الدرس العاشر

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3148 10
الدرس العاشر

مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فهذا لقاء من لقاءاتنا في تفهُّم مقدِّمة التَّفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعالَى.
وقد ذكر الشيخ عددًا من الأصول التي يُرجع إليها في تفسير القرآن:
أولها: أن يُفسَّر القرآن بالقرآن.
ثانيها: أن يُفسَّر القرآن بالسُّنَّة.
ثالثها: أن يُفسَّر القرآن بإجماع علماء الأمَّة.
رابعها: تفسير القرآن بأقوال الصَّحابة.
ثم ذكر نوعًا خامسًا وُجد عند بعض أهل التَّفسير، ألا وهو تفسير القرآن بالروايات الواردة عن بني إسرائيل، بحيث إنَّ بعض العلماء احتجَّ بما وردَ من الإذنِ في الرواية عنهم على تفسير كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- بهذه الروايات، وذكرنا أنَّ الصواب أنه لا يجوز أن يفسر القرآن بهذه الرِّوايات، لأنَّ معنى ذلك الجزمُ بصدقها، فإنَّها متى كانت تفسيرًا للقرآن كانت مجزومًا بصدقها، والنَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد نهانا عن تصديق ما ورد عنهم.
وقد ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- شيئًا مُتعلقًا بهذه الروايات، ألا وهو: أنَّ غالب هذه الروايات يتعلق بأمور لا فائدة فيها، ولا ثمرة لحكايتها، ومثَّل لذلك بأسماء أصحاب الكهف، أو بلون كلبهم، فإنَّه لا يُوجَد فائدة من معرفة هذه التفاصيل، وبالتَّالي لا يصح لنا أن نفسر القرآن بهذه الأمور التي لا ثمرة لها ولا فائدة فيها.


قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَكِنَّ نَقْلَ الْخِلَافِ عَنْهُمْ)، يعني أهل الكتاب (فِي ذَلِكَ)، أي في هذه الأقوال الواردة في هذه المسائل (جَائِزٌ)؛ لأنَّه لا يُراد بذلك أن يُعمل به أو أن يُفسَّر القرآن به، وإنَّما يُحكى من أجل الاعتبار والاتعاظ بهذه النُّقول التي تُنقَلُ عنهم، بشرط أن لا نجزم بكذب هذا المنقول الوارد عنهم.
ومثَّل المؤلف لذلك بقوله تعالى في أصحاب الكهف: ﴿سَيَقُولُونَ﴾، أي: سيقول أهل الكتاب ﴿ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ﴾، فحكى الله -جَلَّ وَعَلَا- أقوالهم في هذه المسألة، وذكر الخلاف الوارد عنهم في ذلك.
ثم قال: ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ﴾، أي: لا تدخل في هذا الخلاف، ولا يكن من شأنك أن تبحث هذه المسألة، إذا لا ثمرة فيها.
فحكى الله -عَزَّ وَجَلَّ- في هذه المسألة ثلاثة أقوال، وضعَّف القولين الأولين بقوله: ﴿رَجْمًا بِالْغَيْبِ﴾، وسكت عن الثالث؛ فاستدلَّ المؤلف بذلك على صحة هذا القول، إذ لو كان هذا القول الثالث قولًا غير صحيح لردَّ هذا القول كما ردَّ القولين السابقين.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (ثُمَّ أَرْشَدَ إلَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى عِدَّتِهِمْ)، أي: معرفة كم عدد أصحاب الكهف. (لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا: ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ﴾، فَإِنَّهُ مَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ)، ولذا نهى -جَلَّ وَعَلَا- عن الممارة فيهم إلَّا مراءً ظاهرًا، قال المؤلف في تفسير هذا: (أَيْ: لَا تُجْهِدْ نَفْسَك فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا تَسْأَلْهُمْ)، ولا تناقشهم ولا تتباحث معهم في هذا العدد إلَّا مراءً ظاهرًا، علَّلَ ذلك بأنَّه لا يعلم بعدَّهم إلَّا قليل، وأنَّ هذه الأقوال التي يقولونها من رجم الغيب.
ثم ذكر المؤلف أسباب الخطأ في بحث المسائل العلميَّة، ومن ذلك الخطأ في تفسير القرآن:
السبب الأول: عدم استيعاب الأقوال الواردة في المسألة، فيكون في المسألة خمسة أقوال، فيُلتفَت إلى القولين المنسوبين إلى الطوائف المشهورة، ويُغفل عن بقية الأقوال، فيكون هذا سببًا من أسباب الخطأ في تفسير القرآن، سواء كان هذا في التفاسير للآيات أو في قواعد التَّفسير.
مثلًا: من قواعد التَّفسير: حكم الأمر بعد الحظر؛ وهناك قولان مشهوران:
* الحنفية والمالكية يرونَ أنَّ الأمر بعد الحظر يُفيدُ الوجوب على أصله.
* والشافعية والحنابلة يرون أنَّ الأمر بعد الحظر يُفيد الإباحة.
* وهناك قول ثالث لا يذكره كثير من أهل الأصول ولا من أهل التَّفسير، ألا وهو أنَّ الأمر بعد الحظر يُعيدُ الحكمَ إلى ما كان عليه سابقًا قبل ورود الحظر، فهذا القول الثالث هو القول الصواب في هذه المسألة، فعندما يُوجد فقيهٌ أو مفسِّر يحكي القولين السابقين، ولا يستوعب الأقوال الواردة في هذا المقام؛ فحينئذٍ يكون بحثه بحثًا خاطئًا، ولن يصل إلى الصَّواب.
السبب الثاني: عدم الإشارة إلى الرَّاجح من الأقوال.
بعض الناس تجده يسعى إلى معرفة الأقوال الواردة في المسألة، ولكنه يُحيطُ بها ويحفظها، ولا يعرف الراجح من المرجوح فيها، وبالتَّالي زادته معرفة الأقوال حيرةً، ولن تزده معرفة وعلمًا؛ فالعلم بالتَّمييز بين الراجح والمرجوح، ومعرفة ما هو الراجح من أقوال أهل العلم، فإذا لم يكن عند الإنسان قُدرة على التَّمييز بين قول الحق وقول الباطل؛ فإنَّه حينئذٍ لم يصل إلى علم صحيح.
مثال ذلك: عندما يأتي الإنسان في مسألة القضاء والقدر، فينظر إلى قول المعتزلة في إثبات مشيئة العبد، ونفي تعلًّقها بمشيئة الله، ثم يُورد قولًا آخر وهو قول الأشاعرة بإثبات مشيئة الرَّبِّ ونفي مشيئة العبد؛ فحينئذٍ حكايةُ هذه الأقوال لا تُثمر من جهة أنَّه لم يعرف حقَّها من باطلها، ومن جهة أخرى لم يستوعب الأقوال الواردة في هذه المسألة، فإنَّ أهل السنة يُثبتون للعبد مشيئة، ويُثبتون للرب مشيئة، ويُثبتون أنَّ مشيئة العبدِ مربوطةٌ ومتعلقةٌ بمشيئة الرب -سبحانه وتعالى- كما قال -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: 30]، فأثبت المشيئتين، وأثبت تعلق مشيئة العبد بمشيئة الرب -سبحانه وتعالى.
السبب الثالث في عدم استفادة الإنسان من العلم وخطأه فيه: أن لا يعرف فائدة الخلاف والثَّمرة المترتبة عليه، فعندما لا تعرف ثمرة الخلاف أو تربطها بثمرةٍ لا يصحُّ ارتباطها بها يكون حينئذٍ جهلًا لا علمًا.
وأضرب لذلك بمسألة: ما ذكره الشيخ هنا من تلك المسائل التي يُحكى الخلاف فيها ولا فائدة للخلاف فيها، ما هي الشجرة التي صنع موسى عصاه منها؟ وما هي أسماء الطيور التي أحياها الله تعالى لإبراهيم؟ لا ثمرة من هذا الخلاف، وبالتَّالي لم يرد ذكر هذه الأشياء في كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا.
ونضرب مثلًا بقاعدة أصوليَّة يرتبط بها تفسير كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا: هل يُكلَّف الكفَّار بفروع الشَّريعة؟
هذه المسألة قد حُكيَت في مباحث الأصول والتَّفسير والعقيدة، والنَّاظر في هذه المسألة يجد أن كثيرًا من الفقهاء والأصوليين وغيرهم يربط بهذه القاعدة ثمرات لا يصح أن ترتبط بها، فالقاعدة تشمل جميع أنواع الكفر، سواء كان أصليًّا أو كان ردَّةً، أو كان الكافر كتابيًّا، أو وثنيًّا، لا تفرق بين أحدٍ منهم، فعندما يأتينا مَن يأتينا ويربطها بنوعٍ من أنواع الكفار كالذِّميِّ دون الحربي أو نحو ذلك؛ فحينئذٍ لا يكون قد فهم المسألة.
فمسألة تكليف الكفار بفروع الشريعة فرعٌ واستدلال لمسألة أخرى، وهي: هل الكفر رتبة واحدة أو هو مراتب ودرجات؟
المرجئة يقولون: الإيمان والكفر كل منهما على مرتبة واحدة، وبالتَّالي لا تفاوت فيها، ومن ثمَّ قالوا: إنَّ الكافر لما عُذِّب بتركه لأصل الدين لم يُعذَّب بتركه لفروع الشريعة، لأنَّه لا يُكلَّف بها.
وأما أهل السُّنَّة وجماهير أهل العلم فإنَّهم يرون أنَّ الكفر تزداد درجته، وأنَّه ليس على رتبةٍ واحدةٍ، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرً﴾ [النساء: 137]، وكما في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُو﴾ [التوبة: 37].
المقصود: أنَّ من أسباب الخطأ في بحث كثيرٍ من المسائل: عدم معرفة فائدة الخلاف وثمرته، أو ترتيب ثمرات وفوائد لا يصح ترتيبها على الخلاف، ولذا فإنَّ مَن حكى خلافًا في مسألة وأوردَ قولين، ولم يستوعب أقوال الناس فيها؛ فبحثه ناقص، ولا يعدُّ قد فقهَ المسألة، إذ قد يكون الصَّواب في القول الذي تركه، ولم يذكره عند بحث المسألة.
ومثل هذا أيضًا: مَن حكى الخلاف ولم يعرف الراجح من المرجوح، فحينئذٍ بحثه لا يُفيد ولا يستفيد منه؛ بل هو بحثٌ ناقص.
وهكذا من أسباب نقصِ البحث وعدم تمامه: أن لا يذكر ثمرته، أو أن لا يعرف الفائدة المترتبة عليه.
ومما يتعلق أيضًا بالخطأ في هذا: أن لا يكون عنده قدرة على الترجيح بين الأقوال، كما لو كان لا يعرف قواعد الفهم والاستنباط، أو لا يعرف ما يصح الاستدلال به مما لا يصح الاستدلال به، والناس في هذا على ثلاثة أنواع:
- مَن يُخطئ عامدًا: فهذا قد تعمَّدَ الكذب على ربِّ العزَّة والجلال.
- ومنهم من يكون جاهلًا: وبالتَّالي يكون قد دخل في بابٍ ليس له.
- ومنهم مَن يكون مُخطئًا مع معرفته بالأصل، لكن خفي عليه، أو لم يعرف طريقة تطبيقه؛ فوقع في الخطأ.
ثم ذكر المؤلف بعد ذلك شيئًا آخر من الخطأ عند بحث المسائل الخلافيَّة، ألا وهو أنَّ بعض الناس يحكي أقوالًا مُتعدِّدة، الخلاف بينها إنَّما هو في الألفاظ، فالخلاف بينها خلافٌ لفظي، وليس خلافًا حقيقيًّا، وبالتَّالي يكون الخلاف لا ثمرة له ولا فائدة، وهذا يُعرَف عند أهل العلم بـ "الخلاف اللفظي".
ومن أنواع ذلك: ذكر خلاف لم يتوارد على محلٍّ واحد، صحيح قد يتَّفقون في اللفظ، لكنهم لا يتكلَّمون على محلٍّ واحد، مثل الخلاف في حُجيَّة الاستحسان، فإنَّ مَن أبطله يُريدُ معنًى مغايرًا للمعنى الذي يقوله مَن يُثبته، فمن أراد بالاستحسانِ ما يستحسنه العقل المجرَّد ردَّهُ، ومَن أراد بالاستحسان ترك القياس لدليلٍ من الكتاب والسنَّة قبِلَهُ، ومن ثَمَّ خلافهم لم يتوارد على محلٍّ واحدٍ، وإنَّما وردَ على محالٍّ متعدِّدَة.
وفي مرَّات تُحكى أقوالٌ لا يُوجد قائل بها، وهذا ما يُسمَّى بــ "التَّراجُم"، بحيث يُنسَبُ إلى كل طائفة قول لم تقل به، فهؤلاء ينسبون إلى آخرين أنَّهم قالوا بذلك، والآخرون ينسبون إلى غيرهم أنَّهم قد قالوا به؛ وكل منهم يرجُمُ الآخر بتهمة ذلك القول، ولا قائلَ بذلك القول!
ومن ثَم؛ فالاشتغال بحكاية الخلاف في ذلك يرجع حاصلها إلى أنَّه تضييع للزمان وتفويت للأوقات، ولا قيمة له؛ بل سمَّاه المؤلِّف (تَكثُّرًا بِمَا لَيْسَ بِصَحِيحِ)، كأنَّه ينسب إلى نفسه العلم في مسائل لا ثمرة للمعرفة بها، وإنما العلم النافع ما يُنتجُ عملًا يُمكن التَّقرُّب به لله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولذا سمَّى المُتكثِّرُ بالقول في هذه المسائل وجعله بمثابة لابس ثوبي الزُّور.
هذا ما يتعلَّق بهذه المسائل، وأسباب الخطأ التي تقع بين مَن يحكي أقوالًا في مسائل التَّفسير، وفي غيرها كمسائل المعتقد أو الفقه، أو نحوها.
ولعلنا -إن شاء الله- نواصل القراءة، فلتتفضَّل مشكورًا.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، غفر الله لنا ولشيخنا وللمشاهدين.
قال شيخ الإسلام -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ فِي تَفْسِيرِ القُرْآنِ بِأَقْوَالِ التَّابعين.
إذَا لَمْ تَجِدْ التَّفسير فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ وَلَا وَجَدْته عَنْ الصَّحابة؛ فَقَدْ رَجَعَ كَثِيرٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ التَّابعين؛ كَمُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ فَإِنَّهُ كَانَ آيَةً فِي التَّفسير كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحَاقَ: حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: "عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ عَرضَات مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا".
وَبِهِ إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مَهْدِيٍّ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مُعَمَّرٍ عَنْ قتادة قَالَ: "مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إلَّا وَقَدْ سَمِعْتُ فِيهَا شَيْئًا"، وَبِهِ إلَيْهِ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عيينة عَنْ الْأَعْمَشِ قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: "لَوْ كُنْت قَرَأْت قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ لَمْ أَحْتَجْ أَنْ أَسْأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ الْقُرْآنِ مِمَّا سَأَلْت".
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ: حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ، عَنْ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: رَأَيْت مُجَاهِدًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعَهُ أَلْوَاحُهُ قَالَ: فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: "اُكْتُبْ حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ التَّفسير كُلِّهِ".
وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: "إذَا جَاءَك التَّفسير عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ".
وَكَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ. وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ. وَمَسْرُوقِ بْنِ الْأَجْدَعِ. وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ. وَأَبِي الْعَالِيَةِ. وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ. وقتادة. وَالضِّحَاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ التَّابعين وَتَابِعِيهِمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ؛ فَتُذْكَرُ أَقْوَالُهُمْ فِي الْآيَةِ فَيَقَعُ فِي عِبَارَاتِهِمْ تَبَايُنٌ فِي الْأَلْفَاظِ يَحْسَبُهَا مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ اخْتِلَافًا فَيَحْكِيهَا أَقْوَالًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ الشَّيْءِ بِلَازِمِهِ أَوْ نَظِيرِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنُصُّ عَلَى الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ، وَالْكُلُّ بِمَعْنَى وَاحِدٍ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَمَاكِنِ، فَلْيَتَفَطَّنْ اللَّبِيبُ لِذَلِكَ وَاَللَّهُ الْهَادِي.
وَقَالَ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ وَغَيْرُهُ: "أَقْوَالُ التَّابعين فِي الْفُرُوعِ لَيْسَتْ حُجَّةً، فَكَيْفَ تَكُونُ حُجَّةً فِي التَّفسير؟!" يَعْنِي: أَنَّهَا لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِمْ مِمَّنْ خَالَفَهُمْ، وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا إذَا أَجْمَعُوا عَلَى الشَّيْءِ فَلَا يُرْتَابُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً، فَإِنْ اخْتَلَفُوا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ، وَلَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَيُرْجَعُ فِي ذَلِكَ إلَى لُغَةِ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ، أَوْ عُمُومِ لُغَةِ الْعَرَبِ أَوْ أَقْوَالِ الصَّحابة فِي ذَلِكَ.
فصل: تَفْسِيرُ القُرْآنِ بِالرَّأْيِ.
فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الرَّأْيِ فَحَرَامٌ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ".
حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى الثَّعْلَبِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنٍ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ".
وَبِهِ إلَى التِّرْمِذِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حميد حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ هِلَالٍ قَالَ حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ أَخُو حَزْمٍ القطعي قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الجوني عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَأَ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي سُهَيْلِ بْنِ أَبِي حَزْمٍ. وَهَكَذَا رَوَى بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْحَابِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُمْ شَدَّدُوا فِي أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِغَيْرِ عِلْمٍ. وَأَمَّا الَّذِي رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وقتادة وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ فَلَيْسَ الظَّنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِي الْقُرْآنِ وَفَسَّرُوهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَوْ مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَمَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَسَلَكَ غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ، فَلَوْ أَنَّهُ أَصَابَ الْمَعْنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لَكَانَ قَدْ أَخْطَأَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ الْأَمْرَ مِنْ بَابِهِ كَمَنْ حَكَمَ بَيْنَ النَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَإِنْ وَافَقَ حُكْمُهُ الصَّوَابَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لَكِنْ يَكُونُ أَخَفَّ جُرْمًا مِمَّنْ أَخْطَأَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَكَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْقَذَفَةَ كَاذِبِينَ فَقَالَ: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النور: 13]، فَالْقَاذِفُ كَاذِبٌ، وَلَوْ كَانَ قَدْ قَذَفَ مَنْ زَنَى فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِخْبَارُ بِهِ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِهَذَا تَحَرَّجَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ عَنْ تَفْسِيرِ مَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ؛ كَمَا رَوَى شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إذَا قُلْتُ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَمْ أَعْلَمْ؟
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَامٍ: حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ الْعَوَّامِ بْنِ حَوْشب عَنْ إبْرَاهِيمَ التيمي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّ﴾ [عبس: 31]، فَقَالَ: أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي إنْ أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ؟ مُنْقَطِعٌ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَيْضًا حَدَّثَنَا يَزِيدُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ: ?وَفَاكِهَةً وَأَبًّا? فَقَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ يَا عُمَرُ.
وَقَالَ عَبْدُ بْنُ حميد حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفِي ظَهْرِ قَمِيصِهِ أَرْبَعُ رِقَاعٍ فَقَرَأَ: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّ﴾ فَقَالَ: مَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ فَمَا عَلَيْك أَنْ لَا تَدْرِيهِ.
وَهَذَا كُلُّهُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا -رَضِيَ اللهُ عنْهُ-ما إنَّمَا أَرَادَا اسْتِكْشَافَ عِلْمِ كَيْفِيَّةِ الْأَبِّ وَإِلَّا فَكَوْنُهُ نَبْتًا مِنْ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ لَا يُجْهَلُ؛ لقوله تعالى تَعَالَى: ﴿فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبً﴾ [عبس: 27-30].
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا بَعْضُكُمْ لَقَالَ فِيهَا فَأَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا. إسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا إسْمَاعِيلُ بْنُ إبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ: ﴿يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [السجدة: 5]، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا: ﴿يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: 4]؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّمَا سَأَلْتُك لِتُحَدِّثَنِي فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا. فَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: جَاءَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ إلَى جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ. فَقَالَ: "أُحَرِّجُ عَلَيْك إنْ كُنْت مُسْلِمًا لَمَا قُمْت عَنِّي" أَوْ قَالَ: "أَنْ تُجَالِسَنِي".
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إِنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ: "إنَّا لَا نَقُولُ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا".
وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: "إنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا فِي الْمَعْلُومِ مِنَ الْقُرْآنِ".
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: "لَا تَسْأَلْنِي عَنِ الْقُرْآنِ وَسَلْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ يَعْنِي عِكْرِمَةَ".
وَقَالَ ابْنُ شوذب: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: "كُنَّا نَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ فَإِذَا سَأَلْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ سَكَتَ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ".
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْنُ عبدة الضبي حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: "لَقَدْ أَدْرَكْت فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ وَإِنَّهُمْ لَيُعَظِّمُونَ الْقَوْلَ فِي التَّفسير، مِنْهُمْ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَنَافِعٌ".
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ اللَّيْثِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: "مَا سَمِعْت أَبِي تَأَوَّلَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَطُّ".
وَقَالَ أَيُّوبُ وَابْنُ عَوْنٍ وَهُشَامٌ الدستوائي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سيرين قَالَ سَأَلْت عُبَيْدَةَ السلماني عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: "ذَهَبَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ فَاتَّقِ اللَّهَ وَعَلَيْك بِالسَّدَادِ".
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ عَنْ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "إذَا حَدَّثْت عَنِ اللَّهِ فَقِفْ حَتَّى تَنْظُرَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ".
حَدَّثَنَا هشيم عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُنَا يَتَّقُونَ التَّفسير وَيَهَابُونَهُ".
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ قَالَ: "قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَاَللَّهِ مَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَقَدْ سَأَلْت عَنْهَا وَلَكِنَّهَا الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ".
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا هشيم، أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: "اتَّقُوا التَّفسير فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ".
فَهَذِهِ الْآثَارُ الصَّحِيحَةُ وَمَا شَاكَلَهَا عَنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ مَحْمُولَةٌ عَلَى تَحَرُّجِهِمْ عَنْ الْكَلَامِ فِي التَّفسير بِمَا لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ.
فَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ بِمَا يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ لُغَةً وَشَرْعًا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ هَؤُلَاءِ وَغَيْرِهِمْ أَقْوَالٌ فِي التَّفسير وَلَا مُنَافَاةَ؛ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا فِيمَا عَلِمُوهُ وَسَكَتُوا عَمَّا جَهِلُوهُ، وَهَذَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، فَإِنَّهُ كَمَا يَجِبُ السُّكُوتُ عَمَّا لَا عِلْمَ لَهُ بِهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ الْقَوْلُ فِيمَا سُئِلَ عَنْهُ مِمَّا يَعْلَمُهُ؛ لقوله تعالى: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]، وَلِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ مِنْ طُرُقٍ: "مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ".
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "التَّفسير عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
وَجْهٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا.
وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ.
وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ.
وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ".
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ)
}.
ذكر المؤلف في هذا الفصل أمورًا يُمكن أن تُجعل أصولًا في تفسير كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- مع الأصول السابقة التي هي: الكتاب، والسنة، وإجماع الصَّحابة، وأقوال الصَّحابة.
أوَّلُ ذلك: ما يتعلق بأقوال التَّابعين. فهل يُفسر القرآن بأقوال التَّابعين؟
أقوال التَّابعين على نوعين:
النوع الأول: ما أجمعوا عليه، واتفقت كلمتهم على تفسير القرآن به: فهذا حجَّة يجب المصير إليه، ولا يجوز لأحدٍ أن يُخالفه، للأدلَّة التي دلَّت على حُجيَّة الإجماع -كما تقدَّم تقريرها.
النوع الثاني: أقوال آحاد التَّابعين: وهذا منه ما لم يحصل فيه اختلاف، كأن يرد عن أحد التَّابعين ولم يشتهر في الأمَّة، ولم يرد خلافه، فهذا وقع الاختلاف في حجيَّة تفسير القرآن به.
وقد ذكر المؤلف هنا قولين:
القول الأول نسبه إلى كثير من الأئمة بأنهم كانوا يرجعون إلى أقوال التَّابعين، ومثَّل لذلك باعتمادهم لأقوال مجاهد بن جبر، فإنَّه كان آيةً في التَّفسير، قَالَ: "عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ ثَلَاثَ عَرضَات مِنْ فَاتِحَتِهِ إلَى خَاتِمَتِهِ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا"؛ فكأنه يُشير إلى معنى في قول مَن يقول بالاحتجاج بأقوال التَّابعين في التَّفسير، ألا وهو أنَّهم نقلوا تفاسيرهم عن مَن قبلهم، فقول التابعي قرينة على وجود قول صحابي في تفسير الآية بمثل ذلك التَّفسير، ولذا قال مجاهد: "مَا فِي الْقُرْآنِ آيَةٌ إلَّا وَقَدْ سَمِعْتُ فِيهَا شَيْئًا"، يعني من الصَّحابة.
ونقل عددًا من النُّقول في هذا الباب، قال: (عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: "رَأَيْت مُجَاهِدًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ وَمَعَهُ أَلْوَاحُهُ قَالَ: فَيَقُولُ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: (اُكْتُبْ) حَتَّى سَأَلَهُ عَنْ التَّفسير كُلِّهِ". وَلِهَذَا كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يَقُولُ: "إذَا جَاءَك التَّفسير عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك بِهِ").
ونقل المؤلف أسماء عددٍ من التَّابعين ممَّن يُعتمَد عليهم في تفسير كلام ربِّ العزَّة والجلال.
وهناكَ مَن رأى أنَّ أقوال التَّابعين لا يُحتجُّ بها، ولا يصحُّ تفسير القرآن بها، لأنَّ أقوال التَّابعين ليست بحجَّة في الأحكام والفروع الفقهيَّة، ومن ثَمَّ لا يصحُّ أن تُجعل حجَّةً في تفسير كلام ربِّ العزَّة والجلال.
وهذا الخلاف كان موجودًا ومقررًا، وكأن المؤلف اختار القول الثاني، ما يعني أنَّ تفسير التَّابعين ليس حجَّة.
والنَّاظر في تفاسير التَّابعين يجد أنها تُنبِّه على معانٍ في الآية، فمرَّة يأتي قول التابعي ليستدل بسياق الآية، أو يفسر آيةً بضابطٍ موجود في آيةٍ أخرى أو حديث، وبالتَّالي لابد من مراعاة أقوال التَّابعين في ذلك.
إذًا أنواع تفاسير التَّابعين:
الأول: عند إجماعهم.
الثاني: عندما يرد لنا قول تابعي واحد لا مخالف له ولم ينتشر في الأمة.
الثالث: عند اختلاف التَّابعين، فإذا اختلف التَّابعون فلا يصح لنا أن نرجح قولًا على قولٍ بمجرد مَن هو التابعي القائل لذلك، وإنما لابد من النَّظر في الأدلَّة التي تدلُّ على رجحان بعض هذه الأقوال على بعضها الآخر، فلا يكون قول بعضهم حجَّة على البعض الآخر، ولا حجَّة على مَن بعدهم.
وهنا لابدَّ أن يُنبَّه إلى شيء؛ ألا وهو: أنَّه إذا اختلف التَّابعون على قولين فإنَّ الحق يكون في أحد هذين القولين، وبالتَّالي لا يجوز لنا أن نُحدث أقوالًا جديدة في هذه المسائل، لأنَّ الحق لا يخرج عن هذه الأمَّة.
من الأمور التي يقع الاختلاف في تفسير القرآن بها: تفسير القرآن بلغة العرب.
لا شكَّ أنَّ القرآن عربي، كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2]، وكما في قوله: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ [الشعراء: 195]، ونحو ذلك من النصوص؛ فلمَّا كان القرآن عربيًّا نزل بلغة العرب فإنَّ مَن أراد أن يفهمه وأن يعرف المعاني التي اشتمل عليها فعليه حينئذٍ أن يرجع إلى لغة العرب كيف تفهم هذا الكلام.
والعرب في كلامها تفهم النَّص مرة بمعرفة معاني كل كلمة لوحدها، ومرة بمعرفة المعنى الإجمالي عند ارتباط هذه الكلمات بعضها ببعضها الآخر، ومن المعلوم أن العرب لا تتكلم بالكلمة المجردة، وإنَّما تتكلم بالجُمل التامَّة، وبالتَّالي لابدَّ عند تفسير القرآن بكلام العرب أن يُلاحظ السياق كاملًا، والجملة تامَّة، وأن لا يُستند إلى اللفظ المجرد، فإنَّ اللفظ المجرد عند اختلاف سياقه يختلف معناه.
وبالتَّالي لا بأس من تفسير القرآن باللغة العربية.
يبقى عندنا أمر، ألا وهو: تفسير القرآن بمجرَّد الرأي، وهذا لا يجوز، وهو من الأمور المحرَّمة، لأمور:
أولًا: أنَّ هذا قول على الله بلا علم.
ثانيًا: أنَّ هذا تفسير كلام الله -عَزَّ وَجَلَّ- بدون أن يكون له مستند صحيح.
ووردَ في المأثور: «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ»، و «مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ فَأَصَابَ فَقَدْ أَخْطَ»؛ ونحو ذلك من الأحاديث التي يشهد لها عدد من الآيات، كقوله تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولً﴾ [الإسراء: 36]، وقوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبً﴾ [الأنعام: 144]، وقوله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 168، 169]، وقوله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف: 33]، وقوله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى﴾ [طه: 61].
وانظر للعقوبة الشديدة في قوله: ﴿وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ﴾ [الحاقة: 44، 45]، فهذه الآية فيها تحذير شديد لأولئك الذين يقولون على الله بتفسير كلامه بدون أن يكون لهم مستند.
ويدل على تحريم تفسير القرآن بالرأي: إجماع الصَّحابة والتَّابعين على ذمِّ مَن سلكَ هذا المسلك.
والذي يُروَى عن أئمَّة التَّابعين في تفسير القرآن ليس من تفسير القرآن بالرَّأي المجرد، فهم لم يفسروا القرآن بغير علم، ولم يفسروا القرآن من قبل أنفسهم؛ بل أنكروا على مَن فعل ذلك، وجعلوه متكلِّفًا، وذمُّوا حاله، وبيَّنوا أنَّه قد تقوَّل على الله -جَلَّ وَعَلَا-، ومن ثَمَّ فهم يرون تحريمه، حتى ولو كان المفسِّر بالرأي قد وصل إلى التَّفسير الصحيح، فإنَّه وإن وصل إلى مدلول صحيح لكنَّ الدليل الذي استند إليه -وهو الرأي المجرد- ليس صحيحًا، ولا يجوز اتباعه، ولذا مَن قال في القرآن برأيه فأصاب؛ فقد أخطأ الطريق الذي يُوصل إليه.
ومثَّل المؤلف لذلك بالقاضي الذي يقضي عن جهلٍ، فقد يُصيب الحق في بعض المسائل، لكن إصابته للحق ليست عن كمال أهليَّةٍ وإرادةٍ صحيحةٍ، ومن ثَمَّ استحقَّ العقوبة وكان من أهل النار كما ورد في الحديث. وتفسير القرآن بهذه الآراء أشدُّ جُرمًا وأكثرُ خطأ.
ثم ذكر المؤلف أنَّ مَن تكلَّم بكلام لا حقَّ له في التَّكلُّم به فإنَّه يكون عند الله كاذبًا ولو كان مصيبًا في نفس الأمر.
من أمثلة ذلك: المغتاب، فهو يذكر أشياء حقيقية موجودة فيمن تمَّ اغتيابه، ومع ذلك فهو آثم عاصٍ لله -جَلَّ وَعَلَا.
وهكذا: القاذف الذي لم تستكمل معه الشهادة، يرى الرجل يزني بالمرأة ويشاهدهما بعينيه، ولا يجوز له أن يتحدَّث بذلك، وإذا تحدَّث عُدَّ عند الله كاذبًا، كما في قوله تعالى: ﴿فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ﴾ [النور: 13]،
ومن هنا نعرف معنى مراد السَّلف -رضوان الله عليهم- من الصَّحابة والتَّابعين فمَن بعدهم عندما كانوا يتحرَّجون من تفسير القرآن، لئلَّا يقولوا في تفسير القرآن بالرأي المجرد، فيكونوا ممَّن قال على الله بلا علم.
ومثَّل المؤلف لذلك بتفسير قَوْلِهِ: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّ﴾ [عبس: 31]، ما المراد بالأبِّ؟ وما هو نوع الطَّعام الذي أُريد بهذه الكلمة؟
كلمة "أبّ" نعلم أنَّها من النبات؛ لأن في أول الآية: ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّ﴾ [عبس: 27]، ثم عطف عليها هذه الأشياء، ثم قال: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّ﴾؛ لكن ما هو الأب ومن أي أنواع النبات؟
لم يرد لنا تعيينه في النُّصوص، وبالتَّالي لا يصح لنا أن نفسره حتى يأتينا دليل.
وبعض أهل العلم استدل بالآية التي بعدها: ﴿مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ﴾ [عبس: 32]، أن "الأب" طعام البهائم، لكن أي أنواع الطعام؟ نقول: الله أعلم!
وورد عن أبي بكر الصديق في تفسير هذه الآية أنَّه لَمَّا سُئل قال: "أَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي وَأَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي، إنْ أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا أَعْلَمُ؟"، أي: أي سماء تكون فوقي، وأي أرض تحملني إذا فسَّرتُ القرآن بما لا أعلم. وحكم المؤلف على هذا الإسناد بأنه منقطع.
وورد بإسنادٍ جيد عن عمر "أنَّه قَرَأَ عَلَى الْمِنْبَرِ: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّ﴾ فَقَالَ: هَذِهِ الْفَاكِهَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ: إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ يَا عُمَرُ"، أي: لو كنَّا نحتاجُ إليه لذكره لنا ربُّ العزَّة والجلال في كتابه، ولبيَّنه لنا.
وعَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كُنَّا عِنْدَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَفِي ظَهْرِ قَمِيصِهِ أَرْبَعُ رِقَاعٍ فَقَرَأَ: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّ﴾ فَقَالَ: مَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذَا لَهُوَ التَّكَلُّفُ فَمَا عَلَيْك أَنْ لَا تَدْرِيهِ"، فما دام أنَّ الله لم يوضح معنى "الأب" فحينئذٍ نحن لا نحتاج إلى توضيحه، وبالتَّالي لا نتكلف في البحث عنه.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهَذَا كُلُّهُ)، أي هذه الروايات الواردة في هذا (مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُمَا -رَضِيَ اللهُ عنْهُم)، يعني أبي بكر وعمر -رَضِيَ اللهُ عنْهُما- (إنَّمَا أَرَادَا اسْتِكْشَافَ عِلْمِ كَيْفِيَّةِ الْأَبِّ وَإِلَّا فَكَوْنُهُ نَبْتًا مِنْ الْأَرْضِ ظَاهِرٌ لَا يُجْهَلُ؛ لقوله تَعَالَى: ﴿فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا *وَفَاكِهَةً وَأَبًّ﴾ [عبس: 27-30]).
قال: (وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ سُئِلَ عَنْ آيَةٍ لَوْ سُئِلَ عَنْهَا بَعْضُكُمْ لَقَالَ فِيهَا فَأَبَى أَنْ يَقُولَ فِيهَا")، يعني: إنَّ ابن عباس كان يُسأل عن الآية فلا يقول فيها شيئًا، وأحدكم لو تُعرَض عليه تلك الآية التي كان ابن عباس -ترجمان القرآن المعلَّم للتأويل- يسكت عنها؛ ومع ذلك لو عُرضت عليهم تتكلَّمون فيها وتفسرون القرآن! فابن مليكة يعيب على الناس تفسيرهم للقرآن بالرأي المجرد.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ: ﴿يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [السجدة: 5]، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا: ﴿يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ﴾ [المعارج: 4]؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: إنَّمَا سَأَلْتُك لِتُحَدِّثَنِي. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا يَوْمَانِ ذَكَرَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِمَا. فَكَرِهَ أَنْ يَقُولَ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا لَا يَعْلَمُ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ إبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، قَالَ: جَاءَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ إلَى جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَسَأَلَهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ الْقُرْآنِ. فَقَالَ: "أُحَرِّجُ عَلَيْك إنْ كُنْت مُسْلِمًا لَمَا قُمْت عَنِّي")
، يعني: قُمْ عنِّي، لأنَّك تسألني عن تفسير لا أعرف له أصلًا أتمكَّنُ به من تفسيره به، وبالتَّالي لا أُفسِّر القرآن برأيي المجرَّد، فأقامه من مجلسه خشية أن يورد عليه هذه الأسئلة التي لم يرد بيانها.
وأورد المؤلف آثارًا عن التَّابعين في هذا الباب في أنهم كانوا يمتنعون عن تفسير القرآن بالرأي المجرَّد، فهذا إجماع من التَّابعين -رضوان الله عليهم- قال: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: إِنَّهُ كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ قَالَ: "إنَّا لَا نَقُولُ فِي الْقُرْآنِ شَيْئًا")، يعني: لا أبتدئ قولًا في تفسير القرآن، وإنَّما أنقلُ عن مَن سبقني في تفسير القرآن.
قال: (عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ: "إنَّهُ كَانَ لَا يَتَكَلَّمُ إلَّا فِي الْمَعْلُومِ مِنَ الْقُرْآنِ".
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: "لَا تَسْأَلْنِي عَنِ الْقُرْآنِ وَسَلْ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ شَيْءٌ" يَعْنِي عِكْرِمَةَ.
وَقَالَ ابْنُ شوذب: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي يَزِيدَ قَالَ: "كُنَّا نَسْأَلُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ عَنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَكَانَ أَعْلَمَ النَّاسِ فَإِذَا سَأَلْنَاهُ عَنْ تَفْسِيرِ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ سَكَتَ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْ".
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي أَحْمَد بْنُ عبدة الضبي حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: "لَقَدْ أَدْرَكْت فُقَهَاءَ الْمَدِينَةِ وَإِنَّهُمْ لَيُعَظِّمُونَ الْقَوْلَ فِي التَّفسير")
، يعني يمتنعون منه.
قال: (عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: "مَا سَمِعْت أَبِي تَأَوَّلَ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ قَطُّ")، يعني: ما سمعتُ عروة بن الزبير فسَّر آية من كتاب الله ابتداءً، ولكن قد ينقل عن مَن سبقه.
قال: (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سيرين قَالَ سَأَلْت عُبَيْدَةَ السلماني عَنْ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ فَقَالَ: "ذَهَبَ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ فِيمَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ فَاتَّقِ اللَّهَ وَعَلَيْك بِالسَّدَادِ")، يعني: لا تتكلَّم في القرآن برأيك، وعليك بالسَّداد.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "إذَا حَدَّثْت عَنِ اللَّهِ فَقِفْ حَتَّى تَنْظُرَ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ".
حَدَّثَنَا هشيم عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ: "كَانَ أَصْحَابُنَا يَتَّقُونَ التَّفسير وَيَهَابُونَهُ".
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ قَالَ: "قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَاَللَّهِ مَا مِنْ آيَةٍ إلَّا وَقَدْ سَأَلْت عَنْهَا وَلَكِنَّهَا الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ".
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنَا هشيم، أَنْبَأَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: "اتَّقُوا التَّفسير فَإِنَّمَا هُوَ الرِّوَايَةُ عَنِ اللَّهِ")
، كأنَّه ينهاهم عن التَّفسير بالرأي.
فهذه الآثار الصَّحيحة الواردة عن السَّلف تبيِّن لك أنَّ التَّابعين وأنَّ الصَّحابة كانوا يتحرَّجون من تفسير القرآن بالرأي المجرَّد، أمَّا تفسير القرآن بالقرآن، وتفسير القرآن بالسَّنَّة، وتفسير القرآن بالإجماع، وتفسير القرآن بأقوال الصَّحابة، وبأقوال التَّابعين، أو بلغة العرب؛ فهذا مقبولٌ لا استدراك فيه.
ورُوي عن هؤلاء السَّلف -الذين ذكرنا قبل قليل أسماءهم- أنهم في مرات فسروا القرآن، وأنهم قالوا بأقوال في التَّفسير، ولكن هذه الأقوال التي قالوها بنوها على مستندٍ من هذه الأصول الستَّة السابقة، أمَّا ما لم يكن فيه أصل فكانوا يمتنعون عنه، وبالتَّالي نجمع بين الروايات الواردة عن هؤلاء؛ فإنَّهم تكلَّموا فيما علموه، وسكتوا عمَّا جهلوه. وهذا هو الواجب على كل إنسان، فلا تتكلَّم إلا بما تعلم.
والمؤلف يقول: مَن علم شيئًا مما يحتاج الناس إلى علمه فإنه يجب عليه بيانه وإظهاره، واستدل على ذلك بقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ [آل عمران: 187]، فهذا ميثاق يجب عليهم أن يُبيِّنوه.
واستدلَّ على ذلك بما ورد في حديث: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلِجَامِ مِنْ نَارٍ»، وهذا الحديث لأهل العلم فيه كلام، وأكثر أهل العلم يضعِّفونه.
ثم أورد المؤلِّف في آخر الرِّسالة أثرًا عن ابن عباس، أنَّه قال: "التَّفسير عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ"، يعني تفسير القرآن ومعرفة معانيه.
قال: "وَجْهٌ تَعْرِفُهُ الْعَرَبُ مِنْ كَلَامِهَا"، نرجع إلى لغة العرب فنعرف معاني هذه الألفاظ، فنعرف المراد بهذا اللفظ، مثل قوله: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ﴾ [النساء: 23]، فنرجع إلى لغة العرب لمعرفة المراد بذلك، فنعرف أنَّ "الأمهات" كل امرأة لها عليك ولادة، وأن "البنات" كل امرأة لك عليها ولادة.
قال: "وَتَفْسِيرٌ لَا يُعْذَرُ أَحَدٌ بِجَهَالَتِهِ"، يعني كل الناس يعرفونه، مثل قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ﴾ [آل عمران: 190]، فالسماوات والأرض يعرفها كل أحد.
قال: "وَتَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ"، وهو ما يحتاج إلى أصول، وإلى معرفة من الكتاب والسنة، وبالتَّالي يختص بمعرفته علماء الشريعة، وهذا يدلُّك على فضل علماء الشريعة، وأنَّهم يُبيِّنون لنا مراد الله -جَلَّ وَعَلَا- بكلامه وبكتابه.
قال: "وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ"، وهذا النوع لا يكون من جميع جهات اللفظ، وإنما يكون من بعضها، مثل قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ [الأعراف: 54]، فالاستواء واضح في لغة العرب أنَّه الارتفاع والعلو والاستقرار، ولكن كيفية هذا الاستواء الله أعلم به، فالعلماء علموا بالمعنى، لنهم جهلوا الكيفيَّة التي استأثر الله -جَلَّ وَعَلَا- بمعرفتها، وبالتَّالي نعرف المراد بقوله "وَتَفْسِيرٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ"، تعالى ذكره.
وهذه الرسالة رسالة عظيمة، وفيها الأصول التي يُرجَع إليها في تفسير كلام ربِّ العزَّة والجلال، فنحثُّ طلبة العلم على قراءتها، وعلى معرفة الأصول التي يُستند إليها في تفسير كلام ربِّ العزَّة والجلال لأهميَّة تفسير القرآن، وشدَّة الحاجة إليه، وشموله جميع الأحكام التي نحتاج إليها.
باركَ الله فيكَ، ووفقكَ الله للخيرِ، كما أسأله -جَلَّ وَعَلَا- أن يوفِّق إخوتي المشاهدين الكرام، وأن يجعلهم موفَّقينَ مُعانِينَ، وأن يرزقنا جميعًا تفسيرَ كتابه وفهم معانيه، كما أسأله -جَلَّ وَعَلَا- لجميع المسلمين هدايةً ورشادًا، واستقامةً على الحقِّ، اللهم يا حيُّ يا قيُّوم يا رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، فاهدنا لما اختُلف فيه من الحقِّ بإذنك، إنَّك تهدي مَن تشاء إلى صراطٍ مستقيم، اللهم اهدنا الصِّراط المستقيم، اللهم اهدنا الصِّراط المستقيم، اللهم اهدنا الصِّراط المستقيم، هذا والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وأتباعه، وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك