الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

11542 13
الدرس الثالث

الأربعون النووية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله حمدًا لا ينفد، وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمدٍ، وعلى آله وأصحابه ومن تعبد..
أما بعد .. أيها الإخوة المشاهدون والمشاهدات، طلاب العلم والطالبات، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المتزودين من الخيرات والطاعات، وأن يبلغنا عالي الدرجات وأعلى القربات، وأن يبارك لنا في الأعمال والأقوال والنيات.
أيها الإخوة، لعلكم تذكرون أننا في المجلس الماضي، كنا قد ابتدأنا في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي هو أم السنة، ومحتوٍ على جميع علومها، وما اشتمل عليه تحقيق التوحيد والإيمان بالله -جلَّ وعلَا، والإحسان والآداب والأخلاق، وذكرنا جملةً من المسائل المتعلقة بذلك، وكنا نظن أنا سنأتي على تمام ذاك الحديث في مجلسٍ واحدٍ، لكن أبى الله إلا أن تبقى معه بعض المسائل، ونحن أيضًا إنما ذكرناه على سبيل الإجمال والاختصار، وإلا فحديثٌ كهذا الحديث يستوجب مجالس كثيرةً.
لكن لعلَّ في بعض الإشارة ما يغني عن كثيرٍ من العبارة.
كنا توقفنا أيها الإخوة -إن كنتم تذكرون- عما يتعلق بمسائل الإيمان بالقدر خيره وشره، وذكرنا أن الإيمان بالقدر أربع مراتب، وأنه لا يصح للعبد إيمانٌ بالقدر حتى يكون مُستحضرًا لتلك المراتب الأربعة، وهي:
- أن الله علم ما العباد عاملون إلى أبد الآباد، علم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، علمه كاملٌ سبحانه وتعالى.
- وكتابته، وأن الله كتب ذلك، «إن الله أول ما خلق القلم، فقال له اكتب، فكتب ما هو كائنٌ إلى قيام الساعة».
- ثم المشيئة وهو العلم بأن كل شيءٍ بمشيئة الله، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان:30]، فكل ما في هذه الأكوان، لا يحصل إلا بمشيئة الله -جلَّ وعلَا.

- الخلق، يعني: أن الله خلق أفعال العباد، ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد: 16]، فهذه المراتب الأربعة.
إذا استيقن العبد بها حصل له الإيمان بالقدر، فلقائلٍ أن يقول: إنه تنبعث في النفس بعض إشكالاتٍ، وترد فيها بعض الاعتراضات، وربما تتجاوز النفس إلى أن يلفظ الإنسان بها، ويسأل عنها، خاصةً في محيط هذا الفضاء الذي كثر فيه المتقولة بالباطل، فعندنا في مثل كلام يجب التنبيه عليه أولًا.
أن يعلم العباد أن الله -سبحانه وتعالى- لا يظلم أحدًا؛ لأنَّ كثيرًا من الناس يقولون: كيف كتب الله ما العباد عاملون ثم هو يحاسبهم ويجازيهم، أليس كذلك؟
فنقول: لا يظلم ربنا أحدًا، فمهما وردت عليك من هذه الوساوس والواردات فلابد أن تحجبها بذلك ولا يظلم ربك أحدًا.
وأننا مربوبون لله، مخلوقون لله، فأي شيءٍ عمله الله -جلَّ وعلَا- بنا فليس بظالمٍ لنا، لكن الله سبحانه وتعالى من عظيم لطفه، وعظيم رحمته، أنه كتب على نفسه الرحمة، وأنه لا يظلم أحدًا، «إني حرمتُ الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمً» كما في الحديث القدسي، وستأتي الإشارة إليه -إن شاء الله تعالى- لاحقًا. هذه المسألة الأولى.
المسألة الثانية مما يتعلق بذلك: أنه ينبغي للإنسان أن يعلم أنَّ مثل هذه الإيرادات ليست بصحيحةٍ، لأن من تكلم بها سواءً من الجبرية أو القدرية، فبعضهم يقول: العبد مجبرٌ؛ لأن الله يخلق فعله، وبعضهم يقول: إن الله لا يعلمه، ليصلوا إلى أن الله لم يظلم، ونحن نقول: الله عالمٌ والله لا يظلم والله -جلَّ وعلَا- ولكنه قد جعل للعباد مشيئةً.
وذلك أن العبد يعرف أن له مشيئةً، فيمكن له الآن أن يقوم إلى صلاةٍ، ويمكن أن يقوم إلى معصيةٍ، ولا يحول بينه وبين ذاك إلا إرادته، أليس كذلك؟
إذا أردتم زيادة إيضاح لذلك، فلا وضوحه بأسهل ما يكون من المثال: الوالد الذي له أولادٌ، كبر هؤلاء الأولاد، فأعطى كل واحدٍ سيارةً، وجعل له بعض المال، وقال: هذه سيارتك وهذا مالك، احرص على الذهاب إلى ما ينفعك، إلى جامعتك، إلى ما فيه صلاح دينك ودنياك، وإياك أن تذهب إلى أماكن الخنا والفسوق والفجور.
ثم قال: وإن ذهبتَ أعذبك أو أحاسبك أو أعاقبك، نعم.
وربما يكون الوالد يعرف أن هذا الولد -مع ضعف خلق الإنسان- فيه ميلًا إلى بعض الأشياء، فإذا حاسب الأولاد بعد ذلك على ما فعلوا من خيرٍ أو شرٍّ، هل يكون ظالمًا لهم؟
هل يكون هو الذي حملهم على ذلك حين أعطاهم السيارة أو أعطاهم المال؟
لا؛ لأنَّ الله -جلَّ وعلَا- لما أعطانا وخلقنا وقدرنا بيَّن لنا الصواب من الخطأ، وأشار إلينا بذلك، وجعل لنا من الكتب والرسل الذين يهدوننا إلى الحق.
فلا يمكن أن نقول: إن الوالد ظالمٌ، والله -جلَّ وعلَا- أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
مثالٌ آخر: الأستاذ الذي يدرس طلابًا، يجعل لهم في نهاية الدراسة اختبارًا، في الغالب يريد أن يعرف الأستاذ الطالب المجد الذي ينجح وربما لو كتب ذلك لعرف أن هذا ينجح وأن هذا لا ينجح، أليس كذلك؟، لكنه يقيم بذلك حجةً عليهم، حتى يعرفوا أن هذا مستحقٌّ للنجاح، ولله المثل الأعلى، فكذلك الله -جلَّ وعلَا- عالمٌ بعباده، وإنما جعل هذه الدنيا اختبارًا لهم، ليظهر أثر علمه في أنَّ هذا مستقيمٌ، وهذا غير مستقيمٍ.
فهذا من الأمثلة اليسيرة التي تُبين بطلان ما نحا إليه الجبرية من أن العبد مجبرٌ، أو ما ذهب إليه القدرية من اتهام الله بأنه لا يعلم أو أنه لا يخلق فعل العبد ولا يُقَدِّره عليه -سبحانه وتعالى.
فنحن مؤمنون بهذه المراتب، وأنها جاءت في كتاب الله، وأن للعبد اختيارًا، ﴿لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ العَالَمِينَ﴾ [التكوير: 28، 29]، فكل ذلك بمشيئة الله، والله جلَّ وعلَا جعل للعبد مشيئةً واختيارًا، فليس فيه إجبارٌ ولا ظلمٌ، تعالى عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا. وأظن أن هذا فيه إجابةٌ لسؤال بعض الإخوة الذين ربما تنقدح عليهم هذه الأسئلة،
وفي ختام الكلام على القدر، لأننا لا نريد التوسع فيه، يقول: مما ورد في الآثار أن القدر سر الله في الأرض فلا تبحث فيه، فلا ينبغي زيادة البحث والتكلف والتعمق فيه، لأن ذلك يفضي إلى شيءٍ من مداخل الشيطان، بالشكوك والريب، والحيرة وتلقُّف ما قد يضل الإنسان ويفسد عليه دينه.
بل يقبل الإنسان على ما هو عليه، ويطلب من ربه الإعانة والتسديد، وهو يرى من نفسه القدرة على الخير، ولم نسمع في الأكوان كلها وفي الأحوال جميعها أن عبدًا أراد الخير ومنع منه، أو حيل بينه وبينه، أليس كذلك؟!
فكيف يقولون إن الله -جلَّ وعلَا- يجبر عباده؟ تعالى الله -جلَّ وعلَا- عن ذلك.
إذن هذا ما يتعلق بالإيمان بالقدر، وهي مسائل من مسائل الإيمان، وهي أول بدعةٍ حصلت في صدر الإسلام، فينبغي الانتباه لها، والحذر منها، والحذر ممن يُسَوِّقُون لها، أو يريدون بعض ما يوردونه من الشبه التي ينحرف بها ضعيف الإيمان، وقليل الثقة بالله، والتوكل عليه، وحسن النظر فيما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الدلائل والبراهين التي تهتدي إلى الحق وتدل عليه.
ثم قال بعد ذلك في الحديث: قال: "صدقت"، قال: "فأخبرني عن الإسلام؟".
وهنا مسألةٌ لطيفةٌ وهم يقولون: كيف يسأله ثم يصدقه، الغالب أن السائل جاهلٌ، فالجاهل لا يمكن أن يعرف أن ما قاله صِدقٌ أو لا، فهذا فيه إشارةٌ وإلماحةٌ إلى أن جبريل إنما أتى كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك: «يعلمكم أمور دينكم».
وفيه إشارةٌ أيضًا إلى معنى لطيفٍ وهو أنه ينبغي للسائل حال سؤاله أن يستشرف الجواب، ويتطلع إليه، ويفرح به، ويكون منه من إرداف جوابٍ مناسبٍ للحال، فجبريل لما كان عالمًا قال: صدقت، وإرادة أيضًا إلى التدقيق والتحقيق أن ما قاله هو ما جاء به الله، وما أرسل به رسوله، وما أنزل به كتابه، وما بعث به نبيه صلوات ربي وسلامه عليه.
ثم قال: "فأخبرني عن الإحسان"، الإحسان من المنازل العظيمة التي جاء ذكرها في هذا الحديث، ولا يرقى إليها إلا من وفقه الله تعالى، فإن الإحسان المقصود هنا، ليس هو ما يحصل به القدر المجزئ الذي يصح به العمل، فإن ذلك مشترطٌ أصلًا، لكنه هنا مقصودٌ درجةٍ عاليةٍ ينتظم فيها من أراد الله له الخير، ومن أراد لنفسه الجد في العبادة، والإقبال على الله -جلَّ وعلَا- وحسن التعبد له، والتنسك بين يديه.
ولذلك لما قال أخبرني عن الإحسان، قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك».
المقصود هنا بالرؤية ليس هو رؤية ذات الله -جلَّ وعلَا، فذلك مما انحرف فيه بعض الصوفية وغيرهم، وليس هذا هو المقصود، ولكن المقصود هنا بالرؤية، هو المشاهدة، والمشاهدة هنا إما أن تكون في المسألة الأولى ومشاهدة المراقبة، يعني: استشعار مراقبة الله لعبده، فهذه المنزلة الأولى من منزلة الإحسان، أن تعبد الله كأنك تراه، فإن من يستشعر أنه يراه الله جلَّ وعلَا، ويحيط به، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، هذه منزلة المراقبة، أن يستشعر أن الله يراه في كل أحواله، ومطلعٌ على سريرته، ومعه في خلوته وفي جلوته، وفي ليله وفي نهاره، فإنه لا يمكن أن يتجرأ على معصيةٍ، أو أن يبادر إلى سيئةٍ، ويخاف ويقصر عن ذلك، ولا يمكنه أن يتباطأ عن طاعةٍ، أو يُقصِّر في واجبٍ.
فهو دائم المراقبة لله جلَّ وعلَا، فيحمله ذلك على القيام بحق الله، والإسراع إلى أمر الله، هذه منزلة المراقبة، المنزلة الأخرى وهي منزلة: فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، وهو العلم أو شهود رؤية العبد لربه، وهو شهودٌ لاستحضار عظمته، واستحضار آلائه، واستحضار نعمه، واستحضار فضله، واستحضار عظيم انتقامه، وشديد عقابه، فإن العبد إذا استشعر ذلك فإنه أسرع وأنشط ما يكون إلى الطاعات والقربات، وصالح الأعمال، أليس كذلك؟!
هل من يعبد الله وهو غافلٌ عن هذه المعاني، كمن يستشعر الله في كل أحواله؟
ما يكون من علمه بآلاء الله، ورحمته بعباده، وأنه مع عباده المتقين، ومع المحسنين، ومع الصالحين، فإن هذا أرجى إلى أن يكون معه حال الرجاء والإقبال على الله، والفرح بنعمة الله، والثقة بالله، فالمراقبة تفضي بالعبد إلى الخوف، ثم تأتي هذه المنزلة وهي شهود المنزلة آلاء الله جلَّ وعلَا، وصفاته، واستحضارها، فتلك تزيد من رجائه، فيكون دائرًا بين الخوف والرجاء، فيكون أتم في العمل، وأحسن في القصد، وأقوَم في الإقبال على الله سبحانه وتعالى.
هذا إذن ما يتعلق بأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك.
قال: "فأخبرني عن الساعة"، الكلام عن الإخبار عن الساعة، طبعًا من المعلوم أنها مما غُيِّبت عن الخلق، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما المسؤول عنها بأعلم من السائل»، بعض الناس يظن أن هذا إشارةٌ إلى أن جبريل يعلمها، وليس كذلك، بل كأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا وأنت في عدم العلم بها سواءٌ، أو في الجهل بها سواءٌ، ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً﴾ يعني: فجأة ﴿وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ﴾ [الزخرف: 66]، ﴿أَكَادُ أُخْفِيهَ﴾ [طه: 15]، جاء في بعضها: قال: حتى نفسي، يعني الإشارة إلى أنه لا أحد يعلم الساعة كما في أول سورة طه.
فإذن ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: "فأخبرني عن أماراتها".
من رحمة الله أنه لما خبأ الساعة وموعد حصولها، إلا أنه جعل لها علاماتٍ، وهذه العلامات منها صغرى ومنها وسطى، وكبرى، وبعضهم يقول: الصغرى والكبرى، ولا يزيد قسمًا بين هذين القسمين، وهي علاماتٌ كثيرةٌ، دلت عليها دلالات السنن الصحيحة، لكن ذكر فيها ما ليس منها، ولذلك المؤلفون فيها والمتكلمون عنها ربما أتوا بما دلت عليه دلائل الكتاب والسنة، وربما زادوا في ذلك بعض ما تلقفوه من الإسرائيليات أو من الأخبار التي فيها شيءٌ من النظر، وربما زادوا على ذلك ما هو محلٌ للاستدراك، وعدم القبول، وهذا موجودٌ في بعض الكتب، ونبه عليها أهل العلم.
ومن أوسع ما كتب في هذا من المتأخرين الشيخ حمود التويجري في كتابه: أشراط الساعة في ثلاثة مجلداتٍ، وحرر في ذلك مسائل مهمةً ومسائل نفيسةً، وتوسع في ذلك بما يكون نافعًا لمن أراد أن يتوسع في ذلك.
لما قال عن أمارتها، قال: «أن تلد الأمة ربته» الربة يعني: سيدتها، كيف تلد الأمة سيدتها؟
لأهل العلم في ذلك تفاسير، منهم من يقول: إنه يصل بالناس من العقوق حتى أن البنت تعامل أمها كما تعامل السيدة أمتها من الجفاء وشدة الإعمال والاستخدام ونحو ذلك، وذلك ربما كان معنًى بعيدًا.
لكن بعضهم يقول: أن تلد الأمة ربتها، يعني: أن تكون البنت سيدةً لأمها، وذلك بأن السيد يطأ الأمة فتلد هذه البنت أو هذا الابن فهو إذا مات والده كان مالكًا لأمه، فلأجل ذلك تعتق عليه كما هو متقررٌ عند الفقهاء، فلأجل ذلك قالوا: أن تلد الأمة ربتها.
والمقصود من هذا ليس هو حصول ذلك، لأن هذا حاصلٌ في أول الإسلام وفي كل الأحوال، لكن المقصود كثرة الرقيق في الزمان الأخير، وربما قيل في معناها: أن تلد الأمة ربتها، يعني: أن البنت تشترى فتعتق ثم يجلب رقيقًا فتشتري البنت أمها من حيث لا تشعر، فتستخدمها ولا تشعر بها. على كل حالٍ هذا من المعاني
قوله: «وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان»، يعني: الرعاة الذين ربما نزل نصيبهم أو قل حظهم، ومع ذلك آل بهم الأمر إلى التكثر من الدنيا والتفاخر بها، وإذا دخل أولئك مع قلة ما كانوا عليه من الحال فإن ذلك مؤدمٌ بفساد الزمان، وفساد الحال، وتنكُّس الأمور، وحصول أنواع من الشرور التي يكون بسببها بلاءٌ كثيرٌ.
والمطاولة في البنيان والتكثر بها، لاشك أنه مؤذنٌ بخطرٍ، ولذلك جاء في الحديث الذي في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كل شيءٍ يؤجر عليه ابن آدم إلا ما يضعه في هذا التراب» ، يعني: في بناء البيوت، قال أهل العلم: والمقصود من ذلك ما كان من البناء الزائد عن الحاجة؛ لأن أغلب الناس يبنون ما لا يحتاجون إليه.
وهذا ظاهرٌ في حال الناس اليوم من التوسع في البنيان، والتكاثر بها، والتطاول فيها.
قال: «ثم انطلق، فَلَبِث مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ: يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ؟ قَلَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ». هنا نذكر أنه في أول الحديث استغربوا هذا الرجل، ومع ذلك لم يستعجلوا في السؤال عنه، وهذا ينبغي لطالب العلم أن يكون مستأنيًا فإن العلم لا يأتي بالاستعجال، فربما يأتي من المسألة ما يود أن يتبينها لكنه ينبغي له أن ينظر حتى يمكن أن تكون ثمة مناسبةٌ لذكرها، فإذا لم ير ذلك وكانت المناسبة قائمةً فلا بأس من السؤال.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم أن جبريل كان قد أتاهم ليعلمهم أمور دينهم، وقولهم: "الله ورسوله أعلم"، يعني: إسناد العلم إلى الله ظاهرٌ، لكن إسناده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أهل العلم: هذا مقيدٌ بحال حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تكون المسألة من المسائل الشرعية، وأما المسائل الغيبية فإنها أيضًا مما يختص الله جلَّ وعلَا بعملها، ﴿ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾ [النمل: 65].
هذا يعني هي إشارةٌ إلى جملة مسائل تتعلق بهذا الحديث، وقد رأيتم ما فيه من الأهمية، وما فيه من الدلالات والمعاني، وقد أرجأنا جملةً كبيرةً منه إلى الحديث الذي بعده، ومع ذلك يعني في إشاراتٍ إلى أصل هذه الجمل التي ذكرناها، كلامٌ طويلٌ، فكيف لو أفيض الحديث فيه، وكيف لو استوعبنا ما يتعلق بالمسائل الداخلة في معانيه، فإن ذلك يحتاج إلى وقتٍ طويلٍ، لكن كما قلت لكم: لا يسعنا إلا الاختصار، وربما كانت هذه مما يحتاج إليها مثلنا من المبتدئين في العلم، وغير المتقدمين فيه، ومن أراد الزيادة والاستزادة، فإنه يبحث في شروحات الأحاديث، سواءً ما يتعلق بهذه الأربعين كجامع العلوم والحكم، لابن رجب رحمه الله تعالى، أو كان في شروحات الأحاديث المختلفة فإنها تفاصيل وفيها كلامٌ يجده المتخصص والباحث ويصل إليه المدقق والمواصل للعلم، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يجعلنا ممن يدرك مسائل العلم، ودقائقه، ويصل إلى تحقيقه، ويوفق إلى حسن التعلم والتعليم فيه.
هل بقي لديكم شيءٌ أو ننتقل إلى الحديث الذي بعده؟، ننتقل، طيب..
لعل جزاك الله خيرًا سعد أن تقرأ علينا الحديث الثالث..

{الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد..
فاللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمشاهدين وجميع المسلمين.
قال النووي رحمه الله: (الحديث الثالث:
عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بني الإسلام على خمسٍ، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» رواه البخاري ومسلم)
}
نعم، إذن هذا حديث ابن عمر فيما يبنى عليه الإسلام، وكما قال المؤلف رحمه الله تعالى ونقل حديث عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «بني الإسلام على خمسٍ»، وهذا بمعنى الحديث الذي تقدم في حديث عمر الماضي، أو حديث أم السنة.
لقائلٍ أن يقول: فما حاجة المؤلف مع أنه نحا منحى الاختصار إلى أن يعيد هذا الحديث؟
فيقول أهل العلم، ويقول بعض الشراح: إن المؤلف أو جامع هذا الأحاديث رحمه الله أراد في الأول أن يفسر الإسلام، وأن الإسلام مفسرٌ بهذه الركائز والمباني، وأنه هنا في إيراده لها في هذا الحديث أراد الإشارة إلى أهمية هذه الخصال الخمس، أو المباني الخمس، والتأكيد عليها، وعظيم ما يتعلق بالعلم بها بالنسبة للمسلم، فلأجل ذلك قال: «بني الإسلام على خمسٍ»، ولأجل ذلك أهل العلم علقوا على هذا الحديث تعليقاتٍ كثيرةً، فابن رجب -رحمه الله تعالى- يقول: والمقصود تمثيل الإسلام ببنيانٍ، وهذه الركائز الخمس بدعائمه، فهي كالدعائم له، والمقيمة له، والآتي بها كالمقيم لهذا البنيان والداعم له. والنووي -رحمه الله تعالى- الذي هو جامع هذه الأربعين في شرحه في مسلم، يقول: إنه أصلٌ عظيمٌ في معرفة الدين، وبيان ما يتعلق به، ولأهل العلم في ذلك كلامٌ كثيرٌ، ولأجل هذا جاء في بعض الأحاديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما سأله ذلك الرجل: دلني على عملٍ يدخلني الله به الجنة، وينجيني به من النار، ماذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم؟ قال هذه الركائز الخمس، قال: «تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج بيت الله الحرام»، والحديث في الصحيح، فهذا وما في معناه يدلك على عظم هذا المعنى.
إذا انتقلنا بعد ذلك إلى قوله: «بني» أو تفاصيل المسائل المتعلقة بذلك، وقوله: «بني» يعني: أنه من المباني والدعائم كما سمعنا في قول ابن رجب -رحمه الله تعالى، وينبغي أن يُعلم في هذا ألا ينتقل الذهن بالكلية إلى أن البناء بناءٌ حسيٌّ، وأن هذا كالأعمدة، ثم ينتقل الإنسان ويرتب عليها ترتيباتٍ أخرى، فإذا سقط العمود سقط البناء، فبناءً على ذلك يحصل أحيانًا بعض الخلل، لا، هذا هو تقريبٌ لأهمية هذه الأمور وعظمها، وإلا لو جئنا من جهة التفصيل، فإنه ليس بالضرورة أن كل هذه الخصال الخمس، أو هذه المباني الخمس أن بتفويتها تفويتٌ للدين، أو انتقالٌ منه، فمن لم يصم رمضان في قول عامة أهل العلم، أو أكثر أهل العلم، لا يقولون: إنه يخرج الإسلام، وكذلك الزكاة، وكذلك الحج، فهذا أصله إلى أن يعلم أن قولهم أركان الإسلام أو نحوه، إنما هي من اجتهادات أهل العلم في تقريب العلم، وبيان أهمية هذه الأمور.
ثم بعد ذلك ليس بالضرورة أن تكون هذه الأركان على حدٍ سواء، يعني كالمعادلات الرياضية، أو المعادلات الهندسية، هذا عمودٌ، وهذا عمودٌ، وما يحصل لهذا العمود، يحصل لهذا العمود، لا، بل نعرف أن هذا عمودٌ، وأن هذا أصلٌ، وأن له اعتبارًا، ثم ما يتعلق بدرجته والتمايز بينه، يرجع إلى ما جاءت به النصوص ودلت عليه دلائل الكتاب والسنة، ولأجل ذلك عند أهل العلم بالإجماع أنه ليس في صلاتك غيرها ولا يساويها ما دونها، أليس كذلك؟،
لا الزكاة، ولا الصيام، ولا الحج، لأجل هذا محمدٌ بن نصر المروزي في تعظيم قدر الصلاة، ذكر كلامًا عظيمًا، يليق بكل واحد منا أن يرجع إليه في بيان أهمية الصلاة على ما سواها، الأصل نذكرها عند ذكرها، لما قال من أنه ليست عبادةً اشترط لها الطهارة كما اشترط لهذه، وأنه ليس ثم عبادةٌ تجب في الحضر والسفر، وتجب في كل حالٍ، ولا تسقط بمرضٍ، ولا تسقط ما بقي للإنسان عقلٌ، وتوجَب لها الجماعة، وتعلق بها كثيرٌ من الأحكام لم يتعلق بغيرها.
على كل حالٍ، ليس هذا هو أصل الكلام، ولم نأت للكلام عن الصلاة، لكن هو للإشارة إلى معنى «بني»، والبناء والدعائم، ومعنى الأركان، والانتباه لها، وهذا ينبغي أن تتنبه له في سائر ما يتعلق بمسائل الشرع التي الفقهاء والعلماء يذكرون أحيانًا أركانًا، أو يذكرونا شروطًا أو نحو ذلك، فهي شروطٌ استوت في درجةٍ من القوة والأهمية، لكن لا يعني ذلك أن تكون كلها بمنزلةٍ واحدةٍ، بل تتفاوت بتفاوت النصوص، ولأجل هذا، الوقت بالنسبة للصلاة والطهارة من الحدث، ليست كاجتناب النجاسة وستر العورة في أهمية هذه الشروط، وعلى ذلك فقس.
يقول: «بني الإسلام على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله»، شهادة كما قلنا أو أشرنا في المجلس الماضي أو الشهادة هي تتضمن معانيَ كثيرةً، وكما يقول أهل العلم: هي تتضمن ثلاثة معانٍ، لابد أن تتنبه لها لأهميتها.
أولًا: أن الشهادة لابد أن يكون منطلقها يقينٌ واعتقادٌ، فلا يمكن أن يقول واحدٌ أشهد أن لا إله إلا الله، ويقوله بلسانه دون قلبه، لما ذكرنا لكم، أنه عالم الغيب والشهادة، الشهادة تقابل الغيب، فأصلها إظهار ما استقر مما غاب، مما ينعقد في القلوب، ولما كانت القلوب لا يعلمها إلا الله، فالمسلم يحتاج إلى أن يظهر إسلامه، ليُعلم ما استقر في قلبه واستيقن به، هذا معنى الشهادة من جهة أنها تحتمل معنى الاستيقان والاعتقاد، ثم لابد فيها من القول؛ لأن الشهادة إخبارٌ، والإخبار لا يكون إلا بالقول، وفيها إعلام الغير، يعني لابد أن يظهر ذلك؛ لأن الشهادة شهادةٌ عند القاضي، شهادةٌ عند الآخرين ونحوه.
ولذلك من قال: لا إله إلا الله، ولم يعتقد قلبه، لم ينفعه ذلك، ومن اعتقد ولم يقل فإنه لا يدخل في دين الإسلام، حتى يكون معتقدًا وأن يقول ذلك.
قال: «شهادة أن لا إله إلا الله».
لا إله إلا الله، هذه مفتاح الجنة، وهذه قوام الدين، وقوام الدنيا، ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، ليس في الوجود كلمةٌ أعظم منها، ولا أجل منها، ولا أرفع للعبد في دنياه وفي أخراه من أن يقولها، لأجلها قامت الدنيا والآخرة، ولأجلها خُلقت الجنة والنار، ولأجلها تقدم المجاهدون حتى استبيحت دماؤهم، وذهبت أنفسهم لتحقيق لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله لها معنًى، ما معناها؟
لا إله، هذا يتبين بإعرابها، لا نافيةٌ للجنس، إلهَ يعني اسمها مبنيٌّ، أين خبر لا النافية للجنس؟ هذا محذوفٌ؛ لأنه يكثر حذفه في العربية، والتقدير له في قول المحققين من أهل العلم كلمة "حق"، لا إله حقٌّ، لأنه يوجد مألوهاتٌ ومعبوداتٌ من دون الله -جلَّ وعلَا، لكنها كلها باطلةٌ، فلا إله حقٌ أو بحقٍّ؛ لأن الباء تصحب خبر لا كثيرًا، لا إله بحقٍّ إلا الله، والله -جلَّ وعلَا- في أصح إعراباتها أنها بدلٌ من الضمير المستتر في الخبر، حقٌّ هو أي: الله، حقٌّ هو: "إلا الله" -سبحانه وتعالى.
وهي مشتملةٌ على ركنين، النفي، والإثبات، نفي العبودية عن ما سوى الله، وإثباتها لله، ولذلك تجد أكثر آيات القرآن على هذا ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36] نفيٌ وإثباتٌ ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئً﴾ [النساء: 36] ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ [الفاتحة: 5]، يعني إياك لما تقدمت عند أهل البلاغة تدل على الحصر، حصر العبودية لله، ونفيها عمن سوى الله، ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ [الإسراء: 23]، هذا أيضًا دالٌّ على هذا، كله يدل على أنها فيها نفيٌ وإثباتٌ، ويقولون: تقدم النفي حتى يخلو القلب، وتخلو النفس من عبادةٍ من سوى الله، فتكون التخلية ثم التحلية، فيعبد الله -سبحانه وتعالى، فتتحقق العبودية والتوحيد لله -جلَّ وعلَا-، لا ينصرف القلب إلى أحدٍ سواه، ولا يشاركه غيره؛ لأن الله -جلَّ وعلَا- كما في الحديث القدسي: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه»، فلا يصح تحقيق هذه الكلمة إلا بصفاء القلب وتصفيته وتنقيته، حتى يتوجه إلى الله -جلَّ وعلَا.
هذان إذن ركناها، النفي والإثبات، ولذلك يقول أهل الأصول: ما مفهومها؟ وما منطوقها؟ هذه من المسائل الصعبة قليلًا، هل منطوقها إثبات العبودية لله؟ ومفهومها نفي العبودية عمن سوى الله؟
أصح ما يقال في هذا، قولان: إما أن يقال إن منطوق هذه الكلمة الأمران جميعًا، وهو نفي العبودية عمن سوى الله، وإثبات العبودية لله -جلَّ وعلَا، فتنفى عمن سوى الله، وتثبت لله، لأنها جاءت بالاستثناء.
وبعضهم يقول، وهذا أكثر الأصول، وعليه أهل التحقيق: إن المنطوق هو نفي العبودية عمن سوى الله، والمفهوم هو إثبات العبودية لله.
لقائلٍ أن يقول: لماذا؟
قالوا: لأن الإشكال ليس عند الناس في إثبات العبودية لله، هذه كل يثبتها، لكن هو نفي العبودية عمن سوى الله، الذي جرى عليه المشركون، وجرى عليه عباد الأوثان، وغيرهم ممن ضل عن سبيل الله -جلَّ وعلَا، ولأجل ذلك قالوا: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدً﴾ [ص: 5]، وإلا هم يثبتون العبادة لله، لكن يجعلون معه غيره، وفي قصة عمران: كم إلهًا تعبد؟ قال: سبعةً، ستةٌ في الأرض، وواحدٌ في السماء، قال: فمن لضرائك؟
قال: الذي في السماء. فهم يثبتون لكن، فجاءت لا إله إلا الله لنفي عبودية من سوى الله، وإثبات ما كانوا يحفظون من العبودية لله -جلَّ وعلَا.
«شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله»، وهذا من شرف نبينا -صلى الله عليه وسلم، أنه جعل الشهادة له بالوحدانية، يقرن بها الشهادة لنبينا بالرسالة، وهي منزلةٌ عليةٌ رفيعةٌ، وأن محمدًا رسول الله، والشهادة بأن محمدًا رسول الله كما يقول أهل العلم: تقتضي تصديقه، مادام أنه رسول الله، فلابد أن نصدقه فيما أخبر، سواءً كان ذلك فيمن قبلنا، أو فيما يأتي فيما نستقبل من أمرنا، أو كان ذلك من المغيبات في الآخرة، وطاعته فيما أمر، ولأجل ذلك جاء الأمر بطاعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كتاب الله في أكثر من ثلاثين آيةً، واجتناب ما عنه نهى وزجر، واجتناب نواهيه ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ [النور: 54] ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: 59].
إذن هذا شهادة أن محمدًا رسول الله، هذه مقتضياتها، تصديقه فيما أخبر، طاعته فيما أمر، اجتناب ما عنه نهى وزجر.
يقول أهل العلم: والشهادتان متضمنةٌ لشرطي قبول العمل، الإخلاص في شهادة أن لا إله إلا الله، والمتابعة في شهادة أن محمدًا رسول الله، فمن أراد تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، لابد أن يكون في جميع أعماله مخلصًا متابعًا؛ لأنه بالإخلاص يحقق لا إله إلا الله، وبالمتابعة يحقق أن محمدًا رسول الله، أو الشهادة بأن محمدًا رسول الله.
قال: «وإقام الصلاة»، وإقام الصلاة هذا هو الركن الثاني من أركان الإسلام، ومبانيه العظام، وليس شيءٌ أعظم بعد الشهادتين من الصلاة، وأشرنا قبل قليلٍ إلى أهميتها وعظمها، وهنا قال: «وإقام الصلاة»، ولم يقل: فعل الصلاة، أو أداء الصلاة، قال أهل العلم: لأن المقصود من ذلك ليس هو مجرد فعلها؛ لأن الله توعد الفاعلين لها، ﴿فَوَيلٌ لّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ [الماعون: 4، 5]، لكن المقصود إقامتها إقامةً صحيحةً، بأركانها، وشروطها، وواجباتها، ومستحباتها.
ولم تكن شعيرةٌ من الشعائر مثل الصلاة، ولذلك جاء عند بعض أهل العلم أن تارك الصلاة تهاونًا كافرٌ بالله -جلَّ وعلَا-، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة»، «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر»، وجاء عن بعض أصحاب رسول الله، ما كانوا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفرٌ إلا الصلاة، وهذا كما قلت لكم: هو قول الحنابلة، أو مذهب أحمد، وقال به بعض السلف، خلافًا لجمهور العلماء، والكلام في مثل هذه المسألة، تكفير تارك الصلاة من المسائل التي وقع فيها خلاف، فليس من جنس ما فعله الخوارج الذين يكفرون بمطلق الذنوب، أو بأي الذنوب، وأيضًا ليس كقول المرجئة، الذين لا يدخلون الأعمال، لكن مبنى هذا الخلاف هو ما جاء في الأدلة، في إطلاق الكفر، هل هو الكفر الأكبر، أو الكفر الأصغر كما يقول الجمهور؟
وإذا قلنا من أنه كفرٌ بالله -جلَّ وعلَا- فإن تعلق ذلك إنما هو بالباطن، أما الظاهر يعني بأن يُجرى على تارك الصلاة أحكام الكفر، فليس هذا بحاصلٍ حتى يدعوه الإمام أو نائبه كما ينص على ذلك الحنابلة، للذين يقولون بالكفر، لماذا؟ لأن هو يمكن أن يكون يصلي من حيث لا يشعر الناس، يمكن أن يصلي له شبهةٌ في الترك ونحوه، فلذلك إجراء أحكام الكفر عليه بالدعاء إلى الإمام أو نائبه، وهنا مسألةٌ أيضًا، حتى إذا قلنا بهذا.
بعض الإخوة الذين يسمعوننا ربما يكونون في بعض البلاد التي على مذهب مالك، أو على مذهب الشافعي، أو على مذهب أبي حنيفة، ولا يرون كفر تارك الصلاة، وهو ربما يرى أو سمع من يثق به بأنه كافرٌ، فلا يعني ذلك أن تجري أحكام الكفر على من ترك الصلاة في بلدك، من جهتين، أول شيءٍ حتى عند الحنابلة لابد من دعاء الإمام وإقامة الحجة، وكون ذلك عند القاضي حتى تجرى عليه أحكام الكفر، ولأنه قد تكون له شبهةٌ، وأما الصلاة التي يكفر بها ونحو ذلك له تفاصيل كثيرةٌ، ومن جهةٍ ثانيةٍ أيضًا أن هذا التارك في تلك البلدان له شبهةٌ من جهة أنه على مذهبٍ لا يرى أن تركها كفرٌ، والقول في ذلك له اعتبارٌ، فلا يمكن أن يكون ذلك مسوِّغًا لك بإجراء أحكام الكفر وآثار الكفر على هذا، ولأجل هذا يحصل في بعض البلدان من اللغط بسبب ذلك كثيرٌ، فينبغي التنبه له، وألا يستعجل المرء إلى ذلك، فيكون بسبب ذلك الشر والبلاء الكثير.
هذا إذن ما يتعلق بمسألة تكفير تارك الصلاة، والجمهور الذين قالوا بأنه لا يكفر مع ذلك يجتمعون مع الحنابلة مع أنه يُقتل، لكنه يقتل حدًا لكونه تاركًا للصلاة، لما جاء في الأحاديث «نهيتُ عن قتل المصلين» وما في معناه.
والصلاة لها أهميةٌ، وينبغي للعبد أن يتعلم أحكامها، ومما ينبغي التنبيه عليه ونحن في هذا الحديث، أن بعض الناس مع أهمية الصلاة، ومع كونه يصلي كل يومٍ، ومع أنها أعظم الأعمال، تجد أنه لا يعرف أبسط أحكامها، أو حتى إذا تعلم بعض مسائلها، فإنه لا يمرن نفسه على أن يأتي بها، ولذلك تجد أن بعض الناس، الصلاة التي يصليها التي تعلمها في الأولى الابتدائية، أو في أول مراحل عمره مع أبيه وهو صغيرٌ كيفما اتفق، فبعضها يأتي على وجهٍ صحيحٍ، وبعضها لا.
لو نظرنا إلى مثل هذا، كم صلاةٍ تصليها في اليوم؟ كم صلاةٍ تصليها في الأسبوع؟ كم صلاةٍ تصليها في الشهر؟ كم صلاةٍ تصليها في السنة؟ كم صلاةٍ تصليها في حياتك؟ فلو كان عندك نقصٌ واحدٌ، فكم سيكون عندك من النقص في حياتك كلها؟ والعكس بالعكس، من كان يحسن صلاته ويقيمها، فإذا افترضنا أنه يقيمها وكل صلاةٍ له على أتم حالٍ وأكمله، كم سيكون له من الأجر والثواب عند الله -جلَّ وعلَا؟ فينبغي التنبه لذلك والحرص عليه.
بعد هذا قال. الحديث فيها مسائل كثيرةٌ، وفضل الصلاة، لكن نختصر.
قال: «وإيتاء الزكاة»، الزكاة قرينة الصلاة، ولذا جاءت معها في مواطن كثيرةٍ من كتاب الله -جلَّ وعلَا-، ﴿وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ﴾ [الأنبياء: 73]، ويقول أهل العلم: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، أصلها قلبيٌّ، والنطق تبعٌ لذلك، والصلاة عبادةٌ بدنيةٌ، وإيتاء الزكاة ماليةٌ، والحج عبادةٌ مشتركةٌ بين المال والبدن، والصيام عبادةٌ بدنيةٌ، ولذلك أخَّرها، لأنها جاء ذكر نوع جنسها في الصلاة، بعضهم يقول هذا، على كل حالٍ إيتاء الزكاة إذن هو من العبادات العظيمة، والشعائر الكبيرة، وجاء في بيان عظمها، وأنها من مباني الإسلام، هذا الحديث، وأحاديث كثيرةٌ، ثم جاء أيضًا في التنبيه على عظم من تخلف عن أدائها، ولذلك جاء في الحديث الذي في الصحيح: «من لم يؤد زكاته، فإنه يحمى عليه يوم القيامة في نار جهنم فتكوى بها جبينه وجنبه وظهره»، في وعيد تارك بذل الزكاة لمن كان له مالٌ، وفي الحديث الآخر: «إذا كان يوم القيامة مُثَّلَ له ماله بشجاعٍ أقرع»، يعني: مثل الحية أو الثعبان، «فتأخذ بلهزمتيه، فتقول: أنا مالك، أنا كنزك»، يعني يعذبه الله -جلَّ وعلَا- بهذا المال الذي لم يؤد زكاته.
والزكاة واجبةٌ على العبد إذا استكملت شروطها، من ملك النِّصاب، ومُضيّ الحول، والحرية، وتمام الملك على ما يذكره العلماء من تفاصيل المسائل المتعلقة بذلك، وأموال الزكاة معلومةٌ، الأثمان، الذهب والفضة، وعروض التجارة، مما يعد للبيع والشراء، سواءً أعدها الآن أو في ما يستقبل بعد مدةٍ، المهم أنه جعله متربصًا للإتجار وزيادة الأثمان، أيضًا الخارج من الأرض، ولهم فيه هذا تفصيلٌ، وما يتعلق بزكاة بهيمة الأنعام.
ولما كانت مسائلها كثيرةً، فإننا ننبه على مسألةٍ ينص عليها أهل العلم، أنه يجب على كل مسلمٍ أن يتعلم من دينه ما يليق به، إذا كان مثلًا من أهل تجارة الذهب والفضة فعليه أن يتعلم أحكامها، أو عنده عروض تجارةٍ، إذا كان من أهل الزروع والثمار أن يتعلم الأحكام المتعلقة بذلك، ومثل ذلك إذا كان من الرعاة وأهل الإبل أو الغنم والبقر، فعليه أن يتعلم ما يليق به من الأحكام.
وكما قلنا إن إيتاء الزكاة في مشهور قول أهل العلم أنه لا يكفر تاركها؛ لأنه قال في عذاب تارك الصلاة، لما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يعذب، قال: «ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار»، فقال أهل العلم: فهذا دليلٌ على أنه باقٍ على إسلامه؛ لأن الكافر لا يؤول إلى الجنة بحالٍ من الأحوال، فأخذ من هذا أن تارك الزكاة لا يكفر، لكنه تاركٌ لشعيرةٍ وشريعةٍ عظيمةٍ، كما تقدم أنها من مباني الإسلام، والقول بعدم كفر تارك الزكاة هو قول عامة أو أكثر أهل العلم.
ما أريده أن أقوله لكم في نهاية هذا المقام، أن هذه الأحاديث أحاديث جعلها الله -جلَّ وعلَا- عظيمةً في قلة ما اشتملت عليه من الجمل والألفاظ، وعِظم ما دلت عليه من الدلائل والمعاني، ولذلك صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: «أوتيت جوامع الكلم»، وجب على الناس أن يتعلموا من المسائل والأحكام ما يكون به سلامة دينهم، وصلاح أحوالهم، وإقامة أمور دينهم ودنياهم.
أسال الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين، المتبعين لسنته، المقتدين بها، أن يجعلنا ممن يقوم بالسنة بها ويقيمها، وعليها يحيى، وعليها يموت، وبها يلقى الله -سبحانه وتعالى.
نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يعمر أوقاتنا بسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأن يجعلها ملازمةً لنا في كل أحوالنا وأيامنا وليالينا، وأن يجعل ذلك لآبائنا وأمهاتنا وأزواجنا وذرياتنا، وأن يعمر بها بيوتنا ومجتمعاتنا ودولنا، إن ربنا جوادٌ كريمٌ.
كما نسأله -سبحانه وتعالى- أن يغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، وأن يعز دينه، وأن يظهر كلمته، وأن يحفظ المسلمين أينما كانوا، وأن ينصر المستضعفين، وأن يردهم إلى بلادهم آمنين مطمئنين، وأن يجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
كما نسأله أن يحفظ بلدنا، وأن يحفظ جنودنا، وحدودنا، وأن يعز دينه، إن ربنا جوادٌ كريمٌ. وجزى الله الإخوة القائمين على هذا البناء، وهذا الصرح، والمشاركين لنا بالتسجيل، والتصوير، والإعانة، والنقل، وأن يجعل ذلك في ميزان حسنات الجميع، وأنتم كذلك لكم نصيبٌ أيها المشاهدون والحاضرون.
أسأل الله أن يجزيكم خير الجزاء، وأن يأتينا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وأن يقينا عذاب النار، إن ربنا جوادٌ كريمٌ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك