الدرس الثاني عشر
فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان
إحصائية السلسلة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله أفضل ما ينبغي أن يحمد، وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمدٍ، وعلى
آله وأصحابه ومن تعبد.
أما بعد.. فأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يشرح صدورنا بالعلم، وأن يوفقنا لتحصيله،
وأن يزيدنا منه، ويجعلنا من المقتفين بسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم، وأن يوفقنا
لصالح القول والعمل.
أيها الإخوة الكرام لم نزل في هذه الأحاديث النبوية والوقفات التي جاءت عن رسولنا
-صلى الله عليه وسلم- من أحاديث ووصايا وأوامر ونواهي، يزيد بها المؤمن إيمانًا،
ويطلب بها من الله -جلَّ وعلَا- أجرًا وثوابا، ويقتفي بها سنة نبيه -صلى الله عليه
وسلم- اهتداءً واستنانًا.
كنا قد أنهينا ما يتعلق بالحديث الثامن والعشرين، ولعلنا بإذن الله -جلَّ وعلَا- أن
نبدأ في الحديث الذي بعده، وهو حديث معاذ بن جبل.
تُسْمِعُنَا يا شيخ ثم نعود إلى بعض ما يتعلق بهذا الحديث من كلام.
{(الحديث التاسع والعشرون: عن معاذِ بنِ جَبَلٍ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- قالَ: قُلْتُ:
يا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُني الجَنَّةَ ويُباعِدُني عَنِ
النَّارِ. قالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ
يَسَّرَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ؛ تَعْبُدُ اللهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا،
وَتُقِيمُ الصَّلاَةَ, وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ
الْبَيْتَ». ثمَّ قَالَ: «أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟ الصَّوْمُ
جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ،
وَصَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ». ثُمَّ تَلاَ: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ
عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ حَتى بَلَغَ: ﴿يَعْمَلُونَ﴾. ثُمَّ قالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكَ
بِرَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟» .
قُلْتُ: بَلى يَا رسولَ اللهِ.
قالَ: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلاَمُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاَةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ
الْجِهَادُ». ثمَّ قالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟».
قلتُ: بلى يا رسولَ اللهِ. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ وقالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَ».
قُلْتُ: يا نَبِيَّ اللهِ، وإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ به؟
فقالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى
وُجُوهِهِمْ أو عَلَى مَنَاخِرِهِم إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»).
رواه التِّرمذيُّ , وقالَ: حديثٌ حسنٌ صَحيحٌ)}.
هذا الحديث وهو حديث معاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- من الأحاديث العظيمة،
وذلك أنه سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُني
الجَنَّةَ ويُباعِدُني عَنِ النَّارِ، ما أعظم هذا السؤال، ولذلك أثنى عليه النبي
-صلى الله عليه وسلم- فقال: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ» حينما يكون الإنسان
هَمُّهُ ومبتغاه ليس عرضًا من عرض الدنيا، ولا شيء من حطامها، ولا طلبًا من شهواتها
ورغباتها مهما كبرت وعظمت، فإنه لا يساوي في الآخرة شيئًا، ولذلك جاء في الحديث،
أنه «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيغمس غمسةً في النار ثم يخرج، فيقال: هل
مر بك خيرٌ قط؟ هل رأيت خيرًا قط، فيقول لا يا ربي»، فإذن كانت كل هذه الدنيا هباءً
منثورًا ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً
مَّنثُورً﴾ [الفرقان: 23] كل ما هذه الدنيا وما فيها يكون هباءً إلا ما كان من عمل
صالح، فإنه يطلب به الأجر والثواب والرفعة عند الله -جلَّ وعلَا.
فقال: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ
اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ» فينبغي لكل مؤمنٍ أن تكون الجنة نصب عينيه، وأن تكون
النار أمام ناظريه، فيخاف من هذه، فيكون مقبلًا على الله -جلَّ وعلَا- خائفًا من
النار، وراجيًا للجنة، طالبًا لها، متعلقًا بالله -جلَّ وعلَا-، فيكون ذلك الرجاء
والخوف الذي به يطيب، وبه بإذن الله -جلَّ وعلَا- يوفق، وبه يعان على الطاعة ويخلص
من المعصية.
ولما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- إنه لعظيمٌ من جهة عظم هذا الأمر، من جهةٍ
متعلقةٍ وهي الجنة والنار، ومن جهةٍ أنه ليس باليسير من جهة الأعمال التي تطلب
لذلك، والأوامر التي لابد أن يمتثلها، والنواهي التي يباعدها.
«وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ» على من يسره الله عليه، وفي هذا إشارةٌ إلى أن التوفيق من
الله -جلَّ وعلَا- والإعانة والتسديد؛ ولذلك قال الله -جلَّ وعلَا: ﴿إِيَّاكَ
نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5] فلا إعانة إلا من الله، ولا توفيق
إلا بالله، ولا تسديد إلا من عند الله، فالعبد المؤمن كلما كان أكثر تعلقًا بالله
-جلَّ وعلَا- يسر الله له الخير وأعانه عليه، فما يتلكأ فيه أناسٌ كثير فإنه يتقدم
إليه أسهل ما يكون على قلبه بتوفيقٍ من الله، حتى لربما أرخص دمه ولربما أنفق ماله،
ولربما قضى جميع ليله أو جميع أيامه في طاعة الله -سبحانه وتعالى، الجميع المقصود
به يعني لياليه في مدى عمره، لا جميع الليل من حيث مبتداه ومنتهاه.
ثم ذكر أن أول ما يكون هو الإتيان بالأركان الخمسة، وهذه تقدم الكلام عليها، وهي
السبيل والباب إلى الجنة كما في حديث ضمام بن تعلبة، وكما في حديث جابر الذي مر
بنا، فكلها أحاديث دالةٌ على أن هذه الأركان هي التي توصل إلى رضوان الله، وتوصل
إلى جنة الله -جلَّ وعلَا- ويعصم بها العبد من النار.
ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟»،
الخير له أبوابٌ وله مسالك، وله طرقٌ، وله عرصاتٌ من أرادها فإنه يوفق إليها، ولذلك
قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ» يعني: مع كونه بابًا من أبواب
الجنة إلا أنه أعظم ما يكون وقايةً للعبد من عذاب الله ووقايةً له من المعاصي،
ولذلك جاء في بعض الروايات الصيام جنةٌ وحصنٌ حصينٌ من النار، ولأن الجنة يعني
الوقاية، فكأنه يحفظ من المعاصي فإذا حفظ من المعاصي حفظ من النار، ولذلك في شهر
رمضان تصفد مردة الشياطين، وتفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب النار، لما يكون من كثرة
إقبال الناس على الخير، وسهولتها عليهم وتيسير الله -جلَّ وعلَا- لهم، فهذا قول
النبي -صلى الله عليه وسلم- «الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ
الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ»، ما يكون من الخطيئة فإنها تغضب
الله -جلَّ وعلَا، فيكون من الصدقات والأعمال الصالحة، ما يذهب ذلك الغضب ويطفئ أثر
تلك الخطيئة كما يطفئ الماء النار، والماء يقضي على النار، فكذلك هذه الأعمال وهذه
الصدقات، تذهب الخطيئة والمعصية والسيئة، ما المقصود بالصدقة هنا؟
قد يقال: إنها الصدقة بالمال، وهذا المعنى الخاص لها -كما تقدم بنا- وقد يراد بها
الصدقة بعمومها، وهذا يدل عليه قوله: «واتبع السيئة الحسنة تمحه» فكانت الحسنة
تابعةً للخطيئة، مطفئةً لها، ماحيةً لها، فهناك محوٌ وهنا إطفاءٌ لها، وكلاهما دالٌ
على حصول الخير وانقطاع الإثم -بإذن الله جلَّ وعلَا.
قال: «وَصَلاَةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ» هذا فيه فعل النبي -صلى الله عليه
وسلم، وأحسن ما يكون هو وتر الإنسان آخر الليل، ولذلك أمر النبي -صلى الله عليه
وسلم- بالصلاة في الثلث الأخير من الليل، وانتهاء وتر النبي -صلى الله عليه وسلم-
إلى آخر الليل، وبين أن ينزل ربنا فيه فيقول: «هل من سائلٍ فأعطيه؟، هل من مستغفرٍ
فاغفر له» إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على هذا، ولهذا قال النبي -صلى الله عليه
وسلم- لما سئل عن أفضل الصلوات: «صلاة الرجل في جوف الليل الغابر» أو في نصف الليل
كما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم، ومثل ذلك جاء في قيام داود -عليه السلام-
فإنه كان يقوم نصفه وينام سدسه، كما في الحديث الذي في الصحيح.
ثُمَّ تَلاَ: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ
خَوْفًا وَطَمَعً﴾ [السجدة:16]، كما قلنا الخوف والطمع، الرجاء هو الخوف من الله
-جلَّ وعلَا- وهو أعظم سائقٌ للعبد إلى رضوان الله ومغفرته، والخشية والبعد عن
عقابه وعذابه، ولا يكون ذلك إلا بمحبة الله -جلَّ وعلَا- حين يسكن في النفس، ويكون
مستقرًا في القلب، وبذلك أركان العبادة، فالعبادة لها ثلاثة أركانٍ، المحبة والرجاء
والخوف، وهذا قد جاء في قول الله -جلَّ وعلَا- ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ﴾ [الفاتحة: 2- 4]
فبالحمد تحصل المحبة، وبالرحمة يحصل الرجاء، وبمالك يوم الدين يحصل الخوف، فهي
أركان العبادة، ولذلك قال الله -جلَّ وعلَا- بعدها: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ﴾ للدلالة على ذلك.
ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الأَمْرِ
وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ؟»، فذكر أن رأس الأمر هو الإسلام، ولا يصح
للإنسان في الدنيا عمل ما لم يكن له قد قام في قلبه الإسلام، نطق بذلك وآمن بالله
-جلَّ وعلَا، وهنا المقصود بالإسلام أيضًا يدخل فيه الإيمان على ما تقدم لنا، من
أنه إذا ذكر أحدهم شمل الآخر، وعموده الصلاة، فهذا فيه دلالةٌ على عظم أمر الصلاة،
ولا حظَّ في الإسلام لمن ترك الصلاة، كما جاء بذلك الأثر عن النبي -صلى الله عليه
وسلم- «العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر» إلى غير ذلك من
الأحاديث.
«وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ»، فالجهاد من أعظم أعمال البر والإحسان، والكلام
على الجهاد يحتاج فيه إلى طولٍ، ويحتاج فيه إلى مزيد تفصيلٍ، لكن أصله قد جاءت به
السنن، ودلت عليه الأحاديث وجاءت بمدح فاعلها من الدلائل الكثيرة، لكن لا ينبغي أن
يفسر ذلك في أن كل من طلب الجهاد سلكه وفعله.
فالجهاد إنما يكون مع ولي الأمر، وإنما يكون بشروطه واعتباراته، فلا يفتات عليه،
فيكون البلاء على الإسلام والمسلمين أشد من ذلك، كما حصل في الأزمنة المتأخرة حينما
تزعم من لا يعرف الأحكام ولا يقدر المسائل ولا يعرف النصوص، فخلطٌ وتلطخٌ بالدماء
ووقع في البلايا العظام.
ثمَّ قالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكَ بِمِلاَكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟».
قلتُ: بلى يا رسولَ اللهِ. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، كف عليك هذا، والكف يكون بالشيء
الشديد، حتى إنه لا يزال مسترسلًا إلا أن يكفه ويمنعه ويحبسه ويمسكه، لأجل هذا جاء
عن أبي بكر، ما شيءٌ أحوج إلى طول حبسٍ من اللسان، هذا الذي أوردني الموارد، وقد
تقدم ما يتعلق بهذا كثيرًا في الأحاديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه،
وتكلمنا على أن أكثر ما تكلم أهل العلم عليه، ما يكون من الكلام فيما لا يعني.
ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى
مَنَاخِرِهِم إِلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»، هذا فيه دلالةٌ على أن الألسنة
أكثر ما يورد العباد النار، وذلك أن العباد ربما يستصعب أن يفعل الزنا أو يفعل
السرقة أو يشرب الخمر، لكنه ربما وقع في الكبائر وهو جالسٌ في أكثر من كبيرةٍ
بلسانه من حيث لا يشرب، ولغ في غيبةٍ، ولغ في نميمةٍ يعني لعنٍ وسبٍّ، وذلك كله عند
بعض أهل العلم قد ذكروا أنها من الكبائر ولهم في ذلك التفصيل، لكن كله كلماتٌ
يسيرةٌ تورد الإنسان في الموبقات العظيمة.
ولأجل ذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «حصائد ألسنتهم» إنما يحصدون ما تكلمت به
أنفسهم، ولأجل ذلك تمسك الجوارح باللسان وتقول: إنما نحن بك فإن استقمت استقمنا،
وإن اعوججت اعوججنا، فينبغي الانتباه لذلك، ولهذا يقول الإمام الشافعي:
احفظ لسانك أيها الإنسان
لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من لديغ لسانه
كانت تهاب لقاءه الشجعان
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تبلغ به
أبعد ما بين المشرق والمغرب، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تهوي به أبعد ما
بين المشرق والمغرب» فإنما هي كلمةٌ واحدةٌ، نسأل الله السلامة والعافية، ونسأل
الله أن يحفظ علينا ألسنتنا.
يعني: هذه عجالةٌ سريعةٌ على هذا الحديث، وإلا فهذا الحديث حديثٌ عظيمٌ لعل ما
ذكرناه فيه خيرٌ، وإلا ليس ما أظن أن فيه كفايةً، لكن للحفاظ على الوقت والإتيان
على جملة هذه الأحاديث، لعلنا ننتقل بعد ذلك إلى حديث أبي ثعلبة.
{(الحديث الثلاثون: عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ جُرْثُومِ بن نَاشِر -رضي
الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَال: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى
فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا،
وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً
لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَ».
حَدِيثٌ حَسَنٌ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، وَغَيْرُهُ)}.
حديث أبي ثعلبة هذا من الأحاديث العظيمة وفيه إشارةٌ إلى ما جاء في الشريعة وهو أن
الشرائع قد تمت والأحكام قد كملت وأن الله -جلَّ وعلَا- قد بين ذلك ووضحه فمن أراد
الاستقامة والإقامة عليه وفقه الله -جلَّ وعلَا- ومن نكس أو ذهب يمينًا أو شمالًا
فقد ضل، فالحدود محدودةٌ، والأوامر معلومةٌ، والنواهي معروفةٌ، ومن طلب غير ذلك
فإنما يحاسب على ما جرى عليه وفعله، ومن تكلف أشياء مسكوتًا عنها فقد تكلف ما يكون
به عليه الشر، ويلحقه به التبعة، لذلك كان هذا الحديث من أعظم الأحاديث التي فيها
إشارةٌ إلى ما يجب على المسلم من الإتباع والاهتداء، وأن الشرائع مبينةٌ موضحةٌ،
وهذا قد مر بنا إشارةٌ إلى شيءٍ من ذلك في الأحاديث، حديث عائشة «من أحدث في أمرنا
هذا ما ليس منه فهو ردٌّ».
فقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا
تُضَيِّعُوهَ» الفريضة إنما هي من الله، وقد جاءت في كتاب الله -جلَّ وعلَا- لكن
هنا قبل أن ندخل في بعض التفصيلات المتعلقة بهذا هل الفريضة والواجب شيءٌ واحدٌ أو
هما شيئان متقاربان؟ لأهل العلم في هذا كلامٌ طويلٌ عند علماء الأصول وغيره، من
أشهر ذلك ما يكون عند الحنفية أن الفرض هو الذي ثبت بدليلٍ مقطوعٍ به، والواجب ما
ثبت بدليلٍ فيه اجتهادٌ ونحو ذلك.
لكن أكثر أهل العلم لا يفرقون بناءً على هذا وهم جمهور أهل العلم، وإن كانوا
يقولون: إن الفرائض تطلق على الشرائع الكبار أو هي بمثابة الأركان؛ ولذلك ابن رجب
وغيره قال: كالصلاة والزكاة والصيام والحج، فيجعلون مرتبة الفريضة أعلى كمرتبة
الركن مع الواجب، وبعضهم يقول: إن الواجب ما يكون قد ثبت على وجهٍ في غير القرآن،
والفريضة: ما كانت في القرآن، وهذا يعتمدون فيه على ما جاء عن بعض السلف أنه لما
قيل عن مثل بر الوالدين قال: إنه واجبٌ وليس بفرضٍ، مبناه على شيءٍ من الاختلاف في
الدليل أو في قوته من جهة أنه كما قلنا من الشرائع الكبار أقرب من القول من أن هذا
في القرآن، أو هذا في السنة.
إذًا أن الله تعالى فرض فرائض سواءً كانت هذه الفرائض هي الأركان أو قلنا من أنها
الشرائع العظام، ويدخل في ذلك أيضًا ما دونه من الواجبات فإن هذه مما جاءت به
الدلائل وصحت بها الأحاديث «فَلَا تُضَيِّعُوهَ» لماذا قلنا من أن هذا في الفرائض
الكبار فقط؟ لأنه قال بعده «وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَ» فبعضهم يجعل ذلك
في المستحبات والمندوبات وسنأتي إليها، لكن على كل حالٍ الفرائض في الأصل أن تطلق
على أو يدخل فيها الواجبات، فهنا لما قال: «فَلَا تُضَيِّعُوهَ» تضييعها يكون إما
بتركها وهذا ظاهرٌ لا إشكال فيه، أو بأدائها على وجهٍ لا تبرأ به الذمة، ولذلك قال
الله -جلَّ وعلَا: ﴿فويلٌ للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون﴾ فهم فعلوا لكنها لم
تبرأ بها ذمتهم من جهة أنهم فعلوها بعد خروج وقتها، أو كانوا مخلين ببعض أركانها
كما جاء ذلك في تفسير الآيات، ومثل ذلك سائر الأركان أو سائر ما أمر الله -جلَّ
وعلَا- به من الشرائع والواجبات.
وهنا قال: «وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَ» الحدود جاءت في كتاب الله -جلَّ
وعلَا- كثيرةٌ، أو في دلالات كثيرةٍ. ما المقصود بها؟
ذكر ابن رجب وغيره معاني مقربةً لها فيقول: إنها تطلق ولها معانٍ، فلما قال الله
-جلَّ وعلَا: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ [النساء:
13] فيقولون: إن الحدود هنا هي الواجبات والطاعات، ولما يقول الله -جلَّ وعلَا:
﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَ﴾ [البقرة: 229] أنها يدخل فيها المأذون
فيه من المباح والمستحب، وأن المنهي عنه هو التجاوز إلى الأمر المحرم فيدخل في ذلك
كل ما أذن فيه، وأما قول الله -جلَّ وعلَا-: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا
تَقْرَبُوهَ﴾ [البقرة: 187] فهذا يدل على أن هذه متعلقةٌ بالنواهي والمحرمات، لأنه
نهى عن قربانها أو إتيانها فدل على أن هذه الحدود هي المحرمات.
طبعًا الحدود لها اصطلاحٌ عند الفقهاء قد تطلق ويراد بها العقوبات المقدرة وهذا هو
الغالب عند الفقهاء، ولذلك يقولون: كتاب الحدود، وقد يريدون بها أيضًا ما يكون به
التعزير إلا في حدٍّ من حدود الله لا يجلد فوق عشرة أسواطٍ إلا في حدٍّ من حدود
الله فيجعلون لذلك تفسيرًا هل هو في التعزيرات أو في ما سبيله التعزير لهم في ذلك
شيئًا من التفصيل لا يسع الوقت بالحديث عنه.
فإذًا قال: «وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَ» فيدخل في ذلك كل ما أُذن فيه من
مباحٍ أو مستحبٍ، لأن الكلام الأول على الفرائض، ودخل في ذلك الواجبات.
«وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَ» المحرم الذي جاءت به الشريعة منه ما هو
قد دلت الأدلة صريحةً ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ
مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأعراف: 33]، ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ﴾
[النساء: 23] ونحو ذلك، وقد يأتي أيضًا في السنة ما جاء به النهي عنه، وهل النهي
دال على التحريم على وجه الإطلاق أو مع الوعيد الشديد؟ للأصوليين فيه كلامٌ وكان
السلف يتقون بعض الألفاظ على سبيل الورع ولما جاءت الأزمنة المتأخرة كان الناس أكثر
ما يكونون يطلبون بذلك الحد المحدود وهذا لا ينبغي، ينبغي للناس أن ما جاء به الشرع
يأتمرون به، وما جاء النهي عنه ينتهون عنه حتى ولو كان فيه ما يمكن أن يكون فيه نوع
سعةٍ، يعني بأن لا يصل إلى المحرم أو ما يكون به العقاب والعذاب.
ثم قول النبي -صلى الله عليه وسلم: «وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ
غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَ» طبعًا هذا جاء فيه الحديث الذي في
الصحيح «إن أعظم المسلمين جرمًا الذي يسأل عن المسألة فتحرم لأجل مسألته» ما
المقصود بذلك؟ هل هو نهي الصحابة عن السؤال؟
قال أهل العلم: لا، المقصود بذلك ما يكون من التكلف والتنطع الذي حصل في بني
إسرائيل في أنهم كانوا يتكلفون في بعض الأسئلة حتى يحرجوا أنفسهم ويضيقوا عليها،
فكان ذلك هو المنهي عنه ﴿لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ
تَسُؤْكُمْ﴾ [المائدة: 101]، وقد تقدم أيضًا شيئًا من الكلام عن مثل ذلك.
فإذًا هذا هو المنهي عنه والتنطع والتكلف في الأسئلة لا ما يحتاج إليه المرء، ولذلك
جاء في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «هلك المتنطعون قالها
ثلاثً» يعني: المتكلفون، وهنا قال أهل العلم: «وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً
لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَ» هذا يدل على ماذا؟
على أن المسكوت عنه الأصل فيه البراءة الأصلية لدلالة الأدلة العامة، والمقصود
بالمسكوت عنه يعني ما لم يدخل في دلالة حديث عام أو يشمل بقياس علة ونحوها فيكون
ذلك داخلاً في عمومات الأدلة الدالة على الإباحة
﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ﴾
[الجاثية: 13]، فهذه وما في معناها دالةٌ على الإباحة الأصلية وهي مشهورةٌ عند
علماء الأصول، إذًا هذا ما يتعلق بهذا الحديث على وجه الاستعجال ننتقل بعد ذلك إلى
حديث سهل بن سعد الساعدي.
{(الحديث الواحد والثلاثون: عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ
السَّاعِدِيّ -رضي الله عنه- قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ -صلى الله عليه
وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إذَا عَمِلْتُهُ
أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ؛ فَقَالَ: ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا
يُحِبُّك اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبُّك النَّاسُ».
حديثٌ حسنٌ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ، وَغَيْرُهُ بِأَسَانِيدَ حَسَنَةٍ)}.
نعم هذا حديث سهل بن سعد من الأحاديث الحسنة وحسنه غير واحدٍ من أهل العلم، ولذلك
قال المؤلف -رحمه الله تعالى- أو قال النووي: وغيره بأسانيد صحيحةٍ، ودلالة الأدلة
تدل على ما في معناه، فلما قال الرجل: «يَا رَسُولَ اللَّهِ دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ
إذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ»، وهذا ينبغي للإنسان أن
يكون هذا غايته وطلبه أن يطلب ما يكون به رضا الله -سبحانه وتعالى- وما يكون فيه
حصول المحبة، وانتشار الألفة معه ومع غيره من عباد الله -جلَّ وعلَا-؛ فإن ذلك به
تمام حياته، وسعادته في يومه وليلته، ويحصل بها الإعانة بها على طاعة ربه، فإن
المرء إذا كرهه الناس أو كرههم لم يزل في ضيق نفسٍ، وربما حمله على الإساءة، وربما
حمله على سوء الكلام، أو النميمة أو الغيبة أو غيرها.
لكن أصل ذلك هو محبة الله، ولذلك قال: «إذَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللَّهُ
وَأَحَبَّنِي النَّاسُ» ومحبة الله -جلَّ وعلَا- لعباده ثابتةٌ وأهل السنة مُقرِّون
بذلك مثبتون لها لدلالات الأدلة عليها من الكتاب ومن السنة، فإن الله جلَّ وعلَا
قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
المُتَّقِينَ﴾ [آلعمران: 76]، و﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى
المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ﴾ [المائدة: 54].
وفي حديث عليٍّ رضي الله تعالى عنه، لما قال النبي صلى الله عليه وسلم «لأُعطينَّ
الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله».
وإثبات محبة الله -جلَّ وعلَا- لعباده محبةً تليق بجلال الله -سبحانه وتعالى- من
غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ، ومن غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، فلا نقول: محبة الله كمحبة
الخلق، من أنها بعاطفةٍ وميلٍ ونحو ذلك، ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ
السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، فكما أن له ذاتًا لا تشبه ذوات المخلوقين، فله
صفاتٌ تليق بجلاله لا تُشبه صفات المخلوقين.
قال: «أَحَبَّنِي اللَّهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ» فقال الرسول صلى الله عليه وسلم:
«ازْهَدْ فِي الدُّنْيَ»، الزهد لأهل العلم فيه كلامٌ كثيرٌ، منهم من يقول:
الثقة بما عند الله -جلَّ وعلَا، حتى يكون الإنسان أوثق مما عند نفسه، وهذا لا شك
أنه بابٌ عظيمٌ، وترك المكروهات والمباحات والتفرغ للطاعات، ولهم في هذا كلامٌ
كثيرٌ، لكن بلا شك أنَّ الزهد في الدنيا والثقة بالله -جلَّ وعلَا- والتعلق به هو
من أعظم ما يكون به الزهد.
ولذلك يقول ابن مسعود وجاء عن غير واحدٍ من الصحابة أيضًا أنه قال: إذا قيل ليس في
البيت دقيقٌ فهو أكثر ما يكون رجاءً لتحصيل الرزق؛ لأن الرزق من عند الله -جلَّ
وعلَا، والله تعالى يرزق عباده إذا دعوه وإذا احتاجوا إليه، أمَّا ما في يد العبد
فمهما كثر ومهما عظم يمكن أن يذهب في ساعةٍ من نهارٍ، ويمكن أن يتلف، ويمكن أن يأتي
عليه البوار والخسران.
وأجمع ما قيل في الزهد، كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى، قال: الزهد
ترك ما لا ينفع في الآخرة، فكل ما لا ينفع الإنسان في الآخرة فإن العبد يزهد فيه،
والزهد حقيقته التقلل، والإعراض وعدم الإقبال على ذلك الشيء.
والزهد في الدنيا مبناه التعلق بالله –جلَّ وعلَا؛ لأن الدنيا والآخرة ضُرتان، فمن
زهد في الدنيا يوشك أن يتعلق بالآخرة.
أما لو افترضنا أن شخصًا يزهد في الدنيا لكنه لا يتعلق بالآخرة، فهذا لن يُجديه
شيئًا، أو لو كان زهده في الدنيا؛ لضعفه أو لكسله أو نحو ذلك؛ فلا يجديه شيئًا.
لكن من كان يزهد في الدنيا ليقبل على الآخرة، أي: يقبل على الله -جلَّ وعلَا، فهذا
أسعد ما يكون في الفرح بلقاء الله وبمحبة الله وبطاعة الله -جلَّ وعلَا،
﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ﴾ [الأنفال: 67]، فدل
على أنه ضرتان، من أعرض عن هذه يوشك أن يتمسك بهذه.
فالمقصود هنا ازهد في الدنيا يعني بتركها ليكون أسعد بالإقبال على الآخرة، وأسرع في
الامتثال لأمر الله، والعمل على طاعة الله -سبحانه وتعالى.
فهذا هو المطلوب، وهذا هو المأمور به، وهذا الذي يحث عليه الإنسان أن يكون أكثر
حرصًا على أوامر الله وطلبًا لطاعة الله، وتعلقًا بالله -جلَّ وعلَا.
وما امتلأ قلب عبدٍ بالدنيا إلا ذهبت منه الآخرة، وهذا في كلام السلف كثيرٌ، أن
العبد إذا أحب الدنيا خرجت الآخرة، لأجل هذا تأمل قول الله -جلَّ وعلَا- في أمره
بعدم الركون إلى الدنيا ﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ
أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ﴾ [طه:
131]، فإذا كان مد العين واستطراف ذلك، والتطلع إليه، سببًا لضعف القلب وإعراضه عن
الله جلَّ وعلَا فكيف بالسعي إلى ذلك والتفرغ لها، فإنها أكثر ما يكون بلاءً على
العبد وإعراضًا عن رضا الله -سبحانه وتعالى.
فالراغب فيما عند الله ينبغي أن يزهد في دنياه، وأن يقبل على الله، وأن يقبل على
آخرته، وأن يكون حرصه على دنياه بقدر ما يبلغه آخرته، بحيث لا يطلب حرامًا، أو يقع
في سوءٍ، أو يقعد عن طاعةٍ، ما يقوم بواجب النفقة على نفسه وعلى أهله ومن حوله، كفى
بالمريء إثمًا أن يضيع من يعول.
حصول الدنيا للعبد ليس منافيًا للزهد، بل لربما كانت عنده دنيا لكن قلبه ونفسه لم
تتعلق بها ولم تلتفت إليها، ولم تنشغل بها.
ولذلك كان سليمان عنده ما عنده، حتى إذا رآها قد أشغلته أمر بنحر تلك الخيل كلها،
حتى يقبل على الله -جلَّ وعلَا، ويتفرغ لطاعته.
«ازْهَدْ فِي الدُّنْيَ» إذن هذا من أعظم الأوامر أن يكون الإنسان متقللًا منها،
غير راغبٍ في شهواتها، أو متكثرٍ من رغباتها، وما منا إلا وقد عظمت عنده الدنيا
وكبرت وكانت ملء عينه، وملء يومه، وملء ليلته، حتى لربما أضرت بأعظم الواجبات وأكبر
أو أهم الطاعات ولا حول ولا قوة إلا بالله.
«وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبُّك النَّاسُ»؛ لأن النفوس مبناها على الشح
والبخل والضيق، فكلما أعرض الإنسان عن حاجته عن الناس فإن ذلك أسعد بأن يحبوه، وألا
يستثقلوه، فلأجل ذلك كانت وصيةً عظيمةً بليغةً من النبي صلى الله عليه وسلم فيما
يكون تقريبًا لك عند الناس، وإن الناس إذا أحسوا منك أنك تطلب بعض أمورهم أو تتطلع
إليها، فلا يزالون يستثقلون مجلسك ويعرضون عنك ويطلبون الخلاص من لقائك، فلأجل ذلك
كان هذا من أعظم ما يكون به فلاح العبد ونجاحه في الدنيا والآخرة، أن يبعد عما في
أيدي الناس، ولذلك الناس يحزنون لسؤالك إياهم وطلبك منهم، لكن الله -جلَّ وعلَا-
يفرح بدعاء عبده وطلبه ورغبته فيما عنده، وإقباله عليه، إن كان ذلك من أمر الدنيا،
أو كان ذلك من أمر الدين.
هذه وصيةٌ عظيمةٌ نافعةٌ لمن أراد النجاة ولمن أراد الفلاح، ولمن أراد الخير في
الدنيا وفي الآخرة، ففيهما أصلان عظيمان، محبة الله التي بها حصول الأنس والسعادة
في الدنيا والفوز في الآخرة، ومحبة الناس التي فيها الأنس بهم، والفرح بلقائهم،
وعدم حصول المشاحة معهم في نفوسهم وفي أحوالهم، ولا يكون ذلك إلا بترك ما عندهم،
والله جلَّ وعلَا الموفق.
ننتقل إلى الحديث الذي بعده.
السؤال الـ
{(الحديث الثاني والثلاثون
عن أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: «لا ضرر ولا ضرار» حديثٌ حسنٌ رواه ابن ماجة والدارقطني وغيرهما مسندًا،
ورواه مالك في الموطأ مرسلًا، عن عمر بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم
فأسقط أبا سعيد وله طرقٌ يقوي بعضها ببعضٍ)}
هذا الحديث حديثٌ عظيمٌ، وهو كما قال المؤلف -رحمه الله تعالى- حسنٌ وحسَّن ذلك
شراحه وكثيرٌ من أهل العلم، وأصوله قد دلت عليها دلالات الكتاب والسنة، وهي مشتهرةٌ
ومنتشرةٌ، ولذلك كان هذا الحديث من القواعد الخمس الكلية أو الكبرى عند أهل العلم،
والتي هي عليها مناط الأحكام الشرعية، وذلك أن الشريعة جاءت في أصلها بتحصيل
المصالح ودفع المفاسد، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ضرر ولا ضرار».
وهنا لما جاء بلفظ «لا ضرر ولا ضرار»؟
أولًا: نفيٌ والنفي دالٌّ على قطع مادة الضرر في أصل الشريعة، والتكاليف والأحكام،
وما جاء به أمر الله جلَّ وعلَا وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم.
فهذا ينبغي أن يكون متأكدًا عندنا جميعًا، وما ينظر إلى أنه ضررٌ حاصلٌ في ذلك
فإنما مبناه على رؤية الإنسان القاصرة ونظره الخاطئ، وإلا فأصل الشرع محصلٌ للنفع
دافعٌ للضرر، ولا شك.
هذا من جهةٍ، ولأجل ذلك تتكاثر النصوص، الشريعة جاءت بما يحصل به حفظ أموال العباد،
ومنع الاعتداء عليها، جاءت الشريعة بحفظ أنسابهم وجاءت بما يكون فيه حفظ نسلهم،
ونسبهم، وما يكون فيه تحصيل شهواتهم، ولا يكون فيه ضررٌ على المجتمعات، ولأجل ذلك
حرمت الزنا، جاءت الشريعة بأن تعطي المرء حقه مما يكون فيه من ما يحتاج إليه من
نومٍ أو شهوةٍ أو غيرها وطلب منه ما لا يكون مضرةً عليه، من قيامه بحق الله جلَّ
وعلَا إن كان من صلاةٍ أو غيرها، إلى غير ذلك كثيرٌ.
ولأجل ذلك قال أهل العلم في معنى قوله: «لا ضرر ولا ضرار»، قالوا: هاتان كلمتان
دالتان على شيءٍ واحدٍ، الضرر والضرار تأكيدٌ لذلك فنفي للضرر جميعًا، وهذا لا شك
أنه معنى مقصودٌ، ولذلك يقول أهل العلم: لم يأتِ في الشريعة ما فيه ضررٌ على العباد
من جهة التكاليف، فإنها ميسرةٌ سهلةٌ، ممكن تحصيلها، ولذلك قال الله -جلَّ وعلَا:
﴿لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا
مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَ﴾، فرفع
عنهم حتى الخطأ والنسيان ﴿رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ
طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ [البقرة: 286]، والله -جلَّ وعلَا- يقول: قد فعلتُ كما في حديث
مسلم الذي في الصحيح، فهذا دالٌّ على نفي الضرر في التكاليف وفي الأحكام.
وأيضًا جاء ذلك في المعاملات، فإن الشريعة قد جاءت بحفظ ما يكون فيه صلاح معاملات
الناس، فمنع من الربا، ومنع من الغرر، ومنع من الغش، ومنع من بيوعاتٍ كثيرةٍ فيها
إضرارٌ بالناس، ومنع من الاحتكار، ومنع من التسعير، ومنع من تلقي الحاضر للباد،
ومنع من التصرية، وما يكون فيها من الغش، إلى غير ذلك، فإذن هذا لا إشكال فيه، بل
جاء ما هو أعظم من هذا، وهو أنه جاءت الشريعة بالتنصيص على نفي الضرر في مسائل
خاصةٍ لماذا؟ لأهميتها من جهة أنها متعلقةٌ ما يكون فيه ضعفٌ عند الناس فقد يكون
فيه الضرر.
فانظر إلى الوصية فستجد أن الله -جلَّ وعلَا- نهى عن الإضرار بالوصية؛ لأن الوصية
فيها جانبٌ من الضعف، أي: ورثة والضُّعَفَة والأيتام ونحوهم، فنهى عن الجنف والميل
فيها.
وما يتعلق بالزوجات، ﴿ولا وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُو﴾ [البقرة:
231]، لأن هذا مما يتعاظم فيه الرجال، فجاء بالنص عليه، تأكيدًا لهذا الأصل العام،
وأيضًا من فروعه والمسائل المتعلقة به، مما يدل على عظم ما جاءت به الشريعة في نفي
هذا الضرر.
ولذلك تكلم أهل العلم على ما يتعلق بالضرر الذي يحصل على الغير، سواءً كان ذلك في
ضرر الجار أو نحوه، فبعض أهل العلم أي أمرٍ يكون به ضررٌ على الغير فإنه ممنوعٌ،
والحنابلة والحنفية يقولون: إنه ما كان ضررًا معتادًا فإنه لا يمنع، وأما ما كان
زائدًا على القدر المعتاد فإنه هو الذي يمنع.
ولذلك بناء الإنسان بجوار جاره فيه ضررٌ عليه، لكنه ضررٌ معتادٌ، كل الناس يحتاجون
إلى ذلك، لكن إذا كان بناؤه على وجهٍ يمكن أن يضر بجاره، إما لرفع مكانه، أو
لاستعماله في صناعةٍ يعظم فيها الغبار أو الدخان أو نحو ذلك، فإن هذا مما منعه أهل
العلم لما يحصل به من الضرر، ولذلك أمثلةٌ كثيرةٌ ذكروها فيما يتعلق بفصلٍ في أحكام
الجوار، بعضهم يذكرها في بابٍ خاصٍّ، وبعضهم يذكرها تبعًا لباب الصلح.
فإذن هذا ما يتعلق ببعض مسائل الضرر والضرار، بعضهم يقول: إن الضرر يختلف عن
الضرار، من جهة أن الضرر في نفسه، والإضرار فعل فيكون إما فعلًا متعلقًا بالغير،
ويدخل في ذلك ما يكون فيه إضرار الإنسان على غيره، سواءً كان له فيه نفعٌ، أو لا
نفع له فيه.
ولهم في ذلك تفاصيل، وهذا جملةٌ من المسائل المتعلقة بهذا على وجه الاختصار
والاستعجال، واسمحونا لضيق الوقت، ننتقل إلى الحديث الذي يليه.
{(الحديث الثالث والثلاثون
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعطى الناس
بدعواهم لادعى رجالٌ أموال قومٍ ودماءهم، ولكن البينة على المدعي واليمين على من
أنكر» حديثٌ حسنٌ رواه البيهقي وغيره هكذا وبعضه في الصحيحين)}
تأمل هذه الأحاديث التي اختارها الإمام النووي -رحمه الله تعالى- مع ما فيها من
المباعدة في بعض معانيها ونحوها، إلا أنه أراد في ذلك الشمول، وأراد أن يأتي على
أبوابٍ متعددةٍ، وما فيه قوام أصول معانٍ كبيرةٍ، ولأجل ذلك كان هذا الحديث وهو
حديث ابن عباس وهو من أعظم الأحاديث من جهة أنه متعلقٌ بفصل الخصومات وما يكون به
القضاء، وما يكون به حفظ الحقوق ومنع الاعتداء أو الادعاء على أقوامٍ بما لا يكون
عليهم، ومطالبتهم بما لم يتعلق بذممهم.
فلأجل ذلك جاء مثل هذا الحديث فيصلًا وحاسمًا وطريقًا واضحًا في أن الحقوق لا يمكن
أن تثبت بمجرد المطالبة بها، وأنه لا يمكن أن تلزم بمجرد الكلام، وإنما مبنى ذلك
على الإثبات، ومبنى ذلك على البينة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو يعطى
الناس بدعواهم لادعى رجالٌ أموال قومٍ ودماءهم» فيقول: هذا قتل أبي أو هذا أخذ
مالي، أو هذه المزرعة كانت لوالدي أو لأخي، فلو يعطى الناس بهذه الدعوى، لأخذنا
أموال هذا وهذا أخذ أموال هذا، وهذا استولى على هذا، فأي شيءٍ يكون للناس مثبتًا
لحقوقهم.
فالنبي صلى الله عليه وسلم منع ذلك، هل هو منعٌ بغير بابٍ مفتوحٍ؟
لا، لأن الشريعة جاءت بما يكون فيه صلاح الناس، فلو منعنا أيضًا الدعوة مطلقًا
لاعتدى أقوامٌ فأخذوها غصبًا وظلمًا ثم لم يكن لأصحاب الحقوق أن يطالبوا بها أو أن
يتحصلوا على أموالهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكن البينة على المدعي
واليمين على المدعى عليه.
البينة ما هي؟
يقول أهل العلم: إن البينة كل ما أبان الحق، فما أبان الحق وأظهره وبينه بدليلٍ
ثابتٍ، فإنه يكون بينةً يحكم بها، وما سوى ذلك فلا.
إذن البينة على المدعي، فمن ادعى هذا المال له أو أن هذه السيارة سيارته، أو أن هذه
الأرض أرضه، أو أن هذا الثوب ثوبه، فعليه البينة.
ومن ادعى أن هذا قد قذفه، فعليه البينة، ومن ادعى أن هذا قد قتل والده واستحق دمه،
فعليه البينة.
فإذا أثبت ذلك استحق، البينة على المدعي، والقاضي هو الذي ينظر في هذه البينة وفي
ثبوتها، وفيما يتعلق بتحرير كل ما يكون موصلًا إلى الحق وموضحًا له، فلا تقبل من
الشهود مثلًا إلا ما كانوا عدولًا، ولا يطلب من البينات إلا ما كان مؤديًّا للحق
مثبتًا له، والمقصود عند أهل العلم بالبينة كل ما أبان الحق، ولا يختص ذلك
بالشهادة، بل ما كان به قطعٌ لثبوت ذلك بوجهٍ من الوجوه، فإنه يكون طريقًا للقاضي
لأن يحكم بمقتضاه، وأن يثبته به، وأن ينقله أو يرده إلى صاحبه المدعي له.
ثم يقول: «واليمين على من أنكر» من أنكر فإنه إما أن نخليه بدون يمينٍ، لكن في بعض
الأمور نجد أن أصحاب الحقوق قد يكون له حقٌّ ولا بينة له، فلو أننا خليناه بدون
يمينٍ لأفضى ذلك إلى فوات حقه، ويمكن إثباته من وجهٍ آخر، ولو أننا أثبتناه له بدون
بينةٍ لأفضى ذلك إلى الاعتداء وأخذ الحقوق منه.
فلأجل ذلك لم يكن لما جاء في السنة بنقل الحقوق بمجرد الدعوى والمطالبة، ولم يكن
أيضًا بإغفال حقوقهم لعدم البينة، بل جعل اليمين على من أنكر، فإذا أنكر الشخص أن
هذا الحق حقٌّ لفلانٍ فليحلف بالله أنه ليس بحقّ فلانٍ، ثم ليكون ذلك الأمر بينه
وبين الله -جلَّ وعلَا، فبهذا إذن تثبت الأمور على أصولٍ صحيحةٍ.
لقائلٍ أن يقول: إن النفوس قد تحمل على ما يسهل عليها اليمين، نقول: إنما جعلنا
اليمين صحيحًا أنها في جهةٍ، لكنها في جهةٍ أقوى الجهتين، لما كان المدعى عليه
الأصل براءة ذمته، فنحن دائر الأمر بين تخليته وبين أن نأتي بيمينٍ تحمله على ألا
يحلف إلا بيقينٍ أو بصدقٍ أو بأن الحق ليس بثابتٍ عليه، أو أن الأمر ليس كما ذكر
المدعي.
فلأجل ذلك جاءت الشريعة بمثل هذا، فكان في ذلك حكمًا عدلًا، وقولًا فصلًا.
ثم لأهل العلم تفاصيل فيما يتعلق بذلك، إذا لم يحلق المدعى عليه، فهل ترد اليمين
إلى المدعي، وهل ترد في كل حالٍ، أو يقضى بمجرد الامتناع والنكول، هل يقضى في بعض
المسائل دون بعضٍ، لهم فيها تفاصيل، وأعان الله القضاة، ربما يكون التفصيل في ذلك
مما يفوت علينا المقصود من الاختصار والانتقال إلى الحديث الذي بعده.
لكن ما نريد أن نقوله هنا: إن لأهل العلم في مثل هذه المسائل مباحث طويلةً في الحكم
في الشاهد واليمين، وفي النكول والحكم بها، أو رد اليمين ونحو ذلك من التفصيلات، ثم
اليمين هل تكون على الإثبات أو تكون على النفي، أو في بعض الأحيان تكون على نفي
العلم، وفي بعضها على القطع ونحو ذلك، كل هذه المسائل لأهل العلم فيها تفصيلٌ.
أيضًا ما نختم به الكلام على هذا الحديث أن حكم الحاكم وقضاء القاضي إنما هو في
الظاهر، حتى ولو ثبتت بمائة بينةٍ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنما أنا
بشرٌ أقضي لكم بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق امرئٍ مسلمٍ فإنما هي قطعةٌ من نارٍ
فليحملها أو ليدعه»، ثم إن البينة إذا خفيت ثم ظهرت بعد ذلك للمدعي بعد ذلك أن
يطالب بها، حتى ولو كان من المدعى عليه يمينٌ وحلف، لأن البينة تثبت في كل حالٍ،
إلا أن يكون منه ما يكذبها فيما مضى، فلا تقبل منه بعد ذلك فيما يأتي، وكما قلنا
لأهل العلم فيه تفصيلٌ، لا نريد أن ندخل فيه.
ننتقل إلى حديث أبي سعيد، ولو باستهلالةٍ يسيرةٍ ونكمله في الدرس القادم؛ لضيق
الوقت.
السؤال الـ
{(الحديث الرابع والثلاثون
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من
رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع بلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف
الإيمان» رواه مسلم)}
هذا الحديث وهو حديث أبي سعيد الخدري -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- وهو من أعظم
الأحاديث وفيه معنى من المعاني الكبيرة والعظيمة، فلو رأيتم فيما مضى أنه جاءت
أحاديث دالةٌّ على نشر الخير، وبذل الإحسان، والصدقة، وإماطة الأذى، وإعانة الملهوف
ونحو ذلك من الأمور، ثم جاء أيضًا الأمر بكف الشر وإمساك الشر وبين أنه صدقةٌ،
«والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، فهذا بابٌ آخر، من أبواب منع الشرور
وحصول الخيرات.
أيضًا جاء في الحديث المتقدم «الدين النصيحة» والنصح هو الحث العام وحمل الناس على
الخير، وهنا ما هو أخص من ذلك مما فيه منع المنكر إذا حصل، ورد الشر إذا وقع، ليكون
ذلك قاطعًا وحاسمًا لمادة الشر أن توجد في مجتمعات المسلمين.
ولأجل ذلك قال: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده»، لما يحمل الناس أنفسهم على
الخير، ويتعاونون عليه ويتناصحون فيه، ويمسكون عن الشر، فيكيف سيكون صفاء المجتمعات
وحصول الخير فيها، ثم إذا تتابعوا وتحاملوا على أنهم إذا رأوا المنكر منعوه، فكيف
أو فأي خيرٍ سيصلون إليه، وسينتشر في المجتمعات، وسيمنع الشر، ويقطع دابره، أو يضيق
نطاقه، حتى لا يكاد يحصل إلا في الخفاء، أو في بعض الأمور.
ولأجل ذلك كان هذا وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم أبواب الخير، بل
ذلك أن بعض من لم يعرف الإسلام أو من لم يؤمن بالله واليوم الآخر، من يرى أن هذه
الشعيرة وهي شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أعظم ما يكون بها صلاح الأمم
والمجتمعات، ويدعون إليها، وينادون بها.
ولم يزل أهل الشرور والكفر تحصل عندهم البليات والموبقات لا يجدون من يتعاون على
صدها، أو يحمل الناس على البعد عنها.
أما أهل الإسلام فإنهم لم يزالوا يطهرون مجتمعاتهم مما يلحق بها، ويمنعون ما
يدنسها، ويتعاونون على ما يبعد بلاءها، فلا تزال نقيةً طاهرةً سليمةً بعيدةً عما
يكون فيه الشر، وما يكون فيه السوء، وما يكون فيه من المنكر، وما يكون فيه مما يؤذي
العباد في أمور دينهم أو أمور دنياهم.
على كل حالٍ سيأتي تفاصيل الكلام في قوله: «من رأى منكم منكرً» لعله -بإذن الله
جلَّ وعلَا- أن يكون في مستهل الدرس القادم.
أسأل الله -جلَّ وعلَا- أن يجعل الدرس قادمًا متتمًا لهذه الأربعين وميسرًا لتمام
هذه الرسالة المباركة، والأربعين الطيبة، التي جمعها الإمام النووي -رحمه الله
تعالى.
أسأل الله لنا ولكم دوام التوفيق والسداد، أسأل الله أن يتم علينا وعليكم نعمته،
وأن يبلغنا طاعته، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصلى الله وسلم وبارك
على النبي الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سلاسل أخرى للشيخ
-
13396 33
-
17105 27
-
23747 18
-
78682 18
-
5037 6
-
2908 22
-
2730 24
-
2683 12
-
5748 12
-
8845 12
-
10684 24
-
11542 13