فيه من إظهار فاقة العبد «اللهم أنت ربي وأنا
عبدك، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت»
حديث شداد بن أوس لعلكم تراجعونه وتحفظونه، فإنه من أعظم ما يدعى به الله -جلَّ
وعلَا.
ومثل ذلك أيضًا ما جاء، «اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كبيرًا، فاغفر لي مغفرةً من
عندك، وارحمني فإنك أنت الغفور الرحيم»، كان ذلك من أعظم ما يستغفر به الله -جلَّ
وعلَا.
هنا ثم قال: «يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا،
لأتيتك بقرابها مغفرةً» هذا ختام أحسن ختامٍ، ختامٌ لهذا الحديث وختامٌ لهذه
الأربعين، وهو الختام بتوحيد الله -جلَّ وعلَا- وتحقيق الإيمان به، فإنه أعظم ما
يكون به حصول المغفرة والرحمة من الله -سبحانه وتعالى- «لو أتيتني بقراب الأرض
خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرةً» فضلًا من الله ونعمةً،
ورحمةً من الله ومنةً، لأن هذا توحيده وهو حقه، من لقي الله وهو لا يشرك به شيئًا
دخل الجنة، فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله،
فينبغي للعبد أن يحرص على تحقيق التوحيد، والتوجه إلى الله وتصفية قلبه، وأن لا
يتوجه إلى أحدٍ دون الله -سبحانه وتعالى- لا بفعلٍ ولا بقولٍ، ولا بتوجه قلبٍ، لا
ما يكون من الشرك الخفي كالرياء وغيره، ولا من الشرك الأصغر، كشرك الأقوال والحلف
بغير الله وغيرها، ولا الشرك الأكبر وإتيان السحرة، ونحوهم، وما يكون من إتيان
المشعوذين، وإن كان إتيان المشعوذين قد يكون من الشرك الأصغر وقد يكون من الشرك
الأكبر، ومن أعظم ما يذكر في هذا أن بعضهم سمع أعرابيًّا يدعو، فيقول يا رب أو يقول
اللهم إني تقربت بأحب الأشياء إليك وهو توحيدك، وابتعدت عن أكره الأشياء إليك، وهو
الإشراك بك، فاغفر لي ما بين ذلك، وذكر ابن قدامة في الحج له دعاءً عظيمًا فيما
يدعو به في يوم عرفة، فمن فتح الله له باب السؤال وحسن المسألة والثناء على الله
بما يليق به، فإنه حقيقٌ به أن يحصل أنواعًا من الرحمات والبركات والنفحات، نسأل
الله أن يغفر لنا بتوحيده، وأن يوفقنا بالإيمان به، لما يكون به صلاح ديننا، وصلاح
دنيانا وصلاح آخرتنا، وفلاحنا ونجاحنا عند الله -جلَّ وعلَا-، وأن يصلح بذلك أهلينا
وأزواجنا وذرياتنا، وأن يرفعنا عنه في جناتك جنات النعيم، وأن يجعلنا مع النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين، في الفردوس الأعلى من الجنة، ووالدينا ووالديهم،
وأزواجنا وذريتنا وأحبابنا والمسلمين.
أيها الإخوة هذه ساعاتٌ قد مضت، وهذه أوقاتٌ قد توالت، ونحن في مثل هذه الأحاديث،
لم أكن بأحسن من يكون لشرحها ويتصدى للكلام عليها، وإنما هي مشاركةٌ وأحاديث عابرةٌ
يراد بها التنبيه على هذه الفوائد، وَنَقْلُ بعض ما يكون فيه من الشوارد التي ذكرها
ودَوَّنَها أهل العلم، فلم يبقَ إلا الختام، ولم يبقَ إلا أن نسأل الله -جلَّ
وعلَا- أن يجعله لنا في الكمال والتمام، لم يبقَ إلا أن نشكر الإخوة الذين كانوا
سببًا في هذه المجالس، وفي هذه اللقاءات، كل من كان سببًا إليها وطريقًا إلى
تحصيلها، نسأل الله أن يعمر قلبه بالإيمان، وأن يزيده من طاعة الرحمن، وأن يجعلنا
وإياكم هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، أسأل الله أن يجزيكم خيرًا على حضوركم،
وأن يجعل ذلك في ميزان حسناتكم، وأن يبلغكم الخير والهدى والعلم والبر والتقى، وأن
يردكم إلى أهلكم سالمين غانمين، أسأل الله أن يجزي الإخوة الذين يتابعوننا خير
الجزاء، وأن يجعلهم من الموفقين والمسددين والمحصلين للعلوم، والموفقين لحسن
الفهوم، وأن يجعلهم على الطريقة الراشدة والسنة المهدية المتبعة لهدي نبينا -صلى
الله عليه وسلم.
ونسأل الله أن يعفو عني وعنكم التقصير والخلل، وأن يجمعنا وإياكم على البر والتقوى،
وأن يجمعنا في مجالس طيبةٍ من مجالس العلم والعلماء، إنه ولي ذلك والقادر عليه،
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على النبي الأمين.
سلاسل أخرى للشيخ
-
13396 33
-
17105 27
-
23747 18
-
78682 18
-
5037 6
-
2908 22
-
2730 24
-
2683 12
-
5748 12
-
8845 12
-
10684 24
-
11542 13