الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

8544 13
الدرس الرابع

الأربعون النووية

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
الحمد لله أفضل ما ينبغي أن يُحمد، وصلى الله وسلم على أفضل المصطفين محمدٍ، وعلى آله وأصحابه ومن تعبد.
أيها الإخوة! نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يتم علينا نعمته، وأن يبلغنا طاعته، وأن يزيدنا من العلم والهدى، والبر والتقى، وأن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم، وأن يديم علينا العلم، والتوفيق له، والترقي في درجاته، والوصول إلى غاياته، وأن يعقبنا العمل، والتعليم، والهدى فيه إن ربنا جوادٌ كريمٌ.
أيها الإخوة! حضرتم في هذا المجلس، أو استمعتم أمام الشاشات، فهي سلسلة من هذه المدارس والمجالس، التي يُبنى فيها العلم، ويؤسس فيها قول الله -جلَّ وعلَا- أو يدرَّس فيها قول الله -جلَّ وعلَا- وقول رسوله -صلى الله عليه وسلم، بما يكون -بإذن الله جلَّ وعلَا- فيه نفع لنا جميعًا، فهنيئًا لمن انضم إلى هذه الكوكبة، وهنيئًا لمن دخل في هذا الميدان، ولمن تبنى هذا اللواء فرفعه، وتحمل تبعته، وأنفق وقته فيه، وتعاهد مجالسه، يطلب ما عند الله -سبحانه وتعالى، لا يطلب في ذلك تزودًا في الدنيا، ولا تكثرًا من الأمور، ولا تشهيًّا كما يذهب أهل القنوات والشاشات إلى ما يضحكون أو يسخرون به، أو يضيعون به الأوقات، أو يكون فيه بلاءٌ في دينهم أو دنياهم، نسأل الله السلامة والعافية.
تعرفون أننا الحمد لله أنهينا ثلاثة أحاديث، وإن كنا بودنا الحقيقة أن نأتي على الأحاديث على وجهٍ أسرع، لكن لما كانت هذه الأحاديث التي ذكرها المؤلف -رحمه الله تعالى- في هذه الأربعين، في بداياتها من أهم الأحاديث، كان الوقوف عليها، أو تفصيل بعض المسائل فيها مما يستوجب علينا الوقوف، ولو أمضينا بعض الوقت، أو أسهبنا في بعض الشرح، لكن لعله فيما يأتي من المجالس القادمة -إن شاء الله- أن يكون ذلك أقل شرحًا، أو أكثر اختصارًا، والله الموفق.
لعلنا وصلنا إلى الحديث الرابع، ونستهله كالعادة في قراءةٍ نسمعها جميعًا، ثم نعود إلى بعض التعليقات المتعلقة بهذا الحديث.

{الحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن والاه.
اللهم اغفر لنا، ولشيخنا، وللحاضرين، والمشاهدين، وجميع المسلمين.
قال النووي رحمه الله: (الحديث الرابع: عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، قال: حدثنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو الصادق المصدوق: «إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفةً، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يُرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلماتٍ: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيٌّ أم سعيدٌ، فوالله الذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ فيسق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخله»، رواه البخاري ومسلم)}.
هذا الحديث، وهو حديث عبد الله بن مسعود حديثٌ عظيمٌ، رضي الله تعالى عن عبد الله وأرضاه، وعن سائر أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وهو ممن أسلم قديمًا، وكان سبب إسلامه، لما كان راعيًا، وجاء إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- وطلبه أن يحلب لهم، فقال: إنه مؤتمنٌ عليه، طلب منه أن يأتي بما لم تلد أولًا، ثم لما مسح عليها النبي -صلى الله عليه وسلم- در لبنها، فحلب منها النبي -صلى الله عليه وسلم، ثم سقى وشرب، ثم مسح عليها فعادت كما كانت، فكان ذلك سبب إسلام عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه وأرضاه.
وهذا الحديث الذي حدث به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونقله عبد الله، هو من الأحاديث العظيمة، ويشتمل على مهماتٍ من المسائل، تتعلق بمسائل الإيمان، منها الإيمان بالغيب، والإيمان بالقدر، والإيمان بالملائكة، ووظائفهم، وإرسال الله -جلَّ وعلَا- لهم، وما يقومون به من الأعمال والوظائف، وفيها الإيمان باليوم الآخر، وفيها الإيمان بعلم الله الثابت وبكتابته، وأيضًا خلقه للخلائق، وتكوينه للعباد، كل ذلك مما جاءت به أو جاء في هذا الحديث، أيضًا ما يكون من أحوال الجنة والنار واليوم الآخر، وتفاصيل المسائل المتعلقة بذلك.
كما أنَّ في هذا الحديث إشارةً إلى مسألةٍ عجيبةٍ، ولأجلها ذكر أن عبد الله بن مسعود قال: "وهو الصادق المصدوق"، وهي كلمةٌ عظيمةٌ تدل على أصلٍ كبيرٍ في تسليم الصحابة وانقيادهم، وقبولهم ما جاء عن النبي -صلى الله عليه وسلم، سواءً كان في ذلك ما استوعبته قلوبهم وقرب من نفوسهم، وكان مما يألفونه في حياتهم، أو كان ذلك مما لا يمكن تصوره عندهم، ومع ذلك فإنهم يؤمنون ويصدقون، ولذلك لما كان ذكره لأحوال الجنين وتنقلاته في رحم الأم، حيث لا يدري بذلك من هو مثلهم، ولم يكونوا يألفون مثل ذلك العلم، ولم يكن ذلك من اليسر والسهولة للإطلاع عليه، ومع ذلك أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- قال وهو الصادق المصدوق، مثل هذا لما جيء إلى أبي بكر وقيل إن صاحبك قال إنه قد ذهب إلى بيت المقدس وعاد في ليلةٍ، أتصدقه في ذلك وكأنهم أرادوا بهذا أن يمتحنوا أبا بكر الصديق ويظهروا بذلك ما يمكن أن يكذب به رسول الله، قال: أصدقه في خبر السماء، أفلا أصدقه في خبر الأرض!
فإذا كان ما يأتيه من الله -جلَّ وعلَا- يصدقه فيه وهو أكبر وأعظم وأجل، وما يترتب عليه من أمر الدنيا والدين، والدنيا والآخرة، يصدقه فيه، فلا شك أن ذلك أعظم، فتصديقه لما هو دونه جارٍ ولا شك، ولهذا قال: "وهو الصادق"، أي: هو صادقٌ فيما أخبر به، حتى لو أعيا عقولنا أن تدرك ذلك، أو أن تحيط به، أو أن تعرفه، أو أن يكون له أصلٌ في علومهم أو ما تلقوه من آبائهم، أو غير ذلك مما ألفوه.
أيضًا في هذا إشارةٌ إلى معجزةٍ من معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم، فأي شيءٍ أعظم من أن يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بتفاصيل ما يكون في رحم المرأة، وفي جوفها، وفي بطنها، من تحركات الجنين وتنقلاته، وتحولاته، كل ذلك مما لا يدرك بمجرد النظر ولا بالرؤية ولا غير ذلك؛ لأنه خَافٍ علينا وهو في جوف المرأة، ومع ذلك لما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتلقى خبر السماء، ويأتيه الأمر من الله -جلَّ وعلَا- ويوحى إليه ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 4] كان إخباره دقيقًا، وقد ذكر في ذلك تفصيلًا على وجهٍ، لما تجدد من أمور الطب والآلات والمخترعات ونحو ذلك، لم تكد تزد على ما جاء به النبي -صلى الله عليه وسلم.
هذا خبره في حديث بن عبد الله بن مسعود، وقد جاء نحو من ذلك في كثيرٍ من آيات الله -جلَّ وعلَا- في كتابه ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: 12 - 14]، ونحو ذلك جاء في سورة الحج، وجاء أيضًا في سورة المرسلات، وجاء في غير آيةٍ من كتاب الله -جلَّ وعلا، ففي هذا من أعظم معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم، ولذلك إذا تحدثت إلى بعض الكفرة وغيرهم مما لا يؤمنون بالله، ولا يؤمنون برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكرت أنه أخبر بنحوٍ من ذلك على نحو ما جاء بالطب، فإن هذا من أعظم ما يكون استجلابًا لهم، وإيذانًا بتغير نظرهم، وزيادة تأملهم في هذا الدين، وما جاء في تفصيلاتهم وأحكامه، وما جاء من مسائله ودلالاته التي هي فيها صلاح العباد في الحال وفي المعاد.
نسأل الله أن يشرح صدورنا، وأن يزيدنا من العلم والهدى.
كما قلنا أيضًا تصديق الصحابة هذا أمرٌ ظاهرٌ، ولذلك قال في الحديث: "وهو الصادق المصدوق"، وهنا أريد أن أقف وقفةً، وهو أنه ينبغي لطالب العلم وللخطيب أن يستهل الحديث بما يناسبه، فلما كان ذلك الحديث من أمور الخير والتي يند عن الأذهان معرفتها، وسهولة تلقيها والاستسلام لها، فإن عبد الله بن مسعود قدم بهذه المقدمة، قال: وهو الصادق المصدوق، حتى تذعن لذلك القلوب وتتلقاه بدون ما شكٍّ ولا حيرةٍ ولا ريبٍ ولا تغيرٍ، وهذا مما ينبغي لطالب العلم في مقدمات دروسه ومجالسه وخطبه، ومواعظه، بما يناسب الحال.
وإذا أردنا أن نقف مع بعض الألفاظ التي جاءت في الحديث، قال: «إن أحدكم يجمع خلقه» وهذا فيه إشارةٌ إلى أن مبدأ الخلق هو ما يقذفه الرجل في رحم المرأة، وما ينتج عن ذلك بعده من تنقلاتٍ وأطوارٍ للحمل والجنين، ثم قال: «خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفةً»، وهذا يعني: نطفةً التي هي نطفة المني، ولذلك يقولون: إنها لا تتغير في هذه الأربعين في الغالب، وتبقى كما كانت، ثم بعد الأربعين تتحول إلى دمٍ متجمدٍ، وهو العلقة، ثم بعد الأربعين تكون مُضغةً، مضغة لحمٍ، اللحم لو رأيتم إذا أخذ الإنسان قطعة لحمٍ فمضغها، كيف تكون؟
فكذلك تكون العلقة إذا وصلت إلى هذه المدة أو الأربعين الثالثة التي تنتقل بها إلى مضغةٍ.
ثم بعد ذلك جاء في الحديث أنه يرسل الملك، فينفخ فيه الروح، والروح معلومٌ أنها من عجائب ما جعل الله -جلَّ وعلَا- في هذه الأكوان، وهي مما اختلف فيه كثيرٌ من العلماء أو الفلاسفة، ومن تكلم على غير أصلٍ، لذلك كان من أعظم ما حيَّر اليهود لما سألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- كان الجواب من عند الله ﴿يسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلً﴾ [الإسراء: 85]، فما أعظم هذا الجواب الذي هو جوابٌ في كتاب الله -جلَّ وعلَا، وآيةٌ من آيات الله تتلى إلى يوم القيامة.
إذا تكلمنا عن نفخ الروح في الجنين، فقد جاء في هذا الحديث أنها تكون بعد أربعة أشهرٍ، وللسلف في ذلك أقاويل كثيرةٌ وخلافاتٌ بناءً على ما جاء في هذا الحديث، لكن هذا الحديث صريحٌ في ذلك، ظاهرٌ فيه ما جاء في الأحاديث أنه يتقدم ذلك بقليلٍ، فبعضها قد يقال: إنه يحصل فيه شيءٌ من التفاوت، ومنه من يقول: إن العمدة على ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود، وجاءت من الأحاديث المتابعة له، فتدل على أن ذلك هو الأمر المرجح أو الأمر الذي يمكن أن يقطع به ويتعلق به الحكم، ولأن نفخ الروح يتعلق به أحكامٌ، وذلك أنه إذا نفخ الروح في الجنين، فإنه إذا مات فإنه يغسل ويصلى عليه ويدفن، كما أنه أيضًا يكون له من الأحكام المتعلقة بذلك أنه لو جُني على المرأة في حملها، فأسقطت بعد نفخ الروح، فإنه يكون ممن تعتبر جنايةً موجبةً للدية، أما ما قبل نفخ الروح، فهل لهذه النطفة أو لهذه العلقة أو هذه المضغة حرمةٌ أو لا حرمة لها؟ هذا مما جاء فيه خلافٌ، فكما قلنا أجمع أهل العلم أنه بعد نفخ الروح التي هي مائة وعشرين يومًا، فهذه لا يجوز أن يُعتدى عليها، والجناية في ذلك جنايةٌ مضمونةٌ في الشرع، لكن ما قبل ذلك فإن أهل العلم يختلفون، فأما ما قبل الأربعين فالخلاف في هذا أيسر، ولأجل ذلك ذهب فقهاء الحنابلة والشافعية وجماعةٌ من أهل العلم إلى أنه يجوز إلقاءها، يعني أنه لا حرمة لها بالنسبة للزوجين، وذلك أنهم يقولون كما أنه يجوز أن يعزل الرجل عن امرأته أو بالأسلوب العصري الآن يتعاطى موانع الحمل، ومن ذلك العزل فكذلك هذه النطفة إذا أخرجتْ من الرحم، فكذلك إذا أخرجتْ فألقيتْ خارج الرحم، فكذلك إنزالها بعد استقرارها، لأنها لم تتكون بعد ذلك.
أما بعد الأربعين إلى نفخ الروح، فهذا هو محل الكلام، فمن أهل العلم من يقول: إنها لما تكونتْ وتجمعتْ صار لها حرمةٌ، وانتقلت عن حقيقتها الأولى التي هي نطفة منيٍّ ملقاة في الرحم، وإنما صارت شيئًا آخر، لذلك منع من هذا فقهاء الحنابلة وجمعٌ من أهل العلم، خلافًا للشافعية الذين يقولون إنها لن ينفخ فيها الروح، فلا حرمة لها، فكما تلقى قبل ذلك فتلقى بعد ذلك ما لم ينفخ فيها الروح.
وعلى كل حالٍ فإن الإلقاء قبل الأربعين أيضًا عند أهل العلم مشروطٌ بثلاثة شروطٍ:
أولًا: أن يكون -كما قلنا- قبل الأربعين، أن يكون برضا الزوجين، أن يكون بدواءٍ مباحٍ؛ لأن لكل واحدٍ من الزوجين حقًا في تلك النطفة، فلا يجوز لواحد أن يتجاوز حق الآخر.
إذا ألقتْ المرأة هذا الجنين أو سقط من بطنها، فهل له أحكامٌ قبل نفخ الروح فيه؟
هذا لا يخلو من حالين عند أهل العلم، إما أن يكون قد تخلَّق أو لا، فإن كان قد تخلَّق، معنى تخلَّق يعني: بان فيه ما يدل على خلق الإنسان، رجلٌ، يدٌ، نحو ذلك، فهذا يقولون: إنه إذا وضعتْ أو أسقطتْ فإنه يكون الدم الذي يخرج منها دم نفاسٍ، فتمتنع من الصلاة ونحو ذلك، ويمتنع منها زوجها وما يترتب على أحكام النفاس.
ومثل ذلك لو كانت في هذا اللحم المتجمع ما يدل على الصورة الخلفية ويعرفها أهل الاختصاص، يعني: القوابل يعرفن أن هذه مبدأ خلق الإنسان، فعند أهل العلم وهو المشهور في مذهب أحمد، أنه أيضًا مما يحكم من أن الدم دم نفاسٍ، فتمتنع المرأة عن الصلاة، ويمتنع عنها زوجها ونحو ذلك.
أما إذا كان قبل ذلك، يعني: ألقت قطعةً من الدم المتجمع ونحوه لا يتبين فيها خلق الإنسان، فهنا يقولون: لا حكم له، فما يتبعه من خروج دم ونحوه، فيقولون: إنه دم فسادٍ لا تتعلق به أحكام، يعني أن المرأة تصلي، ولزوجها أن يأتيها على ما يقال في الدم الفساد، هل يمتنع منها أو لا يمتنع منها، وما يتعلق بذلك.
هنا أيضًا ذكر في الحديث أنه قال: «ثم يُرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلماتٍ»، سياق الحديث قوله: «ويؤمر بأربع كلماتٍ» أنه عطف بالواو، لكن قد يفهم من هذا أن الكتابة بعد نفخ الروح، أليس كذلك؟
هذا ما فهمه بعضهم، لكن في حديث حذيفة وهو في الصحيح أيضًا أنه إذا مضى للنطفة اثنان وأربعين يومًا، بعث الله ملكًا فيكتب، فظاهر ذلك الحديث أنه في الأربعين الثانية، وهنا بعد الأربعين الثالثة، ففيه شيءٌ من التعارض في ظاهرهما، لكن يقول أهل العلم: إن هذا الحديث في قوله: «ويؤمر بأربع كلماتٍ» لم يقصد من ذلك أن هذا بعد نفخ الروح، وأنه لما أنهى ما يتعلق بالكلام على أطوار الحمل والجنين، بعد ذلك انتقل إلى أمرٍ آخر وهو ما يتعلق الكتابة ونحوها، فيكون فيه شيءٌ من التقديم والتأخير، قال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ﴾ [السجدة:8]، مع أنَّ نفخ الروح سابقٌ لمجيء النسل، فقد يكون فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، ولا يكون في ذلك شيءٌ.
والمراد بالكتابة هنا -كما ذكر ذلك العلماء وشراح الأحاديث وفي علم العقائد، فيما يذكرونه في الإيمان بالقدر- أن الكتابة هنا كتابةٌ أزلية.
الكتابة على أنواع ثلاثة:
النوع الأول: الكتابة الأزلية: أي: أنَّ أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فكتب ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنةً، أليس كذلك؟
وهو أيضًا المكتوب في اللوح المحفوظ، فهذا لا يتغير ولا يتبدل.
والكتابة الثانية: هي الكتابة العمرية: وهي التي عند نفخ الروح، بعضهم يقول: عند نفخ الروح اعتبارًا بهذا، أو الذي جاء في حديث ابن مسعود، وحديث حذيفة هو الذي يكتب فيه أربع كلماتٍ، وهذا قد يحصل فيه التغيير.
الكتابة الثالثة: الكتابة في العام أو الكتابة الحولية، وهذا الذي جاء في ليلة القدر وما يتعلق بها، وفيه الكتابة اليومية كما قال الله -جلَّ وعلَا: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29] -سبحانه وتعالى- فهذا ما يتعلق بالكتابة، وهنا ينبغي الوقوف مع الحديث عن عظيم علم الله -سبحانه وتعالى، فلما قال من أنه يؤمر بأربع كلماتٍ: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقيٌّ أو سعيدٌ، فإن الله أحاط بالمخلوقات أولها وآخرها، ما وجد منها وما سيوجد، ما كان ومما لم يكن، وما لم يكن لو كان كيف يكون، فعلم الله لا حد له -سبحانه وتعالى- جاء ذلك في كتاب الله وهو العليم الخبير، فلا يمد عنه شيءٌ، ولا يفوت عليه شيءٌ ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59]، في هذا إشارةٌ إلى ذلك.
وكتابة الأجل هنا قد يسترعينا كلامٌ الآن وكتابة هل هو ذكرٌ أم أنثى؟
بعض الناس يقول: كيف يعلم الناس الآن بهذه الأشعة، والله -جلَّ وعلَا- في كتابه يقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَينَزِّلُ الْغَيْثَ وَيعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: 34]. فظاهر ذلك أن الله اختص بعلم هذه الأشياء، لا يعلمها غيره.
فنقول: لا تعارض هنا في ذلك؛ لأن المقصود هنا أن الكلام في حالٍ، وهو عند بعث الملك، أليس كذلك؟
وظاهر الحديث أن الملك قد علم، فهذا خارجٌ عن الاختصاص، أمَّا علم الله فسابقٌ لذلك وتامٌّ، لا يفوت على الله -جلَّ وعلَا- في ذلك شيءٌ، أما هذا فإنه بعد علم الملك، وهذا دليلٌ على أنه بعد وقت الاختصاص، يعني: أنه مما يمكن العلم به.
ولهذا ذكر أبو بكر بن العربي في تفسيره عند هذه الآية، أنهم كانوا ربما يعرفون ذلك، وعندهم من الأشياء التي جرتْ التجربة أنهم يعرفون الذكر من الأنثى ببعض الدلائل، كبعض التصبغات التي في المرأة في صدرها أو في ثدييها أو بشكل بطنها ونحو ذلك، وذكروا هذا الكلام.
مُلخص الكلام أن العلم بهذه المخترعات الحديثة لا ينافي ما جاء في الآيات من اختصاص علم الله -جلَّ وعلَا؛ لأن علم الله أشمل وأتم وسابقٌ لنفخ الروح، أمَّا الملك فلا يعلم إلا إذا أرسله الله -جلَّ وعلَا، والناس بهذه الآلات إنما يعلمون بعد مدةٍ محددةٍ معلومةٍ عند أهل الطب والاختصاص.
ثم قال في الحديث: «فوالله الذي لا إله غيره»، هذه الجملة هل هي من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم- أو من كلام ابن مسعود؟
ظاهر الحديث أنها من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم، وقد جاء ذلك في أحاديث كثيرةٍ مما يدل على أنه قولٌ مرفوعٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم- ولا إشكال في ذلك، وإن كان جاء في بعض الروايات من طريق سهل بن كهيل أنه مدرجٌ أو أنه من قول ابن مسعود، وأيًّا كان ذلك فكما قلتُ لكم: إنه قد جاء في غير ما حديثٍ أنه مرفوعٌ إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، ولذلك أورد ابن رجب في شرحه لجامع العلوم والحكم جملةً من الأحاديث التي فيها هذا المعنى مُسندًا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وقوله: «فوالله الذي لا إله غيره» فيه دلالةٌ على عظم هذا الأمر، وأن الأمر العظيم يمكن تأكيده بالقسم لو لم يطلب من الإنسان، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- أكد ذلك «إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراعٌ» هذه من الأحاديث العظيمة، قال: «فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخله» نسأل الله السلامة والعافية..
ينبغي أن يقال: إن هذه الجملة فيها التنبيه على أن كتاب الله -جلَّ وعلَا- نافذٌ، يعني: ليس المقصود فقط هو التحول الإنسان أو خوف التحول أو نحوه، إنما الأصل في هذه الجملة تأكيد أنه مهما تقلب الإنسان في دنياه، فإنه لا يموت إلا على الحال التي كتب الله عليه.
ثاني هذه الأمور كما فهم السلف كثيرًا، الحذر وعدم الأمن من خاتمة السوء، ودوام المراقبة والاجتهاد في العمل حتى لا يختم للإنسان بخاتمة سوءٍ، نسأل الله السلامة والعافية.
ولا يفهم من هذا مطلق التقلب الذي يعني أن الإنسان لا يلقي لهذه الأمور بالًا، لا، وإنما أنه يحذر ويخاف، ويكون له في كل حالٍ من أحواله أن يطلب من الله جلَّ وعلَا السلامة والثبات، لحديث: « إن قلوب بني آدم بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف شاء »، فتقول أم سلمة أسمعك أكثر ما تقول: يا مثبت القلوب ثبت قلبي على دينك، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك الحديث.
ولأجل هذا كان السلف يخافون من سوء الخاتمة، كما جاء عن عبد العزيز بن رواد لما حضر محتضرًا فكان يقول له قل لا إله إلا الله، فيقول هو كافرٌ بهذا، نسأل الله السلامة، يقول: يعني هو كافرٌ لما يعبرون بهو كافرٌ ماذا يقصدون، أنه قال: أنا، لكن يأنف أهل العلم أن يسندوا مثل هذا القول إلى أنفسهم، فيقول: أنا كافرٌ، لا، فيقول: هو كافرٌ، يعني أنه قال عن نفسي أنه كافرٌ.
لأن بعض الناس ما يفهم هذه الكلمة، ألا يسند لنفسه ما ليس بجيدٍ، فلما مات، يقول: فسألت عنه فإذا هو مدمن خمرٍ، فكان عبد العزيز يقول: اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوردته هذه الموارد.
وذكر ابن القيم في الجواب الكافي جملةً ممن ختم لهم بخاتمة السوء، لما كان ذلك الذي يتعامل بالربا كانوا يقولون له: قل لا إله إلا الله، فكان يقول بالفارسية: عشرةٌ بتسعةٍ، أو تسعةٌ بعشرةٍ.
وجاء أيضًا في الرجل الآخر الذي ختم له وهو يغني، وذكر ذلك ابن القيم، ولم تزل مثل هذه الوقائع تتكرر عندنا في كل يومٍ وفي كل حالٍ، أن من كان على الصالحات ختم له بالصالحات، ومن كان دون ذلك ختم له بالسوء، نسأل الله السلامة والعافية.
ولأجل هذا قال سفيان: إني أخاف أن أكون في أم الكتاب شقيًّا، إني أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت.
فهذا كله مما يدلنا على ما ذكرنا، أنه ينبغي الحذر لا أن هذا الحديث فيه دلالةٌ على أن الأمر لا زمام له ولا خطام، ولأجل هذا كان السلف يحفظون ذلك، ويحرصون عليه، وفي هذا إشارةٌ إلى مسألةٍ مهمةٍ وهي عدم الاقتصار على الأعمال الظاهرة؛ لأن البواطن تبدو، ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ [إبراهيم: 27].
أما الذين لم يؤمنوا إذا جاء موقفٌ فإنهم يكادون يُسلبون الإيمان، ويظهر ما بطن في قلوبهم، ولأجل هذا جاء في بعض روايات الأحاديث: أنه كان «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس »، وجاء في حديث البخاري: « إنما الأعمال بالخواتيم »، ثم في حديث آخر: « وإنما يكون أعلى الإناء بما في أسفله »، أليس كذلك؟
فما كان في أسفله من صالحٍ وعملٍ صالحٍ، واستمرارٍ على الخير، يوشك أن يمتلئ بذلك، وما كان من ضده، يوشك أن يمتلئ بضده، نسأل الله السلامة والعافية.
ولأجل هذا ينبغي لنا جميعًا أن نعرف خطر هذا الحديث، وخطر ما يحدق بالإنسان من خوف خاتمة السوء، والوقوع في السوء، وأن يكون بذلك لقاؤه لربه وختام حياته، وانتهاؤه من هذه الدار، فمن كان على معصيةٍ فلينتهي منها، ومن كان على سوءٍ فليتخلص منه، ومن كان على شرٍّ فليبعد عن شره، ومن كان مقصرًا في الطاعة، فليعد إلى الطاعة وليسارع إليها، فإنه لا يدري ما يختم له، وما يدري بأي شيءٍ يلقى ربه، نسأل الله السلامة والعافية.
كما في هذا الحديث من محركٍ للنفوس لو عقلنا، وكم في هذا الحديث من مصلحٍ للنفوس لو نظرنا، وكم في هذا الحديث من سببٍ لأن يسترجع الإنسان ما يكون من حاله، وما يكون من سريرته، وما يكون من خلوته، وما يكون مما بينه وبين الله جلَّ وعلَا، فينبغي أن يصلح قلبه إخلاصًا، وأن يعمر وقته صلاحًا، وأن يبدأ ليله صلاةً، وأن يكون محافظًا على الفرائض، وأن يكون مبتدعًا عن النواهي، مجانبًا للمحرمات، في الخلوات وفي الجلوات، في الحضر وفي السفر، في كل حالٍ من أحواله.
هذا حديثٌ عظيمٌ، وفيه معانٍ كبيرةٌ، لكن لعل فيما ذكرنا بإذن الله جلَّ وعلَا كفايةٌ ونفعٌ، وفي بعض الإشارة ما يغني عن كثيرٍ من العبارة، ننتقل بعد ذلك إلى الحديث الذي يليه، ثم نعلق على ذلك بإذن الله.

{قال -رحمه الله:
(الحديث الخامس:
عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ عَبْدِ اللَّهِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»)
}
هذا الحديث الخامس، وهو حديثٌ عظيمٌ، جُمَله يسيرةٌ، ومعانيه كبيرةٌ، ولذلك قال أهل العلم: هذا الحديث من الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، حديث الأعمال بالنيات، وحديث عائشة هذا، وحديث النعمان بن بشير، ولذلك يقول ابن رجب مقولةً عظيمةً، يقول: فهذا الحديث هو كالميزان للأعمال الظاهرة، كما أن حديث « إنما الأعمال بالنيات » ميزانٌ للأعمال الباطنة، فكما أن من لم يرد وجه الله، فإنه لا يثاب على ذلك، فكذلك من لم يكن متابعا لأمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- فإن عمله مردودٌ، وهذا الحديث من أعظم الأحاديث التي اعتمد عليها أهل العلم في نفي الزيادات في العبادات، أو ابتداء عبادةٍ من عند نفس الإنسان، أو مما اخترعه وابتدعه ولم يأت به شرعٌ، ولم يكن له أصلٌ من كتاب الله جلَّ وعلَا، أو من سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم.
وفيه أيضًا نفي المعاملات المحرفة، أو التي خالفت فيها الشرع، أو افتقدت فيها شرطًا من الشروط، فكل ذلك مما يستدل به على بطلانها وفسادها بمثل هذا الحديث، الذي هو حديث عائشة رضي الله عنها.
ولذلك حريٌّ بطالب العلم أن يكون له عنايةٌ وحفظٌ واستشعارٌ لمدلولاته، والمسائل التي تندرج فيه، ولو قيل أن جملةً مسائل الشرع مندرجةٌ في ذلك، لم يكن ذلك بعيدًا، ولذلك كما قلنا قالوا إنه من أحد الأحاديث التي عليها مدار الإسلام.
ولأجل هذا ينبغي لنا أن ننتقل من أن هذا الحديث جاء في دلالاته آياتٌ من كتاب الله وأحاديث بنحو معناه، وبنحو الدلالة عليه، فإن الله جلَّ وعلَا قال: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21]، فدلت هذه الآية التي هي آية سورة الشورى، أنه لا يكون أحدٌ مشرعٌ سوى الله ولا يكون أحدٌ محدثٌ عبادةً من عند نفسه، وإنما العبادات والمعاملات الصحيحة الشرعية، التي جاءت في كتاب الله، وجاءت في سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
ومما يدل على ذلك أيضًا قول الله -جلَّ وعلَا: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: 3]، ووجه الدلالة من هذه الآية ظاهرٌ، فإن من ابتدع بدعةً أو استدرك على الشرع فكأنه يقول من أن هذه الآية ناقصةٌ، أو غير صحيحةٍ، أو أنه يمكن الاستدراك على الشرع، وتكميل النقص، وفي هذا تكذيبٌ لله جلَّ وعلَا، وما أعظم مثل هذا وما أفظعه، وما أشنعه، فإنه عظيمٌ، ولأجل ذلك كان هذا الحديث وهذه الآية في دلالةٍ واحدةٍ، أنه لا استدراك ولا تكميل، فالدين كاملٌ، والحق واضحٌ، والمسائل بينةٌ، والشرائع مبلغةٌ، ولأجل ذلك قال ذلكم الصحابي أبو ذر "لقد توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما طائرٌ يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- علمًا".
ثم تأمل قول الله -جلَّ وعلَا: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ [الإسراء: 36]، وقول الله -جلَّ وعلَا: ﴿وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 169]، ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ لو كان للإنسان أن يبتدع من عند نفسه شيئًا، لم يكن في هذه الآية معنى، وإنما دلت الآية على أن كل من تكلم ابتداءً من عند نفسه ولم يكن له علمٌ مما جاء به الكتاب، وجاءت به السنة، مما دلت على دلالات الآيات والأحاديث فإنه مذمومٌ بهذه الآية.
﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُول﴾ [الإسراء: 36]، أي وعيدٍ أعظم من هذا الوعيد للمتكلم من عند نفسه، أو المشرع من عنده، أو المفتات على الشرع في أمره ونهيه.
فهذه آيةٌ أيضًا دالةٌ على ما ذكرنا، بل لو أردنا يا إخوان أن نقف، فإن من أعظم ما يوقف هنا عنده فإن قول المسلم أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، تقتضي الشهادة الثانية الاتباع والاهتداء، والاقتداء والاستنان، وتمنع الابتداع أو الابتداء من عند نفس الإنسان، من غير ما جاء به الشرع، أو من قول فلانٍ أو فلانٍ، لأن الحكم حكم الله، والشرع شرع الله، والاتباع لما في سنة رسول الله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: 59]، وجعل أولي الأمر طاعتهم تابعةً، ولم يقل وأطيعوا أولي الأمر، ليعلم أن الطاعة المطلقة والاتباع الكامل إنما هو للكتاب والسنة، وهذا أمرٌ مهمٌّ، ولأجل ذلك تتابعت السنن في الدلالة على هذا.
النبي -صلى الله عليه وسلم- في قصة الثلاثة الذين جاء وقال: أنا أصوم فلا أفطر، والثاني يقول: أصلي فلا أنام، والثالث يقول: أما أنا فلا أتزوج النساء، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: « أما إني أتقاكم لله، وأخشاكم له، وإني أصوم وأفطر وأصلي وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ».
فهذا فيه دلالةٌ على أنه ليس الأمر بأن يتعبد الإنسان ويتنسك، ولكن الأمر أن يتعبد ويتنسك متبعًا، ولذلك قال: « فمن رغب عن سنتي فليس مني »، ومن لم يكن من رسول الله، فلن يكون من الله، وتعرفون حديث الذي في البخاري لما ذكر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أمته يردون على حوضه، يقول: « حتى إذا جاء أناسٌ من أمتي، خسف بهم، فأقول يا رب أمتي أمتي »، فماذا يقول الله جلَّ وعلَا؟ يقول: « إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقًا سحقًا ».
يقول مالك بن الحويرث: "فكنا نكثر بعد هذا الحديث أن نقول: اللهم إنا نعوذ بك أن نرد على أعقابنا أو أن نفتن".
فينبغي الحذر من أن يأتي الإنسان بشيءٍ من عند نفسه، مما يدل على ذلك أيضًا حديث العرباض بن سارية وهو من أحاديث الأربعين التي سيأتي الحديث عليها، لما قال: « عليكم بستني وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي»، ثم حذر من البدعة وسيأتي الكلام عليه، فلأجل ذلك لا نسترسل في الكلام عليه، حتى نأتي على دلالات هذا الحديث في هذا الوقت.
أيضًا يدل على ما ذكرناه ما جاء عن الصحابة، فإنهم ماذا كانوا يقولون: اتبعوا ولا تبتدعوا، جاء ذلك عن حذيفة، وجاء ذلك عن عبد الله بن مسعود، لما رأى أقوامًا يسبحون على هيئةٍ خاصةً، ويكبرون على هيئةٍ خاصةٍ، قال: أوأنتم على هديٍ أدل من هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو أنكم مفتتحوا باب ضلالةٍ، قالوا: وما ذاك يا أبا عبد الرحمن، إنما أردنا الخير، قال: وكم من مريدٍ للخير لم يصبه.
يعني أنه إنما تكون إصابة الخير بالنية وبالمتابعة، ﴿أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَل﴾ [هود: 7]، أخلصه وأصوبه، فكل ذلك يدل على ما ذكرنا.
وهذا أمرٌ يا إخوة مهمٌّ العلم به، والوقوف عليه، حتى يكون الإنسان موفقًا فيما يتعلمه.
وهذا من الأحاديث العظيمة في نفي البدع والمحدثات، والمخترعات، والاتباع لما جاءت به دلالة الكتاب والسنة، والاقتصار على ما فيها من الاستنباط والدلالات، لا يتجاوز كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، مكتفين في ذلك ما جاء عن أهل العلم ودلت عليه الدلالات.
هنا لو أردنا أن نقف عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ »، قوله: « أحدث » الإحداث هو إدخال شيءٍ أو ابتداء شيءٍ لم يحدث، ولأجل ذلك بما عرف أهل العلم البدعة.
قالوا: هي الإحداث في الدين على أمرٍ لم يكن له أصلٌ، أو على خلاف أصلٍ سابقٍ.
وتعريف الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى قال: "الطريقة المبتدعة في الدين التي يضاهى بها الطريقة الشرعية".
ولهم تعاريف مقاربةٌ في مثل هذا، لكن على هذا المعنى يدور معنى البدعة، هي إحداث شيءٍ لم تأت به دلالة الكتاب والسنة.
فإن قال قائلٌ: فإن كان في هذه البدعة خيرٌ، أو إن كان فيها أمرٌ حسنٌ، فنقول هذه مسألةٌ مهمةٌ، وربما يزيد بعض من يقول مثل هذا الكلام، في أن يقول: أنه جاء في أثر عمر عندما قال: "نعمت البدعة هذه"، أو قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: « من سنَّ في الناس سنةً حسنةً ».
فهنا ينبغي أن يتنبه إلى أن هذا من أكثر ما حصل به اللغط وجرى به الغلط، فإن أهل السنة وعلماء السلف لم يختلفوا على اختلاف مذاهبهم على أن الاتباع إنما هو فيما جاءت به دلالات الكتاب والسنة لا يجاوز ذلك، وأنه ليس فيه ثم سنةٌ حسنةٌ ولا بدعةٌ حسنةٌ، وأول من تكلم على هذا بعض المتأخرين مثل العز بن عبد السلام وغيره، وفي ذلك خالفوا الأصول الصحيحة الشرعية.
لكن بما يقال عن هذه الدلالات، يقال: إن قول عمر: "نعمت البدعة هذه" ليس البدعة الشرعية التي جاءت على شيءٍ لم يأت به الشرع، وإنما المقصود هنا لما كان أمرًا مهجورًا، فكأنه أحدث شيئًا لم يكن، وإلا فأصل ما جاء عن عمر موجودٌ في زمن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ألم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- صلى بأصحابه صلاة القيام في رمضان ثلاثة أيامٍ، وإنما ترك ذلك خشية أن تفرض، فإذن لما قال نعمت البدعة، هي بدعةٌ لا أصل لها، أو بدعةٌ لها أصلٌ.
لها أصلٌ، فإذن لم يكن في ذلك دلالةٌ لم استدل بمثل هذا على إحداث البدع، وإلا للزم بذلك أن كل من جاء في شرعنا بشيءٍ أن نقبله.
أليس كذلك؟ وحاشا أن يكون شرعنا تجربةً للمجربين وميدانًا للعابين، وإنما نحن أصلنا كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
وأما ما جاء في قوله: « من سن في الناس سنةً حسنةً »، حينما سن السنة الحسنة التي هي أنه جاء بصدقةٍ كثيرةٍ، أليس كذلك، الصدقة مشروعةٌ أو غير مشروعةٍ؟
مشروعةٌ من حيث الأصل، وبدلالة الحديث في أوله، حث النبي -صلى الله عليه وسلم- الناس عليها، وإنما هو مما حمل الناس على هذه السنة، فكأنه سنها، أو نسبت إليه مجازًا.
فبناءً على ذلك هذا مما يدل على أنه أمرٌ مشروعٌ، ولذلك أكثر مما يكون الخطأ في أنه ينتقل من الاسم اللغوي فيجعل ذلك أصلًا إدخال المبتدعات على الشرع، والشرع لا يقبل كما قلنا: ﴿اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ [المائدة: 3]،، ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ [الشورى: 21]، إلى غير ذلك من الدلالات.
ومن أحسن الأدلة أو الدلالات على من يستدل بذلك أن أكثر من يعترض بمثل هذا، يقولون: إنها بدعةٌ حسنةٌ، وهؤلاء أكثرهم من الأشاعرة، والأشاعرة أصلًا لا يقولون بالتحسين والتقبيح إلا من جهة الشرع، فإذا لم يأت في الشرع، فكيف تقول من أنها حسنةٌ، فرجع الأمر إلى أن الحسن إنما يكون في الاتباع، والاهتداء بما جاء في كتاب الله وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-.
هنا مسألةٌ تتعلق أيضًا بالبدعة وهو أنه ينبغي أن يعلم أن البدعة أعظم من المعصية، حتى ولو كانت من الكبائر، لماذا؟
لأن المعصية يفعلها الإنسان بشهوةٍ بغير اعتقادٍ أنها من الدين، فمتى ما تغيرت نفسه أو ذُكر أو وُعظ رجع وتاب وآب، وأما البدعة فإنه يتدين بها، ولذلك: ﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً ﴾ [فاطر: 8]، ولذلك جاء عن سفيان أنه قال: إن الشيطان يفرح بالبدعة أكثر من المعصية، وذلك لأن المعصية يُتاب منها، وأما البدعة فلا يتاب منها.
وذكروا أيضًا أثرًا عن إبليس، أنه يقول: أهلكت بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار، فلما علمت ذلك، بثثت فيهم الأهواء، فلا يتوبون منها، لأنهم يحبونها، أو ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا، وهذا فيه إشارةٌ إلى ما ذكرنا لكم من عظم أمر البدعة والابتعاد عنها، والامتناع عن مواقعتها.
وإذا قلنا ذلك أيضًا، فنعلم أن البدعة حكمٌ شرعيٌّ، وأن من تقارير أهل السنة و الجماعة وأهل العلم، أن الأسماء والأحكام هذه مما ينبغي الإحجام عن الانطلاق فيها، أو التكلم بها بغير دليلٍ ولا برهانٍ، وألا يستعجل إليها، بأن يوصف أحدٌ بالبدعة، أو أن العمل بدعةٌ، حتى ينظر في الشرع.
وإنه مما شاع في هذه الأزمنة كثرة المتكلمين بأن هذه بدعةٌ، أو هذا مبتدعٌ، أو نحو ذلك.
فينبغي أن يُتقى مثل هذا، لأنه من أعظم الضلال والشر، ثم هنا ينبغي أن يعلم أنه أيضًا كما هو متقررٌ عند أهل العلم، أن البدعة شيءٌ، والقول هنا بأن فلانًا مبتدعٌ شيءٌ آخر، فقد يقع الإنسان في البدعة مراتٍ، ولا يقال من أنه مبتدعٌ، ذلك أنه وصف الشخص إنما مبناه على ظهور الحجة، وإقامة البينة، وقد يفوت على الإنسان أو يكون مجتهدًا معذورًا في ذلك.
أيضًا هنا مسألةٌ وربما نختم بها لأني أظن أن الوقت قد أزف، ما الفرق بين أن يقال هذه بدعةٌ، أو هذا خلاف السنة؟
طبعًا كله خلاف السنة، لكن خلاف السنة أن الإنسان يقع فيها على سبيل الخطأ، وأما البدعة فهو على سبيل الالتزام، ولأجل ذلك قيل من أنها تضاهي الدين، ولأجل هذا جاء عن بعض السلف أنه قال ما حدثتْ عند الناس بدعةٌ، إلا اندثرت فيما يقابلها سنةٌ.
وفي هذا إشارةٌ إلى الحذر من البدع، والانتباه لها.
هذا فيما يتعلق بالكلام على البدع ونحوها من الأمور العظيمة، وينبغي لنا أن نتوقى ذلك، وأن نحذره، وأن يوكل ذلك إلى أهل العلم، لأن بعض الطلبة في أول طلبه، وفي أول تحصيله، وفي أول ابتدائه، ما أن يعرف أن هذه سنةٌ، وأن خلافها فيه مخالفةٌ لها، حتى يرمي كل من خالف الفعل الذي فعله بأنه مخالفٌ للسنة، أو واقعٌ في البدعة، أو نحو ذلك، وهذا لا شك أنه بابٌ من أبواب الشر، وبابٌ من أبواب الاستعجال.
أيضًا أن أحكام التكفير والكفر ونحو ذلك إنما تناط بمن يحسنون هذه الأبواب، ويعرفونها، ووصلوا إلى منزلتها، فكذلك ما يتعلق بالتبديع والتفسيق والتكفير، فإنها أحكامٌ شرعيةٌ فينبغي ألا يتصدى لها إلا من أوتي منزلتها، أو بلغ درجتها فيتكلم بعلمٍ ويصف بعلمٍ، ويمنع ذلك مانعٌ وحجةٌ وبيانٌ.
لابد أن يعلم أن تعلق هذه الأحكام أو هذا الحديث بالعبادات والمعاملات، فكل عبادةٍ وقعت على غير أصلٍ صحيحٍ فهي مما أحدث في دين الله، وما أُحدث أو عُمل سواءً أحدثه الإنسان أو عمله، لأن الرواية الثانية: « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ ».
ما معنى « رد »، هذا مصدر بمعنى اسم المفعول، مردودٌ غير مقبولٍ.
ففي هذا الحديث إشارةٌ إلى أن الأعمال إذا وقعت على غير الشرع فإنها غير مقبولةٍ، وبمفهومه أنها إذا وقعت موافقة للشرع فهي مقبولةٌ، مثاب عليها بإذن الله جلَّ وعلَا، ومثل ذلك المعاملات أيضًا، فإن أي معاملةٍ اختل فيها شرطٌ من شروط المعاملات الصحيحة أو نحوها، فإنها تكون كذلك أيضًا باطلةً، ولا يمكن تصحيحها، ولذلك جاء في الحديث: « كل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطلٌ ».
الحديث يستوعب حديثًا أكثر، وكلامًا أطول، ولكن لعل فيما ذكرناه بإذن الله جلَّ وعلَا نفع وفائدة، أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، والإعانة والرشاد، وأترككم في حفظ الله ورعايته، وإلى إن شاء الله اللقاء الآخر في الدرس القادم بإذن الله، أسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين، وشكر الله للإخوة الحاضرين والمشاهدين والمعينين على إقامة هذه الحلقة وبثها، وتصويرها وكل ما يستدعي، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك