الدرس الأول

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

11542 13
الدرس الأول

الأربعون النووية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، النبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أيُّها الإخوة المشاهدين طلبة العلم، هذا مجلسٌ من المجالس المباركة في هذا البناء العلمي، في هذه المدرسة المباركة، في هذه المجالس الطيبة، نلتقي وإياكم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها مجالس خيرٍ وبرٍّ وهدًى وتقًى، وأن يجزي خيرًا من كان سببًا في إقامتها، ومن أعان عليها، ومن دل على الاستقاء منها، والاستفادة من معينها، والجلوس إليها.
هي مجالس عظيمةٌ، وأيامٌ طيبةٌ، وأوقاتٌ فاضلةٌ، ما أحسن أن نجلس فيها، وما أحسن أن نتدارس العلم، وأن نتزود من الخير، وأن نتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذه الدقائق التي نقضيها في هذه المجالس.
إذا انكفأ الناس إلى أمور دنياهم، إلى أعمالهم، إلى شؤونهم التي قد تفيدهم وقد لا تفيدهم، وقد تضر دينهم، وقد تضر دنياهم، وقد تعود عليهم بالوبال والنكال، فإننا ننشغل بقول الله جلَّ وعلَا وقوله صلى الله عليه وسلم، نتزود من الخير، نطلب من الله جلَّ وعلَا الهدى، ونتزود مما يكون سببًا لنا في التقى، ونرجو بذلك أن يكون درجةً لنا عند ربنا وزلفى، نسأل الله سبحانه وتعالى ألا يضيع جهدنا وعملنا.
أيُّها الإخوة الكرام، أيُّها الطلاب، إذا تحدثنا في هذا المجلس فما أحسن الحديث حينما يكون عن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ملؤها الخير، وهي جوامع الكلم، وتكون بها البركة، ويكون للعبد فيها الاستنان، والاهتداء، والاقتداء بخير البرية، وأزكى البشرية، نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، بها يستقيم دينه، وبها يتعلم سنة نبيه، وبها يتفقه في الدين، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين».
لن نطيل في مثل هذه المقدمات، فما أحوجنا إلى أن نرجع إلى صلب الحديث، خاصةً وأن هذه المجالس قليلةٌ بالنسبة إلى هذه الأحاديث العظيمة، سيكون لقاؤنا وإياكم بإذن الله جلَّ وعلَا في هذا المختصر العظيم، هذا المختصر المفيد، الذي هو عرف واشتُهر وانتشر باسم الأربعين النووية، الذي جمع هذه الأحاديث المباركة، لنتفقه في ألفاظها، ونتزود من مسائلها، ونسأل الله جلَّ وعلَا أن يعيننا على ذلك، وأن يفتح لذلك فهومنا، وأن يطلق بذلك ألسنتنا، وأن يجعل أعمالنا فيه خالصةً لوجه ربنا.
أيها الإخوة لقائل أن يقول: ما هذه الأربعين؟
أولًا: أحب أن أنبه الإخوة إلى أن الأربعين النووية هذه أربعون حديثًا، أو هي بالأصح اثنان وأربعون حديثًا، أصل تأليفها أنه قد روى بعض أهل العلم حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من حفظ على أمتي أربعين حديثًا من أمر دينها حشره الله جلَّ وعلَا في زمرة الفقهاء العلماء»، وفي بعض الروايات قيل له: «ادخل من أي أبواب الجنة شئت»، إلى غير ذلك، هذا الحديث وإن كان يجمع أهل العلم على ضعفه، إلا أن أصله من جهة جمع السنة، والعناية بها، والاهتمام بها ظاهرٌ، ولذلك تتابع كثيرٌ من أهل العلم على هذا المعنى، وذكر ذلك النووي رحمه الله تعالى في مقدمته فمن أولهم الإمام عبد الله بن المبارك، ذكر أو جعل أربعين له أيضًا، أبو عثمان الصابوني، البيهقي، الحاكم، الدارقطني، كثيرٌ من الأئمة جعلوا لهم على هذا.
منهم من جعلها في مختصرٍ في باب من الأبواب كالجهاد أو غيره، ومنهم من جعلها متنوعةً وخُص هذه الأربعون بأنها جمعت أصول الأحاديث، وكان فيها من مهمات الأحاديث التي يحتاج إليها الناس ما جعل لها الخصوصية والاشتهار.
فإذا تكلم الناس عن الأربعين، فأول ما يتبادر إلى أذهانهم، أربعين الإمام النووي، وهذا من رحمة الله -جلَّ وعلَا، ولعل ذلك يرجع إلى أمرين:
أولهما: ما ذكرناه لكم من أنَّ هذه الأربعين اختُصت من سائر ما أُلف على منوالها، أنها جمعت من أصول الأحاديث التي يحتاج إليها الناس ما لا يكاد يجتمع في مثل هذه المختصرات أو الرسائل التي جمعت بعض الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني: وهذا مما ينبغي لنا أن نحرص عليه، وأنه سببٌ لحصول الخير في حياتنا، لعل ذلك أنه كان من بركة إخلاص ذلك الإمام، وعلى الرغم من قِصر عمر الإمام النووي -رحمه الله تعالى، إلا أن الله جلَّ وعلَا جعل له من البركة في انتشار كتبه وبقائها، وعود الناس عليها، ما لا تكاد تجده لغيره أو يقاربه أحدٌ سواه، وذلك يدل على زيادةٍ في الإخلاص، زيادةٍ في الإقبال على الله جلَّ وعلَا، نرجو ذلك ونحسبه والله حسيبه، ورحمه الله، ورحم أئمة المسلمين بعامةٍ.
مع أن هذه الأربعين من حيث الأصل أن أول الأمر جمع الإمام ابن الصلاح ستةً وعشرين حديثًا مما عليها مدار الأحاديث ومهمات الأحكام، ونحو ذلك، فقام الإمام النووي فجمع إليها ستة عشر حديثًا، فصار مجموعها اثنان وأربعون حديثًا، هي الأربعين النووية، ثم جاء ابن رجب الحنبلي رحمه الله تعالى، فزاد عليها ثمانية أحاديث، وضمنها إياها، ثم شرحها في كتابٍ جامعٍ ماتعٍ لطيفٍ مفيدٍ، وهو جامع العلوم والحكم.
ولذلك من أراد أن يرجع إلى شرحٍ من شروح الأربعين النووية فلن يجد أنفع له من هذا الشرح المبارك، مع ما ضم إليه من هذه الأحاديث الثمانية.
إذن هذا أول ما يمكن أن يكون انطلاقتنا، أو بدؤنا، أو حديثنا حينما نتكلم عن الأربعين النووية، وأيضًا مما يحسن بنا أن نشير ولو إشارةً لطيفةً إلى مؤلفها وهو:
الإمام شرف الدين يحيى بن حسن بن حسين النووي، أبو زكريا، ولد سنة ستمائةٍ وواحدٍ وثلاثين تقريبًا، وتوفي سنة ستمائة وست وسبعين، يعني: عاش خمسة وأربعين سنةً، وبعضهم يقول: ثلاثة وأربعين سنةً، ومع ذلك ألف هذه المؤلفات العظيمة، إن كان ذلك في مثل هذا المختصر، أو في رياض الصالحين، أو شرحه على صحيح مسلم، أو كان ذلك فيما ألفه في كتب فقهاء الشافعية، المنهاج، أو روضة الطالبين، أو غيره، أو كتابه العظيم الموسوم بالمجموع، وإن كان لم يتم إلا أنه ذكر فيه علمًا غزيرًا، وعلمًا عظيمًا، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمده بواسع رحمته.
يذكر هنا لطيفةً: أن الإمام النووي رحمه الله تعالى يقول عن نفسه: أنه لما بلغ سن الثامنة عشر وهو قد أقبل على العلم، يقول: جاء في نفسي أن أتعلم علوم الطب، يقول: فجمعت كتبها، وجمعت آلتها، وبدأت في ذلك، يقول: فاسود قلبي وأظلمت نفسي، ووجدت في ذلك من الجفاء والضعف والتعب ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
يقول: فرجعت إلى ما كنت، وأقبلت على علوم الشريعة وتركت علوم الطب، وهنا لا نريد أن نقلل من هذه العلوم الدنيوية، فللناس فيها مصالح كثيرةٌ، لكن لما كان هذا الإمام في بداية أمره اشتغل بالعلوم الشرعية، فليس الانتقال منها إلى مثل هذه العلوم إلا الانتقال من الأعلى إلى الأدنى، فلما أراد الله جلَّ وعلَا له الخير أراد أن يرجع إلى ما كان وأن يعود إلى ما بدأ من دراسة علوم الشريعة والتفقه فيها.
فهذه من اللطائف التي نذكرها في هذا الابتداء، أو في هذا الوقت، وهو مناسبٌ لنا ونحن نبتدئ في هذا الموسم من البناء العلمي، لأن يكثف الإخوة إقبالهم على العلم وينشطوا إليه، ويجتهدوا فيه، ويعلموا أن ذلك من أنفع ما يكون لهم في دينهم، في قلوبهم، في نفوسهم، في بركة أعمارهم، فيما يكون بإذن الله جلَّ وعلَا من حصول الخير لهم في أرزاقهم مما يعود عليهم بالنفع في الدين والدنيا.
أيها الإخوة إذا أردنا أن ندخل أو ندلف في هذه الأربعين وهي أعظم ما ينبغي أن نتحدث عنه، فليس حديثنا بأعظم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن يكون حديثنا مفيدًا إلا أن يكون فيه ظلال هذه الأحاديث، والحديث عليها، والإفادة منها.
ولأجل ذلك ما أحسن أن نبدأ بالحديث الأول، ولعل أحد الإخوة أن يتلوه علينا ويسمعنا إياه، ومن بعد ذلك ننطلق بإذن الله جلَّ وعلَا إلى المسائل التي تتعلق به.
من منكم، سعد، تفضل.
{بسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد، فاللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمشاهدين وجميع المسلمين}
آمين آمين جزاك الله خيرًا.
{قال المؤلف رحمه الله:
(الحديث الأول:
عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ».
رَوَاهُ إِمَامَا الْمُحَدِّثِينَ أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم بن الْمُغِيرَة بن بَرْدِزبَه الْبُخَارِيُّ الْجُعْفِيُّ، وَأَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمٌ بنُ الْحَجَّاج بن مُسْلِم الْقُشَيْرِيُّ النَّيْسَابُورِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي صَحِيحَيْهِمَا اللذِينِ هُمَا أَصَحُّ الْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ)
.}
نعم، أحسنت بارك الله فيك، كما سمعتم هذا حديث أبي حفصٍ عمر رضي الله عنه وأرضاه، أمير المؤمنين، خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، إذا أردنا أن نتحدث عن هذا الحديث فلعلنا أن نذكر بعض النكت اليسيرة ثم ندخل إلى مهمات المسائل فيه.
لما قال: (عَنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ)؟
أولا: عمر هو أمير المؤمنين، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما توفي ولي الخلافة بعده أبو بكر، كان يسمى خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات أبو بكر، وانتقلت الخلافة إلى عمر، كان الأمر دائرًا بين أن يقال خليفة خليفة رسول الله، وفي ذلك شيءٌ من الطول، أو يقال أمير المؤمنين، فانتشر ذلك اللقب وعرف به، وكان ذائعًا محفوظًا عنه رضي الله عنه، وهو خليفة خليفة رسول الله، وهو أمير المؤمنين رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وعن صحابة رسول الله رضوان الله عليهم جميعًا.
وأبو حفص هذه كنيةٌ اشتُهر بها عمر رضي الله تعالى عنه، يقول أهل العلم: وإن لم يكن له ابنٌ اسمه حفص، كما أن أبا بكر أيضًا اشتهر بها ولم يكن له ابنٌ اسمه بكر، لكنها مما عرفت عنه وحفظت منه، ولذلك أيضًا خالد بن الوليد يكنى بأبي سليمان، يقولون: وليس له ولدٌ اسمه سليمان، يمكن أن عُرف بها قبل أن يولد له، فلما ولد له لم يسمَّ، فاستمرت هذه التسمية على ما كانت.
وهذا الحديث الذي ذكره الإمام النووي رحمه الله تعالى، رواه البخاري ومسلم وهو من الأحاديث التي وإن كان كما يذكر أهل الحديث أن إسنادها في أوله غرابةٌ، إلا أنه اشتهر اشتهارًا كثيرًا، فهو عن عمر، ورواه عن عمر علقمة بن وقاص، وعن علقمة بن وقاص، محمد بن إبراهيم التيمي، وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري، وعنه خلقٌ كثيرٌ، وجعل الله جلَّ وعلَا بذلك الحديث من البركة والاشتهار والانتشار في معانيه، من المعاني العظيمة التي سيأتي الحديث عنها.
إذا تكلمنا عن هذا الحديث نقول: هو حديثٌ الكل يحفظه، والكل يعرفه، وليس هذا بكثيرٍ على هذا الحديث، فلقد علم أهل العلم والأئمة عِظم هذا الحديث من أول وهلةٍ، ولذلك كانوا يُصدِّرون به كتبهم، فها هو الإمام البخاري رحمه الله تعالى في أول حديثٍ له في صحيحه ذكر حديث: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، حديث عمر هذا.
وكذا كان البغوي في شرح السنة، وكذا الإمام النووي رحمه الله تعالى سواءً في كتابه رياض الصالحين بدأ بهذا الحديث، وفي كتابه المجموع أيضًا عقد فصلًا في الإخلاص، وتكلم عليه، وذكر هذا الحديث في ابتدائه واستهلاله.
فهي سنةٌ معروفةٌ تتابع عليها أهل العلم، الإمام الخطابي، أبو داود، غيرهم كثيرٌ، بل قال بعض أهل العلم: إنه ينبغي أن يصدر هذا الحديث في كل كتابٍ من كتب أهل العلم، وليس ذلك عليه بكثيرٍ، وذلك لتعلق هذا الحديث بكل أعمال العباد، وما يَلقون به الله سبحانه وتعالى.
ولذلك مما ذكر في أهمية هذا الحديث أن الإمام أحمد رحمه الله تعالى قال: إن هذا الحديث أحد ثلاثة أحاديث عليها مدار الإسلام، «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَليه أمرنا فهو ردٌّ»، والحديث الثالث حديث النعمان بن بشير «الحلال بينٌ والحرام بينٌ»، وكلها من أحاديث هذه الأربعين، وسيأتي بإذن الله جلَّ وعلَا الحديث عليها.
ويقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: إن هذا الحديث يدخل في سبعين بابًا من أبواب الفقه، ولعل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى أنه أراد بالسبعين بابًا التكثير كما هو مشهورٌ عند العرب، أنهم يكنون عن الشيء الكثير بالسبعة، ومضاعفاتها، وإلا فإنه لا يكاد تكون مسألةٌ من مسائل العلم، أو من مسائل الشرع إلا ويتعلق بها أمر النية والإخلاص لله سبحانه وتعالى.
إذن هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ، يتعلق بأهم المهمات، وهو إخلاص العبادة لله جلَّ وعلَا، وقصد الله سبحانه وتعالى، والتوجه إليه، وأن يكون هذا القلب صافيًا، خالصًا لا شائبة فيه، ولا تعلُّق فيه لأحدٍ إلا الله سبحانه وتعالى، فيما يعمل، وفيما يذر، وفيما يأتي، وفيما يتعبد، وفي كل شيءٍ يفعله حتى ما يفعله من الأمور المباحات، أو الأمور الدنيوية، فإنه ينوي به وجه الله سبحانه وتعالى.
فإذن هذا حديثٌ عظيمٌ من الأهمية بمكانٍ، إذا أردنا أيها الإخوة أن نعرف عظم هذا الحديث فنرى أن كثيرًا من دلالات القرآن قد جاءت في معناه، وفي الدلالة عليه، فإن الله جلَّ وعلَا في كتابه يقول: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: 5]، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾ [هود: 15]، وفي الآية الأخرى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ [الإسراء: 19]، فسواءً جاءت بلفظ الإرادة أو الابتغاء، ﴿إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى﴾ [الليل: 20]، فهذه كلها تدل على هذا المعنى، وهو حسن القصد، والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى.
أيها الإخوة قبل أن نأتي إلى مسائل مُهمةٍ تتعلق بذلك، فيحسن أن نقف عند هذه اللفظة «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ»، «إنَّمَ» حصر، الأعمال جميعًا بالنيات، ما معنى هذا الكلام؟
أولًا: كما قلنا: «إنَّمَ» دالةٌ على الحصر، الأعمال ذكرها في هذا الحديث لا يقصد بها أعمال الجوارح فقط، بل يقصد بها ما يقابل التروك، سواءً كانت من عمل الجوارح أو كانت من قول اللسان، أو كانت من قول القلب وعمله، فالرجاء والتوكل والخوف داخلٌ في دلالة هذا الحديث أو هذه الجملة «إنما الأعمال بالنيات» وما يكون من لفظ الإنسان وذكره لله جلَّ وعلَا، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فهو داخلٌ في هذا اللفظ.
وكذلك أعماله من صلاةٍ أو صدقةٍ أو صيامٍ أو غيرها، فإنما الأعمال الأعمال شاملةٌ لذلك، وسيأتي الكلام على التروك بإذن الله سبحانه وتعالى.
«إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» النية هي قصد الله سبحانه وتعالى بالعمل والعبادة والتوجه إليه دون من سواه، ولأجل ذلك يقول أهل العلم: بأن محلها القلب، ولا أحد يطلع عليها إلا الله سبحانه وتعالى.
فما يكون معنى هذه الجملة: لأهل العلم فيه كلام، لن ندخل في تفاصيله، لكن سنقول ما هو المشهور وعليه المعتمد، فقوله: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ» يعني: قبولها عند الله جلَّ وعلَا ومجيئها صحيحةٌ، واستحقاق الثواب عليها «بِالنِّيَّاتِ» فالباء للسببية، يعني: سببها النية، فمن كانت له نيةٌ طيبةٌ، فمن كانت له نيةٌ صحيحةٌ، فمن كان له قصدٌ خالصٌ، فإن ثوابه إلى الله جلَّ وعلَا وأجره من الله سبحانه وتعالى، ويكتب له عند الله ثوابه، ويثبت أجره، وعلى الله جلَّ وعلَا جزاؤه.
«إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» وهذا فيه إشارةٌ إلى معنى لطيفٍ، هو: «إنما لكل امرئٍ ما نوى» هل تتأملون هذه الجملة؟
يا إخوان نحن نقف هنا، أو نجلس في هذا المجلس، الإخوة الذين يشاهدوننا الآن كلٌ في مجلسه، وكلنا نعمل عملًا واحدًا، وهو مجلس علمٍ نتذاكر المسائل ونتعلم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هل كلنا على حدٍّ سواء، من قرأ هذه الجملة، فإنه يعرف الفرق، «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، ليس كلنا على قدرٍ واحدٍ من النية.
ويتفاضل الناس في هذا، فربما أتحدث إليكم وأنا أقلكم قدرًا في هذه النية، إما لأن الإنسان أراد بذلك التكثر أو الجاه أو غير ذلك، نسأل الله السلامة والعافية.
فإذن «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»، فمن كانت له نيةٌ خالصةٌ لا يلتفت إلى شيءٍ من الدنيا ولا حطامها، ولا ثناء الناس، ولا مدحهم، فهو أتم ما يكون إخلاصًا وأعظم ما يكون أجرًا، ومن كان دون ذلك فهو دون ذلك، ومن فوَّت هذا فات عليه أجر الدنيا وأجر الآخرة عند الله سبحانه وتعالى ولم يلحقه إلا البلاء والنكال والوبال من الله سبحانه وتعالى.
ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [هود: 15، 16]، وفي الحديث الذي بسندٍ لا بأس به عند أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من طلب علمًا مما يُبتغى به وجه الله، لا يريد به إلا عرض الدني»، يعني: شيئًا من مُتعها، «لم يجد عرف الجنة»، يعني: هذا وعيدٌ شديدٌ، حتى إن هذا العامل لا يجد ريح الجنة، لما فوَّت من الإخلاص، لما فوَّت من حسن القصد، لما فات ما ينعقد في القلب من إرادة الله سبحانه وتعالى.
ولذلك كانت هذه الجملة جملةً عظيمةً ينبغي لنا ألا نفوَّت الوقوف عندها وأن تكون سببًا لاستنقاذ أعمالنا، واستنقاذ قلوبنا، وإصلاح نفوسنا، والتوجه إلى الله جلَّ وعلَا ربنا، وألا يتزين للعبد شيءٌ من الدنيا البتة، وألا يفرح بشيءٍ منها، فإن كل ذلك عرضٌ زائلٌ، وكل ذلك شيءٌ فائتٌ، ولا يبقى للإنسان إلا ما قدم.
«وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ»، ظاهر هذه الجملة أنها تكرارٌ، وأن الثانية مثل الأولى، وعند أهل العربية أن الجملة إذا تكررت، فلا يكون شرط الفعل مثل: شرط الجزاء، بل يختلفان، ولذلك يقول أهل العلم في التقدير:
هذه الجملة حتى يتضح معناها: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله قصدًا وإخلاصًا فهجرته إلى الله ورسوله ثوابًا وأجرًا.
فعند ذلك يتبين لك المعنى، من كان قصده الله فثوابه على الله، من كان قصده الدار الآخرة، فإن الله جلَّ وعلَا لا يضيع أجره، وأن الله سبحانه وتعالى لا يفوت ثوابه، وإن الله سبحانه وتعالى يحقق مقصوده، ويبلغه سبحانه وتعالى الدرجة والغاية والأجر والثواب.
أرأيتم كيف يتبين المعنى في ذلك؟
لنكمل الحديث حتى نقف على نكتةٍ لطيفةٍ، قال: «وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ»، تأملوا أيها الإخوة الفرق، بين من كان ثوابه عند الله، ومن كان ثوابه مُتعٌ من متع الدنيا، كسرة خبزٍ، لقمة عيشٍ، شهوةٌ تذهب وتفنى، شيءٌ من ثناء الناس، شيءٌ من الوجاهة، إلى غير ذلك، مهما بلغت، مهما كثرت، مهما عظمت، فإنها لا شيء، وإنها تتلاشى، ولا تساوي شيئًا بإزاء من كان أجره عند الله، ومن كان ثوابه لله، ومن كان قصده الله -سبحانه وتعالى.
بالله عليكم، من كان قصده الله، ومن كانت رغبته إلى الله، ومن كانت هجرته إلى الله، ومن كان عمله إلى الله -سبحانه وتعالى، هل يستوي هو ومن كان عمله في أمور الدنيا عند فلانٍ وعند الآخر وعند الثالث؟
بينهما كما بين المخلوق والخالق، ومن يملك كل شيءٍ فقصده ليس كمن لا يملك شيئًا، فهو المعطي، وهو المانع، وهو المتفضل، وبيده الدنيا والآخرة، وبيده الخيرات والأرزاق، وبيده الثواب، وبيده العقاب، وبيده الجنة، وبيده النار، سبحانه من ربٍ كريمٍ، سبحانه من ربٍ لطيفٍ، فلأجل ذلك كان هذا أعظم ما يكون للعبد في إرادة وجه الله -سبحانه وتعالى- والتوجه إليه.
إذا انتهينا إلى هذا، فإن المسألة التي تتعلق بذلك، وبها نبدأ، أن محل النية القلب، ومع ذلك فإنها أصعب ما تكون على العبد؛ لكثرت تقلب القلب، وتغير النفس، فإن العوارض كثيرةٌ، والعوائق متكررةٌ، وما يصرف الإنسان عن الله -سبحانه وتعالى- لا يبرح في يومٍ ولا في ليلةٍ، من النفس الأمارة بالسوء ومن الشيطان ومن غير ذلك.
ولذلك جاء عن سفيان أنه قال: ما عالجت شيئًا أكثر من نيتي.
ويقول البعض: تعلموا النية كما تتعلمون العمل، يعني: كيف تتعلم الوضوء والصلاة والطهارة، أيضًا النية وإن كانت شيئًا ينعقد في القلب إلا أنه لكثرة التقلب والتغير يحتاج الإنسان إلى معالجةٍ.
ولذلك يا إخوة ربما نبدأ الآن أحسن ما نكون إخلاصًا، ثم ما أن يسمع الإنسان كلمةً في ثناءٍ عليه حتى ينقلب قصده إليه، أو ما يعطى جائزةً أو شيئًا من الدنيا حتى تصرفه إلى غير الله -سبحانه وتعالى، فإذا قلت هذا في شيءٍ واحدٍ، فكيف والعبد مطالبٌ بأن يكون مخلصًا لله -جلَّ وعلَا- في كل أموره، والنية تتقلب في كل حالٍ من أحواله، والشيطان يتربص به، والنفس أمارةٌ بالسوء، والعبد ضعيفٌ في ذلك كله، إلا من عصمه الله -تعالى- وسلمه، فلأجل ذلك كان من الأمور التي ينبغي أن تُحفظ وأن تُعلم، أنه لابد أن يتعلم العبد كيف يحسن النية، وكيف يصلحها، وكيف يقصد وجه الله -سبحانه وتعالى، ولأجل هذا يمكن القول أننا ما أكثر ما أو ما أسهل أن نحفظ هذا الحديث، وأن نردده، وأن يكون من الأحاديث المشهورة لدينا، لكن ما أقل من يكون مراعيًا له في كل أحواله وأموره، وكل أعماله وأقواله، وكل تقلبات أيامه ولياليه، ومن وفق لهذا فقد وفق لخيرٍ كثيرٍ، ومن فاته هذا فقد فاته خير الدنيا والآخرة، مهما حصل من متعها وشهواتها، والله المستعان.
إذا انتهينا من هذه المسألة، فإن المسألة التي تليها وهي أن العبد يجب عليه إخلاص القصد لله -جلَّ وعلَا، ولأهل العلم في مبحث النية، أن النية لها تعلقاتٌ، وتعلقها عند أهل العلم منه ما هو مبحثٌ من مباحث أهل الإيمان والاعتقاد، ومنها من مباحث أهل الفقه والفروع والمسائل الفرعية، فالأول يسميه الفقهاء الإضافة إلى الله، وهو الذي يشتهر عندنا بإخلاص القصد لله -سبحانه وتعالى، فهذا مبحثه عند أهل الاعتقاد، فيقولون: يجب على العبد أن يخلص العبادة لله -سبحانه وتعالى- ولا تصح عبادةٌ إلا بقصد بوجه الله -سبحانه وتعالى، ولذلك قال الله -تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ولَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدً﴾ [الكهف: 110]، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم: يقول الله -تعالى: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه»، إذا هذا بالنسبة لما ذكرته لكم، وهو الأمر الأول الذي يُعنى به أهل الاعتقاد.
أما الفقهاء إذا ذكروا النية فيتعلق بذلك مبحثان:
أولهما: قصد العبادة، ما الفرق بينها وبين الأول؟
هناك قصد وجه الله -جلَّ وعلَا- هنا قصد العبادة، يعني أن تتميز العبادة عن العادة، على سبيل المثال: ربما يدخل الإنسان مغتسله فيغتسل، فيكون في هذا إما متبردًا أو متنظفًا أو مغتسلًا من جنابةٍ أو مغتسلٍ لجمعةٍ، ما الفرق بين الأخيرين والأولين إلا بما انعقد في قلب العبد من النية؟
فمتى ينتقل من كونه عادةً أو شيئًا من أمور الدنيا إلى أن يكون عبادةً؟
حينما يكون للعبد إخلاصٌ لله -جلَّ وعلَا-، وقصدٌ لوجه الله -سبحانه وتعالى-، فإذًا هذا تمييز العادة من العبادة، ومثل هذا الوضوء يغسل أطرافه، ويغسل وجهه ونحو ذلك، لا يفرق بين العادة وبين العبادة إلا النية، ومثل ذلك الإنسان يعطي المال قرضًا أو يعطيه كذا أو صدقةً لله -جلَّ وعلَا- فإنه لا يتميز وإن كان هذا ليس في العادة إلى العبادة، هذا في القسم الثاني ستأتي الإشارة إليه، إذا هذا هو المعنى الأول عند الفقهاء وهو قصد العبادة.
الثاني: تمييز العبادات بعضها عن بعضٍ، أو ما يسمى عند الفقهاء بالتعيين، يعني على سبيل المثال لو أن شخصًا يصلي ركعتي الفجر -سنة الفجر- ثم يصلي صلاة الفجر -الفرض- ما الفرق بينهما؟
كيف نعرف أن هذه ركعتا الفجر التي هي نافلتها، وهذه فرضها إلا بالنية؟
حينما يعطي الإنسان الصدقة الواجبة أو الزكاة الواجبة أو يعطي الصدقة المستحبة، ما الذي يمايز بينها إلا النية؟
حينما يعتمر شخصٌ عن آخر أو يعتمر عن نفسه، ما الذي يفرق بينهما ويمايز بينهما إلا النية؟
وهكذا، وقل: مثل ذلك في أعمالٍ كثيرةٍ، لا تتمايز إلا بالنية، كذلك من عليه ظهرٌ وعصرٌ أو جمع بينهما، كيف تتميز هذه عن هذه وكلها أربع ركعاتٍ إلا بالنية؟
إذن هذا مبحثٌ من مباحث الفقهاء وهم يبحثون في التعيين، ويتكلمون عليه، فإذا تكلموا على النية فيقصدون بذلك قصد العبادة، ويقصدون بذلك التعيين، أما الإخلاص لله -جلَّ وعلَا- أو ما يسمونه بالإضافة إلى الله فهذا أصلٌ بحثه في باب الإيمان والاعتقاد، ولم يتطرق الفقهاء له، لأنه عندهم كأنه أمرٌ مفروغٌ منه أو ظاهرٌ بيّنٌ لا لعدم أهميته أو عدم الاعتبار به، أو للإعراض عنه، حاشا وكلا، بل المقصود أن ذلك أمرٌ ظاهرٌ مستقرٌ قد استقر عند علماء الاعتقاد وأهل الإيمان، ولا يصح الإيمان إلا به، ولا يسلم عقيدة المرء إلا بتحقيقه، فلأجل ذلك كأنه محصلٌ عند العباد وظاهرٌ، فينتقلون إلى ما يتعلق بالفروع الفقهية والمسائل الفرعية.
هذا إذًا ما يتعلق بالمسألة التي هي حقيقة النية ومباحث أهل العلم فيها، أنها تتدرج في ذلك، هنا إذا قلنا من أن النية هي قصد الله -سبحانه وتعالى- بالعمل فما ضد ذلك؟ أو ما الذي يقابل ذلك؟ قصد غير الله -سبحانه وتعالى-، فما حكم من قصد غير الله -جلَّ وعلَا، وقد تبين لنا في ما ذكرناه قبل قليلٍ أن الإخلاص واجبٌ، وأنه به يصح الإيمان، وبه تقبل الأعمال، وهو مناط الأجر والثواب عند الله -سبحانه وتعالى-، لدلالة ظاهر هذا الحديث، وما ذكرناه لكم من أنه أصلٌ أصيلٌ، وركنٌ ركينٌ عند العلماء، لا يستغنى عنه في عبادةٍ من العبادات.
إذا انتفى الإخلاص لله -جلَّ وعلَا، فإن العمل يكون شركًا بالله -سبحانه وتعالى، ولذلك من عمل عملًا من العبادات يتقرب بها إلى غير الله -جلَّ وعلَا، فإنه مشركٌ بالله -سبحانه وتعالى، من سجد لغير الله، من عبد غير الله، من صلى أو نحر لا يقصد وجه الله -جلَّ وعلَا- ويقصد غيره، فذلك مشركٌ بالله -سبحانه وتعالى.
ومن عمل عملًا من الأعمال التي يستحقها الله -سبحانه وتعالى- مثل: الصلاة والصيام كذلك، لذلك جاء عند أحمد أنه من صلى لغير الله فقد أشرك، ومن صام لغير الله فقد أشرك، فإذن لا يصح العمل إلا أن يكون خالصًا لله -سبحانه وتعالى، ولأجل ذلك قال الله -جلَّ وعلَا- في وصف المنافقين: ﴿يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلً﴾ [النساء: 142]، فأعمالهم في الظاهر أنها يُتوجه بها إلى الله، وحقيقتها أنهم لا يريدون بذلك إلا شيئًا من أمور الدنيا، والأمان على أنفسهم، وهم مناكفون مضادون محادون لله -جلَّ وعلَا-، ولرسوله -صلى الله عليه وسلم.
هذه إذن مسألةٌ مهمةٌ، يتفرع عليها أن بعض المسلمين؛ لأنه لا يُتصور أن أحدًا من المسلمين كل أعماله يريد بها وجه الله، فإنما ذلك صفةٌ من صفات المنافقين، وطريقةٌ من طرائق المرتدين عن دين الإسلام، نسأل الله السلامة والعافية، لكن قد يكون أن بعض المسلمين قد تنحرف نيته وقصده من الله -جلَّ وعلَا- إلى شيءٍ من الدنيا وحطامها، ولأجل ذلك أهل العلم يُفصلون ذلك على أحوالٍ:
الحال الأولى: يقولون: من قصد بعمله الدنيا، لأي سببٍ من الأسباب ابتداءً، كمن مثلًا ظن أنه لا يحصل هذه الوظيفة إلا بأن يُظهر التمسك بهذا العمل، أو الاستقامة على هذا الأمر، فلم يعمله إلا لأجل تحصيل تلك الوظيفة، فنقول: هذا العمل حابطٌ، وهذا العمل غير صحيحٍ، وليس مقبولًا، لما ذكرنا من قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئٍ ما نوى»، وأيضًا لما جاء في الحديث القدسي الذي ذكرناه أيضًا قبل قليل: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك فيه معي غيري، تركته وشركه».
والثاني أيضًا: من ابتدأ العمل لله، لكن انقلبت نيته لغير الله -جلَّ وعلَا، واستقام على ذلك، يعني على انحرافه وضلاله، فقلب عمله، بدل أن يكون لله، أن يكون لغير الله، وبدل أن يطلب بذلك رضا الله، يطلب بذلك شيئًا من الدنيا وحطامها، فمثل ذلك أيضًا عمله حابطٌ، وهو غير مقبولٍ ولا نافعٍ.
والحال الثالثة: وهو من ابتدأ عملًا يريد به وجه الله -جلَّ وعلَا، وهذا حال كثيرٍ من المسلمين، ثم يعرض له الرياء، ويعرض له إرادة وجه غير الله -سبحانه وتعالى، فيقول أهل العلم: إن كان ذلك عارضًا ثم يزول، يجاهده، فإن عمله خالصٌ، ومأجورٌ على إخلاصه، ومأجورٌ على مجاهدته، ولا يضره ذلك، هذا إذن الحال.
وأما أن يكون ابتدأ العمل لله، لكن لما عرض له الرياء، استقر مع العمل، هو لم يلتفت إلى غير الله، لكن زاد في العمل، أو حسن في العمل، لأنه يرى الناس ينظرون إليه، أو رأى الناس يمدحونه، كان يعطي عشرةً عشرةً، كان يتصدق في الحرم، فلما رمق الناس وهم ينظرون إليه، زاد قليلًا، فهنا يقول أهل العلم: إن أصل العمل لله -جلَّ وعلَا، ولم تتغير في ذلك النية، وإنما وقع انصرافٌ فيما زاد، فيكون مأجورًا على إخلاصه، ويذهب عليه ما ركن إليه في زيادته، فيكون في ذلك العمل أو يمكن أن يكون العمل فيه شيءٌ صالحٌ، وعملٌ غير صالحٍ.
هذا إذن ما يتعلق بالإرادات، يذكر بعض أهل العلم أيضًا مسألةً، وهو أن الإنسان أحيانًا إذا عمل العمل وانتهى منه، يُثنى عليه فيفرح بذلك، يقول أهل العلم: بالنسبة لهذه المسألة، أنها لا تعلق لها بالإخلاص؛ لأنها بعد انتهاء العمل والفراغ منه، فلا تضره بذلك، بل كما جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم: «تلك عاجل بشرى المؤمن» ولذلك قال الله -سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُو﴾ [يونس: 58]، فالفرح بنعمة الله وفضله وتحقيقه الإيمان به ونحو ذلك من أعظم ما يحصل به الفرح، وهو الفرح الحقيقي، الذي يرجو الإنسان بره عند الله -سبحانه وتعالى.
إذا انتهينا من هذا فننتقل إلى مسألةٍ أخرى، وهي أن بعض الأعمال جاء ترتيب أجرٍ دنيويٍّ عليها، فكيف يكون إخلاص الإنسان فيها؟
أولًا نقول: تمام الإخلاص أن يكون انبعاث الإنسان حتى في هذه الأعمال، وإرادة ما عند الله -جلَّ وعلَا- من الثواب الأخروي، وعدم الالتفات إلى الثواب الدنيوي، لكن لو أنه قصد الثواب الدنيوي مع إخلاصه لله -جلَّ وعلَا- فإن ذلك صحيحٌ لا يضره، كمثل من يصل رحمه، لورود الحديث، ويقصد ما عند الله -جلَّ وعلَا- من ثوابٍ، ولما رتب عليه أيضًا من ثواب الدنيا «من أراد أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أجله فليصل رحمه»، وكذلك الغنيمة في الجهاد مطلوبةٌ، وأُدين الله -جلَّ وعلَا- بها، وجعل لها قسمة بين المؤمنين، فمن طلبها لا يكون في ذلك ذهاب إخلاصه، لكن لا شك أن من قصد الثواب الأخروي بدون النظر إلى ثواب الدنيا أكثر إخلاصًا، ولذلك جاء في الحديث الذي رواه البخاري: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من أخذ الغنيمة فقد تعجل ثلثي أجره»، فيفوت عليه من الأجر، لكنه ليس بمعارضٍ للإخلاص، ولا ممانعٍ منه.
ومثل ذلك يتكلم أهل العلم في مثل هذا على أخذ الأجرة على بعض أعمال القُرَب، أعمال القُرَب منها ما لا تدخله النيابات كالصلاة والصيام في الفرض، هذا لا إشكال فيه، أن كل واحدٍ يصلي عن نفسه ويصوم عن نفسه، لكن مثل صيام النذر، مثل بعض أيضًا الحج، أيضًا تعليم القرآن ونحوه، تعليم العلوم الشرعية، هل يجوز أخذ الأجرة عليها؟ اختلف في هذا أهل العلم، ولن ندخل في الخلاف، الحنابلة -رحمهم الله تعالى- يرون أنه لا يجوز، وأن ذلك معارضٌ للنية، لحديث أبي هريرة: «أول من تسعر بهم النار ثلاثةٌ»، فذكر منهم قارئ القرآن، لا يقرأ القرآن إلا ليقال قارئٌ، فقد قيل، فيؤمر به في النار، ثم المنفق الذي يريد ثناء الدنيا، وأيضًا المجاهد الذي يجاهد لأجل الشجاعة، على ما مر في الحديث نذكره على سبيل الاختصار، استدلوا بهذا الحديث وما في معناه على أنه لا يجوز أخذ الأجرة على ذلك، وخالف في هذا الشافعية والمالكية، وقالوا: إن ذلك جائزٌ، وقد جاء ما يدل عليه: «إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله»، ودلالاتٌ وأحاديث أيضًا أخرى، فالأمر في ذلك مقاربٌ، وعلى كل حالٍ، خاصةً مع تأخر الأزمان، وحاجة الناس إلى الأجرة، فكثيرٌ من الأعمال لا تستقيم إلا بذلك، ويمكن القول من أن أخذ الأجرة لا ينافي أصل الإخلاص، وإن كان يُفوِّت تمام الأجر كما قلنا في المسألة التي قبلها.
هنا مسألةٌ، وهي أيضًا مما ينبغي أن يكمل بها الحديث في هذا المقام، ونحن أطلنا في الحديث الأول، ونحب الحقيقة أن نختصر، لكن الأحاديث أحاديث عظيمةٌ تشتمل على معانٍ كبيرةٍ، ربما نزيد في الحديث عنها، فاسمحوا لنا في ذلك، وإلا فإن شاء الله في النهاية سيكون في كل درسٍ ثلاثة أحاديث، أربعة أحاديث حتى نُنهي هذه الأربعين، في هذه المجالس -بإذن الله جلَّ وعلَا.
من المسائل المتعلقة بذلك والتي يذكرها أهل العلم، أن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في النيات، ولذلك ربما ينوي الإنسان العمل ويكتب له أجره ولم يعمله، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد أو سافر، كُتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمً» كما في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه، وفي الآية: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ [النساء: 100]، وهو لم يصل، ومع ذلك كُتب له أجر ذلك، فيحصل، وسيأتينا حديث ابن عباس، وهو من أحاديث الأربعين النووية، وهو مبينٌ لهذا المعنى.
أيضًا من المسائل المتعلقة بها -ولعلنا نختم بذلك- أن المباحات إذا نوى بها الإنسان الثواب عند الله -جلَّ وعلَا- فإنها تدخل في ما يُثاب عليه، ولذلك يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى: إن خواص المقربين، من جعل المباحات له طاعاتٍ وقرباتٍ، فليس عنده مباحٌ يستوي طرفاه، بل هي أعمالٌ راجحةٌ، يعني من قصد مثلًا النوم الاستعانة على قيام الليل، فإنه يثاب على ذلك، ومن نوى مثلًا في عمل الدنيا أن يكفي أهله من الدخول في الحرام، أو بعض الأمور المحرمة، أو نحو ذلك، فهو مأجورٌ على هذا، ومن نوى بإنفاقه على أهله ما عند الله -سبحانه وتعالى، فإنه مثابٌ على ذلك، إلى غير ذلك من الأمور الكثيرة، ولذلك ينبغي للإنسان أن يكون مُستحضرًا لهذا المعنى، ومن فتح الله عليه هذا الباب، فإنه لا يكاد يكون إلا في عمل طاعةٍ، في ليله ونهاره، إن كان في صلاةٍ فهو في طاعةٍ، وإن كان في صيامٍ فهو في طاعةٍ، وإن كان في قراءة قرآنٍ فهو طاعةٌ، وإن كان في نومٍ فهو في طاعةٍ، وإن كان في سمرٍ مع أهله، يريد أن يبسطهم ونحو ذلك، فهو في طاعةٍ، فأجل ذلك ينبغي للإنسان أن يكون مستحضرًا لهذه النية.
كيف وإذا تأمل الإنسان أنه إذا كان في طاعةٍ، فمعنى ذلك أن خروجه له أجرٌ، وأن تعبه فيه أجرٌ، وأن ما يلحقه من عرقٍ فهو في أجرٍ، وما يكون عليه من نصبٍ فهو في أجرٍ، وهكذا، فتأمل كم لله -جلَّ وعلَا- عليك من نعمةٍ، حينما تستحضر هذه النية، وحينما يصلح لك القصد، وحينما تتوجه إلى الله -جلَّ وعلَا- في مثل تلك الأعمال، فهذه أمورٌ عظيمةٌ ينبغي الحديث عنها.
هنا ينتهي الحديث، لكن أريد أن أقول: إن مثل ما قلنا في المباحات، أيضًا في التروك، الأشياء التي تُترك، لا تدخل في الأعمال، مثل ترك النجاسات، مخالطة النجاسات، وغش الناس، وظلم الناس، هذه ليست داخلةً في الأعمال، فلا تدخل في النيات، لكن من كانت له نيةٌ في ترك هذه الأمور، فإنه يثاب على ذلك، وإنه يكون له به أجرٌ عند الله -سبحانه وتعالى-؛ لأنه تركها ابتغاء مرضات الله -سبحانه وتعالى.
الحديث في هذا مهمٌ، والحديث طويلٌ، لكن أرى دقائق وقت هذا المجلس قد انتهى، أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وأسأل الله لنا ولكم الإخلاص والإعانة والرشاد، أسأل الله -جلَّ وعلَا- للإخوة المشاهدين التوفيق، وأن نُحشر وإياهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
شكر الله لكم، وشكر الله للإخوة القائمين على هذا البرنامج، والإخوة الذين أعانونا عليه في تسجيله، وكل مجرياته، والله -جلَّ وعلَا- الموفق، وإلى لقاء قادم -بإذن الله جلَّ وعلَا، أترككم في حفظ الله ورعايته، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك