الدرس السابع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

11542 13
الدرس السابع

الأربعون النووية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد..
فأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يتم علينا نعمته، وأن يبلغنا طاعته، وأن يزيدنا من سنته، وأن يجعلنا من المتعلمين لها العاملين بها الداعين إليها، على ذلك نحيا وعليه نموت، وبه نلقى الله جلَّ وعلَا مخلصين غير حائدين ولا منحرفين، إن ربنا جوادٌ كريمٌ.
أيها الإخوة ما أحسن اللقاء، وما أحسن أن يكون اللقاء في هذه الأحاديث، وفي الحديث عنها، وفي بحث مسائلها، والكلام على ما يتعلق على مدلولاتها.
كنا في الدرس الماضي ابتدأنا الكلام على الحديث العاشر وهو حديثٌ عظيمٌ في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: «إن الله طيبٌ لا يقبل إلا طيبً»، وقد ذكرنا جملةً من المسائل المتعلقة بذلك وأظن أننا كنا وقفنا عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر»، أليس كذلك؟ نعم.
لعل أول ما نستهل به الحديث ما المناسبة التي لأجلها ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بعد قوله: إن الله لا يقبل من العمل إلا طيبًا، ذكر الدعاء؟
ولعل ذلك لا شك أنه راجعٌ إلى أهمية الدعاء، وأهمية الدعاء يتعلق بها أمران:
أولهما: أن الدعاء هو العبادة، وهذا جاء صريحًا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء في قول الله -جلَّ وعلَا: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ [غافر: 60].
ثم إنَّ حال العبد في هذه الدنيا مهما علت منزلته، أو ارتفعت درجته، أو قوي بأسه، أو عظم جنده، أو اتسع ملكه، أو كثر محبوه، قل ما شئت من صفات هذه الدنيا ومتعها، فإنها لا تغني عنه من الله شيئًا، وإنه لا يزال فقيرًا منقطعًا، لا يزال محتاجًا إلى الله جلَّ وعلَا، ليس في شأنٍ دون شأنٍ، ولا في حالٍ دون حالٍ، ولا في كبيرٍ دون صغيرٍ، بل في كل شيءٍ.
ولذلك قال الله -جلَّ وعلَا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15].
فليس أحدٌ إلا فقيرٌ إلى الله -جلَّ وعلَا- من أهل هذه البسيطة كلها، من الجن أو الإنس، من البهائم أو غيرها، فإن الفقر صفةٌ ملازمةٌ للعبد في كل حالٍ وآنٍ، وإن الدعاء أيضًا من جهةٍ أخرى، إذا قلنا إن الحاجة الدينية والحاجة الدنيوية، أيضًا لا تنفك أعمال العبد المؤمن كلها من أن تكون عبادة لله -جلَّ وعلَا- دعاءً، وذلك إما أن يكون دعاءً ومسألةً، وطلبًا وحاجةً، وإما أن يكون تعبدًا وتذللًا، وغاية ذلك في أن يطلب رضا الله -سبحانه وتعالى- وجنته، والسلامة من عذابه وسخطه.
فكان ذلك إذن: طلبًا ودعاءً، فلأجل هذا كان من أهم ما ينبغي التنبيه عليه والوقوف معه، هو الحديث عن الدعاء.
فهنا لما قال: «ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر»، هنا ذكر مهماتٍ تتعلق بالدعاء، هي أسباب الإجابة، وهي طريق تحصيل المطلوب والوصول إلى الحاجة، وتحقيق البغية التي يبتغيها العبد من الله جلَّ وعلَا، «ثم ذكر الرجل يطيل السفر»، لما ابتدأ بإطالة السفر، السفر من أسباب الدعاء، ولذلك جاء في الأحاديث عند ابن حبان وغيره ممن لا ترد دعوتهم: المسافر.
لماذا المسافر؟ المسافر يلحقه التشعث يحلقه الانقطاع، يلحقه الانكسار، يلحقه الانكشاف والتعري، ما دام الإنسان قريبًا من أهله، فهو في حوطتهم وقوتهم، ويدفعون عنه ويعينونه، يصلحون له شأنه، ويقضون له حاجته إلى غير ذلك، لكن إذا سافر الإنسان فهو في العراء منكشفًا، وحيدًا، في ليله وفي نهاره، يعالج طعامه وشرابه وطريقه وذهابه ومجيئه، وكل أحواله، وهو في أمرٍ لا يدري إذا أمسى أن يصبح، وإذا أصبح أن يمسي.
لعله أن يقطع عليه الطريق قاطعٌ، لعله أن ينقطع به أمرٌ من أمور السفر، لعلها أن تذهب عليه دابته، لعله لعله، فأعظم ما يكون تشعثًا، يشتد عليه الحر يشتد عليه البرد، يشتد عليه الرياح، فحاله في الانكسار ظاهرٌ.
وكل ما كان الإنسان أكثر انقطاعًا وانكسارًا كان أقرب إلى الله جلَّ وعلَا، وأدعى لأن يظهر الإخبات، وأن يتوجه إلى الله وأن يظهر منه الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وقل مثل ذلك في كل الأحوال التي تشابه حال المسافر، السجين، وإذا كان السجين وحيدًا، وإذا طال به السجن، وإذا كان مظلومًا، أو إذا اشتد به حاجةٌ، إذا كان مريضًا، وإذا كان على فراشه، وإذا اشتدت به الآلام، وإذا ذهب عنه النوم، وإذا انقطع عنه السبب من الطبيب وغيره، وإذا تولى عنه الأهل، وقل مثل ذلك في أشياءٍ كثيرةٍ.
فهي أحوال من الأحوال التي تكون من أسباب الإجابة، ولذلك في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره»، فذكر من أحواله أنه أشعث أغبر ذي طمرين، يعني: ثوبين باليين وحاله منكسرةٌ بين يدي الله سبحانه وتعالى.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا إذا خرج للاستسقاء، وهي من أعظم الأحوال التي يكون فيها الانكسار، خرج متبذلًا، متخشعًا، كما جاء ذلك في الحديث عند أهل السنن.
وكان بعض السلف يطلب ذلك في كل أحواله، حتى يطلب ذلك في بعض ثيابه، يعني إذا أراد أن ينكسر بين يدي الله وله حاجةٌ عند الله سبحانه وتعالى يطلبها، من أمر الدنيا أو الدين، فإنه يظهر الانكسار حتى في الثياب التي يلبسها، لا يلبس أحسن ثيابه؛ لأنه كلما كان الإنسان سواءً في مظهره وفي منطقه وفي حاله منكسرًا كان ذلك أدعى للإجابة.
ولأجل ذلك حتى رفع البصر إلى السماء، هذا تدل على شيءٍ من عدم الحاجة، بخلاف من انكسر بصره فهو عنوان إخباته وخضوعه لله -سبحانه وتعالى.
«أشعث أغبر»، وإذا اغبرَّ الإنسان من الغبار، وأتت عليه، فهو أيضًا من شدة ما نزل به وأصابه، مثل ما ذكرنا.
«يمد يديه إلى السماء»، مد اليدين من أكبر أسباب إجابة الدعاء، ولذلك جاءت بها السنة صريحةً، وقد عد بعض أهل العلم فيها أكثر من أربعين حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان ذلك مندوبًا في كل حالٍ من أحوال العبد إذا دعى، إلا ما جاء الدليل باستثنائه، وما الذي جاء الدليل باستثنائه؟ حال خطبة الجمعة فقط، وإذا كان استسقاءً في الخطبة فإنها ترفع فيه الأيدي.
إذًا ما سواها فترفع فيه الأيدي، فعلى سبيل المثال إذا افتتحنا هذا الدرس فدعونا فأحسن أن نرفع أيدينا، فإن ذلك عنوان الإجابة، وسببًا من أسبابها.
وذكر أهل العلم صفات رفع اليدين، فذكروا منها:
الحالة الأولى: أن يرفع يديه يكون ظهروهما إلى الأرض وبطونهما إلى السماء.
والحالة الثانية: أن تكون ظهورهما إلى القبلة وبطونهما إلى وجهه.
الحالة الثالثة: وذكروا أيضًا أن تكون بطونهما إلى الأرض وظهورهما إلى السماء، وهذه كيف؟ يعني: أن يبالغ في الرفع، حتى يكون ظهورهما إلى السماء، وبطونهما إلى الأرض.
الحالة الرابعة: وذكر بعض أهل العلم وممن نص على ذلك ابن رجب عكس القبلة يعني أن تكون ظهورهما إلى القبلة وبطونهما إلى وجهه وعكسها، يعني ظاهرها هذا، وإن كان يعني فيها شيءٌ من الإشكال، ولكن يقولون إن هذه تناسب حال الاستجارة بالله -جلَّ وعلَا.
لكن كما ذكرنا أن هذه صفاتٌ ظاهرةٌ مشهورةٌ سوى الأخيرة وبعضهم يجعل فيها شيئًا من الاستشكال، لكن ظاهر كلام ابن رجب في شرحه لهذا الحديث أنه ذكرها، ويقصدها.
«يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب»، وهذا أيضًا سببٌ من أسباب الإجابة، وهو نداء الله -جلَّ وعلَا، وكثرة الإلحاح على الله، فلما قال: يا رب يا رب فهذا فيه إظهار الإلحاح، والإلحاح وجهٌ من أوجه الاستكانة والانكسار بين يدي الله سبحانه وتعالى.
هل الذي يقول: يا فلان مرةً واحدةً، مثل الذي يقول: يا فلان يا فلان يا فلان؟ ولله المثل الأعلى.
إذا قال: يا رب يا رب يا رب وأعاد النداء، فكل ما أعدتَ هذه الكلمة زاد في القلب الانكسار، والانقطاع والفاقة وظهور الحاجة، والتعلق بالله -سبحانه وتعالى، هذا من جهة، التكرار.
ومن جهةٍ أخرى لفظ الرب، ولذلك جاء عن عائشة مرفوعًا أنه إذا قال العبد: يا رب، قال الله -جلَّ وعلَا: لبيك، وجاء ذلك عن يزيد الرقاشي وغيره، أن العبد إذا قال: يا رب يا رب، قال الله -جلَّ وعلَا: لبيك لبيك.
وجاء عن عطاء رضي الله عنه أنه إذا قال: يا رب ثلاثًا، نظر الله إليه، يعني: نظر إجابةٍ وإعطاء، ولأجل ذلك يقول أهل العلم: إن كثيرًا من الأدعية في القرآن جاءت بلفظ ربنا، ﴿رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [البقرة: 201]، ﴿ رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ﴾ [آل عمران: 193]، والآيات في ذلك كثيرةٌ جدًّا، ﴿رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ﴾ [آل عمران: 8].
فيقولون: إن هذا لفظٌ وهو لفظ الربوبية، وأن الله -جلَّ وعلَا- هو المعطي وهو المتفضل وهو المنعم، وهو المدبر للأمور، وبيده تصاريفها، وبيده الأرزاق وبيده الخلق، وبيده النعمة، وبيده الرحمة، فإن ذلك أرجى لإجابة الدعاء.
قال: «ومطعمه حرامٌ ومشربه حرامٌ وملبسه حرامٌ»، طبعًا هو ذكر جملةً من هذه الآداب، ثم أشار إلى الموانع.
فلم يذكر في الحديث جميع هذه الآداب، وجاءت في أحاديث أخرى مثل: عدم الاستعجال، وألا يكون القلب غافلًا، وأن يبدأ بالحمد والثناء على الله جلَّ وعلَا، والصلاة على رسوله، وينتهي بذلك، وفي هذا أحاديث كثيرةٌ مشهورةٌ في السنن وفي الصحيح، وهي محفوظةٌ معروفةٌ.
التعرف في أوقات الإجابة وأماكنها كيوم عرفة بعرفة، وعند الملتزم، وغير ذلك، لكن لا يسعفنا الوقت في الوقوف عليها، لكن هذه إشارةٌ إلى جملتها، وقد ذكر جملةٌ من أهل العلم هذه الآداب في شروحات الأحاديث وفي كتب الأذكار ونحوها، فيحسن بطالب العلم وكل مسلمٍ يرجو إجابة دعائه أن يستزيد منها، وأن يمتثلها وتكون له عادةٌ يعتادها في كل دعائه.
هنا لما قال: «ومطعمه حرامٌ ومشربه حرامٌ وملبسه حرامٌ»، هذا إشارةٌ إلى الموانع، وذكرنا أنه جاء في بعض الآثار شرحٌ لهذا الحديث أنه لو قام الإنسان مقام السارية، لا يمكن إلا أن تكون قائمةً، لم يقبل منه إلا أن يكون مأكله حلالٌ.
وذكرنا ما جاء في من ذهب للحج بمأكلٍ حرامٍ، فيقال حين يقول لبيك اللهم لبيك، يقال: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرامٌ وعملك مردودٌ غير مقبولٍ، نسأل الله السلامة والعافية.
وهنا لما قال المؤلف رحمه الله تعالى: «ومطعمه حرامٌ ومشربه حرامٌ وملبسه حرامٌ وغذي بالحرام»، أن الحرام وأكله من أعظم موانع الدعاء، وهو من أكثرها، ولذلك نص عليه في هذا الحديث.
ولا يلبس كثيرٌ من الناس إلا ويصيب شيئًا من ذلك، ولا أظن إلا أنا قد أصبنا ليس قليلًا وإنما كثيرًا والله المستعان.
وأيضًا في هذا الحديث إشارةٌ إلى أنه كلما كان الحرام أكثر كان عدم الإجابة أظهر، أو أقرب، ولذلك ما قال: ومطعمه حرامٌ وانتهى، قال: «ومطعمه حرامٌ ومشربه حرامٌ وملبسه حرامٌ، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك».
ولذلك جاء في هذا أحاديث كثيرةٍ، «أي لحمٍ نبت من سحتٍ فالنار أولى به»، وما كانت النار أولى به فإنه بعيدٌ عن رحمة الله، وبعيدٌ عن إجابة الله -جلَّ وعلَا.
وفي ذلك يذكر بعض السلف عبارة تلك المرأة التي توصي زوجها وتقول: يا فلان اتق الله في مطعمنا، فإنا نصبر على الجوع ولا نصبر على النار، يمكن أن نجوع ولا نأكل، لكن أن نأكل حرامًا فندخل النار فإن ذلك لا نطيقه.
«فأنى يستجاب لذلك» قال أهل العلم فأنى هنا جاءت على سبيل الاستفهام والاستبعاد، يعني أن ذلك بعيدٌ أن يستجاب له، فدل هذا أنه مهما استجمع الإنسان من أسباب الإجابة وتكثر منها، إذا لم يتحر البعد عن موانع الإجابة فإنه لا يجاب له، وأن على المسلم أن يرعى الأمرين جميعًا، حصول الأسباب الموصلة، وقطع الموانع العائقة بينه وبين وصول دعائه، وإجابة سؤاله وإعطائه مبتغاه.
وما بين هذا وذاك يعني من قوة المانع أو غلبة الأسباب هذا بابٌ واسعٌ، والله جلَّ وعلَا يتولى العباد فيه، لكن الواجب على كل مسلمٍ أن يرعى الأسباب قدر استطاعته، وأن يتنحى ويبتعد عن الموانع بقدر ما يتحصل له من الأمور.
هذا الحديث من الأحاديث العظيمة، وكما قلنا: إن فيه إشارةً إلى أسباب الإجابة وعظم أمر الدعاء، وفضل الله جلَّ وعلَا في عباده، وعظم هذه الشريعة وما جاءت به من الطيب، وأن كلها تكمل وتنزع إلى الخير وطيب الأشياء، سواءً كان ذلك فيما يختص بالعبادات أو كان في المعاملات والبيع والشراء والمكاسب والمعاوضات، وسواءً في ذلك ما يتعلق بالعلاقات، والأمور التي تتعلق بالناس في اجتماعاتهم، إلى غير ذلك من تفاصيل أحكام الشريعة، فلله الحمد والمنة على أن جعل هذه الشريعة طيبةً تامةً، كاملةً ننعم بخيرها وننهل منها، وتكون زادًا لنا وصلاحًا لنفوسنا في ديننا وفي دنيانا، مقربةً لما يكون طيبًا ومبعدةً لما يكون خبيثًا، مقربةً لما يكون خيرًا، مبعدةً لما يكون شرًّا، معينةً لنا على ما يكون فيه صلاح دنيانا، وصلاح ديننا وآخرتنا.
نكتفي بهذا القدر فيما يتعلق بهذا الحديث، ولعلنا أن ننتقل إلى الحديث الذي بعده، وكما تعودنا أن يقرأ أخونا سعد ثم نعود إلى ذكر بعض الجمل المتعلقة به.

{الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد..
فاللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمشاهدين وجميع المسلمين..
قال النووي رحمه الله: (الحديث الحادي عشر
عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته، رضي الله عنهما، قال: «حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» رواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي حديثٌ حسنٌ صحيحٌ)
}
نعم هذا الحديث حديث الحسن بن علي -رضي الله تعالى عنه وأرضاه، سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانته، كما جاء ذلك في الحديث، «الحسن والحسين ريحانة أهل الجنة»، وفيه دليلٌ على فضلهما ومنزلتهما، وجاء في الحديث أيضًا أنهما سيدا شباب أهل الجنة، وجاء في الحسن خصيصةٌ وهو أنه يُصلح الله -جلَّ وعلَا- به بين فئتين عظيمتين وهذا كله يدل على فضله وعلى ذلك عقيدة أهل السنة والجماعة في معرفة قدر آل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما خصهم الله -جلَّ وعلَا- من الخصيصة، وأنزلهم به من المنزلة، ولذلك جاء في حديث غدير خم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله» ثم قال: «وعترتي»، وهذا حثٌّ على القيام بحقها، ومعرفة منزلتها.
وهذا الحديث وهو حديث الحسن بن علي عند الترمذي بإسنادٍ لا بأس به، وهو طويلٌ وهذا من جملته، قال: «حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، وهو حديثٌ جملته يسيرةٌ وسهلةٌ، لكنها عظيمة المعاني وصدق النبي صلى الله عليه وسلم: «أعطيت جوامع الكلم».
فهذا الحديث فيه إشارةٌ إلى مسألةٍ مهمةٍ وهي أن هذه الشريعة جاءت بما تطيب بها النفوس، وبما تتيقن بها القلوب، وبما يكون به تحصيل التمام والكمال، وبما يكون للإنسان فيه علمٌ ويقينٌ بأن ذلك فيه اتباعٌ واهتداءٌ، وفيه استنانٌ واكتمالٌ لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فلا يأتي إلى الريب ولا يأتي إلى الشكوك، ولا ينزع إلى الأوهام، فيكون ذلك طردًا لما هو أبعد منها من الأحلام والرؤى وغيرها التي بعض الضلال ينزع إليها، فيجعلها سببًا للتشريع أو يعمل بما عنَّ في فكره، وبما أملاه عليه عقله، فإن ذلك لا يكون، «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، ما استرابه الإنسان بمعنى أن مرد الرِّيب ودفعها ليس إلى الأشخاص وإنما إلى ما جاءت به الدلائل والسنن، الأدلة والبراهين من كتاب الله جلَّ وعلَا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فهذا الحديث أصلٌ في ذلك، فلقائلٍ أن يقول، طبعًا ما يريبك بفتح الياء وبضمها، يريبك إلى ما لا يريبك، والريب هو ما يكون من الشكوك والريب والظنون والأوهام التي تعلق بالنفس وتتحرك في الخواطر، وتمنع من حصول الطمأنينة، ولذلك جاء في بعض روايات الحديث: «فإن الطمأنينة خيرٌ وإن الشك شرٌّ»، أو ما في معنى ذلك، مما يدل على هذا.
لقائلٍ أن يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك»، ما الفرق بين هذا الحديث وحديث النعمان بن بشير الذي قال فيه: «وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ لا يعلمهن كثيرٌ من الناس»، وهل هذا هو ذاك، أو لا؟
طبعًا لا شك أن الشريعة جاءت مكملةً بعضها لبعضٍ، ومتسقةٌ ومتشابهةٌ، فدلالاتها متقاربةٌ، لا يبعد هذا الحديث من ذاك الحديث، ففيه من الدلالة ما في ذاك، من البعد عن المشتبهات والابتعاد عن ما تكون فيه الأمور التي يتنازعها أمران، ويتداخلها دليلان، ثم يحصل بعد ذلك شيءٌ من الشكوك في أيهما الراجح أو أيهما المقدم أو أيهما الأصح والمعتمد والمعتبر.
هذا من جهةٍ، لكن أيضًا في هذا الحديث إشارةٌ أخرى، وهي أن الريب أحيانًا متعلقها إلى الأمر في ذاته، وأحيانًا إلى الشخص في نفسه، فأراد هنا أن يبين أيضًا ما يتعلق بالإنسان في نفسه، وأنه إذا علقت به ريبةٌ، قد يكون مأخذها كما قلنا إلى الأمر في نفسه، فيكون مردها إلى ذلك الحديث، وقد يكون إلى الإنسان في نفسه لصفةٍ اختصت به، أو حالٍ تعلقت به.
ولأجل ذلك تتابع السلف على المنع من الحديث عن هذا المعنى والكلام عليه، ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يقول: "إذا جاءتك الريبة فاتركها، فإذا كانت الريبة واحدةً، فإن أربعة آلاف طريقٍ لا ريبة فيه".
يعني الطرق السليمة كثيرةٌ ولله الحمد والمنة، هذا من جهةٍ، وجاء أيضًا عن عمر أنه قال: "اتركوا الربا والريبة، فما ارتبتم فيه فدعوه، وإن لم تتحققوا أنه ربا"، وهو إشارة أيضًا إلى ما ذكرنا من الأمور المشتبهة، أو الأمور المتعلقة بها شيءٌ من ذلك.
لكن مما يدل على أن متعلق ذلك إلى الشخص في نفسه أن شرّاح الحديث ذكروا جملةً من الآثار عن السلف تتعلق بذلك.
فذكروا عن حسان أو ابن أبي حسان، من السلف، نسيت اسمه، أنه لما أرسل إليه عاملًا له أو غلامًا، يقول: إن السكر نزلت به آفةٌ، في محل زراعته، فقام واشترى من السوق، ثم لم يلبث وقتًا حتى أعطي فيه ثلاثين ألف درهم، فجاء إلى البائع وقال: أما إنه قد أعلمني غلامي أنه حصلت به آفةٌ، وإن لم أكن قد أخبرتك، فأقلني من بيعتي، قال: الآن أخبرتني وقد طابت بها نفسي، فرجع.
ثم رجع إليه مرةً أخرى، وقال: أما إني لا أستطيع أن أفعل، وإني قد أتيت هذا الأمر من غير وجهه، فأقلني، فأقاله.
انظر إلى الوقع والخشية ولذلك قال بعض السلف يقول: أهون ما يكون على العبد الورع، إذا رابه شيءٌ تركه، وصحيحٌ أنه من جهة السهولة في وضوحه، يعني في مسلك الورع ونحوه، وإن كان على النفس من تسلط شهواتها، وذلك شيءٌ عسيرٌ، وإنما يوفق له من جاهد نفسه وحملها على ذلك.
ولذلك أيضًا يقولون: إن الحجاج بن أبي دينار حصلت له نحوٌ من هذه الحادثة، وذلك أنه أرسل بطعامٍ إلى البصرة ليبيعه غلامه أو وكيله، فمكث قليلًا لما وصل إلى البصرة، فارتفع سعره، فلما كتب إلى الحجاج قال: والله لقد خنتنا، يعني نحن إنما أمرناك أن تبيعه أول نزولك، فخشي أن يكون عليه في ذلك إثمٌ فقال: بعه وتصدق بجميع ثمنه، وعسى الله أن يكفر عنا.
انظر إلى ما حصل في قلوبهم، مثل أبي مكرم -رضي الله عنه وأرضاه- يقولون جمع طعامًا أو احتكر طعامًا عنده، ذكر ليس بمعنى الاحتكار منع الطعام على سبيل العموم، وإنما يعني أنه خزن طعامًا ينظر إلى وقت زيادةٍ..، يقول: فجاء الخريف فحصل سحابٌ ونحوه، فكأنه خاف أن يصيب طعامه فيفسده عليه، فكره أن ينزل المطر، ثم وجد في نفسه أنه كيف يكره شيئًا فيه خيرٌ للمسلمين، فقام وتصدق بذلك كله، وأخبر عمر فقال: جزاك الله خيرًا، كل هذا يدل على ما ذكرناه، وأنه إنما حل ذلك أن الإنسان يبتعد عن الريب إذا وقع في نفسه شيئًا أو تعلق به أمرٌ أو كان فيه نقصٍ، وكل الناس يعرف من نفسه أحيانًا أنه وإن كان ذلك الأمر في ظاهره تمامه أو كماله أو لا غضاضة ولا تجريم على صاحبه، إلا أنه قد يكون في داخل نفسه إما في نيةٍ نواها وإما في أمرٍ أخفاه، وإما في أمرٍ أسره ولم يخبر به ما يكون فيه بلاءٌ أو ما يكون فيه نقدٌ أو ما يكون فيه تبعةٌ عليه، فلما لم يكون في مثل هذه النصحة في بعض الأحوال ونحوه، كان ذلك شيئًا مما غابهم فحملهم على أن تخلصوا منه، ولا يوفق لذلك إلا الموفق، ولا يقدر على ذلك إلا من أعانه الله -جلَّ وعلَا.
وهنا قوله: "دع ما يريبك إلى ما يريبك" أيضًا قال أهل العلم: فيه إشارةٌ إلى أن ينأى الإنسان بنفسه عن مواطن الريب، ومن ذلك أن يأخذ بالحزم والاحتياط، فإنه أبعد له عن الشبهة وأبعد له عن الوقوع في الخطيئة، فإذا كان الأمر مترددًا بين وجوب الزكاة وعدمها، فإنه يدفع الزكاة ولا يضره ذلك، ويزيده عند الله -جلَّ وعلَا- خيرًا وأجرًا، ومثل ذلك مسائل كثيرةٌ، هذا يعني إشارةٌ لها، وإن كان ذلك ليس على إطلاقه، فمن الأمور ما جاء فيها رخصةٌ، فإذا كانت الرخصة بينةٌ ظاهرةٌ، فإن أغلب الرخص مما أمر الله به ويؤجر عليه العبد، كذلك إذا كان الأمر في ذلك بينًا والدليل في ذلك ظاهرًا، فلا يحمل الإنسان على ما يشق عليه.
على كل حالٍ هذه أيضًا جملةٌ من المسائل التي تتعلق بهذا الحديث وهو أن ينحو الإنسان منحى الاحتياط وأن يحمل نفسه على ذلك، وكما قلنا: إن هذا أيضًا ليس على إطلاقه، فمن الأمور ما يكون منزع الرخصة فيها ثابتًا أو أقوى، ومن الأمور ما يكون فيها أيضًا الأمر فيها ظاهرٌ، وإن وجد مخالفًا أو معارضًا فالأخذ بذلك لا يكون على الإنسان فيه تبعةٌ ولا يكون داخلًا فيه الدخول في الريب ونحوها.
ثم ذكروا كما قلنا لكم في بعض روايات الحديث أنه قال: فإن الخير طمأنينةٌ وإن الشر ريبةٌ، وهذا فيه أيضًا إشارةٌ إلى أن من رحمة الله -جلَّ وعلَا- أن يجعل للعباد في مقدمات الأمور وفي صورها وبظاهرها ما يحصل به للإنسان الطمأنينة، فيعلم أن ذلك الخير وإن كان هذا ليس مقياسًا منفردًا لكنه معينٌ له على ما وقف عليه من أعلام الشريعة ومن دلالات النصوص، فيكون ذلك مهدئًا لنفسه ومطمئنًا لقلبه، وضد ذلك بضده، فإنه إذا كان وجد الريبة وظهر منها مقدماتٌ شرح، فإنه يعلم أن ذلك وأيضًا عرف بالنصوص ما يدل على التحرير من ذلك والبعد منه، وأنه محلل ترددٍ فإن ذلك يزيده يقينًا بالبعد والترك لذلك الأمر.
هذا أيضًا لعله يكون كافيًا وإن كان هذا الحديث أيضًا يحتمل الحديث عنه بأكثر من ذلك وأوسع، لكن أمامنا جملةٌ من الأحاديث نريد أن نمر عليها أو أن نقف معها في إشاراتٍ سريعةٍ حتى نأتي على هذه الأربعين المباركة بإذن الله -جلَّ وعلَا-، فلعلنا ننتقل إلى الحديث الذي بعده.

{(الحديث الثاني عشر: عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» حديث حسن رواه الترمذي وغيره هكذ)}.
كما ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أو الجامع والناقل لهذه الأحاديث الإمام النووي وقد أخذها أيضًا من ابن الصلاح كما تقدمت الإشارة إلى ذلك، إشارةً إلى حديث أبي هريرة هذا وهو من الأحاديث العظيمة «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، قد ذكر ابن أبي زيدٍ القيرواني المالكي -رحمه الله تعالى- أن هذا الحديث من جملة أحاديث أربعةٍ هي مدار أو أصول الأخلاق، وكلها موجودةٌ في هذه الأربعين «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقول خيرًا أو ليصمت» قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- «لا تغضب»، «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وهذه جماع الأخلاق وكمال الآداب وتمام الخصال والصفات الطيبة التي بها يكمل للعبد فعله ويتم له خلقه، ولما ذكر هذا الحديث وهو قول النبي -صلى الله عليه وسلم- «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» هذا الحديث فيه معانٍ كثيرةٌ، ولو وقفنا ليس في هذا المجلس فقط بل هذا المجلس والذي يليه والذي يليه لم يكن موفيًّا لحقه للحديث عنه على وجه التمام والكمال، أو بما يليق به ويقف على جملة مسائله، لكن حسبنا كما تعودنا أن يكون منها إشاراتٌ إلى ذلك وإلمحاتٌ كافيةٌ تغني للمكتفي بالقليل والله تعالى المستعان، فليس عندنا إلا القليل.
لما قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» "من" هذه تبعيضةٌ، يعني: بعض ما يكون به إحسان إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، لأنه ليس كل الإسلام ترك ما لا يعنيه، بل من الإسلام ما هو فعلٌ لفرائض إتيانٌ للواجبات، قيامٌ بالحقوق المتحتمة وأيضًا تكون ذلك بالسنن المستحبة.
وقوله: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»
قال أهل العلم: ما المقصود هنا بحسن الإسلام؟
ذكرها ابن رجب -رحمه الله تعالى- مفرقةً وجمعها بعضهم يقول: إما أن يكون حسن الإسلام هنا أن الحسن هنا بمعنى الإحسان، وهو الذي مر بنا في حديث جبريل ويكون الإحسان أن تعبد الله كأنه تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وقد ذكرنا هناك أن لهذا الإحسان معنيين: أحدهما دوام المراقبة أو أعلى من ذلك المشاهدة وهي مشاهدة آثار الله -جلَّ وعلَا- التي هي فيها تمام الإيمان وتمام الإحسان، وزيادة للخشية والخوف من الله -سبحانه وتعالى، وهذا بلا شك أن حسن إسلام المرء أن يصل إلى هذه المنزلة يحمله على ترك ما لا يعنيه، وبعضهم يقول لا هي حسن الإسلام هنا هو أن يكون في درجة المقتصد الذي هو يفعل الواجبات ويبتعد عن المحرمات، فمنهم ظالمٌ لنفسه ومنهم مقتصدٌ ومنهم سابقٌ بالخيرات، فالمقتصد هذا هو من أحسن إسلامه، فحسن المرء أن يأتي بما أوجب الله عليه، وأن يمتنع عن ما حرم الله -تعالى- عليه.
وفي قولٍ آخر: أن حسن الإسلام هنا يختلف ويتفاوت بتفاوت الأمور، لذلك جاء في بعض الأحاديث أنه لا يحسن إسلام المرء حتى تضاعف له الحسنة أو كما جاء النبي -صلى الله عليه وسلم، ولا يجزئ في السيئة إلا بمثلها، وجاء عن ابن عمر نحوٌ من ذلك، لأنه لما قال في قول الله -جلَّ وعلَا- ﴿مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَ﴾ [الأنعام: 160]، قال: ذلك للأعراب، قيل له: فما للمهاجرين؟ قال: ﴿وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَ﴾ [النساء: 40]، وجعل ذلك مضاعفةً بنحو ما جاء في الحديث المتقدم أن الله -جلَّ وعلَا- يضاعفها إلى سبعمائة ضعفٍ، فهنا يدل على أن هذا يتفاوت بتفاوت الأمور، سواء إن كان ذلك بما لحق بالإنسان من صلاحٍ أو محتسبه في ذلك الأمر ومنهاجه، يعني باختلاف الأحوال المحيطة سواءً كانت راجعةً إلى الشخص أو إلى العمل أو الحالة التي هو فيها، أو الزمان أو المكان أو ذلك كله مجتمعًا.
فعلى كل حالٍ لا شك أن المرء يطلب منه إحسان الإسلام، ومن ذلك تركه ما لا يعنيه، ما المقصود هنا بما لا يعنيه؟ يعنيه أي من الاعتناء وهو العناية، يعني ما لا يهمه، العناية هي الاهتمام، فتركه ما لا يعنيه يعني ما لا يهمه، وليس المقصود هنا بما لا يهمه مرد ذلك إلى ما يهمه في نفسه وتابعًا لرغبته وشهوته، ليس هذا مرادًا بالاتفاق، وذلك لأن مرد الكلام من حسن إسلام المرء، فالكلام على ما يحصل به إحسان الإسلام، فمرد ذلك إلى الإسلام، والإسلام إنما يكون بالكتاب والسنة والاتباع والاهتداء، فما لا يعنيه يعني بحكم الشرع وبحكم ما جاء في كتاب الله، وبحكم ما جاء في سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم.
إن هذا الحديث من عني به فإنه يأتي على خيرٍ كثيرٍ ويبتعد عن شرٍّ عظيمٍ، إذا عني أو كان معتنيًا بما يهمه ويعنيه في الشرع ويبتعد عما لا يعنيه، وأكثر البلاء والضلال والشر إنما هو من ولوج الإنسان ودخوله ودلوفه فيما لا يحسن به ما يدخل فيه وتكلمه أو عمله فيما لا يعنيه، ولأجل ذلك جاء عن بعض السلف أنه قال: منذ كذا وكذا سنة وأنا أطلب شيئًا لم أقدر عليه، وإني لست بتاركه أبدًا، أن أتكلم أو أن أدخل فيما لا يعنيني، ولأجل ذلك كان الأمر في هذا عظيمًا وخطيرًا، ومن أعظم ما ذكره أهل العلم في هذا وإن كان هذا ليس خاصًا به كما سنتكلم عليه، من أعظم عليه ما يتعلق بأمر الكلام، لأن أمر الكلام هو أكثر ما يدخل في هذا الحديث أصالةً، ولهذا جاء في بعض روايات الحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه من الكلام، وإن أعظم أبواب الشر هي أبواب الكلام، وأسهل ما يدخل فيه الإنسان هو الذي يفضي عليه بالبلاء الكلام، ولذلك جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «إن الرجل يتكلم بالكلمة من رضوان الله تبلغ به أبعد ما بين المشرق والمغرب، وإنه ليتكلم بالكلمة من سخط الله يهوي بها أبعد ما بين المشرق والمغرب» ولا حول ولا قوة إلا بالله، وجاء في الحديث الآخر «يهوي به في النار سبعين خريفً»، وحديث معاذ المشهور «وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم».
هذا هو أكثر سبيلٍ لأن يقع الناس في النار على وجوههم، لأن يتكلم، ولذلك ربما تكلم الإنسان بكلمةٍ أوبقت دنياه، أوبقت آخرته، أوبقت كل شيءٍ، لأذهبت دينك، نسأل الله السلامة والعافية، ولأجل ذلك جاءت فيها أحاديث كثيرةٌ، وجاء عن عمر بن عبد العزيز كلمةٌ عظيمةٌ، قال: إنه لن يبلغ العبد قلة الكلام حتى يعلم أن الكلام من عمله، إذا علم الإنسان أن الكلام من العمل الذي يجازى عليه، فإنه سيستقيم، وجاء عن بعض السلف كلمةٌ عظيمةٌ وهي أنهم قالوا فيمن يكثر الكلام قالوا: أولئك قلَّ عملهم فكثر كلامهم، أما العامل فإنه يبعد.
إذا جئنا إلى ما لا يعني الإنسان، فهنا له منازل كثيرةٌ والكلام كثيرٌ، فقد لا يكون يعنيه لكونه ليس أهلًا له، ومن أعظم ذلك التكلم في مسائل الشرع لمن ليس أهلًا لها، حتى ولو دخل في أول درجات العلم أو توسط في العلم، فلا يعني ذلك أنه يتكلم في كل مسألةٍ أو يحكي أو يقضي في كل نازلةٍ، وإن ما أعظم ما دخل على الناس من الشر في هذا الزمان، هو أن صغار الطلاب تكلموا في المسائل العظام وفي المسائل العامة وفي مسائل الجماع وفي مسائل ما يتعلق بأمور العقائد والتكفير، وقضوا على المسلمين وحكموا وأباحوا دماءهم، وحكموا على العلماء بخطئهم وقضوا عليهم بضلالهم وإلى غير ذلك من الأشياء التي ترددت.
وإن ترك الإنسان مما لا يعنيه أيضًا هو سبيل إلى أن يكون ذلك مما يسبقه شيءٌ أهم منه، فلو كان إليه مدخلٌ أو له به صلةٌ إلا أنه لا يصل إلى ذلك حتى يأتي الذي قبله، وحتى يؤدي الذي سبقه، ولأجل ذلك يتكلم عليه أهل العلم، فينبغي إذا أن يكون ذلك حاضرًا في حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وإن أعظم ما يدخل في ذلك الكلام في الفتن والإسراع إليها، فإنها مما لا يعني الإنسان، وينبغي للإنسان أن يحفظ لسانه، ولذلك جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «يأتي على الناس زمانٌ وقع اللسان فيها أشد من وقع السنان» الذي هو السيف، ولذلك قال الشافعي:
احفظ لسانكَ أيُّها الإنسانُ
لا يلدغنَّكَ إنهُ ثعبانُ

كم في المقابرِ من قتيلِ لسانهِ
كانت تهابُ لقاءهُ الشجعانُ

فهذه من الأشياء التي لا ينبغي للإنسان أن يدخل فيها، وإن من الأمور ما تكون خاصةً لا ينبغي للعامة الدخول فيها، وإن من الأمور ما تكون أيضًا لها أكثر من وجهٍ، فينبغي للإنسان أن لا يدخل فيها فربما دخل فيها من وجهٍ لا يكون موفقًا فيه، وإن من الأمور ما تكون قد قصد أن تسر عنه، فما حصل به إخفاؤها عنه، فينبغي للإنسان أن يتكلف البحث عنها، فيكون ذلك سبب امتحانه وطريق بلائه، وكل ذلك داخلٌ في قول النبي -صلى الله عليه وسلم- «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».
الحقيقة الكلام على هذا الحديث طويل، لكن لابد أن نعود أنفسنا أن نأتي على جملةٍ من الأحاديث، فلعلنا نستهل الحديث الثالث عشر ولو أن نأتي على جزءٍ منه، ولو كنا لم نكمل ما يتعلق بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»، لكن في جملة ما ذكرناه فائدةٌ وإن كانت ليست كافيةً.

{(الحديث الثالث عشر: عن أبي حمزة أنس بن مالك -رضي الله عنه- خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» رواه البخاري ومسلم)}.
أيضًا هذا الحديث هو حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، أما أنس فتعرفونه هو خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منذ كان عمره عشر سنواتٍ، طال به العمر وعظم له المال والولد فضلًا من الله -جلَّ وعلَا- ومنةً ورحمةً من الله -جلَّ وعلَا- ونعمةً.
وهذا الحديث هو قول النبي -صلى الله عليه وسلم- «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وأيضًا كما قلنا: هو أصلٌ من الأصول في الآداب والأخلاق، وفيه إشارةٌ إلى عظم ما جاءت به هذه الشريعة، أنها جعلت جزءًا من الإيمان ومن جملته ما يكون في لحمة المرء مع إخوانه، واتصاله بأهل دينه، وإعانته لهم، وقيامه بهم، ولأجل ذلك جاء في هذا المعنى أحاديث كثيرةٌ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضً»، «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» إلى غير ذلك من الأحاديث العظيمة، ولعلنا أن نقف على دقائق هذه المسائل الذي ذكرها المؤلف -رحمه الله- أو نقل فيه هذا الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله: «لا يؤمن أحدكم» فجعل هنا نفيًا للإيمان، مما يدل على أن هذا جزءٌ منه، ولا يقوم تمام الإيمان إلا بالقيام به، فهو من مكملاته اللازمة، ومن مقتضياته الواجبة، وهو مشيرٌ أيضًا إلى قول أهل السنة والجماعة، وهو أن الأعمال سواءً كانت لفظًا قوليًّا أو عمليةً أو كانت أعمالًا قلبيةً، فهي جزءٌ من الإيمان وداخلةٌ فيه، خلافًا لبعض أهل الأهواء من المرجئة وغيرهم الذين يقولون إن الإيمان مجرد تخليق، وأن الأعمال خارجةٌ عن حقيقته، فهذا حديث دالٌّ على أن الإيمان أو أن العمل سواءً كان عملًا قلبيًّا في هذا الحديث، وهي محبة ما لأهل الإسلام داخلٌ في ذلك وجزءٌ من أجزائه.
وهنا لما قال: «لا يؤمن أحدكم» فالنفي هنا نفي التمام، من لم يؤدِّ هذا المعنى فإنه يذهب عليه تمام الإيمان، وإن كان لا يذهب عليه إيمانه، وذلك أن أهل السنة والجماعة من عقائدهم أنهم من أتى بكبيرةٍ من الكبائر فلا يزول عنه الإسلام بالكلية، ويذهب عنه الإيمان بكل حالٍ، وإنما ينقص إيمانه، وهل يسلب اسم الإيمان في تلك الحال أم لا؟
خلافًا بين أهل العلم على قولين: هما روايتان عن الإمام أحمد، لكن بلا شك أن الإسلام باق هو فيه وأن يرجع إليه، وأنه يزيد بالطاعة وينقص بنحو هذه المعصية، ويكبر النقصان بكبر ذلك الذنب الذي اقترفه والمصيبة التي فعلها، ولذلك جاء عن ابن رواحة وأبي الدرداء وغيرهم، أنهم قالوا: إن الإيمان كالرداء، ربما لبسه الإنسان وربما خلعه أي نقص وتجرد منه في بعض أحواله، ولذلك جاء في الحديث «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمنٌ» أي وهو على الحال التي في تلك الحال من مقارفة تلك المعصية والتلبس بها.
هنا لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» هذا الحديث في المحبة وهو عامٌّ شاملٌ، هل يتعلق بالأمور الدينية أو هو شاملٌ للأمور الدينية والدنيوية على حدٍّ سواءٍ؟ أهل العلم يقولون إن من الأمور الدينية داخلةٌ في ذلك، أن يحب لأهل الإيمان، أن يقوم بالصلاة، أن يحقق التوحيد، وأن يكمل الفرائض، وأن يبعد عن المحرمات، وأن يتنزه عن الكبائر والموبقات، هذا بلا شكٍّ، لكن هل يدخل في ذلك أيضًا ما يتعلق بالبعد أو بتحصيل الأمور الدنيوية؟ بعضهم يقول إن هذا من الكمال المستحب، وإن كان ظاهر هذا الحديث يدل على أن محبة الخير للعبد المؤمن سواءً كان ذلك مما يتعلق بدينه أو دنياه، أن ذلك من مقتضيات الإيمان ولوازمه، فيفرح الإنسان ويحب ويسعى أن يحصل العبد ما يكون به قوام إيمانه وتمام عقيدته.
ما الذي يترتب على هذه المحبة؟ يترتب على هذه المحبة أمورٌ:
أولها: أن العبد يسلم صدره لإخوانه، فإنه لا تحقق المحبة فيمن وقع في نفسه من الضغينة والحقد والحسد وضغائن النفوس وفسادها على إخوانه، فإن ذلك لا يمكن أن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه، هذا أمر.
الأمر الثاني: أنه يفرح حينما يحصل لهم أو يتحصلون على خيرٍ من الخيرات أو يوفقون لأمر من الأمور الدينية أو الدنيوية.
الثالث: أن لا يغش لهم، فإن مقتضى ذلك أن لا يكون غشيشا، وأن لا يكون غير ناصحٍ لهم في ذلك، ولهذا جاء عن الفضيل بن عياض -رضي الله تعالى عنه وأرضاه ورحمه- أنه قال: إن من أحب لأخيه أن يكون مثله، فما نصحه، يعني لابد أن يحب لأخيه أن يكون أكثر منه، هكذا يكون أهل الإيمان، نفي الدغن والغش بعباد الله، وأيضًا النصح للمسلمين، وهذا مر بنا في الدين النصيحة، مر في حديث جرير الإشارة إلى ذلك أيضًا عند شرح حديث أبي تميمية، لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لجرير: بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام والنصح لكل مسلمٍ، فمقتضى هذه المحبة النصح لأهل الإسلام في أموره الدينية والدنيوية، فالذي يتحفى والذي يستخبي والذي يفرح باختصاصه ببعض الأمور، هذا ما أحب أهل الإيمان ولا طبق هذا الحديث.
ما يتعلق بهذه المسائل من الفرح بالاختصاص والتنافس في الدنيا، أو التنافس في الأمور الدينية، لعلها أن تكون مبتدأ أو منطلق درسنا في اللقاء القادم -بإذن الله جلَّ وعلَا- وكم كنت أتمنى أن نأتي على تمام هذا الحديث والحديث الذي بعده، لكن الوقت لم يسعفنا.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- لنا ولكم التوفيق والسداد، والإعانة والرشاد، وأن يفتح قلوبنا ويزيد فهومنا، وأن يوفقنا للهدى والخير والصواب، إن ربنا جواد كريم.
شكر الله لكم أيها الإخوة المشاهدون، وشكر الله لكم أيها الحاضرون، وشكر الله للإخوة المعينين في هذه الحلقة، تصويرًا ونقلًا وإعانةً وتسديدًا، وأيضًا من كان سببًا في هذه اللقاءات وهذه المنظومة في هذا البناء العلمي والأكاديمية المباركة، والله -تعالى- نسأل أن يوفقنا للإخلاص والصواب وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك