الدرس الخامس

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

11394 13
الدرس الخامس

الأربعون النووية

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، النبي الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد.. فأسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يطمئن قلوبنا، وأن يصلح نفوسنا، وأن يذهب غمومنا وهمومنا، وأن يملأ قلوبنا بالأمن والإيمان، والصلاح والبر والتوفيق والإحسان، إن ربنا جوادٌ كريمٌ.
أيها الإخوة، لم تزل هذه المجالس المباركة تتابع علينا، مجالس نتدارس فيها العلم، ونتذاكر السنة، ونتواصى على الخير، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يبلغنا الخير والهدى والتوفيق والسداد والإعانة والرشاد، فإن الله سبحانه وتعالى يمن على عباده، وليس شيءٌ أعظم من أن يمن على عباده بالهداية.
وإن الناس ليعطون من الدنيا ويفسح لهم فيها، أنواعًا من الدنيا، وشهواتها وملذاتها، وأعظم ما يعطى الإنسان أن يعطى الخير والبر والاستقامة.
فنسأل الله أن يبلغنا هذه الدرجة، وأن يمن علينا بهذه المنزلة، وأن يزيدنا وإياكم والإخوة المشاهدين في ذلك خيرًا كثيرًا.
كنا في الدرس الماضي قد أنهينا ما يتعلق بالحديث الخامس من الأحاديث العظيمة التي ذكرها الإمام النووي في هذه الأربعين المباركة، وإن كان الحديث فيها قاصرًا، وإن كان الكلام فيها مختصرًا، وإن قعدنا على أن نأتي على أحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم بما ينبغي لها وبما يليق بها من التكميل والشرح والإبانة والإيضاح، لكن حسبنا أن قليلًا يغني عن كثيرٍ، وأن في الإشارة ما يغني عن كثيرٍ من العبارة، ولعلنا أن نرسل إليكم شيئًا فتفتحون معه أشياءً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
لعلنا -بإذن الله جلَّ وعلَا- نبتدئ اليوم بالحديث السادس وهو حديث النعمان بن بشير، وقد ذكره المؤلف -رحمه الله- وهو من الأحاديث العظيمة في ذكر الحلال والحرام والمشتبهات، فنشرع فيه بعد سماعنا للحديث.. تفضل يا شيخ سعد.

{الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد..
فاللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمشاهدين وجميع المسلمين.
قال النووي -رحمه الله: (الحديث السادس:
عن أبي عبد الله النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحلال بيِّنٌ وإن الحرام بيِّنٌ، وبينهما مشتبهاتٌ لا يعلمهن كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات قد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب» رواه البخاري ومسلم)
}
نعم، كما سمعتم هذا الحديث حديث النعمان بن بشير من الأحاديث العظيمة، ورواه النعمان بن بشير، وهو من صغار الصحابة من الأنصار، ويقال: إنه أول مولودٍ ولد بعد هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة بعد أربعة عشر شهرًا، وهذا يدل على أن تحمله للحديث كان حال صغره.
وفي هذا استدلالٌ للمحدثين أنه يجوز للمميز أن يروي الحديث وأيضًا يتحمله، وإذا تكلمنا على هذه المسألة فكم هي القلوب التي عرفت عِظم هذه الأحاديث فتلقتها، وألقتها، وحفظتها، ونقلتها، هكذا عرفوا، وهكذا نشئوا على محبة ما جاء به الشرع، ومحبة ما جاء في السنة، فكان من أعظم ما يعنون به ويحرصون عليه، وتعرفون قصة ابن عباس -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- فإنه كان في الثامنة من عمره، ولما أراد أن يتعلم ما يعمله النبي صلى الله عليه وسلم في ليله، يقول: فتحريتُ أن يكون عند خالتي ميمونة، فجاء ونام معهما، يقول: فلما نام النبي صلى الله عليه وسلم جعل نفسه كأنه نائمٌ، وهو يرعى ما يفعله النبي صلى الله عليه وسلم.
فماذا نقول؟ وقد كبرت سننا وربما شابت لحانا، ونحن أقل ما نكون من الحرص على التفقه والعلم والتعلم، وبذل الجهد، كيف وكثيرٌ من هذه الأمور في متناول أيدينا، ويسيرٌ علينا تلقيها، فما أحسن هذه الوصية لنا جميعًا أيها الإخوة، بأن نكون أحرص ما نكون على الخير والعلم وتلقيه والاجتهاد فيه.
هذا هو النعمان بن بشير تلقى هذا الحديث وهو صغيرٌ، ولم يزل التابعون ومن بعدهم يتلقونه ويتفقهون فيه، وينقلونه ويترضون عليه، حتى هذه اللحظة، يذيع في الآفاق وينتشر في الجهات، ويتفقه الناس فيه، وإنما ذلك من حرص ذلك الصغير، وتلقي ذلك الابن الذي حفظ ونقل وروى حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا الحديث إذا تكلمنا عنه أيها الإخوة، فنحن نتكلم عن حديثٍ عظيمٍ، ولذلك جعلوه من أمهات الأحاديث التي تدور عليها السنة، فبعضهم جعله ثالث الأحاديث مع حديث «الأعمال بالنيات»، وحديث عائشة «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ»، فجعلوا ثالثها الذي تدور عليه الأحكام هو حديث النعمان بن بشير، لأن فيه إشارةً إلى جميع الأحكام، وإلى ما يتعلق بالمكلف فيما تبرأ به ذمته، وبما يتعلق به تكليفه عند الله -جلَّ وعلَا.
وجاء ببيان الحلال وبيان الحرام، وبيان الأمور المشتبهات، وكيف يتعامل المسلم مع كل واحدٍ من هذه الأقسام.
فإذا جئنا إلى الحديث إذن، بعد أن عرفنا أنه من الأحاديث العظيمة، فإنه قال: «إن الحلال بيِّنٌ»، إذن هذا إشارةٌ إلى أول قسمٍ من الأقسام وهو: الحلال الخالص، الحلال الظاهر، الحلال البيِّن، الذي لا خفاء فيه، ولا شبهة ولا إشكال، يعرفه العالم ويعرفه من دون ذلك من المتعلمين، وربما عرفه بل يعرفه حتى الجهال، من ذلك حل الأطعمة والأشربة من الماء والشراب والزروع والثمار الطيبة المباركة.
هذا إذن هو القسم الأول، والقسم الثاني، «وإن الحرام بيِّنٌ» الحرام الذي جاءت الشريعة وتتابعت عليه النصوص بتحريمه أيضًا بينٌ، سواءً قلنا السرقة، الخمر، والزنا، الربا، السحر، ما يتعلق بكثيرٍ من الأحكام التي جاءت حرمتها، ودلت الأدلة على النهي عنها الغيبة، النميمة، الفحش في القول، إلى غير ذلك، فهذا أيضًا من الحرام البيِّن الذي لا يجوز للمسلم أن يتعاطاه ولا أن يقرب منه، ولا أن يدخل فيه، والداخل فيه داخلٌ في الإثم والعدوان، متقحمٌ للشر والعصيان.
القسم الثالث: هو محل الحديث «وبينهما أمورٌ مشتبهاتٌ» بين هذه القسمين، الحلال البيِّن والحرام البيِّن ما هو مشتبهٌ بينهما، أو منزلةٌ بين هذين المنزلتين، أو برزخٌ بينهما.
هذا هو ما يتعلق بالمشتبهات، قبل أن نأتي إلى حقيقته، وبعض ما يندرج فيه، فلابد أن نعرف ما هو المشتبه؟ المشتبه من الشبه، وهو الشيء إذا اختلط وكان له قربٌ من شيءٍ أو شيئين أو أكثر، فله قربٌ من هذا وله قربٌ من هذا.
فهو إذن من حيث هو في الأصل فهو المختلط.
أما هو فيما يتعلق بالاصطلاح على ما جاء به الحديث، فإنه المتردد بين الحلال والحرام، وهذا ظاهرٌ من الحديث، المتردد بين الحلال والحرام عند المكلف، ونحن نقول عند المكلف من جهة أن تعلق الاشتباه إنما هو بالمكلف لا في حقيقة الأمر، كما سيأتي التنبيه عليه بعد قليلٍ.
إذن كما ذكر عند المكلف من جهة العين أو من جهة الحال والحكم، وهذا يندرج فيه مسألةٌ، وهو أقسام الاشتباه، لكن من أكثر ما يبين عن معنى الاشتباه، هو ما جاء في آية سورة آل عمران حينما قال الله جلَّ وعلَا: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأَوِيلِهِ﴾ [آل عمران: 7]، هذا إشارةٌ إلى هذا النوع، فعندنا المحكم وهو البيِّن، ويقابله المشتبه، والمحكم يدخل فيه الحلال البين والحرام البيِّن، والمشتبه ما تردد بينهما.
هذا ما يتعلق بالمتشبه، إذا انتقلنا إلى ما حقيقة هذا الاشتباه؟
الاشتباه إما أن يكون في الحكم، وإما أن يكون في العين والحال، كيف يكون في الحكم؟ يعني أن يتردد الحكم في مسألةٍ من المسائل بين الحل والحرمة، كما يتردد الفقهاء مثلًا في مسألة بيع العينة، عند الشافعية أنهم أجازوه، وعند جماهير أهل العلم أدخلوه في باب الربا، وعظموا الدخول فيه، وتعاطي هذه المسالة.
يعني هذه مسألةٌ من مسائل البيوعات على سبيل المثال، على سبيل المثال أيضًا في مسائل العبادات ما يتعلق بالطمأنينة هل الطمأنينة ركنٌ كما هو مذاهب الجمهور، أم أنها ليست بلازمةٍ كما يقول به بعض الفقهاء كالحنفية.
فهذا إذن يكون مترددًا بين حُكميْن، بين الحل والحرمة، بين وجوب الفعل أو جواز الترك، إلى غير ذلك من المسائل التي تتعلق بهذا وهي كثيرةٌ في الفقه.
ولقائلٍ أن يقول: لماذا توجد مثل ذلك، الله جلَّ وعلَا كما ابتلى العباد بالإيمان، فإنه ابتلاهم في الإيمان بالاهتداء إلى الأحكام، فأراد الله جلَّ وعلَا أن يبتلي العبد، فينظر كيف يكون فعله، وكيف يطلب ما يحصل به رضى ربه، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فهذا من الابتلاء والامتحان، ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ﴾ [آل عمران: 141].
هذا إذن اشتباهٌ في الحكم، والاشتباه في الحال، هو أن تكون ثم عينٌ لا يدرى أهي داخلةٌ في الحلال أو الحرام، وأقرب ما يكون في ذلك ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى تمرةً، تمرةٌ من حيث لا شك أنها حلالٌ، لكن هل هي من تمر الصدقة فلا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، أم أنها من غير ذلك فتكون حِلًّا له.
فهذا اشتباهٌ في الحال، هل حالها أنها داخلةٌ في مال الصدقة أو لا؟ مثل ذلك لو وقع في بيت الإنسان ثوبٌ فطار إليه، ولا يدري هل هو ثوبه أو الثوب الذي سقط عليه من بيت الجيران، فهذا مختلفٌ في هذه العين، باعتبار الحال التي أحاطت بها.
فهذا اشتباهٌ لا من جهة أن ما في بيت الإنسان له، هذا لا يختلف فيها في الحل، لكن من جهة أنها هل هذه من ملكه أو هي مما سقطت عليه فهي حقٌّ متعلقٌ لغيره وهو جاره الذي يليه أو نحو ذلك.
هذا إذن ما يتعلق ما ذكره المؤلف رحمه الله من المشتبهات، وقلنا: إن المشتبهات حقيقة معناها في اللغة، ثم تعريفها، ثم أيضًا ما يدخل فيها.
وقبل أن نبين قوله: «لا يعملهن كثيرٌ من الناس»، فإنه ثم مسألةٌ ينبغي التنبيه عليها، وهو مما جاء الكلام عليها في هذه الآية، وربما أيضًا أشار إليها بعض أهل العلم فيما يتعلق إشارةً لطيفةً عندما يستطرد في هذا الحديث، وهو أن ما جاء من الآيات الدالة على صفات الله جلَّ وعلَا، وأفعاله وما ذكره أهل العلم في مسائل الاعتقاد، هي مسائل من المسائل المحكمة، لا من المشتبهات.
وأن من أدخلها في المشتبه، فإنهما هم بعض أهل الأهواء والضلال، وإلا فإنها جاءت بها دلالة الكتاب، وجاءت بها دلالة السنة، صريحةً صحيحةً، لا إشكال فيها، ولا غبار عليها، فكان قول أهل السنة والجماعة إنهم مؤمنون بهذه الأسماء والصفات، مثبتون لها، على ما جاء في الكتاب، وما جاء في السنة، لا يتجاوزون القرآن والحديث، ثم هم جعلوا ميزان الصفات والأفعال نعم ما جاء أيضًا في الكتاب: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، فيثبتونها لله على ما يليق بجلال الله جلَّ وعلَا، من غير تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ومن غير تكييفٍ ولا تمثيلٍ.
ولذلك جعلوا قول الإمام مالك كالأصل في كل آيات الصفات، لما سئل عن الاستواء، قال: "الاستواء معلومٌ" يعني من حيث معناه في اللغة، "والكيف مجهولٌ" أما استواء الله الذي قال الله جلَّ وعلَا: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، كيف استوى، نقول الكيف مجهول، ثم قال: "والإيمان به واجبٌ، والسؤال عنه بدعةٌ" يعني التشكيك وإرادة المعاني الباطلة أو نحو ذلك.
فكان هذا من الأمور المهمة التي ينبغي أن نعرفها، أو أن نقف معها هنا، ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يعلمهن كثيرٌ من الناس»، وفي هذا مسألتان:
أولاهما: من جهة الأصل فإن الدين تامٌّ، وجاءت السنة لا نقص فيها، فالله جلَّ وعلَا يقول في كتابه: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: 3]، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالكٌ».
ويقول أبو ذر: "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائرٌ يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم علمًا".
إذن لا يمكن أن يأتي شخصٌ فيقول أن الاشتباه من جهة النقص في أن هذه لم يأت بها نصٌّ، أو لم يدل عليها دليلٌ، أو لم يأت فيها أثرٌ.
وإنما النقص باعتبار المكلف وباعتبار البشر، ولذلك لما قال: «لا يعلمهن كثيرٌ من الناس»، دل ذلك على أنه ولابد أن يوجد في الأمة من أهل العلم من يعرف تلك المسائل ويحيط بها، فإن غابتْ عن شخصٍ أو اثنين أو ثلاثةٍ أو مائةٍ من أهل العلم، أو طلبة العلم، أو هم جميعًا، فلابد أن يكون من أهل العلم من عرفها ووقف على معناها، وفتح الله عليه فيها.
«لا يعلمهن كثيرٌ من الناس»، إذن مرد ذلك إلى الناس لا إلى أصل ما جاء به الشرع، وما دلت عليه السنن، وما ذكر الله في كتابه من إكمال الدين وتمام الملة.
وفي هذا فضيلة أهل العلم، الذين جعلهم الله جلَّ وعلَا نورًا يستضيء به الناس، يقفون على حقائق المسائل ويعرفون دقائقها، ويرشدون الناس إليها، وأيضًا فيه إشارة إلى أن لما قال: «لا يعلمهن كثيرٌ من الناس»، إلى أنه ينبغي لكل أحدٍ أن يقصر عن أن يتكلم فيما لا يحسنه، وأن يتجرأ على ما لا يفهمه، وأن يبتدئ شيئًا لمجرد عارضٍ عرض له في ذهنه، أو لمجرد لفظٍ حفظه من ألفاظ الحديث أو غيرها، أو مقولةٍ لأهل العلم بدون ما تمحيصٍ وتدقيقٍ، وبدون ما جمعٍ وتحقيقٍ، فإن هذا من الافتيات، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن كثيرًا من الناس لا يعلمون العلم، فلا ينبغي له أن يدخل وأن يتلطخ وأن يرتكس في شيءٍ لا يحسنه، فيكون سبب بلاءٍ على نفسه، وعلى المسلمين.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه»، وهنا فيه إشارةٌ إلى أنه مهما بلغ الإنسان من العلم والجهد، فلابد أن يشتبه عليه بعض الأمور، يطلب منه اتقاؤها، ولأجل هذا تكاثر عن السلف التقوى في مثل هذا، جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهو خليفة خليفة رسول الله، أنه قال: "إني لأجعل بيني وبين الحرام حاجزًا من الحلال لا أخرقه".
وجاء عن سفيان نحوًا من ذلك حين قال: "أترك شيئًا من الحلال خوفًا من الوقوع.. حاجزًا بيني وبين الحرام".
وجاء عن سفيان أنه قال: "إنما سمي المتقون بالمتقين لأنهم تركوا ما لا يتقى خشية أن يقعوا في المحظور، وأنه لا يبلغ الإنسان درجة التقوى حتى يترك ما لا بأس به، خشيةً مما به بأسٌ" إلى غير ذلك، جاء عن ميمون بن مهران، وذكر ابن رجب آثارًا كثيرة عن السلف في هذا.
فإذن «فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه»، وهنا إشارةٌ إلى أنه أيضًا قد يكون ممن ارتفعت درجتهم ممن تفوته هذه المسألة.
فما وجه الاشتباه فيها؟
إما أن يكون أهل العلم قد توقفوا فيها، كما يحصل ذلك في مسائل كثيرةٍ من مسائل العلم، وكما أيضًا يحصل في المسائل النازلة على وجه الخصوص، مما يتجاذبها مسائل كثيرةٌ، أو إشكالاتٌ متنوعةٌ، فتحتاج إلى شيءٍ من التروي، فيحفظ المفتي نفسه أن يقول في المسألة قبل أن يستوفيها، أو أن يستكمل ما يتعلق بها، أو أن ينظر حتى يُفتح له فيها.
هذا من جهةٍ، ومن جهةٍ ثانيةٍ أن الإنسان قد يرد عليه القولان، الحل والحرمة، ويكون من أهل العلم، ولم يتبين له شيءٌ، أو أنه سمعها من أهل العلم ثم إنه تردد فيها، يعرف أن أحدًا قال بالحل، وأحدًا قال بالحرمة.
وليس هذا على الإطلاق، فإن من المسائل ما تكون واضحةً، وأن المخالف فيها مرجوحٌ، أو مطروحٌ، أو هو في الخلاف الشاذ، فهذا ليس محلًّا للاشتباه، وإنما الكلام فيما إذا تقابل القولان، واشتد الخلاف في المسألة، فإن الإنسان يطلب له الاتقاء.
فإذا كان من أهل العلم، فيأخذ بالاحتياط، فيتقي لنفسه، إذا كان من عامة الناس فإنه يأخذ بقول من يراه أعلم وأتقى، يعني يتحرى ولا يدخل في المسائل على غير وجهٍ صحيحٍ.
هنا إذا تكلمنا على مثل ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: «فقد استبرأ لدينه وعرضه»، وفيه إشارةٌ أيضًا إلى ما ينبغي للمكلف من أنه يحفظ عرضه ويستبرئ عرضه، ويمنعها من الدخول فيما قد يلحق بها البلاء والملامة.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام»، ولأهل العلم في هذا معنيان:
إما أن يكون المعنى: أن من وقع في الشبهات، فلما كانت الشبهات دائرةً بين الحلال والحرام، فإنه قد تكون الشبهة التي ظنها حلالًا صارت حرامًا، فيكون صادف الحرام.
وإما أن يكون المعنى أنه من كانت له طريقةً وعادةً أن يأتي الشبهات فإن ذلك يستجره به الشيطان حتى يقع في الحرام الصريح، ويحمله على الوقوع ويستهين بالحرمات فيواقعها، نسأل الله السلامة والعافية.
ولذلك من أراد السلامة في دينه فليطلب دائمًا الاستبراء والتوقي والتورع من ذلك، قال: «كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه»، وهذه فيها كما يقولون حسن تعليمٍ من النبي صلى الله عليه وسلم حينما قرب ذلك بمثالٍ قريبٍ يعني يعرف الناس به حقيقة المسائل.
هنا أيضًا لما قال: «كالراعي يرعى حول الحمى، يوشك أن يرتع فيه»، فيه إشارةٌ إلى أنه مهما كانت حاجة الإنسان إلى مثل هذه الأمور، فإن الراعي محتاجٌ إلى أن يرعى غنمه، وإن يأتي على الشيء الذي يكون فيه شبعها، وملء بطونها، فمهما كانت حاجته، إلا أنه يجب عليه أن يقصر، ومهما اشتد عليه الدافع والحامل إلا أنه يجب أن يقصر، وفيه إشارةٌ إلى ما يتعلق بالمجاهدة.
وذكر أهل العلم هنا أنهم لما تكلموا على الشبهات، وأن الشبهات هي التردد بين الحلال والحرام، ذكروا مسألةً تتعلق بأصول الفقه، وهي هل الصواب واحدٌ، والحق واحدٌ، أو هو متعددٌ؟ هو كما يقول الجماهير ويقول أهل العلم وأهل التحقيق: أن الحق واحدٌ، وأن المصيب واحدٌ، وما يخالفه إما مخطئٌ معذورٌ، وإما مخطئٌ غير معذورٍ، وإلا لو كان القول إذا اجتهد الإنسان ولم يصب الحق كان مصيبًا، ما كان فيه شبهاتٌ، ما وقع في الشبهات.
يتكلم أهل العلم أيضًا في المسائل أو من أهم المسائل التي يتكلمون فيها، مسألة اختلاط الأموال، هم ذكروا مسائل كثيرةً من مسائل الاشتباه، لكن لعلنا نقتصر على هذه المسألة لأهميتها.
إذا اختلط مال شخصٍ حلاله بحرامه، فهل يكون ذلك مما يتقى أو لا؟
تكلم أهل العلم فيها كمثالٍ من الأمثلة التي يكثر وقوعها في المشتبهات، فقالوا: لا يخلوا إما أن يكون أولا: يعطيك من عين المال الحرام فهذا يُتقى، وإما أن يكون ماله جميعًا حرامًا، فهذا أيضًا يُتقى، فإن كان دون هذين الحالين، فلا يخلو إما أن يكون مما لا يدرى قليله أو كثيره، أو أن الحرام فيه قليلٌ، فهذا يقولون لا يُتقى ولا إشكال في ذلك، ولهذا جاء عن السلف الأخذ من أعطيات السلاطين وكان بعض السلاطين ربما ظلم، وأخذ الشيء على غير وجهه، ونحو ذلك من الأمور، أو أعطاه في غير وجهه، وتصرف على خلاف المصلحة فهذا معروفٌ في التاريخ
في التاريخ على اختلاف العصور والأزمان، وذكروا لذلك أمثلةً أخرى، أو أنه لا يدرى كثير الحلال من الحرام، فالأصل هو الحلال ولا يجب على الإنسان أن يتقيه، وإن كره بعض السلف مواقعة ذلك والأخذ منه، لكن إذا كثر فجاء عن أحمد كراهية الأخذ منه، والكراهية تشير من جهة الأصل إلى الحل والإباحة، لماذا؟ لأنه لم يتمحض في الحرام، فلما لم يتمحض في الحرام فإنه لا يكون على الإنسان في ذلك غضاضةٌ إذا أخذ منه، فينبغي التنبه لذلك، لأن بعض الناس يغلظ على غيره إما قريبٌ أو صديقٌ أو جارٌ أو نحو ذلك إذا اختلط حرامه بحلاله، ولأنه خاصةً في هذه الأزمنة التي كثر فيها تعاطي الحرام، مصيبةٌ وبليةٌ كبرى لا يستطيع كل أحدٍ أن يتخلص منها أو يتورع عنها، مع أن الإنسان متى طلب لنفسه النجاة والسلامة، فلا شك أن ذلك خيرًا له ومن يقدر على ذلك.
ثم يقول المؤلف -رحمه الله: يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «ألا وأن لكل ملكٍ حمى ألا وأن حمى الله محارمه» وهذا قد جاء في كتاب الله نصًا ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَ﴾ [البقرة: 229]، ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَ﴾ [البقرة: 187] آيتان من آيات الله -جلَّ وعلَا- تدل على عدم مواقعتها، وعدم قربانها وهو أبلغ من فعلها، «ألا وأن في الجسد مضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب»، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «لن يستقيم إيمان عبدٍ حتى يستقيم قلبه», وكما جاء في الأثر أن الجوارح تدعو القلب، فتقول إنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا، وإلى غير ذلك، ومناسبة ذكر هذه الجملة في هذا الحديث ظاهرةٌ من حيث أن كثيرًا من الوقوع في الشبهات إنما مبدأه ميل القلب وانحرافه، وهو الإشارة إلى أسباب الوقوع في الشبهات، فأولها وأعظمها وأشدها الهوى، فإذا انطوى القلب على الهوى والميل وإرادة الشهوة، فيحسن الإنسان لنفسه حتى يرى أن ذلك حلالًا وهو ليس بحلالٍ، أو أنه قال به من قال من أهل العلم أو أنه لم يتمحض بالحرام فيواقعه فلا يزال كذلك حتى يقع في الشرور كلها.
وأيضًا تتمة لهذه التي ذكرها المؤلف مما ذكروه أيضًا من أسباب الوقوع في الشبهات، قلة العلم وقلة أيضًا التأمل والتدرك والتدبر، فإن من الناس من يتوقع في أمور دنياه وفي أموره الصحية، وفيما يتعاطاه في أمور معاملاته وغيرها، غير أنه أيسر وأسهل ما يكون في أمور دينه، ولذلك تجد على سبيل المثال مثالٌ واحدٌ في الحج، تجد أن الإنسان ربما أتعب نفسه حتى يبلغ بيت الله الحرام، فإذا بلغه فإذا هو لا يعرف الأحكام وأسهل ما عليه أن يسأل هذا الذي هو أكثر الناس جهالةً، بل لو رأى من عموم الناس وجهالتهم من يقول فيفعل فعلًا بأنه سنةٌ فعلها.. وهذا يدل على أن الإنسان مفرطٌ في هذا تفريطًا كثيرًا.
هذا الحديث كما قلنا هو حديثٌ عظيمٌ وكتابه من أعظم ما فيه من الدلالة، وهو الحرص على صلاح القلب، وهو أصل صلاح الإنسان واستقامته وقيام دينه، فينبغي للإنسان أن يعكف على قلبه تصفيةً وإخلاصًا، صلاحًا وتوجهًا وقصدًا إلى الله -سبحانه وتعالى- ليحصل له بذلك بإذن الله -جلَّ وعلَا- الخير في الدنيا والآخرة، هذا يعني جملةٌ من المسائل التي أردنا الوقوف عليها أو الإشارة إليها على شيءٍ من الاختصار والإجمال، لعل فيها نفعًا وكفايةً في هذا الحديث، وننتقل إلى الحديث الذي يليه.
{قال -رحمه الله: الحديث السابع، عن أبي رقية تميم بن أوس الداري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» رواه مسلم}.
ما أعظم هذا الحديث مع اختصار لفظه وقلة معانيه إلا أنه حديثٌ عظيمٌ لا يستغني عنه مسلمٌ من المسلمين، ولذلك أيضًا ذكر بعض أهل العلم أن هذا رابع الأحاديث الأربعة التي يدور عليها الإسلام، ولذلك لما قال: «الدين النصيحة» فجعل الدين كله متعلقًا بالنصيحة، وكما يقول ابن رجب يعني أساسه وأصله النصيحة، وإذا جمعنا له الحديث الذي درسناه «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» فمعنى ما ذكره في هذا الحديث من الإسلام والإيمان والإحسان هو داخلٌ أيضًا في هذا الحديث، وهو النصيحة.
أبو رقية أو ما ذكره عن أبي رقية تميم بن أوس الداري، هو من عُبَّاد الصحابة، ولذلك ذكر أنه كان يقوم بآية الليل كله حتى بكى بكاءً كثيرًا وهي قول الله -جلَّ وعلَا- ﴿حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ [الجاثية: 21] وذكر أنه أيضًا من أول أسرج المسجد، كما ذكر ذلك في سيرته -رضي الله تعالى عنه وأرضاه-، وأيضًا قالوا هو أول من قص، أي: أتى بالقصص التي تحيي القلوب، وكان قد استأذن عمر فيها، والقصص من حيث هو القصاص جاء عند بعض السلف ذمهم، وليس المقصود بذلك على الإطلاق وإنما المقصود الذنب الذي يتعلق بمن أوغلوا في الحكايات المكذوبة أو الأشياء التي لا يعتمد عليها، مما يكون فيها سبب إدخال الجهالات والضلالات على الناس.
إذا أردنا أن نقف مع هذا الحديث، فهذا الحديث يتعلق بنصائح العباد الدينية والدنيوية، وفيه ما يتعلق بأمور العبادات والمعاملات، وأمور الناس في اجتماعاتهم، وما يكون بهم صلاحهم في علومهم وغيرها، لا ينفك شيءٌ من الأمور والأبواب إلا ويدخله هذا الحديث، وما أحدٌ طلب هذا الحديث في بابٍ من الأبواب، حتى جعل الله -جلَّ وعلَا- له باب التوفيق والهداية، أن الإنسان لا يخلو من أمرٍ من أمور دينه ودنياه، فيكون ناصحًا لغيره ويكون خير ناصحًا له، فكم يكون للناس من الكمالات، وكم يستدركون من الخلل، وكم يذهب عليهم من النقص، وكم يحصل لهم من الخير.
فهذا حديثٌ عظيمٌ، وإذا كان الأمر كذلك، فلأجل هذا كان الصحابة أعظم ما يكونون اعتبارًا بهذا الحديث عنايةً به والتزامًا به، حتى أنه أحدهم ربما باع البيعة فينصح للمشتري بما يكون فيه إضرارٌ به في ظاهر الأمر، وإن كان ذلك حقيقته صلاح دينه وبركة دنياه، فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما.
لما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة»، يقولون: من نصح فهو ناصحٌ، يقال: عسلٌ ناصحٌ، وهو الخالص من الشوائب، ويقال أيضًا: النصح والناصح من التآم الشيئين وهو اكتمالهما، ولذلك يسمون الخياط أحيانًا ناصحًا؛ لأنه يجمع الثوب ويخيطه البز ونحوه، هذا من جهة أصل هذه الكلمة، فإذا قلنا: إنه خالصٌ من الشوائب تعرف أن النصح هو خلوصٌ من الشوائب، ولأجل ذلك من أحسن من عرف النصيحة أبو عمر بن الصلاح، كما نقل ذلك الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- فقال: هي كلمةٌ جامعةٌ تدل على قيام الناصح للمنصوح بوجوه الخير إرادةً وفعلًا، وجوه الخير كلها سواءً كان ذلك ما يتعلق بعبادة المرء أو معاملاته، أموره الدينية أو أموره الدنيوية الخاصة أو العامة، كل ذلك داخلٌ فيه، فهي من أعظم ما جاء تفسير النصيحة.
وهنا إشارةٌ إلى أنه يكثر في هذه الأزمنة الكلام على النقد والناقد، وهذا ناقدٌ وإعلاميٌّ ناقدٌ ونحو ذلك، لم يأتِ في الشريعة هذا اللفظ البتة، النقد والناقد، لأن النقد أقل وأنقص من النصيحة، النقد هو إبانة الخطأ، وإبانة الخطأ في الشرع ليست مطلوبةً، إنما المطلوب تصحيح الخطأ، ولذلك عبر بالنصيحة، كما أن لفظ النصيحة فيه معنى للمحبة والشفقة وإرادة الخير للمنصوح، ولذلك كان هذا أعظم ما عبر أو جاء به التعبير وهو التعبير النبوي «الدين النصيحة»، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله»، وفي هذا إشارةٌ إلى أنه ينبغي للإنسان أن يسأل عما يعنيه وعما يكون به تحصيل الخير له، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: «لله» النصيحة لله، كيف تكون النصيحة لله؟ النصيحة لله بأن يعطى الله -جلَّ وعلَا- حقه، وأوجب ما أوجب الله على عباده من الحق هو توحيده والإيمان به، وتحقيق ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، فلأجل ذلك كانت العناية بتوحيد الله -سبحانه وتعالى- أوجب ما تكون على المكلفين، وأول ما تكون على المؤمنين، وينبغي أن تشغل بذلك الخطب والمحاضرات والندوات والقنوات وكل الاجتماعات، وأن يتعلم الناس ما يكون به صلاح دينهم، لأن ذلك من النصيحة لله، والنصيحة لله -جلَّ وعلَا- هنا فيما يتعلق بحق الله الواجب واجبةٌ، ولا يسع الناس تركها أو التخلف عنها أو التقاصر فيها، ومن النصيحة لله أيضًا للموحدين أن يدعوا إلى توحيد الله، وأن يكملوا ذلك في عباد الله -جلَّ وعلَا- وأن لا يتقاصروا عن هذا الباب، وأن يؤدوه طلبًا للأجر والثواب من الله -جلَّ وعلَا- ودعوةً إلى الله لا إلى أنفسهم ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108]، وتمام النصيحة لله النصيحة المستحبة وذلك إيثار الأمور التي أمر الله -جلَّ وعلَا- استحبابَا على حظوظ النفس وشهواتها، أما يكون مثلًا من قيام الليل فهو أمرٌ مستحبٌ، لكنه من نصح الإنسان لنفسه أن يقوم بحق الله -جلَّ وعلَا- في ذلك، وهو تمام النصح لله.
قال: «لله ولكتابه»، كتاب الله -جلَّ وعلَا- الذي هو القرآن، وهو كلامه الذي تكلم به كلامًا يليق بجلال الله -جلَّ وعلَا- لا نحرف ولا نعطي ولا نكيف ولا نمثل ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11] فنؤمن به كما ذكر الله -جلَّ وعلَا- في كتابه أنه تكلم به وأنه يتكلم ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمً﴾ [النساء: 164] فنؤمن بذلك، ثم نؤمن بأن هذا القرآن حاكمٌ على الكتب التي قبله، كما قال الله -سبحانه: ﴿وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ [المائدة: 48] وهو ناسخٌ له، فيجب على العباد نصحًا لكتاب الله أن يؤمنوا به على هذا الوجه، ويعظموه ويوقروه وأن يجعلوه حاكمًا على الكتب كلها، فإليه يتراجعون ويتحاكمون ويأتمرون، يصدقون أخباره، يمتثلون بما فيه من أوامر، وينتهون عن ما فيه من الزواجر، ويتعظون بكتاب الله -جلَّ وعلَا- وتمام ذلك ما يحصل من طلب الشفاء بكتاب الله من الرقية وغيرها، وعدم هجره والقيام بتلاوته، وإظهاره، وتمام ذلك أيضًا تعليمه ونشره بين الناس، ودعوة الناس إليه، فكل ذلك من النصح لكتاب الله -جلَّ وعلَا-، فهنيئًا لمن كان ناصحًا لكتاب الله، وهنيئًا لمن بلغ هذه الدرجة وملأ بذلك أحواله وأيامه، ولقي الله على ذلك، والنصح للرسول كالنصح لكتابه بالقيام بحق النبي -صلى الله عليه وسلم-، وأول وأوجب ما يكون في النصح هو شهادة أن محمدًا رسول الله، وتحقيقها بالإيمان برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنه ناسخٌ للشرائع قبلها، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لا يسمع بمقالتي هذه يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ ثم لا يؤمن بي، إلا كان خالدًا في النار» كما روى ذلك مسلم في صحيحه، ثم يتبع ذلك ما يكون من أيضًا تصديق أخباره والإيمان به، واتباع أوامره واجتناب نواهيه وزواجره، وتمام ذلك أيضًا اتباع سنته، دعوة الناس إليها، حفظها، نقلها، نشرها، منع البدع والمحدثات، لأن ذلك تنقل للنصحية لله والنصيحة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر باتباعه والاقتداء بسنته وترك البدع والمحدثات، على ما مر بنا، وسيأتي الإشارة إلى ذلك لاحقًا.
قال: «ولأئمة المسلمين وعامتهم» ، النصيحة لأئمة المسلمين أيضًا هذه من المسائل التي جعلها النبي -صلى الله عليه وسلم- بها قوام الدين، فمن النصيحة لأئمة المسلمين، من هم أئمة المسلمين؟ أئمة المسلمين كما نصَّ كثيرٌ من شراح الحديث هم ولاته، وذكر بعضهم أنهم الولاة والعلماء الذين يلون أمر الناس ويقومون عليهم، ولا شك أن دخول الولاة في ذلك دخولًا أوليًّا ودخولًا أصليًّا، والنصح لأئمة المسلمين يتعلق في ذلك أولًا بالسمع والطاعة، وأول وأكبر ما يفرق أهل السنة عن غيرهم أنهم متبعون، مهتدون، سامعون، مطيعون لولاة المسلمين على ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، لا يخرجون ولا يراؤون ولا يظاهرون الأئمة ويخالفونهم، وذلك لما يتعلق بذلك من المصالح ولما جاءت بذلك من الأدلة والسنن، وتكاثرت بذلك النصوص، ولذلك كان هذا من جملة ما جاء به أهل السنة في كتبهم.
ومن ذلك أيضًا من النصح لأئمة المسلمين، معاونتهم على الحق وتذكيرهم به، والتنبيه على ما أغفلوه، ونصحهم فيه، ولذلك ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب امرئٍ مسلم: الإيمان بالله ومناصحة من ولاه الله أمركم، ولزوم جماعة المسلمين، وتأملوا النصح، ولزوم الجماعة، أن النصح لا ينبغي أن يكون بما فيه تفريق الناس وتأليبهم على الولاة وخروجهم عليهم، فعندنا النصح وعندنا حفظ الجماعة، ولما كان النصح لا يتأتى إلا بحفظ الجماعة، وأن النصح مع تخريب الجماعة هو ذهابٌ للنصح، وذهابٌ للجماعة كلها، فإنه ينبغي إذا تعارضا أن يُغلَّب جانب حفظ الجماعة، ولأجل ذلك لما تكلم أهل العلم في الإسرار بالنصيحة لولي الأمر، ماذا قصدوا بذلك؟
لم يقصدوا بذلك حفظ شخصه، أو لمصلحةٍ، أو يطلبون منه دنيا، أكثر من نصح للأئمة المسلمين هم أبعد الناس عن أمور دنياهم، ومع ذلك ينصحون الناس بذلك، حتى إن الإمام أحمد، الذي جُلد بيد السلطان، وعُذب، كان أكثر الناس أمرًا للاستقامة على أمر السلطان، وعدم الخروج عليه، لما يتعلق بذلك من المصلحة، ولذلك لما قالوا لأسامة: ألا تدخل على عثمان فتنصحه؟ قال: أترون أني إذا نصحته أسمعكم؟ لو أسمعتكم لانفتح بذلك بابٌ، وإني لا أحب أن أكون أول من فتحه. يعرف أنه ينفتح بذلك باب الشر، على المسلمين، وفي هذا جاء الحديث: «فلا يدخل على السلطان علانيةً، فليكن بينه وبينه، فإن قبل منه، وإلا فقد أدى ما عليه»، وإن تُكلم في هذا الحديث، إلا أن معناه صحيحٌ، وجاء عن ابن عباس: إن كنت ولابد فاعلًا، فبينك وبينه، لماذا؟ لئلا تسقط هيبة ولي الأمر، ولئلا يخرج العوام، فيفهموا ذلك أنه مناوئةٌ له، فيكون بذلك فسادٌ عظيمٌ.
ولذلك من الكلام الذي يذكره أهل السنة، وهي كلمةٌ لطيفةٌ، يقولون: الأئمة لهم ذنوبٌ كالجبال، ولهم حسناتٌ كالليل، إذا جاء الليل غطى الجبال، فهذا مما يحفظون به جماعة المسلمين، يقولون هذا الكلام حتى لا تتغيظ القلوب إذا رأوا بعض الأخطاء والمنكرات، إذا لم تبلغ الكفر البواح، وتحقق الشرطان، وما يحصل تبعًا لذلك.
ولأجل هذا ترون أنه ما حصلت منافرة للسلطان وخروج عليه، إلا كان بسبب ذلك البلاء العظيم، ولذلك أهل السنة في فتنة ابن الأشعث، لما خرجوا على الحجاج، الذي قتل في ذلك اليوم، أعظم ممن قتلهم الحجاج في كل ولايته.
قال: ولأئمة المسلمين، ويدخل في ذلك كما قلنا أهل العلم، والنصح لهم بمعرفة قدرهم، وتوقيرهم، وتبجيلهم، وما يكون أيضًا من الاقتداء بهم، والأخذ عنهم، وحفظ علومهم، ونشرها، وما يعلق بذلك مما يكون فيه الخير والصلاح.
ومن أعظم ذلك أيضًا دمح زلتهم، وعدم إشهار عثرتهم، وأعظم من ذلك أن يتكلم فيهم، لحوم العلوم مسمومةٌ، فمن أراد نقص إيمانه، وحصول السلب في قلبه، فليتصور على ذلك، ولأجل هذا قال ابن المبارك: ومن تكلم في العلماء ذهبت آخرته؛ لقربهم من الله -جلَّ وعلَا- ولفضلهم.
أما التنبيه على الأخطاء، فإذا كان ذلك مما يتعلق بالناس، فإنه ينبه على خطئه، والحق أحق أن يتبع، وهذا من النصيحة لله ولرسوله، وأما إذا كان مما يتعلق به، فإن النصح ينبغي أن يتوجه إليه، وألا تشاع له العثرة، وألا ينقص في قلوب العامة؛ لئلا يكون بذلك سبب شرٍّ كبيرٍ، وبلاءٍ كثيرٍ.
هذه المسألة الحقيقة من المسائل التي ينبغي للإنسان أن يتوقى ويرجع، وأن يحفظ نفسه من القول، حتى يعلم أنه لائقٌ به؛ لأنه من المسائل التي كثر فيها الولوغ، وتكلم فيها الأحداث، ودخل فيها الصغار، وأدخلوا فيها ما ليس منها، حتى حصل بذلك البلاء والشر.
قال: "ولأئمة المسلمين وعامتهم"، النصح لعامة المسلمين، ولذلك جاء في حديث جرير، قال: بايعتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام، والنصح لكل مسلمٍ، وإذا استنصحك فانصح له، فينبغي للمسلم أن ينصح المسلم في كل الأمور، ومن النصح للمسلمين القيام على مصالحهم، حفظ ما أُسند إليك من ولاياتهم، أن يُسعى في ما يتعلق بمرافقهم، من أفسد على المسلمين مكانًا، أو طريقًا، أو بابًا، أو أجرى فيه شرًا، أو مثلًا أظهر فيه سوءًا أو ترك فيه قمامةً، فذلك من عدم النصح للمسلمين.
أيضًا من وقع في خطأٍ، من وقع في شرٍّ، من قصر في طاعةٍ، من قارف سيئةً، فإن النصح له يجب أن يُبذل.
فإذن النصح لعامة المسلمين في الأمور كلها، وكلما كان أقرب إليه لجوارٍ، أو لقربةٍ، أو لمصاهرةٍ، أو لغير ذلك، كان ذلك أحق وألزم.
ومتى تكون النصيحة واجبةً؟ ومتى لا تكون واجبةً؟
النصيحة مشروعةٌ بلا شكٍّ، وتتعين عليك إذا كان لا يقوم بها غيرك، أو لا يوجد من يحسنها، أما إذا قام بها فهي من فروض الكفايات التي حصل بها المقصود. فينبغي للإنسان أن يكون أكثر سعيًا إلى تحقيقها، وإذا قُوم بها فلا تنزل عن درجة الاستحباب والسنية؛ لأن ذلك من باب التعاون على البر والتقوى.
مسائل النصح الحقيقة من المسائل التي غابت عند كثيرٍ من الناس، ولما غاب النصح حصل أنواعٌ من البلاء؛ لأنه بغياب النصح غابت الشفقة والمحبة، وطلب الخير للغير، ونحو ذلك، ففشا عند الناس الغيبة، والنميمة، والفحش، والانتقاص، وسماتٌ كثيرةٌ، ثم بعد ذلك تبعه التفرق، والتباعد، والتناحر، والخصومات وغيرها. فلذلك ينبغي للإنسان أن يُكثر الشفقة على الناس والنصح لهم فإن ذلك سبب خيرٍ كثيرٍ، والجزاء من جنس العمل، فإن من أحسن إلى الناس ونصحهم، يوشك أن ينصحه في حالٍ يحب أن ينصح فيها، ويستدرك فيها ما يكون من نقص دينه أو دنياه.
هذه إشارةٌ أيضًا لطيفةٌ فيما يتعلق بهذا الحديث، لعلنا على وجه السرعة ننتقل إلى الحديث الذي بعده، ولو أن نقرأه قراءةً، ثم نتمه في المجلس القادم -بإذن الله.

{قال -رحمه الله: (الحديث الثامن: عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «أمرتُ أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى» رواه البخاري ومسلم)}.
الحقيقة كنا نحب أن ندلف في هذا الحديث، لكن لم يزل الإخوة يشيرون من أنه لم يبق من الوقت إلا قليلٌ، فعلى كل حالٍ، هذا أيضًا هو الحديث الثامن، وهو من الأحاديث العظيمة، وحديثٌ جليلٌ، وفيه إشارةٌ مهمةٌ إلى مسألةٍ، وهي عظم أمر الإيمان بالله -جلَّ وعلَا- حتى أنه تستباح به الدماء، وتزهق فيه الأرواح، لماذا؟ تحصيلًا لهذه المصلحة الكبرى، وهو الإيمان بالله -جلَّ وعلَا-، وأيضًا فيه إشارةٌ إلى الغاية التي لأجلها خُلق الخلق، فإنهم خلقوا لعبادة الله، فمن لم يحقق عبادة الله -جلَّ وعلَا- فإنه قد ذهبت عصمة نفسه، فإن الله -جلَّ وعلَا- قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56] فمن لم يعبد الله ولم يتوجه إلى الله -جلَّ وعلَا- ذهبتْ عصمة نفسه، وحل إزهاقها، على الوجه الذي سيأتي البيان عليه، على ما سنذكر -بإذن الله جلَّ وعلَا- في مسائل هذا الحديث.
يصعب علينا أن ندخل في مسائل، وقد يكون في ذلك قطعٌ لها؛ لأن الوقت قد أزف، لعل فيما ذكرناه كفايةٌ، ولعل فيما شرحناه -بإذن الله جلَّ وعلَا- نفع وفائدة، وإن لم يكن به تمامٌ وكمالٌ، والله المستعان.
أسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يتم علينا وعليكم الخير والهدى، وأن يبلغنا وإياكم البر والتقى، وأن يجعلنا وإياكم هداةً مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، وأن يجعلنا أكثر ما نكون استقامةً على أمر الله، وتمسكًا بالحلال البين، وبعدًا عن الحرام والمشتبهات، ونصحًا لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وأن يجعلنا على ذلك نحيا، وعليه نموت، ونسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يغفر لنا ولوالدينا، ولأزواجنا وذرياتنا والمسلمين، وأن يصلح ضال المسلمين، وأن يوفق ولاة الأمور لما فيه خير الدين والدنيا، إن ربنا جوادٌ كريمٌ، كما نسأل الله أن يجزي خيرًا من كان سببًا لهذه اللقاءات وهذه المجالس النافعات بإذن الله، والله -تعالى- الموفق، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك