الدرس الثاني

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

8543 13
الدرس الثاني

الأربعون النووية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، النبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أيها الإخوة الكرام، في مجلسٌ من مجالس العلم، في مجلسٍ من مجالس النبوة، نتحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسمر مع الكلام عليه، وبيان مسائله، وما يتعلق به، فما أحسنها من جَلسةٍ وجِلسةٍ، وأسأل الله جلَّ وعلَا أن يجعلها في ميزان حسناتنا، وأن يعمر أوقاتنا بالعلم النافع والعمل الصالح.
أيها الإخوة المشاهدون، طلاب العلم، أيها الإخوة الحاضرون، نحن في هذا الميدان، في هذا الكتاب، في هذه الرسالة، في هذه الأحاديث المباركة -أحاديث الأربعين النووية، ابتدأنا وشرعنا ونسأل الله جلَّ وعلَا أن يسهل تمامنا وكمالنا، وأن يجعل ذلك تتميمًا لشرحه، وإكمالًا للنفع به، وأن يعقبنا تمام الأجر وحسن الثواب، إن ربنا جوادٌ كريمٌ.
كنا في المجلس الأول أخذنا استهلالةً في أول ما يتعلق بهذه الأربعين المباركة، ومؤلفها، وما يتعلق بمعلوماتٍ عامةٍ حولها، ثم دلفنا إلى الحديث الأول، الحديث العظيم، حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه، عسى الله جلَّ وعلَا أن يجعل لنا أوفر حظٍ ونصيبٍ، من إحسان النية، وحسن القصد والتوجه إلى الرب، والإعراض عمن سواه من الخلق.
وفي هذا اليوم بإذن الله جلَّ وعلَا نكمل في الحديث الثاني، فلعل قارئنا أن يستهل هذا المجلس بهذه القراءة، وأن يعطر أسماعنا بسماع حديث رسولنا -صلوات ربي وسلامه عليه. تفضل.
{الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد..
فاللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمشاهدين وجميع المسلمين.

قال الإمام النووي رحمه الله: (الحديث الثاني:
عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَيْضًا قَالَ: «بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، إذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ. حَتَّى جَلَسَ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخْذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَعْت إلَيْهِ سَبِيلًا. قَالَ: صَدَقْت. فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ! قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِيمَانِ. قَالَ: أَنْ تُؤْمِنَ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. قَالَ: صَدَقْت. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الْإِحْسَانِ. قَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ. قَالَ: مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا؟ قَالَ: أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ. ثُمَّ انْطَلَقَ، فَلَبِث مَلِيًّا، ثُمَّ قَالَ: يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ؟. قَلَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ)
}
هذا الحديث هو الحديث الثاني، وهو حديث عمر رضي الله عنه وأرضاه، وقد رواه مسلم في صحيحه، وهذا الحديث أيضًا رُوي مقطَّعًا من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه.
وبين يدي التحديث فلعلنا أن نذكر سبب إيراد ابن عمر أن ابن عمر رضي الله عنه رواه عن عمر، فكيف رواه؟
يذكر أن يحيى بن يعمر وحميد الحميري لما كانا بالبصرة، ووقع فيها ما وقع في أول فتنةٍ، وأول بدعةٍ حصلت، وهي بدعة القدر، وتكلم معبد الجهني، فانطلقا حاجِّيْن يطلبان الحج، ويطلبان العلم والسؤال عن تلكم الحال التي عم بها البلاء وظهرت بها الفتنة، فأول ورودهما المدينة لقيا ابن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، فكان منهما أن ذكرا له ما نزل بهما من أحاديث القدر، وما جرى فيها، وكلام معبد، والفتنة التي حصلت بذلك، فقال: أخبروه أنه بريءٌ منه، وذكر ما جرى له رضي الله تعالى عنه وأرضاه، ثم أورد هذا الحديث.
إذا تكلمنا عن هذا الحديث، فإن هذا الحديث بالمناسبة، هو أول حديثٍ أورده مسلمٌ في صحيحه، كما أن حديث عمر هو أول حديث أورده البخاري في صحيحه، فكان رحمه الله تعالى أن أورد هذين الحديثين اللذين هما من أعظم الأحاديث، بما استهلهما هذان الإمامان، الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما، وهما حديث عمر في النية، وحديث ما جرى من تعليم الدين، وما فيه من الإسلام والإيمان والإحسان.
لأجل ذلك يذكر أن الإمام البغوي رحمه الله تعالى أيضًا أورد هذيْن الحديثين واستهل بهما كتابه شرح السنة كما أشرنا إلى استهلاله بحديث عمر في الدرس الماضي، وهذا يشعرنا بأهمية هذا الحديث وعظمه.
ومما يدل على ذلك أن أهل العلم قالوا في هذا الحديث: إنه أم السنة، كما أنه يقال للفاتحة أم القرآن، ولذلك جاء عند مالك أنه قال: ما أُنزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها، لعظم ما اشتملت عليه، ولأنه كما قال أهل العلم إنها اشتملت على معاني القرآن كله، فكذلك هذا الحديث، يكاد يجمع معاني السنة كلها.
وذلك أنه اشتمل على أمور الإسلام، والأحكام الظاهرة، وأمور الإيمان، والأمور الباطنة، وتعلق بالإحسان، وأتى فيه أخبار الساعة واليوم الآخر، وجاء فيه أيضًا ما يتعلق بالآداب والأخلاق، فكان جماعًا لأحاديثَ كثيرةٍ، ولمعانٍ جليلةٍ، ولأجل ذلك، قال أهل العلم من أنه أم السنة، وأيضًا ذكر بعض أهل العلم أنه أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، إذا عدوا خمسةً من الأحاديث، فيعدون حديث عمر هذا منها.
وهذا يبين لك عظم هذا الحديث وعظيم درجته، وكبير منزلته، وأن إيراد الإمام النووي له، أو إن قلنا: إيراد النووي تبعًا لابن الصلاح، إيرادٌ عظيمٌ، وإيرادٌ مناسبٌ، واختيارٌ موفقٌ، جعل منه أصلًا يمكن أن يُنطلق منه؛ لأنه فيما يتعلق بإيمان العبد وتوحيده، والانقياد لله جلَّ وعلَا، والإسلام له.
ولذلك جاء في نهايته: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم، أو أمور دينكم كما جاء في بعض الروايات، وفي هذا أيضًا إشارةٌ إلى مسألةٍ مهمةٍ، وهي:
إذا انطلقنا في هذا الحديث أنه حديثٌ وسؤالٌ بين جبريل -عليه السلام- ورسولنا صلوات ربي وسلامه عليه.
ففيه إشارةٌ إلى ماذا؟
إلى أن علوم الشريعة من أعظم ما ينبعث لها المرء، وأعظم ما يتصدى لها الإنسان، وأن من تصدى لها فقد تصدى لخيرٍ كثيرٍ، وارتفعت منزلته عند الله جلَّ وعلَا، وقد تقدم الحديث أو الإشارة إلى حديث: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين».
ولأجل ذلك لم ينبعث جبريل -عليه السلام- للكلام في بعض أمور المعاملات، أو الدنيا، أو ما يقوم به قوام الناس في معاشهم أو اقتصادهم أو اجتماعاتهم أو غيرها، وإنما انبعث لما يتعلق بتحقيق توحيد الله جلَّ وعلَا، والإيمان به.
وكان ذلك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أزكى البشرية، وبين جبريل الذي هو أرفع الملائكة عند الله سبحانه وتعالى، وهذا فيه دلالةٌ إلى عظيم هذه المعاني التي اشتمل عليها هذا الحديث، حتى تصدى له أفضل الرسولين.
ولأجل ذلك ينبغي لنا أن نعلم عظم قدر توحيد الله والإيمان به، وأن يكون هو أُس حياتنا، وأصل أيامنا، وقوام جميع أمورنا.
ثم في هذا إشارةٌ لطيفةٌ وهي وإن كانت من الفوائد التي تؤخذ في أثناء هذا الحديث، لكن لعلنا أن نستهل بها، وذلك أننا سمعنا في أول الحديث، أنه لما جاء جبريل عليه السلام في صورة ذلك الرجل الذي لا يُعرف عند الصحابة، أي: ليس من أهل المدينة، ولا يظهر عليه أثر السفر، فقال: حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، يعني: إلى ركبتي النبي صلى الله عليه وسلم، "ووضع كفيه على فخذيه"، بعضهم يقول: على فخذي النبي صلى الله عليه وسلم، وبعضهم يقول: على فخذيه. يعني: جبريل عليه السلام.
وفي هذا إشارةٌ إلى أنه مع عظم درجتهم، وعظيم منزلتهم، وفائق ما خصهم الله جلَّ وعلَا به من الخصائص، إلا أنه لما كان المنزلة منزلة علمٍ وتعلمٍ وتعليمٍ، فإنهم كانوا أعظم ما يكون عليه من الهيئة، وأتم ما يكون فيه من السمت، والهدوء والسكينة والطمأنينة والوقار، الذي فيه تعظيمٌ للعلم، وتعظيم لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعظيم لما فيه من توحيد الله والإيمان به.
ولذلك حفظنا قول الله جلَّ وعلَا: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيل﴾ [المزمل: 5]، وهو القرآن، لا يحمله إلا ذوو القلوب القويمة السليمة التي تُقدره حق قدره، وتنزله حق منزلته، لا تلعب به، ولا تسخر، ولا تتلقاه كما تتلقى أحاديثها أو أمور دنياها، أو شيئًا مما تسلي به أوقاتها وتضيع به أيامها وحياتها.
فهذا مما ينبغي لنا أن نعلمه، وذلك أن بعض طلبة العلم ربما إذا اجتمع له شيءٌ، أو وُسم ببعض الأوصاف سواءً الأوصاف الأكاديمية، أو العلمية، أو الحفظ، أو شيءٌ من البروز في العلوم الشرعية، رأى أنه كبيرٌ على العلم، فلذلك إذا رأى أناسًا يتلقون العلم، فربما لا يلقي لهم بالًا، أو أنه إذا جلس إليهم أيضًا ربما لا يكون على هيئة وسمت أهل العلم، ومع ذلك تأمل ما جاء في هذا الحديث، رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل اللذيْن لهما من المنزلة ما لهما، ومع ذلك كان تعلمهما وتعليمهما ومحاورتهما وسؤال بعضهما لبعضٍ والإجابة على ذلك كانت على أتم هيئةٍ وأحسن حالٍ.
