الدرس الرابع
معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري
إحصائية السلسلة
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضلِ الأنبياءِ والمرسَلينَ.
أمَّا بعدُ؛ فأرحبُ بأحبَّتي طلبة العلم الذين يرغبون بأن يكون لديهم تأصيل في
تفسير كلام ربِّ العزَّة والجلال، بحيث يُمكِّنهم ذلك من فهم مُراد الله بمقاصد
ومرامي كتابه العزيز.
وكان ممَّا تكلَّم فيه شيخ الإسلام في مُقدِّمة التفسير: أن ذكرَ أنَّ اختلاف
الصحابة والسلف في تفسير القرآن قليل، وانَّ أكثر اختلافات الصَّحابة والتَّابعين
في تفسير القرآن من اختلاف التَّنوُّع لا من اختلاف التَّقابل والتَّضاد.
ومثَّل الشيخ لهذا بعددٍ من الأمثلة، فالصِّنف الأوَّل من الأمثلة: ما يتعلق
بالأسماء المتكافئة، وهي الدَّالَّة على ذاتٍ واحدةٍ، وإن كان كلُّ اسمٍ منها
يختصُّ بدلالةٍ على صفةٍ لا يدل عليها الاسم الآخر، وإن كان في بعض المرات قد يكون
بينهم شيءٌ من التَّرابط.
ومن أمثلة ذلك: أسماء ربِّ العزَّة والجلال؛ فإنَّها تدل على ذاتٍ واحدةٍ، مع كونها
تدلُّ على معانٍ زائدة عن الذَّات والْمُسمَّى.
فمثلًا: أسماء الله: العليم والرحيم يدلَّان على ذات ربِّ العزَّة والجلال، وإن كان
"العليم" فيه فضيلة زيادة صفة العلم، و"الرحيم" فيه زيادة دلالة على صفة الرَّحمة
عند ربِّ العزَّة والجلال، ومن مُقتضى العلم أن يكون هناك حياة؛ وبالتَّالي فاسم
"العليم" دَلَّ على الذَّات، ودلَّ على الصِّفة وهي العلم، ودلَّ على لوازم تلك
الصفة.
النوع الثاني من أنواع اختلاف التَّنوُّع: ما ذكره الشيخ في قوله: (أَنْ يَذْكُرَ
كُلٌّ مِنْهُمْ مِنْ الِاسْمِ الْعَامِّ بَعْضَ أَنْوَاعِهِ عَلَى سَبِيلِ
التَّمْثِيلِ)، فلو أتانا حديث «البُر بالبُر رب»، فيقول أحد الناس: المراد به:
القمح. ويقول الآخر: الدقيق؛ فكلاهما يدل على معنًى واحد، ولكن أحدهما ذكرَ نوعًا
من أنواع ذلك الاسم العام، والآخر ذكر نوعًا آخر.
ومن أمثلة هذا: ما لو فُسِّر قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ بتفاسير مختلفة
لأنواع الناس، فمن ثَمَّ لا يكون هذا من اختلاف التَّضاد، وإنَّما هو من اختلاف
التَّنوُّع؛ لأنَّ كلَّ واحدٍ من المفسِّرين نبَّه المستمع له على نوعٍ من أنواع
ذلك الاسم العام.
مثلًا: لو جاءنا اسم "الماء" في قوله: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً﴾ [النساء: 43]، فقال
أحد المفسرين: مثلُ ماء البحرِ. وقال الآخر: مثلُ الآبار ومياهها. وقال الآخر: مثل
مياه الأمطار.
فهذا الاختلاف ليس من اختلاف التَّضادِّ، وإنَّما هو من اختلاف التَّنوُّع؛ لأنَّ
كلَّ واحدٍ من المفسرين أراد أن يُنبِّه المستمع له على نوعٍ من أنواع ذلك الاسم
العام ليقربه له، وليس مراده ذكرُ حدٍّ مطابقٍ للمحدودِ بحيث يكونُ مانعًا من دخول
غير أفراده فيه، ويكونُ جامعًا لجميع أفراده.
ومثَّل المؤلف لهذا بمثالٍ، فقال: (مِثْل سَائِلٍ أَعْجَمِيٍّ سَأَلَ عَنْ مُسَمَّى
"لَفْظِ الْخُبْزِ" فَأُرِيَ رَغِيفًا وَقِيلَ لَهُ: هَذَا. فَالْإِشَارَةُ إلَى
نَوْعِ هَذَا لَا إلَى هَذَا الرَّغِيفِ وَحْدَهُ)، فكلُّ واحدٍ من المفسرين لم
يُرد استيعاب الاسم العام، وإنَّما أراد التَّمثيل له ببعض الأمثلة الدَّالَّة على
معنى الخبز، فلو جاء أحدهم وقال: هو هذا الخبز المفرود، وأراه خبزة مفرودة، فهو لا
يُريد انحصار اسم الخبز في هذه الخبزة التي بين يديه، ولا بذلك النَّوع.
وقال الآخر: الخبز مثل هذه، وأراه الخبز الصَّامولي الذي يكون ملفوفًا. وقال آخر:
الخبز مثل هذه.
فهذا الاختلاف ليس من اختلاف التَّضادِّ، وإنَّما هو من اختلاف التَّنوُّع الذي لا
تقابل فيه.
أوردَ المؤلف من أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ
اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ
وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾ [فاطر: 32].
يذكر الله -جل وعلا- أنَّه أنزل الكتاب على أنبيائه، ثم جعل هذا الكتاب تتوارثه
الأمَّة جيلًا بعدَ جيلٍ، وقسَّمهم ثلاثة أقسامٍ، وكلٌّ منهم، أي: من هذه الأمَّة،
وكلٌّ منهم ممَّن أورث الكتاب، وكلٌّ منهم ممَّن اصطفاه الله -جل وعلا- من عباده.
فأول هذه الأقسام: الظَّالم لنفس، قال المؤلف: (فَمَعْلُومٌ أَنَّ الظَّالِمَ
لِنَفْسِهِ يَتَنَاوَلُ الْمُضَيِّعَ لِلْوَاجِبَاتِ وَالْمُنْتَهِكَ
لِلْمُحَرَّمَاتِ)، يعني: الذي يُقدم على فعل المعاصي.
القسم الثاني: هو فاعل الواجب وتارك المحرَّم.
القسم الثالث: السابق الذي يقوم بفعل المستحبَّات والمندوبات، ويترك المكروهات.
فهذا أحد التَّفاسير الذي فُسِّرَ بها هذا اللفظ.
يأتينا مفسِّر آخر ويأتي بمثالٍ للتَّفسير، فيقول:
السابق: مَن يأتي قبل الأذان إلى المسجد من أجل الصلاة.
والمقتصد: فهو الذي يأتي مع الإقامة.
والظالم لنفسه: هو الذي يترك صلاة المسجد ويُصلِّي في البيت.
هل بين هذا القول وبين القول الأوَّل تضاد وتقابل؟
نقول: ليس بينها تضاد، وإنما هذا المفسِّر الثَّاني فسَّرَ بذكر نوعٍ من أنواع ذلك
اللفظ العام.
ومثله لو جاءنا مفسِّر ثالث فقال لنا:
الظالم لنفسه: مَن يفطر في رمضان بغير عذر.
والمقتصد: هو مَن يصوم الواجب من الصيام، ولا يتنفَّل.
والسابق بالخيرات: هو ذلك الذي يُكثِرُ من صيام التَّطوُّع.
وبالتَّالي هو صادق في هذا التَّفسير، ولكنه في لفظه يُغايرُ كلام الأوَّل، وهذه
المغايرة من اختلاف التَّنوُّع، وليست من اختلاف التَّضادِّ.
ويأتينا آخر ويقول في باب الصَّدقات:
أنَّ الظالم لنفسه: مَن يمنعُ الزَّكاة.
والمقتصد: مَن يُخرجُ الزَّكاة فقط.
والسابق بالخيرات: مَن يتطوَّع بالصَّدقات والنَّفقات.
ويأتينا مفسر آخر فيقول:
إنَّ السابق بالخيرات: هو المُحسن بالصَّدقات.
والظَّالم لنفسه: هو مَن يأكل الربا.
والمقتصد: هو الذي يتعامل بالبيعِ.
وبالتَّالي يكون هذا التَّفسير أحد تفاسير هذه الآية، ويكون مدلول الآية دالًّا على
جميع هذه التَّفاسير، إذ لا يُوجَد تقابلٌ ولا تضاد بينها.
المقصود: أنَّ كلَّ واحدٍ من هؤلاء أراد بهذا التَّفسير بيان أحد المعاني التي
يشتمل عليها اللفظ، فهو إنَّما أراد أن يُعرِّف المستمع أنَّ لفظَ الآية متناول
لذلك المعنى، مع كونه يُنبِّهه إلى أنَّ أمثال هذا المعنى يدخل في تفسير هذه الآية.
وهذا يُقال له: التَّعريف بالمثال.
فعندنا:
- تعريف بالإشارة إلى أحد الأفراد، ومنه قوله: هذا رغيف.
- أو بذكر أحد الأمثلة، فإذا قال: ما هو الخبز. قيل له: مثل خبز التَّميس. فهنا ذكر
مثالًا، وهو تفسير صحيح، لكنَّه ليس تفسيرًا جامعًا لأنواع الخبز.
ثم قال: (وَالْعَقْلُ السَّلِيمُ يَتَفَطَّنُ لِلنَّوْعِ)، يعني إذا ذكرت المثال
فإنَّ القعل السليم سينتقل إلى تصوُّر النَّوع الذي منه هذا المثال.
قال: (وَقَدْ يَجِيءُ كثيرًا مِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُمْ: هَذِهِ الْآيَةُ
نَزَلَتْ فِي كَذَ).
هذه الجملة (هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَ)، مرَّة يُراد بها محل ورود الآية،
أو موضوع الآية، نقول مثلًا: هذه الآية نزلت في بيان أحكام المطلَّقات، فهذا هو ذكر
محل حكم الآية.
وحينئذٍ قد يجيء كثيرًا هذا التعبير (هَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي كَذَ)، فلا
يكون المراد مجرَّد المطلقات، وإنَّما المراد ما كنَّ مثلهنَّ.
مثلًا: لَمَّا ذكر آية العدَّة، قال: هذه الآية نزلت في المطلقات، فما ماثلها مثل
المختلعات والمفسوخات يأخذ نفس الحكم.
فهنا نقول: ذكر المطلقات ليس على سبيل الحصر، وإنَّما على سبيل التَّمثيل،
وبالتَّالي نفهم أنَّ أمثال المذكور يُماثله في الحكم.
وفي مراتٍ يُقال: هذه الآية نزلت في فلان، وليس المراد به ذات ذلك الشخص لذاته.
مثلًا: لما تأتي في آية الظهار، تقول: نزلت في أوس بن الصامت؛ فحينئذٍ لا يريد أن
الحكم مختص بهذا الشَّخص، وإنَّما يُريد أنَّ مَن كان يُماثله في ذلك الفعل فإنَّه
يُشاركه في ذلك الحكم.
قال: (لَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمَذْكُورُ شَخْصًا؛ كَأَسْبَابِ النُّزُولِ
الْمَذْكُورَةِ فِي التَّفسير. كَقَوْلِهِمْ: إنَّ آيَةَ الظِّهَارِ نَزَلَتْ فِي
امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ)، وهذا ليس معناه أنَّ الآية اختصَّت بها.
قال: (وَإِنَّ آيَةَ اللِّعَانِ نَزَلَتْ فِي عُوَيْمَرْ العَجْلاَنِي أَوْ هِلَالِ
بْنِ أُمَيَّةَ. وَأَنَّ آيَةَ الْكَلَالَةِ نَزَلَتْ فِي جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ)، المراد بالكلالة: مَن مات وليس عنده أبناء ولا آباء ولا أجداد.
قال: (وَأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾
[المائدة: 49]، نَزَلَتْ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ)، يعني هذا سبب النزول،
وليس معناه أن الآية يختص مدلولها بسبب نزولها.
قال: (وَأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ﴾ [الأنفال: 16]،
نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ)، وإن كان أو نزولها في بدرٍ إلَّا أنَّ حكمها عام.
قال: (وَأَنَّ قَوْلَهُ: ﴿شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾
[المائدة: 106] نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ تَمِيمٍ الداري وَعَدِيِّ بْنِ بَدَاءٍ.
وَقَوْلَ أَبِي أَيُّوبَ إنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى
التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195]، نَزَلَتْ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ.)، وكان
يُريد بذلك مسألة ترك النفقة.
قال: (وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرٌ مِمَّا يَذْكُرُونَ أَنَّهُ نَزَلَ فِي قَوْمٍ
مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى، أَوْ فِي قَوْمٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ؛ فَاَلَّذِينَ قَالُوا ذَلِكَ
لَمْ يَقْصِدُوا أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ مُخْتَصٌّ بِأُولَئِكَ الْأَعْيَانِ دُونَ
غَيْرِهِمْ)، يعني أنَّ الذين تكلَّموا بهذه الكلمة لم يقصدوا أنَّ الآية تنحصر
دلالتها على المذكورين، وإنَّما بيَّنوا سبب النُّزول، وبالتَّالي مَن ماثلهم في
صفاتهم فإنَّهم يأخذوا حكمهم، وتكون الآية دالةً على حكم أولئك الذين ماثلوا مَن
نزلت الآيات فيهم.
وأشار المؤلف هنا إلى مسألة، وهي: هل العبرة بعموم اللفظ أم بخصوص السبب؟
الجمهور يقولون: إنَّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وهناك مَن يقول: العبرة بخصوص السَّبب.
وهذا الخلاف المذكور فيه تحرير محل النزاع، فإنَّهم اتفقوا على أنه إذا كان سبب
النزول شخصيَّا فإنَّ العام يبقى على عمومه، ولا يختصُّ بذلك الشخص الذي نزل الحكم
فيه، فهذا محل اتِّفاق، وإنَّما اختلفوا في سبب النزول إذا كان نوعيًّا، فهل يختص
الحكم بذلك النوع أو يكون له ولغيره؟
مثال ذلك: لما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن البحر «هُوَ
الطَّهُورُ مَاؤُهُ»، فهذه لفظة عامَّة، وسبب الورود ورد في حديث أبي هريرة أنَّهم
قالوا: يا رسول الله إنَّا نركب البحر، فلا يكونُ معنا ماء، أفنتوضأ بماء البحر؟
فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ».
إذًا؛ هم سألوا عن نوعٍ ولم يسألوا عن شخص، وهذا النوع هو: فقــد الماء، والحكمُ
عام يشمل الحال عند فقد الماء وعند وجوده، فهنا سبب الورود نوعي وليس شخصيًّا،
فبالتالي يقع فيه الخلاف:
فالجمهور يقولون: العبرة بعموم اللفظ، فإنَّ لفظ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ»، عام يشمل حال فقد الماء وحال وجوده.
وبعض المالكيَّة يقولون: العبرة بخصوص السبب.
وبالتَّالي الاختلاف في السبب النَّوعي وليس السبب الشخصي.
ومن أمثلة هذا: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله، أأصوم في السَّفر؟ قال -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ» .
فهنا سبب الورود سؤال شخصٍ وليس نوعيًّا، وبالتالي هذا لا يدخل معنا في النَّزاع.
قال الشيخ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَالْآيَةُ الَّتِي لَهَا سَبَبٌ مُعَيَّنٌ
إنْ كَانَتْ أَمْرًا أو نَهْيًا فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ الشَّخْصِ
وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ).
مثل ذلك الرجل الذي قال: يا رسول الله، إني أصبتُ حدًّا فأقمه عليَّ، قبًّلتُ
امرأةً. فتلا عليه النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قوله تعالى: ﴿إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: 114]، فقال الرجل: يا رسول الله، ألي
هذه خاصَّة أم هي للناس عامَّة؟ فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بل هي
للناس عامَّة».
فهنا سبب النزول شخصي، ولكن الحكم عام، فبالاتفاق أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص
السبب، لأنَّ السبب هنا شخصي، وقد فسره النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بذلك.
قال: (وَإِنْ كَانَتْ خَبَرًا بِمَدْحِ أَوْ ذَمٍّ فَهِيَ مُتَنَاوِلَةٌ لِذَلِكَ
الشَّخْصِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ كَانَ بِمَنْزِلَتِهِ)، لَمَّا تلا النبي -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الآيات المذكورة في المقاتلين وغيرهم: ﴿لَا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [النساء: 95]، كانت أول ما نزلت: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾، فلما جاءه ابن أم
مكتوم وقال: كَيْفَ وَأَنَا أَعْمَى لَا أُبْصِر؛ فنزلت الآية: ﴿لَا يَسْتَوِي
الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ﴾، فقوله: ﴿غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾، هل يختص بهذا السائل فقط؟
نقول: العبرة بعموم اللفظ بالاتفاق؛ لأنَّ سبب النزول شخصي وليس نوعيًّا، وبالتالي
لا يدخل في الخلاف المذكور في هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَعْرِفَةُ سَبَبِ النُّزُولِ يُعِينُ عَلَى فَهْمِ
الْآيَةِ فَإِنَّ الْعِلْمَ بِالسَّبَبِ يُورِثُ الْعِلْمَ بِالْمُسَبَّبِ؛
وَلِهَذَا كَانَ أَصَحُّ قَوْلَيْ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُعْرَفْ مَا
نَوَاهُ الْحَالِفُ رُجِعَ إلَى سَبَبِ يَمِينِهِ وَمَا هَيَّجَهَا وَأَثَارَهَ)،
يعني: إذا حلف الإنسان يمينًا وكان تحتمل معنيين، ولم نعرف ما مَقصودُهُ، ولم يكن
له نيَّةٌ؛ فحينئذٍ نقول: يُرجع فيه غلى ما هيَّج اليمين وما أثارها.
مثال ذلك: شخص له زوجتين، وتخاصم مع إحدى الزوجتين، فخرج وقال: زوجتي طالق.
فحينئذٍ على أي شيءٍ نحمله؟
إن كان عنده نيَّة عملنا بالنيَّة، وإن لم تُعرَف النيَّة فحينئذٍ نحمله على ما
هيَّجَ لفظ الطلاق وما أنتجه.
ومثل ذلك فيما يتعلق بالأيمان، ولهذا قالوا: إنَّ النِّيَّة تُعمِّم اللفظ الخاص،
وتُخصِّص اللفظ العام.
ومن أمثلة ذلك: لو قال: والله لا أشرب قهوةً عند فلان -لخصومة بينهما- فاللفظُ خاص
بالقهوة، لكن الذي هيَّج اليمين هو تلك الخصومة، وبالتالي نحمله على جميع المشروبات
والمأكولات، فهو إنَّما ذكر القهوة على سبيل التَّمثيل، وبالتالي نفهم بواسطة مفهوم
الموافقة أنَّ كل المشروبات والمأكولات تدخل في هذه اليمين.
وفي المقابل: لو أنَّه قدَّم له سمكًا أو قدَّم لحم ضأنٍ فأكله فآلمه، فقال: والله
لن آكل لحمًا بعدَ اليوم؛ فحينئذٍ نعمل بالنيَّة إن كان له نيَّة، فقد يكون مراده
لحم الضَّأن فقط، وليس المراد جميع أنواع اللحوم.
وبهذا يتبيَّن لك أنَّ النية لها تأثيرها في التَّخصيص وفي التَّعميم، ولهذا كان ما
ذكره الشيخ أن ذكر بعض الأمثلة يصلح تفسيرًا للَّفظِ العام.
قال: (وَقَوْلُهُمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَا يُرَادُ بِهِ تَارَةً
أَنَّهُ سَبَبُ النُّزُولِ، وَيُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي
الْآيَةِ)، يعني أنَّ هذا الفرد داخل فيه، فلما تقول: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ﴾، فالآية لها سبب نزول، فنقول: هذه نزلت في القصة كذا، وقوله تعالى:
﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ﴾، نزلت في قصَّة معيَّنة؛ ثم تأتينا أنواع
جديدة، مثل عقود البيع بواسطة الآلات الحديثة، فيقول: الآية نازلة في هذا المعنى،
لأنَّ هذه بيوع، لا نقصد أنَّها سبب النزول، وإنَّما نريد أنَّ هذه المسألة الجديدة
داخلة في حكم الآية، وإن لم تكن هذه الصورة الجديدة سببًا لها.
قال المؤلف: (وَيُرَادُ بِهِ تَارَةً أَنَّ هَذَا دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ السَّبَبُ كَمَا تَقُولُ: عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ كَذَ).
ثم أشار المؤلف إلى مسألة، فمن طبيعته الاستطراد -رَحِمَهُ اللهُ- فقال: (وَقَدْ
تَنَازَعَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِ الصَّاحِبِ)، يعني الواحد من الصَّحابة.
قال: (قَوْلِ الصَّاحِبِ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي كَذَ)، فهل نقول: إنَّ هذا
مرفوع إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو أنه من قول الصحابي؟
هذا له معنيان:
الأول: إمَّا أنَّه يُريد أنَّ هذا سبب النُّزول، وبالتَّالي يكون له حكم المرفوع.
الثاني: أن يكون مراده أن هذه الأشياء داخلة في مدلول الآية، وبالتَّالي لا يكون له
حكم المرفوع، وإنَّما يكون تفسيرًا من قبل الصَّحابي.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ)، يعني: المرفوع إلى النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قال: (هَلْ يَجْرِي مَجْرَى الْمُسْنَدِ كَمَا يَذْكُرُ السَّبَبَ الَّذِي
أُنْزِلَتْ لِأَجْلِهِ، أَوْ يَجْرِي مَجْرَى التَّفسير مِنْهُ الَّذِي لَيْسَ
بِمُسْنَدِ؟؛ فَالْبُخَارِيُّ يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ وَغَيْرُهُ لَا
يُدْخِلُهُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَكْثَرُ الْمَسَانِيدِ عَلَى هَذَا الِاصْطِلَاحِ)،
وبالتَّالي يجعلونه ليس داخلًا في الأحاديث المرفوعة، ومن ثَمَّ لا يُدخلونه في اسم
المسند، ولا يُدخلونه في المسانيد؛ لأنَّ المؤلفات منها مصنَّفات تجمع أقوال
الصحابة والتابعين مع الأحاديث، وهنا "مسانيد -أو مساند" يُراد بها الأحاديث
المرفوعة فقط، ولا يدخل فيها قول الصحابي.
قال: (بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ سَبَبً)، يعني إذا ذكر الصحابيُّ سببًا. قال:
(وقال: نَزَلَتْ عَقِبَهُ فَإِنَّهُمْ كُلَّهُمْ يُدْخِلُونَ مِثْلَ هَذَا فِي
الْمُسْنَدِ)، يعني هذا يدخل في المرفوع بلا إشكال.
قال: (وَإِذَا عُرِفَ هَذَا؛ فَقَوْلُ أَحَدِهِمْ: نَزَلَتْ فِي كَذَا، لَا
يُنَافِي قَوْلَ الْآخَرِ نَزَلَتْ فِي كَذَ)، مثل آية الظِّهار، بعضهم جعلها نزلت
في أوس بن الصامت. وبعضهم جعلها نزلت في غيره.
ومثل آية اللعان في أول سورة النور، فمنهم من قال: إنَّها نزلت في عويمر العجلاني.
ومنهم مَن قال: إنَّها نزلت في هلال بن أميَّة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (إذَا كَانَ اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُهُمَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ
فِي التَّفسير بِالْمِثَالِ)، وبالتالي قد تكون الآية نزلت مرتين، نزلت في الواقعة
الأولى، ثم نزلت مرَّة أخرى في الواقعة الأخرى، وقد يكون حصول الواقعتين في وقتٍ
مُتقارب، وبالتالي نزلت الآيات في وقتٍ واحدٍ لعلاج تلك القضيتين، وبالتالي تكون
كلٌّ منهما سببًا لنزول الآية إذا كان اللفظ يتناولهما.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِذَا ذَكَرَ أَحَدُهُمْ لَهَا سَبَبًا نَزَلَتْ
لِأَجْلِهِ وَذَكَرَ الْآخَرُ سَبَبًا؛ فَقَدْ يُمْكِنُ صِدْقُهُمَا بِأَنْ تَكُونَ
نَزَلَتْ عَقِبَ تِلْكَ الْأَسْبَابِ، أَوْ تَكُونَ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً
لِهَذَا السَّبَبِ وَمَرَّةً لِهَذَا السَّبَبِ)، ومثل هذا ممكن، مثاله قول الله
تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا
قَلِيلً﴾ [آل عمران: 77]، هل نزلت في قصَّة الرجلين اللذين اختصما وطلب النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أحدهما اليمين، وقال له: «مَن حَلَفَ علَى
يَمِينِ صَبْرٍ، وهو فيها فاجِرٌ، يَقْتَطِعُ بها مالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَقِيَ
اللَّهَ يَومَ القِيامَةِ وهو عليه غَضْبانُ» . ومثله قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ
لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾ [النساء: 65]، هل
نزلت في قضية الزبير أو نزلت في قضية المنافق؛ فالآيات تحتمل هذه الاحتمالات، وهو
أنَّ الوقائع قد تكون مُتقاربة فنزلت الآيات لبيان الحكم في كلٍّ منها، أو أنَّ
الآيات نزلت مرتين، نزل جبريل في المرة الثانية يُذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بأنَّ هذه الواقعة فيها آيات مُنزَلَةٌ من قبل، وبالتَّالي تكون قد نزلت
مرَّةً أخرى.
قال: (وَهَذَانِ الصِّنْفَانِ اللَّذَانِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي تَنَوُّعِ التَّفسير)،
وهو التفسير بالمثال، والتفسير بالنَّوع.
قال: (تَارَةً لِتَنَوُّعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
وَتَارَةً لِذِكْرِ بَعْضِ أَنْوَاعِ الْمُسَمَّى وَأَقْسَامِهِ
كَالتَّمْثِيلَاتِ).
النوع الأول: تنوع الأسماء، مثل: عليم، حليم، كريم.
النوع الثاني: ذكر بعض أنواع المسمَّى، مثل ما ذكرنا في الرَّغيف والخبز.
قال: (هُمَا الْغَالِبُ فِي تَفْسِيرِ سَلَفِ الْأُمَّةِ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّهُ
مُخْتَلِفٌ)، فمن جاءنا وقال: هذا التفسير مختلف! قلنا: هذا ليس مختلفًا ولا تضاد
بينها، وإنَّما هو اختلاف تنوُّع، كلٌّ منها صحيح.
قال: (وَمِنْ التَّنَازُعِ الْمَوْجُودِ عَنْهُمْ)، يعني المنقول عنهم.
قال: (مَا يَكُونُ اللَّفْظُ فِيهِ مُحْتَمِلًا لِلْأَمْرَيْنِ؛ إمَّا لِكَوْنِهِ
مُشْتَرَكًا فِي اللُّغَة)، كقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ﴾ [البقرة: 237]، هل المراد به الزوج أو
المراد به الولي؟
ومثاله أيضًا قوله تعالى: ﴿فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ﴾ [المدثر: 51]، فمثَّل الله -جل
وعلا- إعراض المعرضين عن الذكر بحمُر الوحش التي فرَّت من قسورة.
ولفظ "القسورة" فسَّره بعض الصحابة بالأسد، وفسَّره بعض الصحابة بالرامي الذي يرمي
الصيد؛ فهذا اللفظ يحتمل المعنيين معًا، ويُمكن أن يكون كلٌّ منهما مرادًا بهذا
اللفظ، فالمراد تمثيل حُمُر الوحش عند شدَّة هربها، سواء بوجود الرَّامي أو بوجود
القسورة، واللفظ يُطلَق ويَصدُق على كلٍّ منهما.
ومثله قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ﴾ [التكوير: 17]، هل المراد به عند
دخوله أو عند خروجه؟
أقسمَ الله -جل وعلا- بالليل إذا عسعس، فقال بعض الصحابة قال: عسعس بمعنى: دخل.
وبعضهم قال: عسعس بمعنى: خرج.
فنقول: كل منهما مرادًا بهذا اللفظ، وذلك أنَّ إقبال الليل وخروجه آيتان عظيمتان،
وبالتَّالي أقسمَ الله بهما من أجل أن يُنبِّه النفوس إلى عظَمِ هاتين الآيتين.
وفي مرَّات قد يكون اللفظ متواطئًا في الأصلِ، لكن المراد به أحد الشيئين، كقوله
تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى﴾ [النجم: 8]، هل المراد به جبريل -عليه السلام- أو
المراد به النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبعض أهل العلم فسرَّه بأن
المراد به ربُّ العزَّة والجلال، وهنا يحتمل أن يكون كل واحد منهما مرادًا بهذا
اللفظ.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى ﴿وَالْفَجْرِ﴾، فلفظة الفجر تصدق على أول نور بزوغ الفجر،
وتصدق على انطلاق شرارة الفجر إلى أن تصل إلى كبد السماء، وتصدق على انتشار الضوء
في الكون بعدَ ذلك، وكلٌّ منها يُطلق عليه اسم "الفجر"، وبالتالي مَن جاءنا وفسَّر
قوله تعالى: ﴿وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، بأحد هذه المعاني فهو صادق؛ لأنَّ
هذا أحد مظاهر الفجر، وإن كان بدء وقت الفجر بأوَّل بزوغه.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَكَلَفْظِ: ﴿وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ
وَالْوَتْرِ﴾ [الفجر: 1-3] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. فَمِثْلُ هَذَا قَدْ يَجُوزُ
أَنْ يُرَادَ بِهِ كُلُّ الْمَعَانِي الَّتِي قَالَتْهَا السَّلَفُ)، ولا يمتنع أن
يكون مراد الله -جل وعلا- جميع هذه المعاني.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَالْأَوَّلُ إمَّا لِكَوْنِ الْآيَةِ نَزَلَتْ مَرَّتَيْنِ
فَأُرِيدَ بِهَا هَذَا تَارَةً وَهَذَا تَارَةً. وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ
الْمُشْتَرَكِ يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ مَعْنَيَاهُ)، يعني إذا لم تكن متقابلة،
مثل قوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ﴾ [النساء: 127]،
يُمكن أن يُراد به: ترغبون في أن تنكحوهنَّ. ويُمكن أن يُراد به: ترغبون عن أن
تنكحوهنَّ؛ وقد فسَّرت عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- الآية بالمعنيين، ولذا يجوز أن
يُراد به جميع المعاني إذا لم تكن تلك المعاني متضادَّة أو متقابلة.
أمَّا إذا كانت المعاني مُتضادَّة لم يصح التفسير، ولذا في قوله تعالى:
﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة:
228]، فلفظ "القروء" يُطلق على الحِيَض وعلى الطهر، فهي معاني متقابلة، وبالتالي لا
يجوز أن يُحمل اللفظ عليها جميعًا.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (إذْ قَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ:
الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنْبَلِيَّةُ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ
الْكَلَامِ)، أي أن يُطلَق اللفظ المشترك وأن يُراد به جميع معانيه.
ومن أمثلة هذا في دلالة الاقتضاء، إذا كان هناك محذوف وكان يُمكن أن يُقدَّر بأكثر
من معنى، فإنَّنا حينئذٍ نحمله على جميه تلك المعاني.
مثال ذلك في قوله تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ [المائدة: 3]،
التَّحريم لا يصح أن نُطلقه على الذَّوات، وإنَّما نطلقه على الأفعال، فلما قال
﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ﴾ والميتة ذات؛ فحينئذٍ لابد من تقدير.
بعضهم قال: نقدِّر فيه الفعل المناسب فنقول: حُرِّمَ عليكم أكل الميتة.
وآخرون قالوا: هذا نحمله على جميع الأفعال الصالحة له إلَّا ما وردَ دليلٌ
باستثنائه، مثل الانتفاع، أو أي فعل من الأفعال؛ إلَّا مار ورد دليل بجوازه،
كرؤيته، فإنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى الميتة، وأقرَّ أصحابه
على رؤية الميتة، وبالتالي لا يدخل في معنى هذه الآية.
قال: (وَإِمَّا لِكَوْنِ اللَّفْظِ مُتَوَاطِئً)، يعني يصدق على أفراد كثيرين
يشتركون في أصل المعنى مع تفاوتهم في تمامه.
مثل قولك: الإنسان مفكِّر. فإنَّ الناس يتفاوتون في درجة التَّفكير، ومثل ما
مثَّلنا به في اليد، يد النملة ويد الفيل.
قال: (فَيَكُونُ عَامًّ)، لأنَّه يشمل جميع المعاني.
قال: (إذَا لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِهِ مُوجِبٌ)، فإذا لم يكن لتخصيصه موجب فلا يصح
أن نخصصه ببعض معانيه.
قال: (فَهَذَا النَّوْعُ إذَا صَحَّ فِيهِ الْقَوْلَانِ كَانَ مِنَ الصِّنْفِ
الثَّانِي)، أي إطلاق المشترك على جميع معانيه إذا فسَّره جماعة بأحد المعاني
وفسَّره آخرون بالمعنى الآخر فهذا اختلاف تنوُّع وليس اختلاف تضادٍّ.
ومثله قوله تعالى: ﴿وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾، فهل المراد بها عشر رمضان الأخيرة، أو
المراد بها عشر ذي الحجة؟ على قولين عندهم.
وهكذا قوله تعالى: ﴿وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ﴾ [الفجر: 3]، ففيها أقوال:
- فمنهم مَن يقول: الوتر الله، والشفع المخلوق، وقد ورد في الحديث «إِنَّ اللَّهَ
وِتْرٌ» .
- ومنهم مَن قال: إنَّ المراد بالشَّفع: صلوات الفريضة، والوتر: صلوات النافلة.
- ومنهم مَن فسَّرها بالصلوات فقال: الشفع: الفجر والظهر والعصر والعشاء. والوتر:
صلاة المغرب.
وعلى كلٍّ؛ فإنَّنا نجد أنَّ اختلاف الصَّحابة في غالبه من اختلاف التَّنوُّع،
ويستعملون ألفاظًا متقاربة في بيان المعاني للألفاظ القرآنيَّة، وبالتالي يكون هذا
قريب من التَّرادف.
وهناك نزاع بين العلماء، هل يوجد في لغة العرب ألفاظ مترادفة بحيث تصدق على ذات
واحدة بدون أن يكون فيها زيادة في المعنى؟
الجمهور يقولون: يجوز بدلالة ورودها، كما في الأسد، وفي السيف، ونحوها.
ومنهم مَن يقول: لا، كل اسمٍ من هذه الأسماء يدل على معنًى زائد عن دلالته على
الذَّات التي يصدق عليها، وبالتالي هي ليست مترادفة.
فهم في الجملة متَّفقون على أنَّه قد يوجد أسماء متعددة تدل على مدلول ومسمًّى
واحد، ويتفقون على أن هذه الأسماء قد تتضمَّن معاني زائدة عن الذَّات، ففي الحقيقة
هم متَّفقونَ مع اختلافهم هل يوجد هناك ترادف أو لا يوجد.
والمؤلف يقول: (وَأَمَّا فِي أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ فَإِمَّا نَادِرٌ وَإِمَّا
مَعْدُومٌ.
وَقَلَّ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ بِلَفْظِ وَاحِدٍ يُؤَدِّي جَمِيعَ
مَعْنَاهُ)، يعني أنتَ عندما تنظر في التفاسير تجد أنَّ المفسَّر فيه مغايرة لما
فُسِّر به بزيادة معنًى أو نقصان، وإنَّما أُتيَ به من أجل التَّقريب والتَّوضيح
للمستمع، فهو تقريبٌ لمعناه، وهذا من أسباب إعجاز القرآن، فإنَّ القرآن يستعمل
اللفظة المناسبة في محلِّها، ولذلك تجد مرة يقول: ﴿قَصَمْنَ﴾ [الأنبياء: 11]، ومرة
يقول: ﴿أَهْلَكْنَ﴾ [الأنعام: 6]، ومرة يقول: ﴿وَعَذَّبْنَاهَ﴾ [الطلاق: 8]؛
فيستخدم كل لفظةٍ في محل بحسبِ السياق وبحسب المدلول، وكل منها فيه معنًى مُغاير
للمعنى الذي تدلُّ عليه اللفظة الأخرى، مع اشتراكها في المعنى، لكن هنا كزيادة في
كل لفظةٍ منها لا توجد في معنى اللفظ الآخر.
ومثَّل -رَحِمَهُ اللهُ- لهذا بقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرً﴾
[الطور: 9] فإنَّ بعض السلف فسَّر الموْر بالحركة، فقال: يوم تتحرَّك السَّماء
تحرُّكًا، ولكن الحركة تشمل الحركة الكثيرة والحركة الشَّديدة والحركة الخفيفة،
والحركة البطيئة والحركة السريعة؛ فلا يوجد تطابق في المدلول بين الموْر والحركة،
لأنَّ المور حركة يسيرة أو خفيفة سريعة، فهو نوعٌ من أنواع الحركة، وبالتالي لا
يُوجد تطابق بين اللفظين تطابقًا تامًّا.
ومثله في قوله تعالى: ﴿أَوْحَيْنَا إلَيْكَ﴾، فمنهم من يقول: أعلمناكَ. ومنهم مَن
يقول: أنزلنا إليك؛ فالإنزال والإعلام فيها معانٍ لا توجد في الإيحاء؛ وبالتالي
فسَّره بلفظٍ آخر، وإن كان بينهما تفاوت، ولكن بينهما قدرٌ مشترك، فأتى باللفظ
الآخر لأجل أن يُفهِم السَّامع.
ومثله قوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرائِيلَ﴾ [الإسراء: 4]، فسَّره بعض
السلف بقوله: أعلمنا بني إسرائيل.
وتُلاحظ أن الفعل "قضينا" يتعدَّى بــ "إلى"، وفعل "أعلمنا" يتعدَّى بنفسه؛
وبالتالي هذا من تفسير اللفظ بمعنى أكثر منه، وهذا على جهة التَّقريب وليس على جهة
التَّحقيق.
قال: (فَإِنَّ الْوَحْيَ هُوَ إعْلَامٌ سَرِيعٌ خَفِيٌّ، وَالْقَضَاءُ إلَيْهِمْ
أَخَصُّ مِنْ الْإِعْلَامِ فَإِنَّ فِيهِ إنْزَالًا إلَيْهِمْ وَإِيحَاءً
إلَيْهِمْ، وَالْعَرَبُ تُضَمِّنُ الْفِعْلَ مَعْنَى الْفِعْلِ، وَتُعَدِّيهِ
تَعْدِيَتَهُ).
مثال ذلك قوله تعالى: ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ﴾ [الإنسان: 6]،
الأصل: عينًا يشربها عباد الله، لكن لَمَّا أريد معنى آخر وهو أن الشُّرب يتضمَّن
الإرواء قال ﴿يَشْرَبُ بِهَ﴾، كما أنَّك تقول: يَروَى بها، فلمَّا أراد أن يُضمِّن
الشُّربَ معنى الإرواء عدَّاه تعديتَه بالباء.
قال: (وَمِنْ هُنَا غَلِطَ مَنْ جَعَلَ بَعْضَ الْحُرُوفِ تَقُومُ مَقَامَ بَعْضٍ)؛
لأنَّ كل حرف له معناه، وإنِّما قد يُستعمَل الحرف في محل مراعاةً للفعل الذي
تعلَّق به.
من أمثلة ذلك قوله تعالى: ﴿وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ﴾ [طه: 71]،
هو أراد: على جذوع النخل، ولكن لما أراد أن يُضمِّن التَّصليب معنى مشاهدة الناس له
عدَّاه بحرف "في".
ومثل هذا في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلَى نِعَاجِهِ﴾
[ص: 24]، هو لم يسأل نعاج نفسه، وإنَّما ضمَّن لفظ السؤال الضَّم، والمعنى: أراد أن
يضمَّ نعجتك إلى نعاجه، ولذا عدَّى "ضمَّ" بـ "إلى"؛ ليُبيِّن أن السُّؤال هنا
مضمَّنٌ معنى الضَّمِّ. قال: (فَسُؤَالُ النَّعْجَةِ يَتَضَمَّنُ جَمْعَهَا
وَضَمَّهَا إلَى نِعَاجِهِ).
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي
أَوْحَيْنَا إلَيْكَ﴾ [الإسراء: 73]، أصل فعل "يفتن" يتعدَّى بحرف "في"، فُتِنَ في
كذا، أو فُتِنَ بــ كذا؛ ولكن لمَّا أرادَ بالفتنةِ هنا أن تتضمَّن معنى الزَّيغ
والانحراف عن الحق ضمَّنها حرف "عن"، فكأنه قال: وإن كادوا ليُزيغونكَ -أو
ليصدُّونَكَ- عن الذي أوحينا إليك؛ فلمَّا غيَّر الحرف المتعلِّق بالفتنة دلَّ هذا
على أنَّه أرادَ معنًى آخر يُضمِّنه بهذا الفعل.
ومثله في قوله تعالى: ﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَ﴾ [الأنبياء77]، فالأصل أن يقول: نصرناه على؛ لكن لَمَّا أراد أن
يُبيِّن أنَّه كان مُستضعفًا قبلُ وأنَّه قد خلَّصه منهم ضمَّنه تعدية حرف "مِنْ".
ونظائر ذلك في كتاب الله -جلَّ وعلا- كثيرة متعدَّدَة.
ومثل هذا في قوله -جل وعلا: ﴿أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ﴾ [الأنعام: 70]، فسَّرها بعضهم
بأنها: تُحبَس. وفسرها آخرون بأنَّها: تُرتَهَن. فهذا اختلاف تنوُّع، وليس من
اختلاف التَّضاد؛ لأنَّ المحبوس قد يكون مرتهنًا، وقد لا يكون، وبالتالي يكون هذا
من تقريب المعاني.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَجَمْعُ عِبَارَاتِ السَّلَفِ فِي مِثْلِ هَذَا نَافِعٌ
جِدًّا؛ فَإِنَّ مَجْمُوعَ عِبَارَاتِهِمْ أَدَلُّ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنْ
عِبَارَةٍ أَوْ عِبَارَتَيْنِ)، فإذا جمعتها قرَّبت لك المعنى.
ومن هذا مثلًا في تفسير قوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:
5]، فسَّرها بعضهم بــ: علا. وبعضهم قال: ارتفعَ. وبعضهم قال: استقرَّ؛ فاجمع منها
معنًى يشملها، وبالتالي تفهم مراد ربِّ العزة والجلال.
قال: (وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ مِنْ اخْتِلَافٍ مُحَقَّقٍ بَيْنَهُمْ كَمَا
يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ.
وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ عَامَّةَ مَا يُضْطَرُّ إلَيْهِ عُمُومُ النَّاسِ مِنَ
الِاخْتِلَافِ مَعْلُومٌ)، أي الأشياء التي يحتاجها عامَّة الناس يكون في الغالب
هناك اتِّفاقٌ عليها، والاختلاف إنَّما هو في أشياء تقل لحاجة إليها.
مثلًا في الصلاة: الأشياء الأساسيَّة متفق عليها، مثل الركوع والسجود والقيام
والجلوس، ونحو ذلك؛ وإنَّما الاختلاف في التفاصيل التي قد لا يحتاج إليها عموم
الناس؛ ومثل هذا فيما يتعلَّق بمسائل التفسير.
ومثلًا في الميراث، اتفق العلماء على ميراث الأبناء والبنات والآباء والأمهات
والزوجات والإخوة، لكن في مسألة الجد والإخوة اختلفوا، وهي مسألة نادرة وقليلة
الوقوع، وبالتالي لم تقع في زمن النُّبوَّة.
ومن ثَمَّ قيل: هذه المسألة وقع الاختلاف فيها لقلَّة الحاجة إليها، وأمَّا المسائل
التي تكثر الحاجة إليها فإنَّه يقع الاتفاق فيها.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (لَا يُوجِبُ رَيْبًا فِي جُمْهُورِ مَسَائِلِ الْفَرَائِضِ
بَلْ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ عَامَّةُ النَّاسِ)، فإنَّه متفقٌ عليه، مثل مسائل إرث
الآباء والأبناء، ومسائل الكلالة من الإخوة والأخوات كما في أواخر سورة النساء،
وهكذا مسائل الأزواج.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِي الْفَرَائِضِ ثَلَاثَ آيَاتٍ
مُفَصَّلَةٍ ذَكَرَ فِي الْأُولَى الْأُصُولَ وَالْفُرُوعَ، وَذَكَرَ فِي
الثَّانِيَةِ الْحَاشِيَةَ الَّتِي تَرِثُ بِالْفَرْضِ كَالزَّوْجَيْنِ وَوَلَدِ
الْأُمِّ، وَفِي الثَّالِثَةِ الْحَاشِيَةَ الْوَارِثَةَ بِالتَّعْصِيبِ وَهُمْ
الْإِخْوَةُ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ، وَاجْتِمَاعُ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ
نَادِرٌ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَقَعْ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ النَّبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). وأشارَ إلى أنَّ هذا الاختلاف له أسباب، فهو
ليس اختلافًا عبطيًّا.
بارك الله فيكم، ووفقكم الله لكل خير، وجعلنا الله وإياكم من الهداة المهتدي، هذا
والله أعلم، وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
سلاسل أخرى للشيخ
-
3780 1
-
5956 11
-
4638 10
-
5509 5
-
4095 23
-
5901 24
-
7057 24
-
8461 24
-
7411 11
-
10724 11
-
13138 11
-
16525 12