الدرس الأول

سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ

إحصائية السلسلة

16618 10
الدرس الأول

شرح الأصول الثلاثة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللَّهمَّ صلِّ وسلم وبارك، على عبدك ورسولك محمدٍ، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
وبعد، أيها الإخوة المشاهدون، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أولًا أحب أن أُنوه عن أهمية العلم وفضله، وأن العلم من أشرف الأمور وأعظمها شأنًا، قال الله -جلَّ وعلَا: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11].
واستشهد من العلم على أعظم مشهودٍ عليه، هو توحيده وإخلاص الدين له، ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [آل عمران: 18].
وأخبر -جلَّ وعلَا- أن العلماء متميزون عن غيرهم، ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9].
وأخبر تعالى أن العلم سبب خشية الله والخوف منه ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28]، وبين -صلى الله عليه وسلم- أن من سلك طريقًا للعلم، فقال: «ومن سلك طريقًا يلتمس به علمًا إلا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة».
أيها الإخوة، ومن توفيق الله وجود هذه القنوات، التي ينتشر نورها في أرجاء المعمورة، فحريٌّ بالمسلمين استغلال هذه القنوات، وهذه المواقع، وتحويلها من سيءٍ إلى أحسن، ومن شرٍ إلى خيرٍ، والسعي في ذلك بالجدال بالحكمة والموعظة الحسنة، وإبانة الحق، والصبر على ذلك.
لأن حلقات العلم في المساجد، يسمعها الحاضرون، وفي الكليات والجامعات يسمعها الطلاب مع معلميهم، ولكن هذه الأكاديمية الإسلامية المفتوحة، وهذا البناء العلمي يصل إلى مسامع كثيرٍ من المسلمين في داخل الجزيرة وخارجها، وربما وصل صوتها إلى أوروبا وأمريكا وإلى غير ذلك، فلابد من العناية بهذا البناء، ولابد من تشييده على أصولٍ ثابتةٍ، ولابد من التعاون والتكاتف، عسى أن نوفق إن شاء الله لأداء رسالتنا، فإن الله -جلَّ وعلَا- يقول: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيخْشَوْنَهُ ولَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبً﴾ [الأحزاب: 39].
فالمسلمون مأمورون بأن يبلغوا دين الله، وينشروه لمن بعدهم؛ لتأخذه الأجيال جيلًا بعد جيلٍ، فمحمدٌ -صلى الله عليه وسلم- بث العلم الشرعي، وعلم الناس العلم الشرعي، وتناقله أصحابه بعده، طبقةً بعد طبقةٍ، الصحابة والتابعون ومن بعدهم، أجيالٌ بعد أجيالٍ، وهذا الدين لا يزال محفوظًا بحفظ الله له، يقول -صلى الله عليه وسلم: «ولا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله».
ونحن في هذا الدرس نتكلم على نُبذٍ قصيرة الألفاظ، عظيمة المعاني، واضحة الأسلوب، وهي الأصول الثلاثة لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله.
ألف هذه الرسالة في مجموعة رسائله: كتاب التوحيد، وكشف الشبهات، والأصول الثلاثة... ، وغير ذلك من المسائل والأجوبة العظيمة، التي عمت الدول الإسلامية في بيان مكاتباته -رحمه الله- لعلماء زمانه، وتوضح ما دعا إليه، وأنه إنما دعا إلى كتاب الله، وإلى سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، ولد في العام الخامس عشر بعد المائة والألف، وتوفي سنة ست ومائتين، وعرض هذه الدعوة على أهل عصره وزمانه، فما وجد هناك من يدافع عنها، حتى منَّ الله بمحمد بن سعود -رحمه الله-، الذي تقبل هذه الدعوة، ونصرها، وأيدها، وهو من أعظم أنصارها والذَّابِّين عنها، فتعاون الإمامان محمد بن عبد الوهاب، ومحمد بن سعود على الدعوة إلى الله، وتبصير عباد الله، فصارت بهذا التعاون سببًا مباركًا في توعية الأمة، وإخراجها من ظلمات الجهل إلى نور الهدى.
أيها الإخوة، الدعاة إلى الله كثيرون، وما خلا قرنٌ من قرون الأمة، إلا والدعاة إلى الله يكافحون وينشرون، ويدعون إلى الله، والله -جلَّ وعلَا- يهيئ لهذه الأمة على رأس كل قرنٍ مَن يجدد أمر دينها، ويهديها إلى الطريق المستقيم، إذا عظم الجهل، وقلَّ العلم، هيأ الله من علماء الأمة، من يدافع عن هذا الدين، ويقوم بالواجب، ومن تأمل التاريخ، وجد علماء الأمة في كل القرون دعاةً مصلحين، وعلماء مجتهدين، يدعون إلى الله، ويحببون العباد إلى الله، ويحذرون الناس من الشرك بالله والكفر به، ويرشدون إلى الطريق المستقيم، ومن هؤلاء شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-، فقد سلك مسلكًا من قِبل هدي العلماء، وسار على نهجهم، وأصبحت رسائله ومؤلفاته كلها مبنيةً على نصٍ من القرآن، أو أثرٍ من آثار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وما عليه إجماع الأمة وأئمتها، ورسائله واضحة المعاني، ولا يطعن فيها إلا جاهلٌ بها، أو مغرضٌ صد عن الطريق المستقيم، وإلا فالحق واضحٌ، ولله المنة، وقد نفع الله بدعوته فعمت الجزيرة العربية وما جاورها، وانتفع بها كثيرٌ من الناس، ومن وقف على كتبه ورسائله وقرأها بالتأمل عرف أنها حقٌ، وأنها هدًى، فرحمه الله وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرًا ورحم الله محمد بن سعود، وغفر الله له، وجزاه عما قدم للإسلام والمسلمين خيرًا.
{بسم الله الرحمن الرحيم، قال الإمام المجدد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله: "اعلم رحمك الله أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل:
الأولى: العلم، وهو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة.
الثانية: العمل به.
الثالثة: الدعوة إليه.
الرابعة: الصبر على الأذى فيه، والدليل قوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم، ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر].
قال الشافعي -رحمه الله تعالى: لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم.
وقال البخاري -رحمه الله تعالى: باب العلم قبل القول والعمل، والدليل قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾ [محمد: 19]، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل}.
يقول الشيخ -رحمه الله- ابتداءً لهذه الرسالة الصغيرة المفيدة النافعة: اعلم رحمك، تفهم، واستعد وانتبه لما سأقول لك، اعلم؛ لأن من علم استفاد، من لم يعلم لم يستفد، اعلم أنا سأوجه لك رسالةً عظيمةً نافعةً مفيدةً، اعلمها علم حقٍ وصدقٍ ويقينٍ، أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل، أنه يجب على جميع المسلمين أن يتعلموا هذه الأربع مسائل، فإن العلم قسمان: علمٌ واجبٌ، وهو ما يقوي الصلة بربك، وتؤدي به ما أوجب الله عليك، من إخلاص الدين له، من الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير ذلك، ويبين الأمور التي لا يسع المسلم جهلها، بل لابد من تعلمها، والعلوم الأخرى المستحب تعلمها، فروع المسائل المتعددة، لكن الأمر الذي لا تُعذر عنه، ولا يسعك جهله، هو أن تعلم هذه الأربعة المهمة في دين الله، أنه يجب علينا تعلم أربع مسائل.
الأولى: العلم، ما هو العلم؟ العلم حقًا ما دل الكتاب والسنة عليه، علم الشريعة، علم مبنيٌّ على صلة العبد بربه، وصلته بنبيه، وصلته بدينه، علمٌ نافعٌ ينقلك وينجيك من الضلال.
قال الله -جلَّ وعلَا: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ﴾ [الزمر: 9]، وقال: ﴿أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الرعد: 19].
إذن فالعلم لابد منه، أنه يجب أن أتعلم هذه الأربع مسائل، نتعلمها فإذا علمناها حقيقة، وطبقناها على أنفسنا، كنا بهذا عالمين حقًا، ثم العمل بهن، يجب تعلمها، ويجب العمل بها؛ لأن العلم لا ينفع إلا بالعمل، وأي علم خالٍ من العمل، فإن هذا العلم لا ينفع.
العلم إنما وجد ليُعمل به، ومن لم يعمل بعلمه كان ضالًا ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 44]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3].
العلم هو معرفة الله، ومعرفة نبيه، ومعرفة الدين الإسلامي، العلم الشرعي واجبٌ، أن تعرف الله -جلَّ وعلَا-، أنه ربك، وخالقك، ورازقك، وبيده حياتك وموتك ورزقك، وبيده حياتك وموتك ورزقك، وأنه خالق الأشياء كلها، لا رب غيره، ولا خالق سواه ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد: 16]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 21]، فهو ربنا وخالقنا ورازقنا نؤمن به ربًا، ومعبودًا وخالقًا ورازقًا.. نعرف الله بأسمائه وصفاته، وأن له أسماءً حسنى، وصفاتٍ عُلا، على ما يليق بجلاله، نؤمن بها، ونُمرها كما جاءت، معتقدين حقيقة مدلولها على الكتاب والسنة، لا نكيِّف ولا نشبِّه، بل نمرها على ظاهرها، معتقدين حقيقة معانيها، على ما يليق بجلال الله وعظمته ﴿وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَ﴾ [الأعراف: 180]، ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [الحشر: 22] إلى آخر الآيات.
ومعرفة الآيات، من عرف الله وحَّده، عرف أنه يسمع ويرى، ويعلم، وأنه الحليم الكريم، الجواد الرحيم، عرف الله حقًا، فإذا عرف الله ازداد إيمانًا، فالإيمان الحق ما وقر في القلب وصدقه العمل.
ومعرفة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، تعرف نبيك محمد بن عبد الله، الهاشمي القرشي، الذي ختم الله به الرسالات كلها، وجعله خاتم الأنبياء والمرسلين ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزاب: 40].
تعرف نبيك بأنه النبي العربي، آخر الأنبياء وأفضلهم -صلوات الله وسلامه عليه- يقول: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر».
الأصل الثالث: أن تعرف دين الإسلام بأدلته الشرعية، بالعبادات، والمعاملات، وجميع ذلك، تعرف دين الإسلام بالأدلة الشرعية، والأركان الخمسة، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام، وأن هذا الدين دينٌ صالحٌ لكل زمانٍ ومكانٍ؛ لأن الله أكمله وأتم به النعمة، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينً﴾ [المائدة: 3]، فهذا الدين نعرفه، فإذا عرفنا كماله وشموله وصلاحيته، طبقناه على أرض الواقع، وعلمنا حقًا أنه لا يجب أن تعيش إلا بهذا الدين، وأن الخروج عن الدين كفرٌ وضلالٌ، فلابد أن نعرف هذا الدين ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19] ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [آل عمران: 85]، فدين الإسلام هو الدين الحق، الكامل، كما أن أمة محمدٍ هي خير الأمم وأشرفها، نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، فنعرف دين الإسلام، وأنه هو دين الهدى، وأن الله نسخ به جميع الشرائع، فيجب طاعة النبي واتباعه ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158].
الثاني: العمل به، فنعمل بهذا العلم؛ لأن هذه الثمرة أن نعمل به، وقد ذم الله من لم يعمل به فقال: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [الجمعة: 5].
فالعمل بهذا العمل واجبٌ، أن نعمل بما علمنا؛ لأننا إذا علمنا ولم نعمل كنا ضالين، أشباه اليهود، فالذين علموا وكتموا العلم، وإذا لم نتعلم كنا كالنصارى يعبدون الله على جهلٍ وضلالٍ، فالواجب العلم والعمل بمقتضى هذا العلم، ليدل على أن الإيمان صادقٌ، فإن الإيمان اعتقاد القلب ونطق اللسان، وعمل الجوارح، الذي يبرهن على حقيقة الإيمان.
الثالث: الدعوة إليه، إذا علمنا وعملنا وعرفنا عظيم نعم الله علينا، وفضله علينا، وجب أن نشكر هذه النعمة، وأن نؤدي حقها، بأن ندعو غيرنا إلى ذلك، لأنك إذا علمت وعملت، فلابد أن تنشر هذا الحق، وتدعو إليه، لتبرأ ذمتك؛ لأن الواجب على من تعلَّم وعمل أن يدعو غيره، قال -جلَّ وعلَا: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125]، وقال -جلَّ وعلَا: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].
إذن فلابد من علمٍ وعملٍ واستقامةٍ على هذا الدين، والدعوة إلى الله منهج الأنبياء والمرسلين ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]، «ومن دعا إلى هدى كان له أجره، وأجر من عمل به إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيء».
الرابع: الصبر على الأذى فيه، لابد لمن دعا إلى الله، وخالف أهواء الناس وشهواتهم أن يُقابَل بالإنكار، وأن يُقابَل بالتكذيب ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 3]، وقال: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214].
إذن إخواني فلابد من الدعوة إلى الله، والصبر على هذه الدعوة؛ لأنك خالفتَ أهواء الناس، قال تعالى: ﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾ [الطور: 48] ﴿وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ [المزمل: 10]، وقال: ﴿فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾ [المعارج: 5]، فأمر النبي بالصبر والتحمل، فإن الصبر على الطاعة مثل العمل بالواجبات، والصبر عن المعاصي بتركها، وعن الطاعات بفعلها، والصبر على ما يصيب من ألم في الدعوة إلى الله، قال عن لقمان: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [لقمان: 17].
والدليل على هذه المسائل العلم والعمل، والدعوة والصبر، هذه السورة القصيرة من الآيات، يقول الله فيها: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ وَالْعَصْرِ ﴾ أقسم -جلَّ وعلَا-، والقسم بمخلوقاته أن جنس الإنسان في خسارةٍ، إلا من استثنى، وهم الذين آمنوا، كملوا بالإيمان والعمل، ثم كملوا غيرهم بأن أوصوهم بالحق، ودعوهم بالحق، وأوصوهم بالصبر عليه، هؤلاء نجوا من الخسارة؛ لأنهم علموا وعملوا، ودعوا وصبروا، هذا الوعد واجبٌ على كل أحد.
قال الشافعي -رحمه الله: "لو ما أنزل الله حجةً على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم"، فإن فيها بيان الخاسر والرابح.
وقال البخاري -رحمه الله تعالى: "باب العلم قبل القول والعمل" ثم قرأ قوله تعالى: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ﴾ [محمد: 19]، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل.
فلابد من علم، والعلم من يدعو عن جهالةٍ لا ينفع، لابد من علمٍ معك لكي تدعو الناس على بصيرةٍ، ولابد من عملٍ، ولابد من دعوةٍ، وصبرٍ على ذلك، ورغبة في ما عند الله من الثواب العظيم، فأنبياء الله قص الله علينا قصصهم، وبين أحوال أنبياء الله، وما أصابهم من مصائب، قال -جلَّ وعلَا: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 142] ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُم مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر: 78]، وقال: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ولَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ ﴾ [الأحقاف: 35]، وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهً﴾ [الأحزاب: 69].
فنسأل الله التوفيق والسداد، أن استفدنا من درسنا هذا، أن هذه المادة -الأصول الثلاثة-رسالةٌ نافعةٌ، مفيدةٌ، مختصرةٌ، مدعمةٌ بالأدلة من الكتاب والسنة، يسهل حفظها، والنظر فيها، فليقرأها المرء بتأمل وتدبر؛ ليعلم ويعمل، ويدعو على علم وبصيرة، ويصبر على ذلك، ويوصي غير بهذا، وصلى الله وسلم على محمدٍ.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك

سلاسل أخرى للشيخ