فهذا مما ينبغي لنا أن نستحضره خاصةً في استهلال هذه المجالس وابتداء هذه الدروس، وأن يكون الإنسان مُعظِّمًا للعلم، عارفًا لقدره، عارفًا لمنزلته؛ ولأجل ذلك فإنا نقول:
مَن حَصَّلَ عُلُومَ الشَّريعة، فإنه قد حصل كل شيءٍ ولو فاتته الدنيا برمتها، ومن فات عليه علوم الشريعة فقد فات عليه كل شيءٍ، مهما اجتمع له من الدنيا ومتعها.
إذا انطلقنا من هذه المسألة وهي العلم بأهمية علوم الشريعة، والتصدي لها، وتعظيمها، وحسن الاستماع فيها، فإن مما يمكن أن ننتقل إليه أن يُعلم أيضًا أن أعلى وأعظم ما في الشريعة هو العلم بتوحيد الله، ولذلك كان به الإسلام والإيمان والإحسان، ولا يتأتى للإنسان الإسلام إلا به.
ولأجل ذلك تصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل، وهو الذي حفلت به أيضًا آيات كتاب الله جلَّ وعلَا، من ابتدائه إلى نهايته، وكان أعظم ما في كتاب الله سورة الإخلاص مع قصرها، فهي تعدل ثلث القرآن، لما اشتملت عليه من توحيد الله جلَّ وعلَا.
ولذلك يقول أهل العلم: وممن صدر بذلك كلامه ابن أبي العز الجنفي في شرحه للطحاوية قال: فإن شرف العلم بشرف المعلوم، وليس شيءٌ أشرف من العلم بالله، والعلم بأسمائه، والعلم بصفاته.
ونحن نقول ذلك، فإذا تَكَثَّرَ النَّاس بعلوم الهندسة أو العلوم النووية أو التجريبية أو الرياضيات أو بعض هذه التجارب أو المعادلات، أو غيرها من علوم الفضاء أو غيرها، فإن ما خصنا الله به من علوم الشريعة، وما جعلنا الله جلَّ وعلَا فيه من هذا الميدان، أتم عند الله جلَّ وعلَا في الدنيا وفي الآخرة.
ولأجل ذلك ينبغي أن يكون عندنا من الاستعداد لهذه العلوم، وإقامتها، والقيام لها، ما كان عليه سلفنا وما جاء فيه حديثنا، من فعل رسولنا صلوات ربي وسلامه عليه، وفعل جبريل معه، حين كان يدارسه ويسأله ويطلب إخباره عن الإسلام والإيمان والإحسان كما سمعنا في قراءة أخينا لهذا الحديث.
بعد ذلك ننطلق إلى مسألةٍ مهمةٍ وهي متعلقةٌ بأعظم ما جاء في هذا الحديث، لما قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام، وفي هذا إشارةٌ إلى أن نداء الشخص باسمه لا بأس في ذلك، حتى ولو كان رفيع الشأن، فإن بعض الناس إذا خُلِّي من الألقاب، أو العبارات التي فيها استهلالٌ بالمدح والثناء، فإنه يجد في ذلك غضاضةً، وربما لا يلقي للسائل بابًا أو مجالًا، وهذا مما لا ينبغي، ولذلك جبريل مع ما خصه الله -جلَّ وعلَا- من كمال العمل والفعل، وما كان لنبينا صلى الله عليه وسلم من المنزلة، قال: يا محمد أخبرني عن الإسلام.
إذا أردنا أن نتكلم على الإسلام وما يتعلق به، فربما نتكلم على أول مسألةٍ وهي الإسلام، ثم ربما ما جاء في أركان الإسلام، أو قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، فإنا نرجئها إلى الحديث الثالث، فإنه جاء بنحو ما جاء في هذا الحديث، في حديث ابن عمر الذي ذكره المؤلف رحمه الله تعالى بعد ذكره لهذا الحديث.
لكن إذا تكلمنا عن الإسلام، فما معنى وما حقيقة الإسلام؟
هذه مسألةٌ مهمةٌ، والعجيب أيها الإخوة أنك ربما وجدتَ بعض المسلمين، لو قلت له: عَرِّف الإسلام، أو ما حقيقة الإسلام الذي تدين الله جلَّ وعلَا به؟ لربما تلكأ، وليس المقصود أنه لا يعرف ذلك، لكنه لا يحيط به إحاطةً تامةً بحيث يُرى فيها التمام والكمال، مع أهميتها وقيام الدين عليها.
والمقصود أن التعبير هنا بالإسلام يتوجه إلى الأعمال الظاهرة كما جاء في بيان النبي صلى الله عليه وسلم، لما قال: "أن تشهد"، لكن أصل الإسلام في اللغة هو: الخضوع والانقياد، إذا أسلم الإنسان وجهه، يعني: انقاد وخضع.
وفي الاصطلاح أو في الشرع: فإنه الاستسلام لله بالتوحيد، يسلم الإنسان بالتوحيد لله، يخلص قلبه فلا يتعلق إلا بالله، ولا يتوجه إلا إلى الله، ولا يطلب إلا الله جلَّ وعلَا، وليس له خالقٌ ولا رازقٌ ولا مُعطٍ ولا مانعٌ إلا الله سبحانه وتعالى.
فهو الاستسلام له بالتوحيد، والانقياد به بالطاعة، فلابد أن يكون منقادًا لله جلَّ وعلَا، مطيعًا له، مستقيمًا على أمره، مستجيبًا لرسوله منتهيًا عن نواهيه، مبتعدًا عن زواجره، وقالوا في أيضًا تمام هذا التعريف: والبراءة من الشرك وأهله.
ما علاقة الشرك وأهله بالإسلام، لأنه كما يقول أهل العلم: وبضدها تتبين الأشياء، فلا يتحقق للإنسان إسلامٌ واستسلامٌ وتوحيدٌ، إلا بالبعد عن الإشراك والشرك بالله جلَّ وعلَا.
وهذا من الأمور المهمة، ولذلك لْمَّا أَلَّفَ الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى كتابه كتاب التوحيد، وهو كتابٌ فيما يتعلق بتحقيق توحيد الله جلَّ وعلَا، كان أول الأبواب في تحقيق التوحيد ومعنى التوحيد وفضل التوحيد وتفسيره والدعاء إليه، ثم أبوابٌ كثيرةٌ فيما يخالفه، وفيما يضاده؛ لأنه بضده تتبين الأشياء.
والشيء الصحيح واحدٌ، فلذلك كانت الإشارة إليه قصيرةٌ، وما يضاده كثيرٌ فاحتيج إلى أشياءٍ واسعةٍ للتنبيه عليه، والتحذير منه، فلأجل ذلك كان هذا كذلك، البراءة من الشرك وأهله؛ لأن بعض الناس يظن أن البراءة من أهل الشرك، يعني: المقاطعة التامة بأي حالٍ من الأحوال، وليس هذا مرادًا في الشرع، وإنما المراد بالبراءة من أهل الشرك يعني: في شركهم، أو في إشراكهم، أما إذا اقتضت الأمور المقاربة إليهم بوجهٍ من الوجوه الصحيحة فإنَّ الشَّرع لا يمانع من ذلك.
ولذلك ربما كان المشرك أبَّا، وربما كان المشرك ابنًا، وربما كان أخًا، وربما كانت أمًّا، أليس كذلك؟
أو ربما كانت زوجةً، أو ربما كان جارًا، سواءً كان يهوديًّا أو كان نصرانيًّا أو كان غير ذلك.
وجاء في الشرع من اعتبار الحق له والقيام به ما تعرفونه، فإن أسماء -رضي الله عنها- لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أمي تأتي وهي راغبةٌ، يعني: في البر وهي مشركةٌ، أفأصلها؟ قال: «نعم صلي أمك»، والله جلَّ وعلَا يقول: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوف﴾ [لقمان: 15]، يعني: بالمعروف والقيام بحقهم، ولأجل ذلك لم يكن الشرع ليمنع من الإحسان إليهم، والقيام بحقوقهم، ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ﴾ [الممتحنة: 8]، والنبي صلى الله عليه وسلم جاور اليهود، وأجاب دعوتهم، وبايعهم، وأحسن إليهم، وعاد مريضهم كما في قصة ذلك الصبي، إلى غير ذلك من المعاملات.
فينبغي ألا يُخلط في هذا، وألا يحصل في ذلك خطأٌ، وإن كان الحديث ليس حديثًا عن هذا الموضوع، لكن الإشارة إلى ذلك مهمةٌ في ثنايا التعريف بحقيقة الإسلام.
إذن هذا ما يتعلق بالإسلام من حيث المعنى ومن حيث اللغة وفي الشرع، أما ما عرفه المؤلف رحمه الله أو ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قوله: "أن تشهد" فإنه بين حقيقة الإسلام بأركانه، وستأتي بإذن الله جلَّ وعلَا ما يتعلق بهذه الأركان كما قلنا في الحديث الذي يلحق ذلك.
لكن إذا أردنا أن نتكلم على معنى الإسلام، والإيمان، فإنه جاء ذكر الإيمان بعد ذلك، فقال: ما الإيمان؟
قال: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله"، وقبل أن نأتي إلى تفاصيل الإيمان، لابد أن نعلم شيئًا، وهو أن الدين شاملٌ للإسلام والإيمان والإحسان، ولذلك قال: «جاءكم يعلمكم دينكم»، هذا الأمر الأول.
أيضًا الإسلام يطلق بالمعنى العام فيشمل الإيمان تبعًا، ويدخل فيه أيضًا الإحسان، يعني أن الإسلام يطلق في بعض الأحوال مرادفًا للفظ الدين، واضح.
كما أن الإيمان يطلق أيضًا بهذا المعنى، يعني: بالمعنى العام فيدخل فيه الإسلام، هذا من جهة العموم.
ولذلك تقرر عند أهل العلم أنَّ هذا اللفظ في الشرع له إطلاقان:
إطلاقٌ باعتبار العموم، وإطلاقٌ باعتبار الخصوص، فإذا جئنا إلى الخصوص، فسنجد أن الإسلام في الشرع للأمور الظاهرة، والإيمان يتعلق بالأمور الباطنة، وهذا يظهر من خلال أمرين: ما جاء في باب مثلًا، الإسلام علانيةً، والإيمان في القلب، أو في السر، كما جاء في بعض الآثار، أيضًا من خلال ما ذكره المؤلف -رحمه الله تعالى- في إيراده لهذا الحديث العظيم، لما قال: سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- «ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلً»، هذه الأشياء الخمسة ظاهرةً أو باطنةً؟
{ظاهرةً}.
أكيد؟
{جزءٌ منه باطنٍ، وجزءٌ منها ظاهرٌ}.
هي ظاهرةٌ، ولها تعلقٌ بالباطن، وسنأتي إلى الإشارة إلى ذلك، كما قلتُ، وكلامك في الصلب، وفي حقيقة المعنى.
إذا قلنا ما الإيمان؟
"أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره"، هذه تعلقاتها بالباطن، فمن جهة المعنى الخاص، فالإيمان يتعلق بالباطن، والإسلام بالظاهر.
هل بينهما تداخلٌ؟
نقول: ولا شك، مما ينبغي أن يُعلم أنه لا يتصور الإسلام أنه ظاهرٌ فحسب، بل لا يكون الإسلام إسلامًا إلا بهذه الأمور الظاهرة، وهو مستندٌ إلى الباطن، وإلا كان من يقول في الظاهر بدون باطنٍ كالمنافق، أليس كذلك؟
من أين يمكن أن نقول: إن له تعلقًا بالباطن؟
من حيث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال: «أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله».
ما حقيقة هذه الشهادة؟
الشهادة ضد الغيب ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ [الأنعام: 73]، فالغيب هو ما استقر في القلب، والشاهد يشهد بما قد غاب في قلبه، فإذن أصل هذه الشهادة شيءٌ استقر في القلب؛ ولأنه لا يتصور أن يشهد الإنسان شهادة إلا بما يستيقنه ويتيقنه، ولا يكون يقينًا إلا أن يكون مستقرًا في قلبه، فهذا كيف أن الإسلام متعلقه أو له أصلٌ في الباطن لا ينفك عنه، وهذا مأخوذٌ من الشهادة، وكل هذه الأعمال لا تصح إلا بنيةٍ، ومتعلَّق النية هو القلب، كما مر معنا في المجلس الماضي، هذا من جهةٍ، من جهةٍ ثانيةٍ فإن الإيمان الذي جاء في هذا الحديث من أنه متعلقٌ بالاعتقاد والباطن، أيضًا جاء في بعض الأحاديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سئل ما الإيمان؟ أو في حديث مسلم: «آمركم بالإيمان بالله، قال وهو أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة»، ففسر الإيمان هناك بالإسلام، مما يدل على أن الإيمان تعلقه بالأعمال الظاهرة حاصلٌ لا ينفك عنه في الشرع.
ثم أيضًا جاء في حديث شعب الإيمان لما قال: «الإيمان بضعٌ وسبعون شعبةً، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبةٌ من الإيمان»، إماطة الأذى من الطريق شيءٌ باطنٌ أو ظاهرٌ؟ ظاهرٌ، فعُلم بذلك أن الإيمان أصله اعتقادٌ، وله تعلقٌ بالظاهر، فلأجل هذا لا يُتصور أن يكون الإنسان قائمًا بالأركان الظاهرة، أو المباني الظاهرة، التي جاءت في الإسلام، بدون أن يكون له اعتقادٌ صحيحٌ، وإيمانٌ باطنٌ، أو إيمانٌ متحققٌ في الباطن، كما أنه لا يُتصور أن يكون للإنسان إيمانٌ بدون أن يكون له أثرٌ على عمله، واستقامةٌ على أفعاله، هذا أيضًا به يتبين، ولذلك يقول أهل العلم: أن اسم الإيمان والإسلام هما من الأسماء التي إذا افترقا اجتمعا، يعني: إذا ذكر أحدهما في موضعٍ، ولم يذكر الآخر، فإنه يشمل الاثنين، يشمل الظاهر والباطن، وإذا اجتمعا اختص كل منهما بمعنى، فيكون الإسلام للظاهر، والإيمان للأمور الباطنة.
وسنأتي بعد أن نفسر معنى الإيمان إلى من خالف في ذلك، أو حصلت له المشاقة فيه.
الإيمان ما حقيقته؟
الإيمان في الأصل هو التصديق والإذعان، ولذلك قال: ﴿وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَ﴾ [يوسف: 17]، يعني: بمصدقٍ، لكنه تصديقٌ فيه شيءٌ من القبول والإذعان، وليس مطلق التصديق كما نَصَّ على ذلك جماعة من أهل العلم.
أمَّا في المعنى الشرعي، فهو له تعاريف عند السلف كثيرةٌ، قولٌ وعملٌ، لكن أوضحها وأسهلها أن يُقال: اعتقاد الجنان، وقول اللسان، وعمل الجوارح، أو العمل بالجوارح، إذن هذا هو حقيقة الإيمان، ولأجل ذلك ترى أنه أيضًا في تعريفه قولٌ، والقول هو إلى الأعمال باعتبار العموم ألصق، وكذلك عمل الجوارح.
هذا إذن ما يتعلق بتعريف الإيمان، وهنا يتبين لك مسألةٌ مهمةٌ، وهي أن أهل السنة والجماعة قالوا: لا يتحقق للعبد إيمانٌ حتى يجمع بين هذه الأمور، بين اعتقادٍ حاصلٍ في القلب، وقولٍ حاصلٍ باللسان، وعملٍ بالجوارح، فإذا اختل واحدٌ منها، فإنه يختل إيمانه.
فلأجل هذا ما نقول بقول المرجئة، أن من اعتقد وقال كفاه ذلك، وكان مؤمنًا كامل الإيمان، وتقدم أو شُمل أقاويل السلف في ذلك، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال في حديث عتمان الطويل، في القصة المشهورة: «فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله»، وما جاء من حديث: «أدخله الله الجنة على ما كان من العمل»، ماذا قال السلف في هذا؟
يقول الحسن لما سئل عن قول أن لا إله إلا الله تدخل الجنة وتنجي من النار، قال: "أما إن لها حقوقًا وواجباتٍ، من أدى حقها دخل الجنة، ونجا من النار".
والزهري لما روى الحديث «فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله»، قال -تأمل قوله: ولقد شُرِّعت بعد ذلك شرائع، وفُرضت بعد ذلك فرائض، فلا يغتر بذلك مغترٌّ، يعني أن يقول لا إله إلا الله، ويظن أنه يحرم على النار، بل لابد من العمل، وهذا نصٌّ من السلف على ذلك.
وقول وهب بن منبه مشهور في هذا، لما قال: لا إله إلا الله وهي كلمةٌ لطيفةٌ، مفتاح الجنة، ولكل مفتاحٍ أسنانٌ، ويقصد بالأسنان العمل، والقيام به، فأهل السنة إذن يدخلون العمل في مسمى الإيمان، وعلى ذلك تتابع السلف الصالح، وهو قول الصحابة فمن بعدهم، إن لم يخالف في ذلك إلا أهل الإرجاء، فضلوا بذلك ضلالًا، ونظروا بعينٍ واحدةٍ، وتركوا ما جاء في دلالات النصوص والأحاديث، وما تتابع عليه أهل العلم، وأجمعوا عليه من علماء أهل السنة والجماعة، وفي هذا أيضًا مخالفةٌ للخوارج، فإن الخوارج الذين يجعلون العمل سببًا للتكفير، فيكفرون من أوبق موبقةً أو فعل كبيرةً، فمع كوننا جعلنا العمل من الإيمان، إلا أنه جنسه من الإيمان، لا أن الموحد يكفر بأي عملٍ من الأعمال، أو بأي كبيرةٍ من الكبائر، بل المقصود هو الجنس، لأن من ترك جنس العمل فلم يعمل بشيءٍ من ذلك، فهذا هو الذي أخل بهذا الركن، أما من كان يعمل، فإنه لا يحكم عليه بأنه كافرٌ خلافًا للخوارج والمعتزلة الذين ضلوا بذلك ضلالًا مبينًا، وإنما أهل السنة والجماعة يكفرون بالعمل إذا دل الدليل على أنَّ تركه كفرٌ، ولهم في هذا كلامٌ في مسألة الصلاة، وسيأتي الحديث عليها بإذن الله -جلَّ وعلَا، لكن فرقٌ كبيرٌ بين مذهب أهل السنة والجماعة وبين الخوارج والمعتزلة، فإن أولئك يجعلون الكبيرة مخرجةً من الملة، أو منزلةً بين منزلتين، ومآلها إلى الكفر؛ لأنهم يجعلونه في النار خالدًا مخلدًا، أما أهل السنة والجماعة فإن من أتى بجنس العمل وأتى ببعض الأعمال لكنه أخل ببعضها، لا يمكن أن نقول إنه أخل بإيمانه، لكن من لم يعمل قط شيئًا من الخير، فإنه لم يكمل الإيمان ولم يدخل فيه ولم يحقق هذا الركن.
هذه مسألةٌ من المسائل المهمة وأرجو أن تكون واضحةً لكم.
لو أردنا أن نتكلم على قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال: «ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر»، كل واحدٍ من هذه الأركان، الحديث فيه طويلٌ، والكلام فيه ذو شجونٍ، لكن حسب الإنسان أن يعلم أن أعظم ما يتعلمه هو هذه المسائل، والإيمان بالله إذا قيل الإيمان بالله، فإنه يشمل أعظم حق الله -جلَّ وعلَا- وهو توحيده، توحيد الربوبية، بأن الله -جلَّ وعلَا- هو الخالق الرازق المدبر، فإنا نقول الحمد لله رب العالمين، فإن الله هو الذي ربانا بنعمه، وأوجدنا بقدرته، ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54] فالإيمان بتوحيد الله بأفعاله، وأن الخلق خلق الله، والقدرة قدرة الله، والعلم علم الله، علمٌ تامٌ، لا تغيب عليه غائبةٌ، ولا تذهب عليه فائتةٌ سبحانه من ربٍّ عظيمٍ ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14].
والثاني توحيد الألوهية، وهو أن يتوجه العباد، أو يفردوا الله بالعبادة، فلا يتوجهوا إلى أحدٍ سواه، فهو لما كان الخالق، فهو المستحق للعبادة، ولما كان هو القادر، فهو المستحق للإخلاص، ولما كان غيره ليس بخالقٍ، ولا برازقٍ، وهو ضعيفٌ مخلوقٌ، فأنى يتوجه إليه ويُدعى من دون الله -سبحانه وتعالى، ولأجل ذلك كان من أعظم ما جاء في نقض آلهة المشركين أنهم لا يخلقون شيئًا، وهم يُخلقون، كما قال الله -جلَّ وعلَا-، فكان ذلك فيه إبانةٌ عن ضعف آلهتهم، وأنه لا يتوجه إليها، ولم يستطيعوا الجواب، وحاروا في الكلام على ذلك، وإلا لو قدروا لفعلوا، وهم أعظم محادةً لله، ولرسول الله -صلى الله عليه وسلم.
والإيمان بأسماء الله -جلَّ وعلَا- وصفاته، وهذا من أعظم ما يقر به الإيمان، ويُعظَّم به الله -جلَّ وعلَا، ويتوجه الإنسان إلى خالقه، إذا علم أن الله عليمٌ، خالقٌ، رازقٌ، أن الله مدبرٌ، وله الأسماء الحسنى، والصفات العلى، وهو اللطيف، الخبير، الرحيم، الرحمن، فكل ذلك مما يزيد العبد، هذه أسماء الله، مشتملةٌ على صفاته، وهذه الصفات تليق بالله -جلَّ وعلَا-، لا يقاس بخلقه ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11] نثبتها كما أثبتها الله -جلَّ وعلَا- في كتابه، وجاءت على لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم-، عارفين بمعناها، ولا نقول من أن علم الله أو أن رحمة الله كرحمة المخلوقين، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، بدونما تحريفٍ، ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ، ولا تمثيلٍ، لا نعطلها، لا نقول ليس برحيمٍ، وليس من صفاته الرحمة، كما يقول بعض أهل الضلال، ولا نحرفها نقول: رحمةٌ يعني إرادة الإنعام، أو العطاء، أو نحوه، ولا نكيفها نقول: كرحمة المخلوقين، لا، ولا نقول إنها رحمةٌ كبيرةٌ أو كذا، بل نقول: رحمةٌ تليق بجلال الله، على ما جاء في كتاب الله.
إذن هذا معنى الإيمان بالله، أن تؤمن بالله، وهذه أهم أركانها، والحديث فيها طويلٌ، لكن لا يسعنا أن نأتي على جميع هذه التفصيلات، والإيمان بالله وملائكته، الإيمان بملائكة الله هذا جاءت به دلالة الكتاب، وجاءت به دلالة السنة، فكان الإيمان به من الإيمان بالكتاب والسنة، فلا يسع المسلم إلا الإيمان به، والإيمان به على سبيل الإجمال من حيث ما جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وما وصل إليك من تفاصيل، كما جاء مثلًا «اللهم رب جبريل وميكال وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض»، هذه أسماء ملائكة من ملائكة الله، فمن علم ذلك وجب عليه أن يؤمن بذلك، وأن الملائكة خُلقت من نورٍ، وأن من أوصافهم، أنهم لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، إلى غير ذلك مما جاء في كتاب الله، فكل ما جاء من أوصافٍ، وكل ما دلت عليه النصوص من حالهم، فإن أهل الإيمان يؤمنون بالله، ويؤمنون بملائكة الله، لا يستنكفون، ولا يحرفون، ولا يعترضون؛ لأنهم لم يستوعبوا ذلك، أو خرج عن نفوسهم، أو أنها خيالاتٌ، أو أنها النفوس الطيبة، أو نحو ذلك كما يقول أهل الضلال والمعتزلة وغيرهم من التحريف في ذلك.
أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه، الإيمان بالكتب، كتب الله -جلَّ وعلَا- جاء بيانها، أعظمها كتاب الله وهو القرآن، وأيضًا التوراة، والإنجيل، وصحف إبراهيم، وصحف موسى، فكل ذلك مما يؤمن العبد به، على سبيل الإجمال، ويؤمن من أن هذا الكتاب مهيمنٌ عليها، ناسخٌ لها، وأنه مشتملٌ على ما فيها من الخيرات والمصالح، وأن الله -جلَّ وعلَا- تكفل بحفظه ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، وفي هذا يعلم العباد أيضًا عظيم فضل الله على الخلق، من أنه أنزل لهم الكتب، وبعث لهم الرسل.
الإيمان بالله وملائكته وكتبته ورسله، والإيمان برسل الله -جلَّ وعلَا- الذين أرسلهم إلى الخلق، يدعونهم ويهدونهم، ويبينون لهم الحق، ويبصرونهم بالهدى ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]، وأن جميع الأنبياء والرسل دينهم واحدٌ، وشرائعهم شتى، ولذلك قال الله -جلَّ وعلَا: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الشعراء: 105]، مع أن نوحًا أول المرسلين، فيقول أهل العلم: فكأنه من كذب نوحًا، فكأنما كذب الرسل كلهم؛ لأن التكذيب لواحدٍ تكذيبٌ للجميع، لوحدة ما جاءوا به من توحيد الله، وإن اختلفت شرائعهم ورسالاتهم، من خصوصٍ أو عمومٍ، وجاءت رسالة نبينا -صلى الله عليه وسلم- إلى الناس كافةً ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾ [سبأ: 28]، فهذا من الإيمان برسل الله، وثم الأنبياء والرسل، نؤمن بهم أيضًا على سبيل الإجمال، فهذا من أعظم ما يدين المرء به، ويعتقده، ويربط على ذلك قلبه، ويلقى الله -جلَّ وعلَا- به.
وكما قلنا في ذلك تفاصيل، ليس هذا موطنها، وأظن أنها مرت بالإخوة في الأكاديمية، وفي دروسٍ كثيرةٍ، مما يتعلق بمسائل الإيمان، وأظن أننا أشرنا إلى شيءٍ من ذلك.
"وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر" الإيمان باليوم الآخر من أعظم منازل الإيمان وأركانه، وهو مشتملٌ على كل ما يتعلق بما بعد الموت، من أحوال القبر والبرزخ، وأحوال البعث، والحساب، والجزاء، والجنة والنار، وما فيهما مما ذكره الله -جلَّ وعلَا- في كتابه، أو جاء عن رسوله -صلوات ربه وسلامه عليه، فما كان يكون من قيام الناس، ومن طول قيامهم، وكيفية حشرهم، وما يكون ذلك من تطاير الصحف، وما يكون من حال أهل اليمين، وأهل الشمال، وما يكون فيه من وزن الأعمال، وما يكون فيه من الحوض، والورود عليه، وما يكون فيه من الصراط، وتخطف أهل النار، وما يجوز به أهل الإيمان، وطريقة ذلك، فمنهم المسرع، ومنهم دونه، إلى غير ذلك، وأحوالهم بعد أن يجوزوا الصراط، والوقوف عند القنطرة، وما يكون من تهذيب قلوبهم، وإذهاب ما في نفوسهم، حتى يدخلوا جنة الله -جلَّ وعلَا-، ويفوزوا برضوانه، ويبقى المجرمون في عذابه ونكاله، نسأل الله السلامة والعافية. وما يحصل أيضًا لأهل الإيمان من الكمال بعد ذلك، بلذة الرؤية إلى وجهه الكريم، كما قال الله سبحانه: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26]، فالحسنى هي الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله الكريم.
فكل ذلك من الإيمان باليوم الآخر، وهو الذي جاء في كتاب الله، وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، فكان أهل الإيمان يؤمنون بذلك إجمالًا وتفصيلًا لمن زاد علمه بتفاصيلها، والعلم ببعض ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- عنها.
والإيمان بالقدر خيره وشره، الإيمان بالقدر أيضًا من متممات الإيمان بأركان الإيمان، وبعضهم يذكرها خمسةً، ويجعل الإيمان بالقدر تابعًا للإيمان بالله، وهذا أمره قريبٌ من حيث التقسيم، ولا غضاضة في ذلك، لكن هو على كل حالٍ، جاء في هذا الحديث على أنه سادسها، فكذلك أورده كثير من أهل العلم.
الإيمان بالقدر هو الإيمان بالمراتب الأربعة، وهو علم الله -جلَّ وعلَا، وكتابته لكل ما يكون، بأن الله كتب كل ما يكون إلى يوم القيامة، ثم المشيئة والخلق، فالعباد وما عملوا، خلقهم الله، وخلق أفعالهم، هذه المنازل الأربعة، التي بها يكون درجات الإيمان بالقدر.
تفاصيل الكلام بالإيمان بالقدر، لعله -بإذن الله جلَّ وعلَا- أن يكون في مستهل المجلس القادم مع شرح الحديث الثالث؛ لأن الحديث قد انتهى، وثم بعض المسائل التي نريد التنبيه عليها، مما يتعلق بهذا الحديث، فعلنا -بإذن الله- أن نجمل ذلك في المجلس القادم، وأستبيحكم عذرًا على أن قطعنا هذا الحديث عن الكلام عن الحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيه من الفوائد وفيه من الأنس، وفيه من الفرح بالعلم بهذه المسائل والأحكام، ما يود الواحد منا ألا يقطعه، لكن انتهى وقت هذه الحلقة.
أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، والإعانة والرشاد، شكر الله استماعكم وحضوركم، وشكر الله للإخوة المشاهدين إنصاتهم ومتابعتهم، وأسأل الله أن ينفعهم أينما كانوا، وأينما وقفوا، وفق الله الجميع لما يحب ويرضى، وحفظ علينا أنفسنا وبلادنا، وولايتنا، وجماعتنا، وحدودنا، وجنودنا، وحفظ الله المسلمين أينما كانوا، في بلائهم، وفي بأسائهم، إن ربنا جوادٌ كريمٌ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك