الدرس التاسع

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3169 10
الدرس التاسع

مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فهذا لقاءٌ جديدٌ من لقاءاتنا في قراءة مقدِّمة التَّفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-، ولعلنا في هذا اليوم -بإذن الله عزَّ وَجلَّ- نقرأ كلام الشَّيخ في الأصول التي يُستندُ عليها في تفسير كتاب ربِّ العزَّة والجلال.
ونبتدئ ذلك بالأصلين العظيمين: كتاب الله، وسنَّة رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فإنَّهما أصل تفسير الكتاب.
ومن المعلوم أنَّه إذا احتجنا إلى أن نفهم كلام أحد فإنَّنا نرجع إلى كلامه، فنفسِّر بعضَ كلامه ببعضه الآخر، وهكذا نفسِّر كلام الله -جَلَّ وَعَلَا- بكلام رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44]، فلعلنا نقرأ كلام الشيخ في ذلك، ثم أُعلِّقُ عليه بما ييسر الله -سبحانه وتعالى- فليتفضَّل القارئ مشكورًا.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، غفر الله لنا ولشيخنا وللمشاهدين.
قال شيخ الإسلام -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ في أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفسير.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا أَحْسَنُ طُرُقِ التَّفسير؟
فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَصَحَّ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ:
أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ، فَمَا أُجْمِلَ فِي مَكَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ فُسِّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمَا اُخْتُصِرَ مِنْ مَكَانٍ فَقَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ.
فَإِنْ أَعْيَاك ذَلِكَ فَعَلَيْك بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ؛ بَلْ قَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ: "كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنْ الْقُرْآنِ".
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمً﴾ [النساء: 105]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44]، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: 64]؛ وَلِهَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ» يَعْنِي السُّنَّةَ.
وَالسُّنَّةُ أَيْضًا تَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْوَحْيِ كَمَا يَنْزِلُ الْقُرْآنُ؛ لَا أَنَّهَا تُتْلَى كَمَا يُتْلَى.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةِ كَثِيرَةٍ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذَلِكَ.
وَالْغَرَضُ أَنَّك تَطْلُبُ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَمِنَ السُّنَّةِ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمُعَاذِ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ: «بِمَ تَحْكُمُ؟». قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟». قَالَ: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ. قَالَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟». قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي.
قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ». وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي الْمَسَانِدِ وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادِ جَيِّدٍ.
وَحِينَئِذٍ إذَا لَمْ نَجِدْ التَّفسير فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ رَجَعْنَا فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ الصَّحابة فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا؛ وَلِمَا لَهُمْ مِنْ الْفَهْمِ التَّامِّ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ لَا سِيَّمَا عُلَمَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ، مِثْل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطبري: حَدَّثَنَا أَبُو كريب قَالَ أَنْبَأَنَا جَابِرُ بْنُ نُوحٍ أَنْبَأَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ: "وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَنْ نَزَلَتْ وَأَيْنَ نَزَلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تناوله الْمَطَايَا لَأَتَيْته".
وَقَالَ الْأَعْمَشُ أَيْضًا عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ".
وَمِنْهُمْ الْحَبْرُ الْبَحْرُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، ابْنُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتُرْجُمَانِ الْقُرْآنِ بِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ حَيْثُ قَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ».
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ: "نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ".
ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ يَحْيَى بْنِ داود عَنْ إسْحَاقَ الْأَزْرَقِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ صُبَيْحٍ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: "نِعْمَ التُّرْجُمَانُ لِلْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ". ثُمَّ رَوَاهُ عَنْ بُنْدَارٍ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَوْنٍ عَنْ الْأَعْمَشِ بِهِ كَذَلِكَ.
فَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذِهِ الْعِبَارَةُ، وَقَدْ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَعَمَّرَ بَعْدَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ سِتًّا وَثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَا ظَنُّك بِمَا كَسَبَهُ مِنْ الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ: اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْمَوْسِمِ، فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ - وَفِي رِوَايَةِ سُورَةِ النُّورِ - فَفَسَّرَهَا تَفْسِيرًا لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ لَأَسْلَمُوا.
وَلِهَذَا فإنَّ غَالِبَ مَا يَرْوِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السّدي الْكَبِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَنْقُلُ عَنْهُمْ مَا يَحْكُونَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي أَبَاحَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَيْثُ قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ»، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَدْ أَصَابَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ زَامِلَتَيْنِ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُمَا بِمَا فَهِمَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الإسرائيلية تُذْكَرُ لِلِاسْتِشْهَادِ لَا لِلِاعْتِمَاد فَإِنَّهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ مِمَّا بِأَيْدِينَا مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّدْقِ فَذَاكَ صَحِيحٌ.
والثَّانِي: مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا عِنْدَنَا مِمَّا يُخَالِفُهُ.
والثَّالِثُ: مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَلَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَذِّبُهُ وَتَجُوزُ حِكَايَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ.
وَغَالِبُ ذَلِكَ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ تَعُودُ إلَى أَمْرٍ دِينِيٍّ، وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مِثْلِ هَذَا كثيرًا وَيَأْتِي عَنْ المفسِّرين خِلَافٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ، كَمَا يَذْكُرُونَ فِي مِثْلِ هَذَا أَسْمَاءَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ، وَلَوْنَ كَلْبِهِمْ، وَعِدَّتَهُمْ، وَعَصَا مُوسَى مِنْ أَيِّ الشَّجَرِ كَانَتْ، وَأَسْمَاءَ الطُّيُورِ الَّتِي أَحْيَاهَا اللَّهُ لِإِبْرَاهِيمَ، وَتَعْيِينَ الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ الْقَتِيلُ مِنْ الْبَقَرَةِ، وَنَوْعَ الشَّجَرَةِ الَّتِي كَلَّمَ اللَّهُ مِنْهَا مُوسَى، إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَبْهَمَهُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِي تَعْيِينِهِ تَعُودُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ فِي دُنْيَاهُمْ وَلَا دِينِهِمْ، وَلَكِنَّ نَقْلَ الْخِلَافِ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْب وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدً﴾، فَقَدْ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى الْأَدَبِ فِي هَذَا الْمَقَامِ. وَتَعْلِيمِ مَا يَنْبَغِي فِي مِثْلِ هَذَا؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْهُمْ بِثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ضَعَّفَ الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثِ؛ فَدَلَّ عَلَى صِحَّتِهِ؛ إذْ لَوْ كَانَ بَاطِلًا لَرَدَّهُ كَمَا رَدَّهُمَا.
ثُمَّ أَرْشَدَ إلَى أَنَّ الِاطِّلَاعَ عَلَى عِدَّتِهِمْ لَا طَائِلَ تَحْتَهُ فَيُقَالُ فِي مِثْلِ هَذَا: ﴿قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ﴾، فَإِنَّهُ مَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ مِمَّنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ فَلِهَذَا قَالَ: ﴿فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إلَّا مِرَاءً ظَاهِرً﴾ أَيْ: لَا تُجْهِدْ نَفْسَك فِيمَا لَا طَائِلَ تَحْتَهُ وَلَا تَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا رَجْمَ الْغَيْبِ.
فَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَكُونُ فِي حِكَايَةِ الْخِلَافِ: أَنْ تُسْتَوْعَبَ الْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَأَنْ يُنَبَّهَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهَا وَيُبْطَلَ الْبَاطِلُ وَتُذْكَرَ فَائِدَةُ الْخِلَافِ وَثَمَرَتُهُ؛ لِئَلَّا يَطُولَ النِّزَاعُ وَالْخِلَافُ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ فَيُشْتَغَلُ بِهِ عَنِ الْأَهَمِّ.
فَأَمَّا مَنْ حَكَى خِلَافًا فِي مَسْأَلَةٍ وَلَمْ يَسْتَوْعِبْ أَقْوَالَ النَّاسِ فِيهَا فَهُوَ نَاقِصٌ؛ إذْ قَدْ يَكُونُ الصَّوَابُ فِي الَّذِي تَرَكَهُ أَوْ يَحْكِي الْخِلَافَ وَيُطْلِقُهُ وَلَا يُنَبِّهُ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْأَقْوَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ أَيْضًا.
فَإِنْ صَحَّحَ غَيْرَ الصَّحِيحِ عَامِدًا فَقَدْ تَعَمَّدَ الْكَذِبَ. أَوْ جَاهِلًا فَقَدْ أَخْطَأَ.
كَذَلِكَ مَنْ نَصَبَ الْخِلَافَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ تَحْتَهُ أَوْ حَكَى أَقْوَالًا مُتَعَدِّدَةً لَفْظًا وَيَرْجِعُ حَاصِلُهَا إلَى قَوْلٍ أَوْ قَوْلَيْنِ مَعْنًى فَقَدْ ضَيَّعَ الزَّمَانَ وَتَكَثَّرَ بِمَا لَيْسَ بِصَحِيحِ، فَهُوَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ، وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ)
}.
ذكر المؤلف هنا أصولًا من الأصول التي يُرجَع إليها في تفسير القرآن:
الأصل الأوَّل: تفسير القرآن بالقرآن: فإنَّ القرآن يفسر بعضه بعضًا، ويصدِّق بعضه بعضًا، ولذا وصف الله -جَلَّ وَعَلَا- القرآن بأنَّه مثاني، بمعنى أنَّه يُصدِّق بعضه بعضًا.
من أمثلة تفسير القرآن بالقرآن: ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ﴾ [المطففين: 1]، فإنَّ كلمة "المطففين" قد تخفى على بعض الناس، فجاء تفسيرها بعدَ ذلك في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ [المطففين: 2، 3]، فهذا تفسير لِمَا سبق.
ومثله في قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [يونس: 62]، فإنَّه قد يقع التباس في فهم كلمة "أولياء الله"، فجاء تفسيرها بعدَ ذلك في قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ [يونس:63].
وهكذا نجد أنَّ الآيات القرآنيَّة يفسر بعضُها بعضَها الآخر، سواء فيما يتعلَّق بالأحكام، أو ما يتعلَّق بالعقائد، أو ما يتعلَّق بالقصص الواردة في القرآن.
فمن أمثلةِ ما يتعلق بالأحكام: في قوله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ﴾ [المائدة: 3]، فإن كلمة "الدم" هنا عامَّة، جاء تفسيرها في قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحً﴾ [الأنعام: 145]، فحصر التحريم في الدم المسفوح دون الدم الموجود في العروق.
وهكذا في قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: 228]،وجاء تفسيره بعد ذلك أنَّ المطلَّقة قبل الدخول لا تدخل في هذه الآية، كما في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَ﴾ [الأحزاب: 49]، وهكذا جاء بيانُ حكم المطلقة إذا كانت كبيرة فوق سنِّ الحيض أو صغيرة قبل ذلك؛ أنَّ عدَّتها ثلاثة أشهر، وكذلك جاء أن عدَّة الحامل بوضع الحمل.
فهذا بيانٌ للقرآن بالقرآن فيما يتعلَّق بالأحكام.
وذكر الشيخ أنَّ هذا هو أصح الطُّرق وهو أحسنها، قال: (فَمَا أُجْمِلَ فِي مَكَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ فُسِّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، وَمَا اُخْتُصِرَ مِنْ مَكَانٍ)، يعني ما أُتي به مختصرًا قليل الكلام وقليل اللفظ في موطنٍ من مواطن كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ- فإنَّه يُبسَط في موضع آخر من كتاب الله -سبحانه وتعالى- وبالتَّالي يُفسَّر ما اختُصِرَ بما بُسِطَ مما ذُكر في كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا.
وتفسير القرآن بالقرآن هذا عملٌ جليلٌ، والنَّاظر في كتب التَّفسير بالمأثور يجد أنَّها تعتني بذلك، ومن الكتب التي اعتنت بهذا: كتاب الشيخ العلامة الشنقيطي "أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن".
الأصل الثاني الذي يُرجع إليه في تفسير كلام ربِّ العزَّة والجلال: سنَّة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سواء كانت مُتواترة، أو كانت من قبيل الآحاد، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعتنى بتفسير كتاب ربِّ العزَّة والجلال، فكان يفسره لأصحابه، ويُبيِّن لهم المراد منه.
ومن أمثلة ذلك: ما ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]، فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إنَّ القوَّةَ الرَّميُ ألا إنَّ القوَّةَ الرَّميُ» .
وهكذا فيما ورد في تفسير كلام الله -جَلَّ وَعَلَا- من قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82]، حيث جاء الصحابة فقالوا: يا رسول الله، مَن منَّا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ لَيْسَ بِذَاكَ أَلَا تَسْمَعُ إِلَى قَوْلِ لُقْمَانَ لِابْنِهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ».
وهكذا في مواطن من كتاب الله يفسرها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويوضِّح المراد منها، فسُنَّة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شارحة للقرآن، توضِّح ما أريد في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ.
ثم نقل المؤلف عن الشيخ الإمام العلَّامة أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي نقلًا عظيمًا، وهذا يدلُّكَ على أنَّ شأنَ علماء الشَّريعة أن يُوقِّرَ بعضهم بعضًا، وأن يعرف بعضهم لبعضهم فضله ومكانته.
قال الإمام الشافعي، وهو من علماء الشريعة، وشيخٌ للإمام أحمد، وقد توفي في سنة 204 للهجرة، يقول: "كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَهُوَ مِمَّا فَهِمَهُ مِنْ الْقُرْآنِ".
مسألة: هل يُوجَد سُنَّة تستقل بأحكام جديدة لا توجد في القرآن؟ أو أنَّ السُّنَّة موضِّحة وشارحة للقرآن؟
الإمام الشافعي يرى أنَّه لا يُوجد سنَّة مُستقلَّة؛ لأنَّ السنَّة تُقسَّم عدَّة أقسام، منها:
- السُّنَّة المؤكِّدة لما في القرآن.
-والسُّنَّة الشَّارحة لما في كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا.
- والسُّنَّة المستقلَّة.
وهذه السُّنَّة المستقلَّة وقع الخلاف فيها، هل يُوجد في سنَّة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما هو مستقل أو لا يُوجد؟
فكان الإمام الشَّافعي وجماعة يرون أنَّه لا يُوجَد هناك سُنَّة مستقلَّة.
وجماهير أهل العلم يرون وجود سُنَّة مُستقلَّة، ويقولون: بدلالة أنَّنا وجدنا أحكامًا في السُّنَّة لا توجَد في القرآن.
من أمثلة ذلك: أنَّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «نَهَى عن كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَعَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ» ، فهذه سُنَّة استقلَّت بأحكام لم ترد في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ.
والآخرون يُدرجونها في عمومات، فقد يُدرجونها في قوله تعالى: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ [آل عمران: 32]، ومن ثَمَّ يكون مؤدَّى القولين إلى معنى واحد.
ثم أتى الشيخ ببعض الأدلَّة الدَّالَّة على أنَّ السُّنَّة تشرح القرآن وتبيِّنه:
الدليل الأول: قوله تعالى:﴿إنَّا أَنْزَلْنَا إلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ﴾ [النساء: 105]، خطاب للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ببيان أن القرآن العظيم نزلَ عليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ونزوله بالحق، ثم قال: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ﴾، فما أوضحه الله -جَلَّ وَعَلَا- لنبيِّه من كتابه يحكمُ به؛ فدلَّ هذا على أنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- مكَّنَ رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من فهم القرآن، ومن ثَمَّ فتفسيره للقرآن وشرحه للقرآن يجب اعتماده؛ لأنَّه مما أرى الله -عَزَّ وَجَلَّ- نبيَّه.
وهكذا في قوله تَعَالَى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ﴾، المراد بالذِّكر هنا: سنة النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم جعل وظيفتها ما ذكره بقوله: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ﴾، أي: في القرآن، فسُنَّة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شارحة ومفسِّرة للقرآن، ثم قال: ﴿وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [النحل: 44]، أي: لعلَّ إنزال السُّنَّة من أسباب جعلهم يتفكَّرون ويتأمَّلون في القرآن الكريم ومي معانيه.
وهكذا أورد دليلًا آخر في قوله تَعَالَى: ﴿وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾، فبيَّن ووضَّحَ أنَّ سنَّة النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تُبيِّن الكتاب، وأنَّ من وظيفة النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تبيين ما أُنزل عليه من الكتاب. ثم قل: ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [النحل: 64]؛ فسُنَّة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيها الهدى وفيها الرَّحمة.
والنُّصوص الدَّالَّة على حُجيَّة السُّنَّة تدلُّ على أنَّ السُّنَّة شارحة للقرآن، فإنَّ هذه النُّصوص لما دلَّت على حُجيَّة السُّنة، ووجدنا من السُّنَّة ما يُوضِّح معاني القرآن؛ كان ذلك من أسباب قولنا إنَّ تفسير القرآن يؤخَذ من سنة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولذا قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَا إنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ»، وهذا الحديث في السُّنن بإسنادٍ صحيح، وقوله «وَمِثْلَهُ مَعَهُ»، يعني: مثل الكتاب، ويُريدُ بذلك سنَّته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وبيَّن الشَّيخُ أنَّ السُّنَّة قد نزلت بالوحي، كما في قوله -جَلَّ وَعَلَا- عن نبيه الكريم: ﴿وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: 3، 4]، ولَمَّا كانت السنَّة وحيًا من عند الله -عَزَّ وَجَلَّ- وجبَ اعتماد ما وردَ فيها من تفسير كلام ربِّ العزَّة والجلال.
قال: (لَا أَنَّهَا تُتْلَى كَمَا يُتْلَى)، يعني أنَّ السُّنَّة لا تُتلَى كما يُتلَى القرآن، وإنَّما يُحتجُّ بها ويُعمل بها، ويُفسَّر القرآن بها.
قال: (وَقَدْ اسْتَدَلَّ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ عَلَى ذَلِكَ بِأَدِلَّةِ كَثِيرَةٍ)، أي: استدلوا على أنَّ السنة تبين الكتاب بأدلة كثيرة.
والمرادُ: ذكرُ أدلَّةٍ يسيرة توضح صحة الاحتجاج بسنة النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تفسير كتاب الله.
قال: (وَالْغَرَضُ)، أي: المقصود الذي نطلبه. (أَنَّك تَطْلُبُ تَفْسِيرَ الْقُرْآنِ مِنْهُ)، أي: أنَّك إذا أردتَّ أن تفسر كلام رب العزَّة والجلال فإنَّك أولًا تبحث عن تفسير القرآن بالقرآن.
قال: (فَإِنْ لَمْ تَجِدْهُ فَمِنَ السُّنَّةِ)، فإن لم تجد تفسير القرآن بالقرآن؛ فحينئذٍ عُدْ إلى سنَّة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنَّ سنَّة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تفسر القرآن.
وأورد المؤلف في ذلك حديث معاذ بن جبل: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا بعثه إلى اليمن قاضيًا، قال له: «بِمَ تَحْكُمُ؟»، أي: بمَ تقضي؟ لأن الحكم في لسان علماء الشريعة يُراد به القضاء.
قَالَ معاذ: "بِكِتَابِ اللَّهِ"، فبيَّن له أنَّ أول المراجع التي يُراجعها هي كتاب رب العزَّة والجلال.
قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟»، يعني: إن لم تجد تلك النَّازلة في كتاب الله -عَزَّ وَجَلَّ؟
قَالَ معاذ: "بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ"، فهذه أصول الفُتيا، وهي أصول القضاء، وهي أصول تفسير القرآن.
فإن قال قائل: ماذا نفعل بهذه المذاهب الفقهيَّة؟
نقول: هذه مُعينات على فَهم الكتاب والسُّنَّة، ولذا فمن وجد قولًا في هذه المذاهب يُخالف ما في الكتاب والسُّنَّة حرُمَ عليه أن يقول بما فيها، ولو كان منتسبًا إلى المذهب الذي تنسب إليه تلك المذاهب وتلك الكتب، لأنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- إنَّما أمرنا باتِّباعه واتِّباع نبيِّه، وطاعته طاعة نبيِّه، وبالتَّالي لا يجوز تقديم قولِ أحدٍ كائنًا مَن كان على قول الله وقول رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فقال له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟»، أي: إذا لم تجد حكم هذه النَّازلة والواقعة التي يُراد منك القضاء فيها في الكتاب والسُّنَّة، فماذا تفعل؟
فقَالَ معاذ: "أَجْتَهِدُ رَأْيِي"، أي: أنَّني أُحكِمُ النَّظر في هذه الأصول، وأنظرُ بحسب اجتهادي.
قَالَ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي صَدْرِهِ وَقَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ»، وفي هذا دلالة على أنَّ العبد ينبغي به أن يحمد الله على وُفِّقَ إليه من الحقِّ والصواب، وما وُفِّقَ إليه من العمل الصَّالح الذي قد حُرَمَ منه أناسٌ كثير.
وهكذا ممَّا يدل عليه هذا الخبر: أن العبدَ يسعى إلى إرضاء ربِّ العزَّة والجلال، وقد جاء في استجلاب رضا الله نصوص كثيرة رغَّبت المؤمنين في أن يبتغوا مرضات الله، وأن يسعوا للحصول على رضوان الله، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمً﴾ [النساء: 114].
وحديث معاذ قد رواه أهل المساند والسُّنن، فرواه الإمام أحمد في مسنده، وجماعة من أهل المساند، كما رواه أهل السُّنن كأبي داود والترمذي، وحكم عليه المؤلف بأنَّ إسناده جيِّد، وقد جوَّد إسناده جماعة من أهل العلم كابن كثير، وابن القيم.
وبعضهم طعن في هذا الخبر من جهة أنَّ هذا الخبر قد قيل فيه عن أصحاب معاذ عن معاذ، وأصحاب معاذ ليس فيهم مطعن، وكلهم معروفون وثقات، كما أنَّه طُعن في إسناده أن فيه الحارث بن عمرو، وقالوا: إنَّه لا يُعرف. وقال آخرون: إنَّ الحارث هو عم بعض الرواة ممن يُعرَف، وهو أصحاب معاذ، وبالتالي لا يصح أن يُطعن فيه بذلك، لأنه معروف العين، وصفته على القبول.
وقوَّى آخرون هذا الإسناد بوجود هذا المعنى في عدد من النُّصوص، منها ما ورد عن أبي بكر، وورد عن عمر؛ في أنَّهم يسألون إذا نزلت بهم واقعة وحادثة: هل تجدون في كتاب الله لها حكمًا؟ ثم يقولون: هل تجدون لها في سنة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حكمًا؟
وبعض أهل العلم طعن في هذا الخبر بقولهم: إنَّه هنا قدَّم الكتاب على السُّنَّة، والسُّنَّة توضح الكتاب وتخصصه، فكان ينبغي به أن ينظر فيهما معًا.
وعلى كلٍّ؛ متى كان الإسناد ثابتًا عُوِّلَ عليه، ولم يُعوَّل على ما سواه.
ثم ذكر المؤلف أصلًا ثالثًا من أصول التفسير، ألا وهو: أقوال الصحابة.
وأقوال الصحابة في تفسير القرآن على نوعين:
النوع الأول: تفاسير للقرآن اتفق عليها الصحابة، فما اتفق عليه الصحابة كان إجماعًا، وتفسير القرآن بالإجماع محلُّ اتفاق بين العلماء أنَّه يُقبَل، وأنَّه يُفسَّر القرآن به، وذلك لأن الإجماع حُجَّة شرعيَّة، وقد جاءت النُّصوص بإثبات حجيَّته، كما في قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، ويشهد له في كتاب الله قوله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدً﴾ [التوبة: 100]، فهذه الآية فيها الثَّناء على مَن سارَ على طريقة الصحابة؛ فدلَّ هذا على أن إجماعهم على شيء حجَّة يجبُ الأخذ بها، ومن ذلك إجماعهم على تفسير كلام ربِّ العزَّة والجلال.
ويدل عليه قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرً﴾ [النساء: 115]، فنهى الله المؤمنين عن أن يتركوا إجماع هذه الأمة.
ومثله في قوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلً﴾ [النساء: 59]، فإنَّه إنَّما أمرَ بالرَّد إليهما عند وجود التَّنازع، فدلَّ هذا على أنَّه عند وجود الاتفاق فإنَّ اتفاقهم كافٍ، ويُحتجُّ به.
وتفسير القرآن بأقوال الصحابة على جهة الانفراد على نوعين:
النَّوع الأوَّل: إذا لم يكن هناك اختلاف بينهم، أُثِرَ عن أحد الصحابة أنَّه فسَّر آيةً من القرآن بشيءٍ، فإنَّنا حينئذٍ نعتمدُ ذلك القول في تفسير القرآن لعدم وجود مخالفٍ له في الصحابة.
النَّوع الثَّاني: إذا اختلف الصحابة في تفسير القرآن، وكان اختلافهم من اختلاف التَّضاد لا من اختلاف التَّنوُّع؛ فحينئذٍ نقول: إنَّ التفسير الصَّحيح لا يخرج عن أقوالهم، ومن ثَم فلا يجوز لنا أن نُحدث قولًا جديدًا في تفسير كلام ربِّ العزَّة والجلال مخالفًا لأقوال الصَّحابة، وإنَّما نُرجِّحُ بينَ هذين القولين الواردين عن الصحابة.
قال: (وَحِينَئِذٍ إذَا لَمْ نَجِدْ التَّفسير فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ رَجَعْنَا فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ الصَّحابة فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ)، وذلك لأنَّ عندهم ثلاثة معاني:
المعنى الأوَّل: أنَّهم أهل اللغة، والقرآن قد نزل باللغة العربية.
المعنى الثَّاني: أنَّهم أقرب لسنة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فهم أعرف بتفسير كلام الله، لكون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد فسَّره لهم، ثم هم قد شاهدوا من أحوال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن أسباب النزول ما لم يشاهده مَن بعدهم.
قال: (لِمَا شَاهَدُوهُ مِنَ الْقُرْآنِ)، فعرفوا تنزيله وأسباب نزوله.
قال: (وَالْأَحْوَالِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَ)، أي: اختصوا بأحوال متعلقة بارتباطهم بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يوجد عند غيرهم.
المعنى الثَّالث يجعلنا نأخذ بتفسير الصحابة للقرآن: أنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد آتاهم فهمًا؛ فإنَّهم لِمَا لديهم من العقول الصَّافية، ولِمَا لديهم من العلم الصَّحيح والقواعد التي عرفوها من الكتاب والسُّنَّة، ولِمَا لديهم من العمل الصالح الذي يجعل الإنسان فاهمًا للقرآن، فإنَّ مَن كان من أهل العمل الصالح فإنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- يؤتيه فهمًا للقرآن.
ويدل على هذا قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: 17]، وقوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]؛ فكلما زاد ما عند الإنسان منا لتقوى ازداد فهمه للقرآن.
وهكذا في قوله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: 282]، وقوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانً﴾ [الأنفال: 29]، أي: قدرة تميزون بها بين الحق والباطل، وتفرقون بينهما.
فلِمَا للصحابة من هذه الصفات في الفهم الناتج عن العلم والعمل؛ كان تفسيرهم مقدَّم على تفسير غيرهم، لا سيما علماء الصحابة الذين اختصوا بالعلم، فكان وقتهم مشغولًا بالتَّعلُّم والتعليم، فإنَّ مثل هؤلاء يكون عندهم من فهم القرآن ما لا يكون لغيرهم.
ومثَّل المؤلف لذلك بالأئمَّة الأربعة: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي؛ فهؤلاء عندهم من الفهم ما ليس عند غيرهم؛ ولذا قال علي -رضي الله عنه: "ليس عندنا شيءٌ ليس عند الناس إلا فهما يؤتيه الله -جَلَّ وَعَلَا- في كتابه".
وهكذا كان هناك عدد من الصحابة اختصُّوا بالتَّعلُّم والتَّعليم، ومن هؤلاء: الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، فابن مسعود كان عنده من العلم ومن الفهم للقرآن ما امتاز به عن غيره، ومن ثَمَّ كان تفسيره أولى بالقبول.
قال ابن مَسْعُود: "وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ فِيمَنْ نَزَلَتْ وَأَيْنَ نَزَلَتْ"، فدلَّ هذا على أنَّ عنده من العلم بالقرآن ما ليس عند غيره.
قال: "وَلَوْ أَعْلَمُ مَكَانَ أَحَدٍ أَعْلَمَ بِكِتَابِ اللَّهِ مِنِّي تناوله الْمَطَايَا لَأَتَيْته"، أي: لو أعلم مكان تصله الإبل لسافرتُ من أجل أن آخذ تفسيرًا لآية من كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا.
وفي هذا حثٌّ للمؤمنين بأن يتعلَّموا تفسير القرآن.
ويشهد لهذا طريقتهم في تعلم القرآن كما حكاها ابن مسعود -رضي الله عنه- فقال: "كَانَ الرَّجُلُ مِنَّا إذَا تَعَلَّمَ عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزْهُنَّ"، أي لم يتعدَّاهنَّ إلى غيرهن "حَتَّى يَعْرِفَ مَعَانِيَهُنَّ وَالْعَمَلَ بِهِنَّ"، أي: يعرف ما اشتملت عليه من الأحكام والمعاني، وكذلك يعرف طريقة أداء العمل الذي أُرشِدَ إليه في هذه الآيات.
من أمثلة الصحابة الذين اختصُّوا بفهم القرآن، وكان عندهم من العلم بذلك ما ليس عند غيرهم: الصحابي الجليل عبد الله بن عباس، ابن عم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهو حبرٌ بحرٌ، فالحبر: هو العالم المتعمِّق. وبحر: يعني واسع العلم.
وابن عباس كان عنده من تفسير القرآن ومن الفهم من ذلك ما لا يُوجد عند غيره، ولذلك كان ابن عباس ترجمان القرآن، وقد دعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له، فإنَّه في ليلةٍ من الليالي باتَ عند خالته ميمونة زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لأنَّ العباس أخذ أخت ميمونة الهلاليَّة، فلما قام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليُصلي بالليل -أعاننا الله على صلاتها- قام ابن عباس فأحضر له الماء من أجل أن يتوضأ، فدعا له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ».
فقوله: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» أي: اجعله فقيهًا في دين الله، عارفًا بأحكام الله -سبحانه وتعالى-، ومن معرفة أحكام الدين أن يكون عارفًا بتفسير آيات الأحكام الواردة في القرآن، وقوله «وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ»، أي: اجعله عارفًا عالِمًا بتفسير القرآن وتأويله.
والمراد بالتأويل هنا: التفسير، لأن التأويل يرد بثلاثة معان:
- التفسير.
- ما يؤول إليه الكلام وحقيقة الكلام.
- صرفُ اللفظ عن ظاهره إلى معنًى غير الظَّاهر، وهو اصطلاح متأخر لم يكن في الزَّمان الأول.
أورد المؤلف هنا أثر ابن مسعود الذي رواه مسروق بن الأجدع من علماء التابعين، أنَّ ابن مسعود أثنى على ابن عباس في فهم القرآن، فقال ابن مسعود عن ابن عباس: "نِعْمَ التُّرْجُمَانُ لِلْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ"، يعني أنَّه يوضِّح معاني القرآن، ويفسر كلام رب العزة والجلال.
وأورد المؤلف هذا الأثر من أسانيد متعددة، ثم حكم على هذه الأسانيد بالصّحة.
وابن مسعود مات في سنة ثلاث وثلاثين من هجرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الصحيح، ويحسن بالناس أن يعتمدوا هذه التواريخ التي تُبنَى على هجرة المصطفى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ربطًا لأهل الإسلام بتاريخهم، وسيرًا على طريقة علماء الشريعة، وعلماء الأمَّة، مؤلفي الكتب في هذه الأمَّة.
قال الشيخ: (وَقَدْ مَاتَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى الصَّحِيحِ)، أما ابن عباس فإنه بقي بعد ذلك، حتى قيل إنَّه توفي قرابة السنة السبعين من هجرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا يدلك على أن تفسير ابن عباس اكتسب أشياء بعد وفاة ابن مسعود، قال الشيخ: (فَمَا ظَنُّك بِمَا كَسَبَهُ مِنْ الْعُلُومِ بَعْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ).
وقال أبو وائل -شقيق ابن سلمة: "اسْتَخْلَفَ عَلِيٌّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ عَلَى الْمَوْسِمِ"، أي أنَّ عليًّا طلب من ابن عباس أن يكون خليفة له في موسم الحج، بحيث يخطب في عرفة وفي المشاعر.
قال: "فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَرَأَ فِي خُطْبَتِهِ سُورَةَ الْبَقَرَةِ"، وانظر ما اشتملت عليه هذه السورة العظيمة من المعاني والفوائد، وظاهر هذا أنَّه قد مكثَ وقتًا طويلًا في هذه الخطبة.
قال: "وَفِي رِوَايَةِ سُورَةِ النُّورِ؛ فَفَسَّرَهَا تَفْسِيرًا"، أي: شرحها ووضَّح معانيها، وأقام الأدلة عليها.
قال: "لَوْ سَمِعَتْهُ الرُّومُ وَالتُّرْكُ وَالدَّيْلَمُ لَأَسْلَمُوا"، لو سمعتها قبائل العجم لأسلموا لما فيها من المعاني، ولما فيها من الحجج والأدلة والبراهين.
قال الشيخ عن السدي وهو ممن اشتُهر بالتفسير: (وَلِهَذَا فإنَّ غَالِبَ مَا يَرْوِيهِ إسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّدي الْكَبِيرُ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَنْقُلُ عَنْهُمْ مَا يَحْكُونَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ).
هنا ابتدأ المؤلف في شيء جديد، وهو النُّقولات عن أهل الكتاب، هل يصح لنا أن نفسر القرآن بها، أو لا يصح لنا ذلك؟
إذًا؛ عندنا أربعة أصول ذكرها المؤلف قبل ذلك في تفسير القرآن:
أولها: تفسير القرآن بالقرآن.
ثانيها: تفسير القرآن بسنَّة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثالثها: تفسير القرآن بإجماع الصحابة.
رابعها: تفسير القرآن بتفاسير الصحابة.
هل يصح لنا أن نفسر القرآن بما ورد عن أهل الكتاب أو لا يصح؟
الأظهر: أنَّه لا يجوز لنا أن نفسر القرآن بما ورد عن أهل الكتاب، فإنَّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لا تُصَدِّقُوا أهْلَ الكِتَابِ ولا تُكَذِّبُوهُمْ»، فإذا فسَّرنا القرآن بما ورد عن أهل الكتاب فإنَّنا حينئذٍ نكون قد حملنا كلام رب العزَّة والجلال على ما وردَ عنهم من الروايات، وهذا يتنافى مع ما ورد في الخبر من عدم تصديقهم.
وكأن المؤلف يقول: لا بأس أن نورد هذه الروايات الواردة عن أهل الكتاب بشرط أن لا نجعلها تفسيرًا للقرآن، فقال: (لَكِنْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَنْقُلُ عَنْهُمْ مَا يَحْكُونَهُ مِنْ أَقَاوِيلِ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّتِي أَبَاحَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَيْثُ قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ»، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو).
ولم يُعرَف أنَّ ابن مسعود كان يروي الروايات الإسرائيليَّة.
قال: (وَلِهَذَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَدْ أَصَابَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ)، وهي المعركة العظيمة التي وقعت في الشام (زَامِلَتَيْنِ)، أي حملين ثقيلين (مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَكَانَ يُحَدِّثُ مِنْهُمَا بِمَا فَهِمَهُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْإِذْنِ فِي ذَلِكَ)، فإنَّ حديث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أذِنَ في التَّحديث عنهم، لكن عبد الله بن عمرو لم يكن يُحدِّث بذلك على جهة التفسير لكلام الله، وإنَّما يُحدِّث به على جهة الابتداء.
ثم قسَّم المؤلف ما ورد عن بني إسرائيل ثلاثة أقسام، فقال: (أَحَدُهَا: مَا عَلِمْنَا صِحَّتَهُ مِمَّا بِأَيْدِينَا مِمَّا يَشْهَدُ لَهُ بِالصِّدْقِ فَذَاكَ صَحِيحٌ)، وهذا هو الذي شهد له القرآن العظيم، فهذا مقبولٌ لأنَّه ورد في شرعنا.
قال: (والثَّانِي: مَا عَلِمْنَا كَذِبَهُ بِمَا عِنْدَنَا مِمَّا يُخَالِفُهُ)، وذلك لمعارضته لِما في الكتاب والسنة، فهذا كذب لا تجوز روايته، ولا يجوز الاستناد إليه.
قال: (والثَّالِثُ: مَا هُوَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ لَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ وَلَا مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ فَلَا نُؤْمِنُ بِهِ وَلَا نُكَذِّبُهُ وَتَجُوزُ حِكَايَتُهُ لِمَا تَقَدَّمَ)، وهو ليس مما نجزم بصدقه، ولا مما نجزم بكذبه، فهذا لا نؤمن به، ولا نصدقه، وفي نفس الوقت لا نكذبه، وتجوز حكايته للحديث السابق.
والنَّاظر في هذا القسم يجد أن غالب ما يُروَى من هذا القسم لا فائدة فيه، ولا يُقرِّرُ حكمًا جديدًا، ومثل المؤلف لذلك بأصحاب الكهف، ما هي أسماؤهم، ما لون كلبهم، ما هي عدَّتهم، ونحو ذلك.
ولذا؛ نجد أن بني إسرائيل قد اختلفوا في هذه الأمور، ولم يكن قولهم متَّفقًا، فإذا كانوا يختلفون في ذلك دلَّنا على أنَّه لا يصح تفسيرُ كلام رب العزة والجلال بذلك.
ومثله: الشجرة التي كانت عصا موسى منها، وما هي أسماء الطيور الأربعة التي ذكرها الله في قصة إبراهيم عندما أحياها لإبراهيم، وهكذا في قوله: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَ﴾ [البقرة: 73]، يعني اضربوا الميت ببعض أعضاء البقرة ليعود حيًّا فيخبركم بمن قتله، ما هو العضو الذي أخذ من البقرة فضُرب به الميت؟ لا يوجد في ذلك دليل ولا فائدة من معرفته.
وهكذا نوع الشجرة التي كلَّم الله موسى عندها، إلى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى في القرآن.
وهذا النَّوع في الحقيقة لا فائدة في معرفته، ولا فائدة من تعيينه، سواء كانت فائدة دنيوية، أو كانت فائدة أخرويَّة، ولكن نقل الخلاف عنهم جائز لا حرج فيه، لما ورد من الإذن بالنَّقل عنهم، والصواب أنَّه لا يجوز لنا أن نفسر القرآن بهذه الروايات الواردة عنهم.
لعلي أقف عند هذا، أسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- أن يوفقني وإيَّاكَ لكل خير، وأن يجعلني وإيَّاكَ والمستمعين والمشاهدين الكرام من الموفقين لكل خير من الذين يؤتيهم الله -عَزَّ وَجَلَّ- فهم القرآن والعمل به، واتباع سنة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبيا محمد.
{شكر الله لكم معالي الشيخ ما قدمتم، سائلين الله أن يجعله في موازين حسناتكم، والشكر موصول لكم أعزائي المشاهدين على طيب المتابعة، إلى حلقةٍ أخرى من حلقات برنامجكم "البناء العلمي" إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك