الدرس الثامن

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

11542 13
الدرس الثامن

الأربعون النووية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا، إلى يوم الدين، أما بعد، فأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعمر قلوبنا بالإيمان، وأن يجعلنا من أهل طاعة الرحمن، وأن يعيننا على البر والخير والبذل والإحسان، إن ربنا جوادٌ كريمٌ، مجيب الدعوات.
أيها الإخوة الكرام، لا يزال الحديث موصولًا في هذه الأحاديث النبوية، والرياض المحمدية، عن نبينا -عليه الصلاة والسلام- فنسأل الله -سبحانه وتعالى- لنا ولكم الإعانة والتوفيق، والخير والتسديد، وأن يجعل الكلام حجةً لنا لا حجةً علينا، وأن يسددنا إلى الصواب، ويوفقنا إلى الحق، وأن يبعد عنا الخطأ، والزلل، والشر، والباطل، إن ربنا جوادٌ كريمٌ.
تعرفون أنا كنا قد ابتدأنا حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- في قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وقلنا: إنَّه حديثٌ عظيمٌ، وأن فيه دلالةً على أن الأعمال داخلةٌ في مسمى الإيمان؛ ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب»، وإن كانت المحبة من الأعمال القلبية، إلا أنها عملٌ، فتدخل في جملة الأعمال، وتكاثرت الأحاديث عن نبينا -صلى الله عليه وسلم- في الدلالة على هذا المعنى والإشارة إليه، وَحَمْلُ أهل الإيمان عليه، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال في الحديث الذي في الصحيح: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة، فلتأتيه منيته وهو يؤمن بالله، وليأتِ إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه»، وفي هذا دلالةٌ عظيمةٌ على ما ينبغي لأهل الإيمان سيرةً ومنهاجًا، قولًا وفعلًا، للقريب والبعيد، للمحب والعدو، للناس جميعًا، من كانت بينك وبينه خصومةٌ أو دعوةٌ ومنازعةٌ، أو كانت بينك وبينه فجوةٌ أو غير ذلك من الأمور، فإنه لا يسع المؤمن إلا أن يحب لأهل الإيمان مهما تباعد بينه وبينهم أمورٌ أو حصلت بينه وبينهم فجواتٌ إلا أن يحب لهم ما يحب لنفسه، ولذلك سئل -صلى الله عليه وسلم- عن أفضل الإيمان، فذكر من ذلك وأن يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يكره له ما يكره لنفسه، ولا يزال لسانه رطبًا بذكر الله في جملة حديثٍ من أحاديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم.
وجاء أيضًا في الإشارة إلى ما تقدم الكلام عليه، أنه من الإسلام؛ فأحب لأخيك ما تحب لنفسك تكن مسلمًا.
وقد تساءلنا في درسٍ ماضٍ في آخر ما ذكرناه هناك، وقلنا: ما الذي يترتب على هذه المحبة؟ وما الذي يكون من آثارها على المؤمن فيما يفعله في يومه وليلته؟
أول ما يكون أن المؤمن يقر في قلبه الفرح لأهل الإيمان، ومحبة ما ينزل بهم من الخير، وأن يطرد عن نفسه الحسد وضغن النفوس وفسادها، فلابد إذا بُشر بما أصاب مُسلمًا من مولودٍ ولد له، أو من خيرٍ رٌزق إيَّاه، أو من وظيفةٍ تبلغها، أو من شيءٍ من أمور الدنيا حصل عليه، أو من ثناء الناس أو غير ذلك من الأمور الدنيوية أو غيرها أن يفرح له، وإذا تبوء الإنسان منصبًا دينيًا كقضاءٍ أو إمامةٍ أو خطابةٍ أو تعليمٍ أو غير ذلك، فليكن به فرحًا وليكن بذلك مستبشرًا، وليكن له مؤيدًا وداعيًا، وأن لا يقر في قلبه شيئًا من الضيق أو الحسد أو أن يكره له شيئًا من ذلك، هذا من أهم ما يتعلق بهذا الأمر.
والثاني: مما يترتب على أن "يحب الإنسان لأخيه ما يحب لنفسه" النصح له، فلابد أن يكون ناصحًا لأن الناصح ولا شك أنه يحملهم على الخير ويدعوهم إليه، فإذا كان يحملهم على الخير ويدعوهم إليه، فإن ذلك عنوان محبته لهم وفرحه بحصول الخير لهم، ولأجل ذلك جاء في حديث جرير، بايعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام والنصح لكل مسلمٍ، يا إخوان لو أن الواحد جرب منا هذه المسألة لوجد أنه أصفى الناس قلبًا، وأطيبهم حالًا، وأسعدهم حياةً، وأهنئهم عيشًا، وأشرحهم صدرًا، ما يحب النصح لمسلم إلا وتجد في نفسه من الانشراح وصلاح الحال ما لا تكاد تجده عند غيره، فلأجل ذلك ينبغي أن يكون لذلك ناصحًا، ويذكر أن محمد بن واسعٍ دخل ليبيع حمارًا له، فقال المشتري -أي: من يريد شراء الحمار- هل ترضاه لي؟
قال: لو رضيته لك ما بعته، فانظر مع أن حاجته إلى بيعه وإلى تسويقه وإلى أن يظهر جميله وإلى أن يظهر إلى المشتري ما يرغب في شرائه وزيادة الثمن فيه، لكن محض النصيحة منعه من ذلك وحمله على سواها، وإن من ضد ذلك أن يكون الإنسان يخفي عن المسلمين الخيرات، ويكتم عليهم العيوب، ويسوق لهما ما يكون في الشرور، ويرضى بما يكون مثل ذلك.
ولهذا جاء عن الفضيل بن عياض ما هو أشد من هذا، أنه لما قال: مَن أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ مِثْلَه، فلا نُصْحٌ لَه.
يعني: لابد له أن يحب أن يكون الناس خيرًا منه، وهذه وإن ذكر بعض أهل العلم أنها من الكمالات والتمام، لكنها عند أهل الفضل مستقرةٌ ومتأكدةٌ لديهم، ولأجل ذلك ينبغي لنا أن نحرص على هذا المعنى، وتمام ذلك كما قلنا وأشرنا إليه، أن لا يسعى المسلم في شرٍّ أو حسدٍ أو سوءٍ أو بلاءٍ لمسلم، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، فإذا تحصل الإنسان ذلك فإنه يكون قد أحب لإخوانها ما أحب لنفسه، يذكر في هذا أهل العلم مسألتان متقاربتان:
أولاهما: محبته إلى أن يتميز عنهم، يعني: أن يكون أحسن منهم، أن يكون أسرع إلى بعض الأمور الدينية أو الدنيوية من غيره، فروي في ذلك أثرٌ عن عليٍّ -رضي الله تعالى عنه- من أحب أن يكون أجود في شراك نعله، فإنه يدخل في قول الله -جلَّ وعلَا- ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ ولَا فَسَادً﴾ [القصص: 83]، فكأنه أراد علوًا في هذا، وبعض أهل العلم يقول: هذا محمولٌ على أن يكون قد قصد الفخر عليهم، وقد يقال أيضًا: إن ما جاء عن عليٍّ -رضي الله عنه- أنه في الكمالات، ومحبة للمؤمن ما يحب الإنسان لنفسه لا تعارض التنافس في الخيرات، فالمرء ينافس في الخيرات ويسابق ويسارع إليها، مع محبته إلى أن يكون إخوانه مثله وأن يكونوا يسابقون إلى الخير بنحو ما يسابق إليه، وإذا رأى منهم ضعفًا أو تركًا أو نقصًا أو غير ذلك، فإنه يدعوهم إليه، ثم يرجو أن يكون أسرع إلى الخيرات وأسبق إلى القربات، فلا يكون في ذلك كراهيةً لحصوله له، ولا يزال المؤمن ينبغي له أن يقدح في نفسه أو يظهر نقصها حتى يحمله ذلك على الاجتهاد، وحتى يحب لغيره أن يكون أجود في الخير منه، وإن من وفق لهذا فإنه وفق لخيرٍ عظيمٍ، وهذا الأمر إذا انفتح على المسلمين فإنهم لا يزالون في خيرٍ في كل أمورهم، سواء في ذلك إن اتسعت الأمور أو ضاقت، فإنها إن اتسعت كلا أخذ الخير وكلا فرح لصاحبه بالخير، وإن ضاقت الأمور وازدحمت فإنه لم يزل الواحد يؤثر صاحبه بالخير ويقدمه على نفسه، فيجد الناس في ذلك فرجةً وفرحًا، فيحصل هذا مطلوبه، ويحصل ذلك فضله عند ربه وأجره عند مولاه، ولا تزال الناس في إيثارٍ وفي محبةٍ وفي تسابقٍ للخيرات، وحصول البركة من الرحمن -سبحانه وتعالى.
هذا ما ذكره النبي -صلى الله عليه وسلم- «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، ولو وقفنا مع هذا في نزعات النفوس أو ما يحصل عند كثيرٍ من الناس، أو ما يكون عند بعضهم من ضيق النفس وعدم فرحه بما يحصل لأهل الإيمان، لرأينا في ذلك مفارقاتٍ كثيرةً عند الناس، وهذا يستوي فيه المتعلمون وغير المتعلمين، إن قلت ذلك فيما يتعلق بالإخوة أحيانًا فيما يحصل بينهم من غيرةٍ وحسدٍ وغير ذلك، إن قلت ما يكون بين الزوجات، إن قلت في ذلك ما يكون بين الأقارب، إن قلت ما يكون بين الجيران، إن قلت ما يكون بين طلبة العلم، إن قلت ما يكون بين الموظفين، ما يكون بين التجار، حتى في الولايات الكبرى وغيرها، فإن الناس لا يزالون تضيق نفوسهم أن يروا غيرهم في خيرٍ أو في سعةٍ أو في تحصيل شيءٍ من الرحمات الدينية أو الدنيوية، أسال الله أن يوفقنا وإياكم إلى أن تطيب قلوبنا لإخواننا وأن نحب الخير لأهل الإيمان فينا، وأن نزداد بذلك قربة عند الله -جلَّ وعلَا- وثباتا عليها.
لعلنا حتى ما يذهب علينا الوقت أن نأتي على الحديث الذي بعده.

{الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد، فاللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين وللمشاهدين ولجميع المسلمين.
قال النووي -رحمه الله: (الحديث الرابع عشر، عن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» رواه البخاري ومسلم)}.
بعض أهل العلم إذا أراد قراءة أحاديث من كتاب معين، فإنه يقول: نقل المؤلف أو نقل الإمام، وذلك أحسن من: قال المؤلف.
فالأمر في ذلك يسيرٌ، يعني: باعتبار أنه نقل قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو قد قال ذلك، فالأمر في هذا متقاربٌ لكن هذا من أنواع التفنن وطلب أتم العبارة وأكملها.
حديث ابن مسعود هذا من الأحاديث العظيمة وفيه مسائل كبيرةٌ، ولعلنا أن نختصر فيه ونقتصر لعلنا -بإذن الله جلَّ وعلَا- أن نأتي على أهم مسائله، وأن ننتقل إلى الذي بعده، فقول النبي -صلى الله عليه وسلم- «لا يحل دم امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» لو قلنا: النفس بالنفس والتارك لدينه أو على القطع فقلنا: النفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة، هذا الحديث أصلًا في تحريم الدماء وتعظيمها، وعدم انتهاكها أو التسلط عليها، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال: «لا يحل دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاثٍ» هذا فيه إبانة إلى تحريم الدماء وحفظها وعدم التسلط عليها أو التفويت لها، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذ» في خطبة عرفة المشهورة، فكل ذلك يدل على تعظيم الدماء وأنها معظمةٌ عند أهل الإسلام، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «لا يزال المرء في فسحةٍ من دينه، ما لم يصب دمًا حرامً» وعظم النبي -صلى الله عليه وسلم- الكعبة وقال: «إن حرمة المسلم أعظم عند الله منك» كل ذلك يدل على هذا الأمر.
ثم في هذا إشارةٌ أيضًا إلى أن إحلال دمٍ من الدماء لا يكون لآحاد الناس، كيف أخذنا ذلك، لأنه لما قال: «لا يحل دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاثٍ» فالحكم بحصول واحدةٍ من هذه الثلاثة، ليس لآحاد الناس وإنما هو لمن يؤول إليهم الحكم، ويصدر منهم النظر، وهو ولي الأمر أو من ينيبه من القضاة ومن في حكمهم، وإلا فإنه يفضي ذلك إلى الفوضى في استباحة الدماء والتسلط عليها وغيره، ولذلك لما لم يفقه بعض الناس هذا، حصل منهم البلاء وحصل منهم الشر، وخرجوا على المسلمين واستباحوا دماءهم.
ففي هذا الحديث إشارةٌ إلى أنه لا يستبيح ذلك، وليس لأحدٍ الحق في ذلك من آحاد الناس، حتى لو عظمت منزلته أو علت درجته أو ارتفع علمه، حتى يكون ممن له هذه الولاية، وهو ولي الأمر الأعظم أو من ناب عنه في ذلك من القضاة ومن في حكمه، ولأجل هذا فإن الجهاد ينص أهل العلم على أنه لا يكون إلا مع الإمام الأعظم، ومن أجل ذلك أيضًا نَصَّ أهل العلم على أن الحدود لا تُقام في غير بلاد المسلمين، لماذا؟
لأنه ليس فيها وليٌّ للأمر، فإذا لم يكن فيها وليٌّ للأمر، فليس فيه من له الحق في الاستيفاء والإقامة، وهذا قد يظن بعض الناس أنها إباحةٌ للدماء، لا، فهو بضد ذلك لو تأملتموه، ولذلك جاءت هذه على سبيل الحصر والاستثناء، فلما كانت استباحة الدماء محصورةً في هذه الثلاثة، وسيأتي الكلام عليها تفصيلًا فيها، فإنه يدل على أن الأصل المستقر هو عدم إباحتها أو التسلط عليها وإراقتها، هذا من جهةٍ، وأن من له الحكم في ذلك من له الولاية العظمى أو ينيبه في الولي الأعظم، أو الإمام الأعظم في ذلك.
هذه مسائل مهمةٌ خاصةً ونحن نرى في هذا الزمان من يتجاسر على استباحة الدماء وإراقتها والتسلط عليها، والتفجير والتكفير وما يتبع ذلك من إراقة دماء المسلمين، سواءً كان على وجه الخصوص أو على وجه العموم، واستهدافهم في مساكنهم أو في مساجدهم أو في أسواقهم، كل ذلك على خلاف ما جاءت به الأدلة، ودلت عليه النصوص، واستقر عليه كلام أهل العلم، وجرى عليه أهل السنة والجماعة.
لما قال: «بإحدى ثلاثٍ، الثيب الزاني» الثيب ضد البكر، وهي مَن دُخِلَ بها أو أي واحدٍ من الزوجين دخل في نكاحٍ صحيحٍ وهو حرٌّ عاقل بالغٌ، ولأهل العلم في ذلك تفاصيل وكلامٌ، فإن البكر إنما عقوبته جلد مائةٍ وتغريب عامٍ، كما جاء ذلك في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «البكر للبكر جلد مائةٍ وتغريب عامٍ، والثيب الجلد والرجم»، فإذن الثيب الزاني يقتل، ودليل قتله جاء في هذا الحديث وجاء في أحاديث كثيرةٍ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من أشهرها حديث جابر في رجم اليهودييْن، لما سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- ما تجدون في كتابكم؟ وكانوا يجدون الرجم، لكن لما حرفوا وصاروا يجلدونهم ويسودوا وجههم، قالوا: إن أفتانا بذلك قبلنا وإن لا رددنا، فأمضى عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجم الذي هو في كتاب الله، وكانت آيةً ثم نسخ لفظها وبقي حكمها كما هو مشهورٌ عند أهل العلم، وجاء في ذلك قصة ماعز، والغامدية الجهنية وغيرها من الأحاديث الكثيرة.
إذا قلنا ذلك الثيب الزاني، هل يكون فيه الجلد مع الرجم أو لا؟
لأهل العلم فيه كلام، منهم من يجمع بين الجلد والرجم لها، ومنهم من يقول: يكتفى بالرجم وأن حديث جابر وفيما معناه من قصة ماعز وغيرها ناسخةٌ لذلك؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكر عنه أحوالًا كثيرةً رجم فيها، لم يذكر في واحدةٍ منها أنه جلد مع ذلك.
هذا إذن ما يتعلق بالأول، ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم- واسمحوا لي فلن أطيل حتى نختصر قدر الاستطاعة، قال: «والنفس بالنفس» هذه من أعظم ما جاءت به الشريعة وأعظم ما دلت عليه النصوص، أن النفس تقتل بالنفس، وهنا عبر بالنفس المجردة للدلالة على أنه لا تفضيل لأحدٍ على أحدٍ، فيقتل في ذلك الغني بالفقير، والقوي بالضعيف، والعزيز بالحقير، والكبير بالصغير، والرجل بالمرأة، وعلى ذلك حكى أهل العلم الاتفاق على هذه المسألة ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 179]، ولما شرع الله -جلَّ وعلَا- قتل النفس بالنفس، فإنما أراد بذلك أن ينكفئ الناس عن التجرؤ على استباحة الدماء؛ لأن مَن عَلِمَ أنه يُقتل بذلك ويقاد، فإنه سيحجم ويمنع نفسه من التسلط على المسلمين، ثم إنَّ الجزاء من جنس العمل، فمن استباح دماء المسلمين استُبِيحَ دمه بما جاء في كتاب الله، ودلت عليه سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
طبعًا استثنى أهل العلم من ذلك مسائل، من أشهرها أن الوالد لا يقتل بولده، وهذا جاء فيه حديثٌ وقال به جمهور أهل العلم، فالوالد لا يقتل بولده، وهذا لما ذكرنا من الأحاديث ولأهل العلم فيه تفصيلٌ وكلامٌ.
أيضًا ذكروا أنَّ الكافر لا يقتل بالمؤمن، لأن المؤمنين تتكافأ دماؤهم وغيرهم لا يكافئهم، وهذا أيضًا مذهب الجمهور خلافًا للحنفية، وتكلموا أيضًا في نحو من ذلك مسألة قتل الحر بالعبد، وهذه من المسائل التي محلها بحث الفقهاء، وتفاصيل الكلام فيها، ومبناها على ما دلت عليه الأحاديث، وجاءت به النصوص، ثم قال: «والتارك لدينه المفارق للجماعة»، هذا في المرتد، والمرتد جاء فيه هذا الحديث، وجاء في حديث ابن عباس: «من بدل دينه فاقتلوه»، ولقائلٍ أن يقول: إن هذا فيه كما يقول بعضهم: هذا من الوحشية، أو غير ذلك، كل هذا هراءٌ، وكل ذلك كلامٌ في الهواء، والحق أحق أن يتبع، وكتاب الله تعالى اتباعه أحق، واتباع سنته -صلى الله عليه وسلم- أوثق، وفيها النجاة والخلاص، وفيها الخير والفلاح، فإن من بدل دينه، بعد أن عرف الحق، وطاب قلبه به، وتوجه إلى ربه، واستقام على شرعة نبيه، ثم نكس ونكف، فإنه يكون قد فوت على نفسه الحق في هذه الدنيا ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وحكم الله -جلَّ وعلَا- في ذلك ثابتٌ، خلافًا لبعض أهل العقد المتكلمين، المقدمين لعقولهم على النصوص، الذين يردون مثل هذه الأحاديث، فإن هذا الحكم، لم يقل به عالمٌ، ولا مذهبٌ، ولا جملةٌ من الفقهاء، بل هذا مما تتابع عليه أهل العلم، وتتابع عليه أهل المذاهب، واستقر القول به، وصحت به النصوص، وتوافرت به الأدلة من سنة نبينا -صلى الله عليه وسلم، فهل نتبع ما جاء في هذا؟ أو من لا يحسن الكلام ويسترضي غير المسلمين بذلك؟ أو بعض المشغبين ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: 120].
فهذا كتاب الله، وقد جاء في تأكيده أصول، وأيضًا في ترتيب الحكم عليه مسائل، فذلك أن يكون منه ارتدادٌ، بأن يرفض الإيمان بعد أن قبله، أو أن يقع في مكفرٍ من المكفرات، وقد عد أهل العلم المكفرات في كتبهم على اختلاف مذاهبهم، في باب حكم المرتد، ومنها:
كأن يستهين بالمصحف، أو كأن يلقي عليه، أي: على المصحف القاذورات، أو كأن يسجد لصنمٍ، إلى غير ذلك مما يحصل به التكفير، ولأهل العلم في ذلك أيضًا ضوابط وقيودٌ، لا يمكن إجراء أحكام الردة عليه حتى تتم، وذاك أيضًا إنما هو لمن يقدر على ذلك ممن يكون له ولايةٌ شرعيةٌ، بالعلم والقضاء، ولا يفتات في ذلك، فيقال: هذا قال كذا، فهو مرتدٌّ، فيستباح دمه، ثم إذا حُكم بإباحة دمه، فإنه يستتاب، كما جاء ذلك عن عمر -رضي الله عنه، أنه يستتاب ثلاثًا، يعني تُطلب توبته، فإذا تاب ورجع إلى الإسلام، فالحمد لله، إذا لم يرجع، فإنه يُقتل.
لقائلٍ أن يقول: لماذا يطلب توبة هذا؟ ولم يطلب توبة السابقين؟
قال أهل العلم: إن الردة يمكن استدراكها، لكن الزنا الذي حصل من الثيب، والقتل الذي حصل من القاتل، لا يمكن استدراكه.
ذكر أهل العلم أنَّ هذه الثلاثة، ليست هي التي جاءت فيها الأدلة فقط فيما يُقتل، بل جاءت أدله في غيرها، مثل: قتل اللوطي «اقتلوا الفاعل والمفعول»، «ومن أتى بهيمة»، قتل الساحر، وأيضًا «من أتاكم، وأمركم جميعٌ، يريد أن يفرق جماعتكم، فاقتلوه كائنًا من كان»، كلها جاءت بها النصوص، في أنهم يقتلون.
ذهب بعض أهل العلم إلى قتل الداعية إلى البدعة، وهو مشهورٌ عند الحنابلة، فمن ذهب إلى ذلك قال: كل هذه تعود إلى حديث ابن مسعود، ولا تخرج عنه، وتدخل في قوله: «والمفارق للجماعة» بوجه من الوجوه، ولهم في ذلك تفصيلاتٌ، وبعضهم يقول: إن حديث ابن مسعود نسخها، وهذا ليس بجيدٍ، وذلك من جهتين:
أولًا: أن حديث ابن مسعود، لا يُعرف أنه متأخرٌ عنها.
الثاني: الحديث العام لا ينسخ الأحاديث الخاصة، وتلك أحاديث جاءت في مسائل بخصوصها، فصح القول من أنها باقيةٌ على حكمها، ثابت القول فيها، ومن ذلك أيضًا القتل تعزيرًا، فإنه قد جاءت به الدلالة، وصح به نصٌّ، وحكم به جماعةٌ من أهل العلم.
هذا يمكن أن نكون قد أتينا على عجالةٍ سريعةٍ، فأرجو أن يكون كافيًا فيما ذكرنا.
نأتي إلى الحديث الذي بعده.

{(الحديث الخامس عشر: عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه» رواه البخاري ومسلم)}.
هذا الحديث أيضًا كما تقدم معنا، أنه من الأحاديث العظيمة، والتي عليها مدار الأخلاق، ولذلك قلنا من أنه أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الأخلاق «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت».
قبل أن نأتي إلى تفاصيل هذه المسائل، فإنكم لو نظرتم، فإن الحديث كله، فيه: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر»، وفيه إشارةٌ إلى مسألتين: إحداهما قد تقدمت، وهي: أن مسائل الأعمال متعلقةٌ بالإيمان، وأنها داخلةٌ فيه، وجزءٌ من أجزائه، ولذلك تكاثرت بهذا النصوص ودلت على ذلك الأدلة، فلا يأتي آتٍ ويقول من أن الإيمان مجرد تصديقٍ، بدلالة هذه الأحاديث وهي كثيرةٌ بالمرة.
فليست حديثًا ولا حديثيْن ولا ثلاثةً ولا عشرةً، فهذا أمرٌ ينبغي أن يتأكد في نفوسنا، لأن بعض من يخرج العمل من الإيمان، يقول لا إله إلا الله ثم يقبل على شهواته وبلائه، ولا يعرف من دينه شيئًا، فذاك لا يجديه عند الله جلَّ وعلَا شيئًا، في المشهور من قول أهل السنة والجماعة، أو هو قول أهل السنة والجماعة، المشهور يعني هو القول المشهور والذائع لا يعرف سواه إلا عند أهل الأهواء والضلال، نسأل الله السلامة والعافية.
ثانيًا: أن قوله: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر» تعلق بذلك سواءً ما يكون بالإحجام عن الكلام السيئ وقول الخير فيه، وهي من حقوق الله جلَّ وعلَا التي يحاسب الله العبد عليها، وقد يتعلق بها حق آدميين إن كانت غيبةً أو نحوها.
وأيضًا في الجملة الثانية والثالثة ما يتعلق أيضًا بحقوق الآدميين من إكرام الضيف، وإكرام الجار وعدم إيذائه، ونحو ذلك، فكل ذلك داخلٌ في الإيمان، فسواءً كانت من الأعمال التي تختص بحق الله، أو كانت من الأعمال التي تختص بحق الآدميين.
وفي هذا دلالةٌ على أن هذه أعمالٌ يثاب عليها المرء، وأن الأعمال تدخل في الواجبات، ولأهل العلم في ذلك تفصيلاتٌ سيأتي الإشارة إليها.
لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فليقل خيرًا أو ليصمت»، هذا حديثٌ عظيمٌ وما شيءٌ يحتاج إلى أشد من طول حبسٍ من اللسان، ولذلك جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صمت نج»، وجاء في حديث أم حبيبة: «كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا ما كان من أمرٍ بالمعروف ونهيٍ عن المنكر أو ذكرٍ لله جلَّ وعلَ».
ففي هذا إشارةٌ إلى عظم هذا الأمر، وعظم هذا الباب، وأن الكلام أكثره يكون وبالًا على المرء، وسببًا لحصول هلكته، ولذلك في حديث معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به، قال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم».
يعني ليس أكثر ما يدخلهم النار الزنا أو السرقة مع عظم هذه الأمور، لكن أكثر ذلك لأن من عباد الله من يعظم هذه الذنوب، لكنها يستسهل بالكلام، ويسهل عليه التجرؤ فيه، ولذلك يقول عمر رضي الله تعالى عنه: "من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه فالنار أولى به" نسأل الله السلامة والعافية.
فليحذر المكلف؛ ولأجل هذا تكاثرت الأحاديث في الدلالة على التنبيه على ذلك، ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حديث أبي هريرة: «وإن الرجل ليتكلم بالكلمة تهوي به في النار سبعين خريفً»، وهي كلمةٌ واحدةٌ، «إن الرجل ليتكلم بكلمةٍ من رضوان الله تبلغ به أبعد ما بين المشرق والمغرب، وإنه ليتكلم بالكلمة من سخط الله تهوي به أبعد ما بين المشرق والمغرب».
كل ذلك يدل على عظم هذا الأمر، وأنه من أكثر ما يكون سببًا لدخول العبد للنار، نسأل الله السلامة والعافية.
فينبغي للإنسان أن يحفظ نفسه، ولذلك جاء عن أبي بكر أنه قال: "هذا الذي أوردني الموارد".
جاء عن ابن مسعود أنه قال: "ما من شيءٍ أحوج إلى طول حبسٍ من اللسان".
وجاء ذلك عن كثير من السلف في الإشارة إلى هذا الأمر، وقد تقدم منا نحوٌ من هذا الكلام، أن الإنسان يكاد أن يكون أطول ما يكون يحتاج إليه حفظ لسانه، وهو أصعب ما يكون عليه طيلة حياته.
فلأجل هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فليقل خيرًا أو ليصمت»، قال أهل العلم في هذا وفيه إشارةٌ إلى عظم أنه لا يخلو الأمر إما أن يكون خيرًا وإما أن يكون ضد ذلك.
ولذلك قال الله جلَّ وعلَا: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18]، واختلفوا من أجل ذلك هل يكتب على الإنسان كل شيءٍ أو لا يكتب إلا الحسنات والسيئات؟
منهم من يقول هذا، ومنهم من يقول هذا، والأشهر أنه يكتب عليه كل شيءٍ، حتى إذا قال أكلتُ أو شربتُ أو قمتُ أو نمتُ.
ثم يمحو الله -جلَّ وعلَا- ما يشاء ويثبت، ويذكر في هذا قصةٌ ذكرها ابن رجب، أن رجلًا عثرت به دابته، فقال: تعس الحمار، فاستشكل هل يكتبه كاتب الحسنات أو كاتب السيئات، فقضى الله -جلَّ وعلَا- قال: كل ما لم يكن حسنةً فلم يكتبها كاتب الحسنات فيكتبها كاتب السيئات.
ففي هذا أيضًا إشارةٌ إلى عظم ما ينبغي للإنسان من أن يحفظ لسانه، فلأجل ذلك يقول أهل العلم: ينبغي للإنسان ألا يتكلم إلا بالخير، أو ما يكون فيه صلاح دينه، أو ما يبتلى به من أمور دنياه، مما تقوم به أمور دنياه، ومما زاد عن ذلك فإنه ينبغي أن يحفظ نفسه من ذلك.
ولأجل هذا يقول بعض أهل العلم: هل أفضل للإنسان الكلام أو السكوت؟
لا شك أنه إذا كان يتكلم بسوءٍ أو بشرٍّ فالسكوت خيرٌ له، لكن إذا كان يتكلم بالخير فبعضهم يقول كما نقل عن بعض السلف: الساكت على علمٍ كالمتكلم على علمٍ، لكن بلا شك أن المتكلم في خيرٍ أو بعلمٍ أهدى وأفضل، لماذا؟ لأن الساكت لا يعدو أن يكون قد حفظ نفسه، أما المتكلم فإنه حث على خيرٍ ودعا إليه، أمر بمعروفٍ وقرب منه، نهى عن منكرٍ وحذر منه، إلى غير ذلك من الأشياء، أو ذكر الله جلَّ وعلَا، أو كان فيه كلامٌ طيبٌ تطيب به الأمور، ويدعى به إلى الخير.
فلأجل ذلك ينبغي للإنسان ألا يكون إلا داعيًا إلى الخير، وإلا صمت، فالصمت هو بدل الكلام الخير، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فليقل خيرً» وبه الابتداء وعليه الاعتماد، فإن لم يوجد الخير في ذلك فليصمت.
ويقول بعض أهل العلم كلمةٌ لطيفةٌ في هذا وهو يقول: أن الإنسان إذا تكلم فأعجبه كلامه فليسكت، لأنه يكون إنما يتكلم من إظهارٍ إعجابًا بنفسه ونحو ذلك، وإذا سكت فأعجبه سكوته فليتكلم، مخالفةً لهواه.
هذا الكلام على هذا الأمر من أعظم الأمور وأجلها، ولو أوردنا ما فيها من الأحاديث، أو ما في هذا الأمر من الخطر، أو كثرة ما فيه من الزلل، أو حصول النقص عندنا والمخالفات، لرأينا ذلك واسعًا كثيرًا، لكن حسبنا أن نشير إلى ذلك إشاراتٍ.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره» وفي بعض الروايات: «فلا يؤذِ جاره»، وكلاهما مطلوبٌ.
أما أذية الجار فإنها محرمةٌ؛ لأن أذية غير الجار محرمةٌ فمن باب أولى أن تكون أذية الجار، فتخصيص الجار هنا يكون على سبيل بيان الأهمية وعظم هذا الأمر، وأنه أشد من غيره، وآكد مما سواه، ولأنه تكثر بين الجيران أحيانًا بعض المداخلات ونحوها فربما حصلت الأذية، أو قرب الشر والشيطان، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم التنبيه على ذلك، ولهذا لما سئل في حديث أي الذنب أعظم؟ قال: «أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك»، قال: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك»، قال: ثم أي؟ قال: «أن تزاني بحليلة جارك».
وجاء عند أحمد وغيره، أن يسرق الإنسان من عشرة أبياتٍ خير من أن يسرق من بيت جاره، أو أن يزني بعشر نسوةٍ خيرٌ من أن يزني بامرأة جاره، أو كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذلك لخصوصية ما جاء من حق الجار، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن من لا يأمن جاره بوائقه»، والبوائق ما هي؟ شره وغوائله وسوؤه، فإذا كان ما يأمن، الجار دائمًا في خوفٍ من جاره أن يصله شيءٌ من شره، فهذا لا يحصل له الإيمان.
وتعرفون الحديث الذي فيه أن الرجل اشتكى جاره، أمره أن يلقي متاعه، فما زال الناس يلعنونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لعنه قبل أن يلعنه الناس».
فهذا فيه إشارةٌ إلى عظم ما يتعلق بذلك الأمر، ثم جاء الأمر بالإحسان إلى الجوار، وهذا فيه أحاديث كثيرة، منها هذه الرواية «فليكرم جاره»، وجاء فيها: والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب، وكلام أهل العلم طويلٌ في الجار ذي القربى، هل هو القريب، أو هو الملاصق، وهما محتملان لهذا المعنى جميعًا، والجار الجنب يعني البعيد، والصاحب بالجنب، بعضهم يقول هي الزوجة، وبعضهم يقول هو رفيق السفر، ويكون رفيق الحضر من باب أولى، أدخلوا في ذلك كله، كله داخل في هذا ومتعلقٌ بهذا الباب.
إذا دخلنا إلى هذا الأمر وهو ما يتعلق بإكرام الجار، فقد تواردت في ذلك أدلةٌ كثيرةٌ، منها حديث أبي ذر، «يا أبا ذر إذا طبخت مرقةً فأكثر ماءها حتى تطعم جارك».
وجاء أيضًا: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» حتى ولو كافرًا حتى ولو كان يهوديًّا.
ولذلك جاء عن عبد الله بن عمرو أنه لما ذبح أهله ذبيحةً، قال: هل أعطيتم جارنا اليهودي، هل أعطيتموه، فما زال يرددها، ثم ذكر هذا الحديث، «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».
ففي هذا إشارةٌ إلى عظم حق الجار، والقيام به.
وفي هذا من الجار؟
الجار كل من حصل به الجوار قرب أم بعد، ومرد ذلك إلى العرف، بعض أهل العلم حده بأربعين من كل جهةٍ، يعني من الجهات الأربعة فيما يحيط بك، الجار الأربعين يدخل في حق الجوار، وإن كان الأقرب فالأقرب أولى.
ويظهر أن هذا لا يختلف عمن يقول أنه العرف، باعتبار أن الأربعين هي القريبة، فبناءً على ذلك إذا كانت الأربعين تتباعد لكبر الدور ونحوها فإنه أخف في ذلك، لكن هنا يظن بعض الناس أنه إنما يكون جارًا إذا لزمه الجوار مدةً طويلةً، أو إذا كان من أقاربه أو من بني جنسه، خاصةً إذا كان عاملًا يسكن في غرفةٍ صغيرةٍ خادمًا في مسجدٍ، أو سائقًا في بيتٍ، أو غير ذلك، فهو من أهل الجوار، وله حقٌّ في ذلك، بل وربما كان حقه مقدمًا لقربه أو لحاجته.
ففي هذا ينبغي أن يُعلم ما يتعلق بذلك، وذكر أهل العلم في هذا مسائل، وهو أن الإنسان لا يفعل في بيته ما يحصل به أذية جاره، وتكلموا على ذلك في مسائل كثيرةٍ، منها أن لا يعمل في بيته ما يكون به أذيةٌ، كأن يكون يصهر فيها الحديد، أو يخرج ماء بيارته ونحوها التي هو ماء قذر ونحو ذلك، فلا يحصل به الأذية، أو يرفع جداره حتى يذهب الهواء على جاره، أو نحو ذلك من الأمور.
فلا يفعل في بيته ما يؤذي جاره، ولا يمنع جاره ما لا يتأذى به، يعني كأن مثلًا يعتمد على جداره لجعله خشبةً ونحوها، إذا كان لا يتضرر بذلك «لا يمنعن أحد جاره أن يغرس خشبه في جداره»، فقال أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين، والله لأرمين بها بين أكتافكم.
فهذا أمرٌ، فإذن لابد إذا كان لا يتضرر وللجار فيه حاجةٌ فيجب عليه، بل قال أهل العلم أنه أيضًا وما يتعلق بذلك مما فيه احتمال لحق الجوار، ولو حصل الأذى، ولذلك جاء عن الحسن أنه قال: ليس حسن الجوار بكف الأذى، يعني أن تكف أذاك عن جارك، بل حسن الجوار أن تحتمل أذى جارك.
فهذه مسألةٌ مهمةٌ، أما تفاصيل ما يتعلق بما يكون من أحكام الجوار ذكرها أهل العلم، ذكرها الحنابلة في أحكام الصلح، وبعض أهل العلم من الفقهاء خصوا له أبوابًا مخصوصةً، فأيًّا كان الأمر فإنهم قد ذكروه وفصلوه وذكروا ما يتعلق به.
فينبغي للإنسان أن يحسن لجاره، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر عنده تلك المرأة التي تتعبد وتذكر الله جلَّ وعلَا وتصلي، لكنها لسانها فاحشٌ على جيرانها، قال: «لا خير فيها هي في النار»، والمرأة التي كانت دون ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنها من أهل الجنة».
في هذا إشارةٌ إلى عظم ما يتعلق بحق الجار.
ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه»، كرم الضيف من جميل الأخلاق، وطيب الخصال التي يدعى إليها أهل الإيمان، والضيف لحق به من الحاجة والسفر والبعد عن الأهل، ولم يطب به الأكل مدةً طويلةً، فأحوج ما يكون للإكرام والقيام.
هذا من جهة الأصل، وقد جاءت به الأدلة، وتكاثرت به النصوص، ثم جاء التأكيد في حقه، فالنبي صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، وليؤدي إليه جائزته»، قالوا: وما جائزته؟ قال: «يومًا وليلةً» وليكرمه ثلاثة أيامٍ بلياليها، وجاء في بعض الأحاديث التأكيد على ذلك، أنه من نزل بفناء أناسٍ فقد استحق، فإن أعطوه فذاك، وإن لم يعطوه إن شاء اقتضى يعني أخذ، وإن شاء ترك.
وأهل العلم لهم تفصيلٌ فيما يتعلق بهل له أن ينتزع حقه الذي إذا لم يقوموا بحق ضيافته أم لا؟
هذا من جهةٍ، فإذن الجائزة التي هي اليوم والليلة، هذا واجبٌ، ونص على الوجوب الإمام أحمد وجماعةٌ من أهل العلم، اتباعا لهذا الحديث وهو في الصحيح، وذكر الصحابة أنهم ينزلون يبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم فينزلون بأناس لا يضيفوهم، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا حقهم.
ففي هذا كله إشارةٌ إلى عظم حق الجار، ثلاثة أيامٍ مكملةً لذلك، وتمام، وبعدها نهي أن يبقى الضيف أكثر من ذلك، قال: ولا يقعد عنده يثويه أكثر من ذلك حتى لا يحرجه، لأنه يضيق عليه، وقد لا يكون بالإنسان قوةٌ على الإقامة الحق ونحوه.
إذا تأكد ذلك فهل يتعلق هذا بكل ضيفٍ؟
بعض أهل العلم يجريه على العموم، سواءً في الأمصار الكبار التي فيها حوانيت وأماكن للأكل ونحوها، أو لم يكن كذلك، وبعض أهل العلم يخصه بأهل القرى، حيث لا يتهيأ للناس ما يجدون من طعامٍ أو شرابٍ ونحوه.
وهو بلا شك أنه في القرى آكدٌ، وقد يحتمل ألا يتعلق الوجوب بالأمصار هذا من جهةٍ، ثم أيضًا أنه لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم في التحكيم في هذا والوجوب فقال أهل العلم إنما ذلك لمن قدر أما ما لا يقدر فلا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، بل لا يجوز للإنسان أن ينزل بشخصٍ يعجزه أن يقوم به أو أن يضيفه.
هذا إذن مسألةٌ أخرى، ثم المسألة التي تليها قال أهل العلم أنه أيضًا ينبغي للمضيف ألا يتكلف، وأن يحسن له الطعام، ويطيب له الشراب بما لا يشق عليه ويكلفه.
فليس بذلك، كما هي أعراف وعوائد بعض الناس، لابد أن يذبح ذبيحةً، أو يعظم المائدة أو نحو ذلك، إن كان ذلك من سعةٍ فالحمد لله، وإلا فلا، ولا ينبغي أن يكون في ذلك تكليفٌ على الناس، وزيادة كلفةٍ عليهم، فيكون في ذلك بلاءٌ ومشقةٌ كبيرةٌ.
فإذن هذه جملةٌ من المسائل وفيها بيان عظم هذه الشريعة وما جاءت به من إكرام الذاهب البعيد، من نأتْ به الديار، وتفرق عن الأوطان، وبعد عن الأهل والأحباب، فلا يزال من أهل الإيمان من يؤيه ومن يكرمه ويضيفه، ومن يقوم بحقه ويحسن إليه.
وفيه أيضًا فتح أبواب الخير للمضيف والإكرام والإحسان بما لا يشق عليه، وبما يقدر ويتمكن منه، والله جلَّ وعلَا لا يضيع عمل من أحسن عمله، وأقام حق الله جلَّ وعلَا، واتبع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
هذه جملةٌ من المسائل المتعلقة بهذا الحديث، لعلنا أن ننتقل إلى الحديث الذي بعده.
{الحديث السادس عشر:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا قال للنبي -صلى الله عليه وسلم: أوصني، قال: «لا تغضب»، فردد مرارًا قال: «لا تغضب» رواه البخاري}
نعم هذا حديثٌ عظيمٌ، حديث أبي هريرة لما جاء ذلك الرجل يطلب وصيةً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لم تكن هذه الوصية بأحاديث طويلةٍ، ولا بكلامٍ مكرورٍ، ولا بجملٍ مسجوعةٍ، إنما هي كلمةٌ يسيرةٌ، إنما هي كلمةٌ صغيرةٌ، لكن لها معنى عظيمٌ، معنى كبيرٌ.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تغضب»، وللنبي صلى الله عليه وسلم وصايا قال أهل العلم متنوعةٌ في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى كل واحدٍ بما يناسبه، ولما كانت هذه الوصايا أيضًا يحتاج إليها الناس بعمومٍ، جاءت أسباب حتى تشمل الناس على اختلاف أحوالهم وتنوع ما يحتاجون إليه، وما يكون به قوام دينهم ودنياهم.
وهنا لما قال: «لا تغضب»، قال: أوصني، قال: «لا تغضب»، قال: أوصني، قال: «لا تغضب»، يكررها فلا يزيد على هذه الكلمة، ففي هذا كأنه في أول الأمر يظن كأن فيه استقلالًا لها، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تغضب»، وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تغضب ولك الجنة يا أبا الدرداء»، وكان أبا الدرداء هو السائل في بعض روايات الحديث.
ولذلك قول ابن رجب: فعلم من هذا أن الغضب جماع الشر، وأن ترك الغضب هو جماع الخير، ويؤيد هذا ما جاء عن عبد الله أو قال عبد الله بن المبارك في الإفادة من هذا الحديث: أنه لما سئل قيل عبر عن حسن الخلق في كلمة، قال: "ترك الغضب".
ولو نظرت فإن كثيرًا من أبواب الشر على الناس إنما تكون من الغضب، وإنما يكون من تحرك النفوس، ودخول الشيطان عليها، وما يداخلها من الانتقام، والظلم والبغي، والطغيان ونحو ذلك، الذي هو شره في النفس، وبلاءٌ فيها، وتسلطٌ من الشياطين، وحضورٌ لحظوظ النفس وشهواتها، التي جاء الشرع بتهذيبها ومنعها.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أكثر طمأنينةً وأقل وأبعد عن الغضب، حتى إنه إذا غضب إنما يرى ذلك في وجهه صلوات ربي وسلامه عليه.
فيرى أنه قد كره ذلك من عظم ما جبله الله جلَّ وعلَا عليه من طيب الأخلاق وجميل الخصال ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، فهذا أمرٌ مهمٌ أن المرء يكتم غضبه.
ولذلك قال أهل العلم: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تغضب»، ذكر أهل العلم في هذا معانيَ أو أشياء.
أولها: أن يستجلب من الأخلاق التي تبعدها عن الغضب، كطيب الخلق، والتبسم، والبشاشة، والكرم، والحياء، والحلم، والأناة، والسماحة، إلى غير ذلك من الخصال الكثيرة التي تحمل المرء على طيب نفسه، وبعده عن شدتها وضيقها، هذا الأمر الأول.
والثاني: أن يبتعد عما يكون محركًا لغضبه، والناس في ذلك يشتركون ويختلفون، منها أمورٌ يشترك الناس فيها، ومنها أن بعض الناس يغضبه ما لا يغضب غيره، فينبغي للإنسان أن يبتعد عما يستدعي الغضب ويأتي به.
وأيضًا الثالثة وهي مهمةٌ هنا وهي مرادةٌ وذكرها شراح الحديث، أن الإنسان إذا غضب فإنه يملك نفسه، ولا يعمل آثار الغضب من كلامٍ أو فعلٍ، ولأجل ذلك لما قيل لبعض السلف لا تغضب إنه يأتيني ويغشاني ما لا أستطيع أن أدفعه، قال: فأمسك عليك لسانك واحبس عليك يدك.
فإنه إذا حبس ذلك فإنه لا يكون بذلك شرٌّ، ولذلك جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ليس الشديد بالصرعة من الرجال إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب».
ولو نظرت في أن كثيرًا من الشرور إنما مبدؤها الغضب، سواءً كان ذلك فيما يحصل بين الناس من الجناية، والاعتداء، والظلم بقطع يدٍ أو عينٍ أو قتلٍ أو غير ذلك، إذا رأيت أن كثيرًا من ذهاب الحقوق إنما مبدؤها بتحرك النفس وغضبها، وربما يكون ذلك عند أفاضل الناس، ومن عرف بطيب خلقه، وطيب نفسه، يعني أنه ليس عنده ظلمٌ واستباحة حقوق الآخرين، لكنه إذا غضب ذهب عقله، وذهب رشده، فتحركت شياطينه فحملته على السوء والهوى والشر.
فلأجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تغضب»، ولأجل هذا قلنا إن المعنى المهم أن يملك الإنسان نفسه على الغضب، ولذلك يذكر أن عمر بن العزيز غضب، فقال له عبد الملك: أو تغضب وقد آتاك الله ما آتاك من الفضل، قال: أو لا تغضب يا عبد الملك، قال: إن لي جوفًا لا خير فيه إن لم يسع غضبي ألا أخرجه، أن أحركه فيه أو أديره فيه فلا أخرجه.
فانظر إلى عظم هذا المعنى، يعني أن يحمل نفسه حتى لا يغضب، أو لا يظهر غضبه، ولذلك جاء في بعض الأحاديث، «إذا غضبت فاسكت»، وأمر به.
وذكر أهل العلم دواء الغضب، لكن ما أظن إلا أن الوقت قد قارب أو شارف، فنجعل دواء الغضب، حتى ما ننسى ذكروني في بداية الدرس القادم، وإلا هو يكون ختام هذا الحديث، لكن لأهمية الكلام على دواء الغضب، فإنا لابد أن نأتي عليه بشيءٍ من الإشارة والتفصيل، أو الاستدلال وذكر ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
هذه جملةٌ من المسائل أردت أن استعجل أن نأتي في هذا اليوم ولو على خمسة أحاديث، لكن أبى الله إلا أن نقف عند الرابع، أسأل الله أن يجعل فيها بركةً، وأن يعيننا فيما نستقبل، حتى نتم هذه الأربعين المباركة، والله نسأل لي ولكم التوفيق والسداد، ولنا جميعا الخير والرشاد، وللإخوة المشاهدين كذلك.
نسأل الله أن يمن على المسلمين بخيرٍ ما يكون لهم في دينهم ودنياهم، وصلاحهم في أنفسهم وأهليهم وأوطانهم، نسأل الله أن يؤمن المؤمنين في أوطانهم، وأن يصلح لهم أمورهم في مشارق الأرض وفي مغاربها، في اليمن وفي فلسطين وفي سوريا وفي العراق وفي بورما وفي سائر الأمصار إن ربنا جوادٌ كريمٌ، نسأل الله أن يوفقنا وإياكم للخير والهدى إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك