الدرس السابع
معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري
إحصائية السلسلة
الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعد؛ فإنَّ المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- قد ذكر أنَّ التَّفسير الذي يقع الاختلاف
فيه على نوعين:
تفسير منقول: مأخوذٌ من النَّقل.
- تفسيرٌ مأخوذٌ من الاستدلال.
وذلكم التَّفسير الذي أُخِذَ من النَّقل الاختلاف فيه على نوعين:
النَّوع الأوَّل: ما لا ثمرةَ من معرفته، ولا يترتَّب عليه عمل، وبالتَّالي لا
نحتاج إلى ترجيحٍ فيه.
النَّوع الثَّاني: ما فيه عملٌ أو دلالةٌ، ومثل هذا النَّوع يقع الاختلاف فيه،
وبالتَّالي نحتاج إلى التَّرجيح.
والتَّرجيح قد يكون بأمورٍ عائدة إلى الإسناد وقوَّته، وقد يكون بالجمع بين
الأقوال، بحيث تكون تلك الأقوال دالَّة على معنًى واحد، أو دالَّة على أنواعٍ لذلك
المعنى الذي اشتمله اللفظ القرآني، أو تكون أسماء متكافئة تدل على ذاتٍ واحدة، وإن
كانت تتمايز في معانٍ وصفاتٍ أخرى غير دلالتها على أصل الذات، ولعلنا اليوم أن
نتكلم عن الخلاف في التَّفسير الذي يقع من جهة الاستدلال من جهة أسبابه، ومن جهة
أنواع الخطأ الذي يقع فيه، ومن جهة كيفيَّة الترجيح بين الأقوال الواردة فيه.
ولعلنا نبتدئ بكلام شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- في هذا الباب،
فليتفضل الأخ محمد بن عبد الله المشرف يقرأ ما يتعلَّق بهذا النوع.
الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.
أمَّا بعد؛ فاللهم اغفر لنا ولشيخنا وللسَّامعين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ: (فَصْلٌ: فِي النَّوْعُ الثَّانِي
الخِلاَفُ الوَاقِعُ فِي التَّفسير مِنْ جِهَةِ الاسْتِدْلاَلِ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ مُسْتَنَدَيْ الِاخْتِلَافِ وَهُوَ مَا يُعْلَمُ
بِالِاسْتِدْلَالِ لَا بِالنَّقْلِ فَهَذَا أَكْثَرُ مَا فِيهِ الْخَطَأُ مِنْ
جِهَتَيْنِ حَدَثَتَا بَعْدَ تَفْسِيرِ الصَّحابة وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ
بِإِحْسَانِ.
فَإِنَّ التَّفَاسِيرَ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَلَامُ هَؤُلَاءِ صِرْفًا لَا
يَكَادُ يُوجَدُ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَاتَيْنِ الْجِهَتَيْنِ مِثْلَ تَفْسِيرِ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ وَوَكِيعٍ وَعَبْدِ بْنِ حميد وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ
إبْرَاهِيمَ دُحَيم، وَمِثْلَ تَفْسِيرِ الْإِمَامِ أَحْمَد وَإِسْحَاقَ بْنِ
رَاهُويَه وبقي بْنِ مخلد وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْذِرِ وَسُفْيَانَ بْنِ
عُيَيْنة وَسَنِيدٍ وَابْنِ جَرِيرٍ وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبِي سَعِيدٍ
الْأَشَجِّ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَاجَه، وَابْنِ مَرْدُويَه:
إحْدَاهُمَا: قَوْمٌ اعْتَقَدُوا مَعَانِيَ ثُمَّ أَرَادُوا حَمْلَ أَلْفَاظِ
الْقُرْآنِ عَلَيْهَا.
والثَّانِيَةُ: قَوْمٌ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِمُجَرَّدِ مَا يُسَوِّغُ أَنْ
يُرِيدَهُ بِكَلَامِهِ، مَنْ كَانَ مِنَ النَّاطِقِينَ بِلُغَةِ الْعَرَبِ مِنْ
غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْمُتَكَلِّمِ بِالْقُرْآنِ وَالْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ
وَالْمُخَاطَبِ بِهِ.
فالْأَوَّلُونَ رَاعَوْا الْمَعْنَى الَّذِي رَأَوْهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا
تَسْتَحِقُّهُ أَلْفَاظُ الْقُرْآنِ مِنْ الدَّلَالَةِ وَالْبَيَانِ.
والْآخَرُونَ رَاعَوْا مُجَرَّدَ اللَّفْظِ، وَمَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ عِنْدَهُمْ
بِهِ الْعَرَبِيُّ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى مَا يَصْلُحُ لِلْمُتَكَلِّمِ بِهِ
وَلِسِيَاقِ الْكَلَامِ.
ثُمَّ هَؤُلَاءِ كثيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي احْتِمَالِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ
الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِكَ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ، كَمَا
أَنَّ الْأَوَّلِينَ كثيرًا مَا يَغْلَطُونَ فِي صِحَّةِ الْمَعْنَى الَّذِي
فَسَّرُوا بِهِ الْقُرْآنَ كَمَا يَغْلَطُ فِي ذَلِكَ الآخَرُون، وَإِنْ كَانَ
نَظَرُ الْأَوَّلِينَ إلَى الْمَعْنَى أَسْبَقَ وَنَظَرُ الآخرين إلَى اللَّفْظِ
أَسْبَقُ.
وَالْأَوَّلُونَ صِنْفَانِ:
- تَارَةً يَسْلُبُونَ لَفْظَ الْقُرْآنِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَأُرِيدَ بِهِ.
- وَتَارَةً يَحْمِلُونَهُ عَلَى مَا لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ وَلَمْ يُرَدْ بِهِ.
وَفِي كَلَا الْأَمْرَيْنِ قَدْ يَكُونُ مَا قَصَدُوا نَفْيَهُ أَوْ إثْبَاتَهُ
مِنْ الْمَعْنَى بَاطِلًا فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ.
وَقَدْ يَكُونُ حَقًّا فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ لَا فِي الْمَدْلُولِ.
وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ وَقَعَ أَيْضًا
فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ.
فَاَلَّذِينَ أَخْطَئُوا فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ -مِثْلُ طَوَائِفَ مِنْ
أَهْلِ الْبِدَعِ- اعْتَقَدُوا مَذْهَبًا يُخَالِفُ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ
الْأُمَّةُ الْوَسَطُ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ كَسَلَفِ
الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَا وَعَمَدُوا إلَى الْقُرْآنِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى
آرَائِهِمْ.
تَارَةً يَسْتَدِلُّونَ بِآيَاتِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ وَلَا دَلَالَةَ فِيهَا.
وَتَارَةً يَتَأَوَّلُونَ مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُمْ بِمَا يُحَرِّفُونَ بِهِ
الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ فِرَقُ الْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ
والجهمية وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهِمْ.
وَهَذَا كَالْمُعْتَزِلَةِ مَثَلًا فَإِنَّهُمْ مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ كَلَامًا
وَجِدَالًا، وَقَدْ صَنَّفُوا تَفَاسِيرَ عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِمْ؛ مِثْلِ
تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كيسان الْأَصَمِّ شَيْخِ إبْرَاهِيمَ بْنِ
إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ الَّذِي كَانَ يُنَاظِرُ الشَّافِعِيَّ. وَمِثْلِ
كِتَابِ أَبِي عَلِيٍّ الجبائي. وَالتَّفسير الْكَبِيرِ لِلْقَاضِي عَبْدِ
الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَد الهمداني. والجَامِعُ لِعِلْمِ القُرْآنِ لِعَلِيِّ بْنِ
عِيسَى الرُّمَّانِيِّ. وَالْكَشَّافِ لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّمَخْشَرِي؛
فَهَؤُلَاءِ وَأَمْثَالُهُمْ اعْتَقَدُوا مَذَاهِبَ الْمُعْتَزِلَةِ.
وَأُصُولُ الْمُعْتَزِلَةِ خَمْسَةٌ يُسَمُّونَهَا هُمْ: التَّوْحِيدُ وَالْعَدْلُ
وَالْمَنْزِلَةُ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَإِنْفَاذُ الْوَعِيدِ وَالْأَمْرُ
بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ.
وتَوْحِيدُهُمْ هُوَ تَوْحِيدُ الجهمية الَّذِي مَضْمُونُهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ
وَعَنْ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى، وَإِنَّ الْقُرْآنَ مَخْلُوقٌ، وَإِنَّهُ
لَيْسَ فَوْقَ الْعَالَمِ، وَإِنَّهُ لَا يَقُومُ بِهِ عِلْمٌ وَلَا قُدْرَةٌ،
وَلَا حَيَاةٌ، وَلَا سَمْعٌ، وَلَا بَصَرٌ، وَلَا كَلَامٌ وَلَا مَشِيئَةٌ وَلَا
صِفَةٌ مِنْ الصِّفَاتِ.
وَأَمَّا عَدْلُهُمْ فَمِنْ مَضْمُونِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ جَمِيعَ
الْكَائِنَاتِ وَلَا خَلَقَهَا كُلَّهَا وَلَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا كُلِّهَا؛
بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ، لَا
خَيْرَهَا وَلَا شَرَّهَا، وَلَمْ يُرِدْ إلَّا مَا أَمَرَ بِهِ شَرْعًا وَمَا
سِوَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِغَيْرِ مَشِيئَة.
وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مُتَأَخِّرُو الشِّيعَةِ كَالْمُفِيدِ وَأَبِي
جَعْفَرٍ الطوسي وَأَمْثَالِهِمَا، وَلِأَبِي جَعْفَرٍ هَذَا تَفْسِيرٌ عَلَى
هَذِهِ الطَّرِيقَةِ؛ لَكِنْ يُضَمُّ إلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ
الِاثْنَيْ عَشَرِيَّةَ؛ فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ
بِذَلِكَ وَلَا مَنْ يُنْكِرُ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
وَعَلِيٍّ.
وَمِنْ أُصُولِ الْمُعْتَزِلَةِ مَعَ الْخَوَارِجِ: إنْفَاذُ الْوَعِيدِ فِي
الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ فِي أَهْلِ الْكَبَائِرِ شَفَاعَةً وَلَا
يُخْرِجُ مِنْهُمْ أَحَدًا مِنْ النَّارِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِمْ طَوَائِفُ مِنْ الْمُرْجِئَةِ
والكَرَّامِيَّة والكُلاَّبِيَّة وَأَتْبَاعِهِمْ؛ فَأَحْسَنُوا تَارَةً
وَأَسَاءُوا أُخْرَى حَتَّى صَارُوا فِي طَرَفَيْ نَقِيضٍ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي
غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا رَأْيًا ثُمَّ حَمَلُوا
أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُمْ سَلَفٌ مِنْ الصَّحابة
وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا فِي
رَأْيِهِمْ وَلَا فِي تَفْسِيرِهِمْ.
وَمَا مِنْ تَفْسِيرٍ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ إلَّا وَبُطْلَانُهُ
يَظْهَرُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ وَذَلِكَ مِنْ جِهَتَيْنِ:
- تَارَةً مِنَ الْعِلْمِ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ.
- وَتَارَةً مِنَ الْعِلْمِ بِفَسَادِ مَا فَسَّرُوا بِهِ الْقُرْآنَ، إمَّا
دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِمْ، أَوْ جَوَابًا عَلَى الْمُعَارِضِ لَهُمْ.
وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يَكُونُ حَسَنَ الْعِبَارَةِ فَصِيحًا وَيَدُسُّ الْبِدَعَ
فِي كَلَامِهِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ كَصَاحِبِ الْكَشَّافِ
وَنَحْوِهِ، حَتَّى إنَّهُ يُرُوجُ عَلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَعْتَقِدُ
الْبَاطِلَ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ رَأَيْت مِنْ الْعُلَمَاءِ المفسِّرين وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي
كِتَابِهِ وَكَلَامِهِ مِنْ تَفْسِيرِهِمْ مَا يُوَافِقُ أُصُولَهُمْ الَّتِي
يَعْلَمُ أَوْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا وَلَا يَهْتَدِي لِذَلِكَ.
ثُمَّ إنَّهُ لِسَبَبِ تَطَرُّفِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ دَخَلَتْ الرَّافِضَةُ
الْإِمَامِيَّةُ ثُمَّ الْفَلَاسِفَةُ ثُمَّ الْقَرَامِطَةُ وَغَيْرُهُمْ فِيمَا
هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَتَفَاقَمَ الْأَمْرِ فِي الْفَلَاسِفَةِ
وَالْقَرَامِطَةِ وَالرَّافِضَةِ، فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِأَنْوَاعِ
لَا يَقْضِي مِنْهَا الْعَالِمُ عَجَبَهُ.
فَتَفْسِيرُ الرَّافِضَةِ كَقَوْلِهِمْ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ [المسد: 1]
هُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.
ثُمَّ إنَّهُ لِسَبَبِ تَطَرُّفِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ دَخَلَتْ الرَّافِضَةُ
الْإِمَامِيَّةُ ثُمَّ الْفَلَاسِفَةُ ثُمَّ الْقَرَامِطَةُ وَغَيْرُهُمْ فِيمَا
هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ وَتَفَاقَمَ الْأَمْرِ فِي الْفَلَاسِفَةِ
وَالْقَرَامِطَةِ وَالرَّافِضَةِ، فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِأَنْوَاعِ
لَا يَقْضِي الْعَالِمُ مِنْهَا عَجَبَهُ.
فَتَفْسِيرُ الرَّافِضَةِ كَقَوْلِهِمْ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ [المسد: 1]،
هُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ
و ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65]، أَيْ بَيْنَ أَبِي
بَكْرٍ وَعَلِيٍّ فِي الْخِلَافَةِ.
و ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: 67]، هِيَ
عَائِشَةُ.
و ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ [التوبة: 12]، طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ.
و ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ [الفرقان: 53]، عَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ.
و ﴿اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: 22]، الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ.
و ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 12]، فِي عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ.
و ﴿عَمَّ يَتَسَاءلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾ [النبإ: 1-2] عَلِيِّ بْنِ
أَبِي طَالِبٍ.
و ﴿إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة: 55]،
هُوَ عَلِيٌّ، وَيَذْكُرُونَ الْحَدِيثَ الْمَوْضُوعَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ
وَهُوَ تَصَدُّقُهُ بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلاة.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾
[البقرة: 157]، نَزَلَتْ فِي عَلِيٍّ لَمَّا أُصِيبَ بِحَمْزَةِ. وَمِمَّا
يُقَارِبُ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ المفسِّرين
فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانتِينَ
وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: 17]، أَنَّ
الصَّابِرِينَ رَسُولُ اللَّهِ وَالصَّادِقِينَ أَبُو بَكْرٍ وَالْقَانِتِينَ
عُمَرُ وَالْمُنْفِقِينَ عُثْمَانُ وَالْمُسْتَغْفِرِين عَلِيٌّ.
وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ أَبُو
بَكْرٍ ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ عُمَرُ ﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ عُثْمَانُ
﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدً﴾ [الفتح: 29] عَلِيٌّ.
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: ﴿وَالتِّينِ﴾ أَبُو بَكْرٍ
﴿وَالزَّيْتُونَ﴾ عُمَرُ ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾ عُثْمَانُ ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ
الْأَمِينِ﴾ [التين: 1-3] عَلِيٌّ.
وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ:
تَارَةً تَفْسِيرَ اللَّفْظِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِحَالِ، فَإِنَّ هَذِهِ
الْأَلْفَاظَ الَّتي لَا تَدُلُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصِ.
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدً﴾ كُلُّ ذَلِكَ نَعْتٌ لِلَّذِينَ مَعَهُ
وَهِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا النُّحَاةُ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. والْمَقْصُودُ
هُنَا: أَنَّهَا كُلَّهَا صِفَاتٌ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ وَهُمْ الَّذِينَ مَعَهُ،
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْهَا مُرَادًا بِهِ شَخْصٌ وَاحِدٌ!
وَتَتَضَمَّنُ تَارَةً جَعْلَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ مُنْحَصِرًا فِي
شَخْصٍ وَاحِدٍ كَقَوْلِهِ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ
وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُو﴾ أُرِيدَ بِهَا عَلِيٌّ وَحْدَهُ.
وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ
بِهِ﴾ [الزمر: 33]، أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ.
وَقَوْلِهِ: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ
وَقَاتَلَ﴾ [الحديد: 10]، أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ.
وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وتَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَأَمْثَالِهِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ
وَأَسْلَمُ مِنَ الْبِدْعَةِ مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِي، وَلَوْ ذُكِرَ كَلَامُ
السَّلَفِ الْمَوْجُودُ فِي التَّفَاسِيرِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِهِ
لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَجْمَلَ فَإِنَّهُ كثيرًا مَا يَنْقُلُ مِنْ تَفْسِيرِ
مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ التَّفَاسِيرِ وَأَعْظَمِهَا
قَدْرًا، ثُمَّ إنَّهُ يَدَعُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ السَّلَفِ لَا
يَحْكِيهِ بِحَالِ، وَيَذْكُرُ مَا يَزْعُمُ أَنَّهُ قَوْلُ الْمُحَقِّقِينَ،
وَإِنَّمَا يَعْنِي بِهِمْ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ الَّذِينَ قَرَّرُوا
أُصُولَهُمْ بِطُرُقِ مِنْ جِنْسِ مَا قَرَّرَتْ بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ أُصُولَهُمْ،
وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي
أَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَيَعْرِفَ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ
التَّفسير عَلَى الْمَذْهَبِ.
فَإِنَّ الصَّحابة وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةَ إذَا كَانَ لَهُمْ فِي تَفْسِير
الْآيَةِ قَوْلٌ وَجَاءَ قَوْمٌ فَسَّرُوا الْآيَةَ بِقَوْلِ آخَرَ لِأَجْلِ
مَذْهَبٍ اعْتَقَدُوهُ، وَذَلِكَ الْمَذْهَبُ لَيْسَ مِنْ مَذَاهِبِ الصَّحابة
وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ، صَارُوا مُشَارِكِينَ لِلْمُعْتَزِلَةِ
وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي مِثْلِ هَذَا.
وَفِي الْجُمْلَةِ مَنْ عَدَلَ عَنْ مَذَاهِبِ الصَّحابة وَالتَّابِعِينَ
وَتَفْسِيرِهِمْ إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ بَلْ
مُبْتَدِعًا وَإِنْ كَانَ مُجْتَهِدًا مَغْفُورًا لَهُ خَطَؤُهُ.
فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ طُرُقِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتِهِ وَطُرُقِ الصَّوَابِ.
وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ قَرَأَهُ الصَّحابة وَالتَّابِعُونَ
وَتَابِعُوهُمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِتَفْسِيرِهِ وَمَعَانِيهِ، كَمَا
أَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِالْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ وَفَسَّرَ الْقُرْآنَ
بِخِلَافِ تَفْسِيرِهِمْ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ جَمِيعًا.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ لَهُ شُبْهَةٌ يَذْكُرُهَا إمَّا
عَقْلِيَّةٌ وَإِمَّا سَمْعِيَّةٌ، كَمَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي مَوْضِعِهِ.
والْمَقْصُودُ هُنَا: التَّنْبِيهُ عَلَى مَثَارِ الِاخْتِلَافِ فِي التَّفسير،
وَأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهِ الْبِدَعَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي دَعَتْ
أَهْلَهَا إلَى أَنْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَفَسَّرُوا كَلَامَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِغَيْرِ مَا أُرِيدَ بِهِ
وَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ.
فَمِنْ أُصُولِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ:
- أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ الْقَوْلَ الَّذِي خَالَفُوهُ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ.
- وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تَفْسِيرَ السَّلَفِ يُخَالِفُ تَفْسِيرَهُمْ.
- وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تَفْسِيرَهُمْ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ.
- ثُمَّ أَنْ يَعْرِفَ بِالطُّرُقِ الْمُفَصَّلَةِ فَسَادَ تَفْسِيرِهِمْ بِمَا
نَصَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى بَيَانِ الْحَقِّ.
وَكَذَلِكَ وَقَعَ مِنْ الَّذِينَ صَنَّفُوا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ وَتَفْسِيرِهِ
مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَ فِيمَا صَنَّفُوهُ مِنْ شَرْحِ
الْقُرْآنِ وَتَفْسِيرِهِ.
وَأَمَّا الَّذِينَ يُخْطِئُونَ فِي الدَّلِيلِ لَا فِي الْمَدْلُولِ؛ فَمِثْلُ
كَثِيرٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْوُعَّاظِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ،
يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِمَعَانٍ صَحِيحَةٍ؛ لَكِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَدُلُّ
عَلَيْهَا؛ مِثْلَ كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي فِي
حَقَائِقِ التَّفسير وَإِنْ كَانَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مَا هُوَ مَعَانٍ بَاطِلَةٌ
فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْخَطَأُ فِي الدَّلِيلِ
وَالْمَدْلُولِ جَمِيعًا حَيْثُ يَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدُوهُ فَاسِدً)}.
ذكر الشَّيخ ابن تيمية في هذا الفصل أسباب الخطأ الذي يقع في التَّفسير الاستدلالي،
وبيَّن من خلاله طرائق التَّرجيح بين أقوال العلماء في التَّفسير الذي يُؤخَذُ من
طريق الاستنباط والاستدلال، فقال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَأَمَّا النَّوْعُ
الثَّانِي مِنْ مُسْتَنَدَيْ الِاخْتِلَافِ)، ذكرنا أنَّ النَّوع الأول متعلق
بالتَّفسير بالنَّقل.
والنَّوع الثَّاني: متعلق بالتَّفسير بالاستدلال.
قال: (وَهُوَ مَا يُعْلَمُ بِالِاسْتِدْلَالِ لَا بِالنَّقْلِ فَهَذَا أَكْثَرُ مَا
فِيهِ الْخَطَأُ مِنْ جِهَتَيْنِ)، هذا النوع -وهو التَّفسير بالاستدلال- يقع فيه
الخطأ كثيرًا من جهتين، وهاتان الجهتان لم تكن في العهد الأول -عهد الصحابة
والتابعين.
ومثَّل للتَّفاسير التي كانت تهتم بنقل كلام السَّلف في تفسير القرآن، ومثَّل لها
بتفسير عبد الرَّزَّاق، وهو تفسير لازال موجودًا ومطبوعًا، وتفسير وكيع، وتفسير عبد
بن حُميد وقد وُجد بعضه، وتفسير عبد الرحمن بن إبراهيم دحيم، وتفسير الإمام أحمد،
وتفسير إسحاق بن راهويه، وبقي بن مخلد، إلى آخر مَن ذكرهم المؤلف ممَّن يعتني بنقل
أقوال الصحابة والتَّابعين في تفسير كلام ربِّ العزَّة والجلال.
ما هي أسباب الخطأ في التَّفسير الذي يكون بالاستدلال؟
عندنا أمران:
الأمر الأول: أن تكون للمفسِّر آراء ومذاهب، فيقوم بحمل آيات القرآن عليها.
مثال ذلك: تأتينا مسألة فقهيَّة يكون للمفسِّر رأي في هذه المسألة، فيقوم بحمل لفظ
القرآن على ذلك الرَّأي.
مثل هذا: مسألة الإيلاء، وهو أن يُحرِّم الرجلُ زوجتَه على نفسه، يقول: والله لن
أطأكِ خمس سنوات؛ فحينئذٍ يُوقَف أربعة أشهر، وبعد الأربعة أشهر:
يقول الجمهور: إنَّه يُخيَّر، إمَّا أن تُكفِّر عن يمينك، وإمَّا أن تُطلِّق.
ويقول الحنفيَّة: إذا مضت الأربعة أشهر فإنَّ الزَّوجة تطلق مُباشرة ولا خيار،
لقوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ
أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا
الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 226، 227]، فالآية جعلت
خيارين لمن آلى من زوجته، إمَّا أن يُطلِّق وإمَّا أن يُكفِّر، ﴿فَإِنْ فَاءُو﴾،
أي: رجعوا عن أيمانهم ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، والفيئة تكون
بالتَّكفيرِ.
قال: ﴿وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، والعزم
بالطلاق في هذه الآية ليس محصورًا بالأربعة أشهر، وهذا يعني أنَّها لا تطلق بمضي
المدَّة؛ فيأتي الفقيه الحنفي ويتعسَّف من أجل أن يحمل الآية على قوله ومذهب
أصحابه.
ومثله في مسألة اشتراط الولي في النِّكاح، فإنَّ الحنفيَّة يرونَ أنَّ الولي ليس
شرطًا في عقد النِّكاح، فيأتي الفقيه الحنفي إلى قوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَإِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ
يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ﴾ [البقرة: 232]، فهذا خطاب للأولياء بعدمِ عضل
موليَّاتهم المطلَّقات، وما ذاكَ إلَّا أنَّ الولي له ولاية وله اختيار وأنَّه شرطٌ
في العقد، فيأتي ويُفسِّرها بتفسيرات مخالفة لا يدلُّ عليها اللفظ.
مثال آخر في هذه المسألة: جاء في الحديث أنَّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال: «أيُّما امرأةٍ نُكحتْ بغيرِ إذنَ وليّها، فنكاحُها باطلٌ،
فنكاحُها باطلٌ، فنكاحُها باطلٌ»، فيأتي الفقيه الحنفي ويفسر المراد بالحديث أنَّه
في المكاتَبة أو الأَمَة، وظاهر لفظ «أيُّما امرأةٍ» عام، فيشمل جميع النساء، فهنا
كان الفقيه عنده قولٌ سابق فأراد أن يحمل النَّصَّ عليه.
فهذا هو السبب الأول، وهو واضح، وكما يكونُ في الفقه يكون في المعتَقَد.
لَمَّا يأتي إنسان ويكون من معتقده عدم اتِّصاف الله -عَزَّ وَجَلَّ- بصفة اليد،
فيأتي عند قوله تعالى: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾ [ص: 75] فيُفسِّرها بالنِّعمة،
فهذا كان عنده مذهب عقدي في نفي الصفات -ومنها صفة اليد- ثم حمل النَّصَّ عليه
ليتوافق مع مذهبه، مع أنَّ النَّص يدلُّ على خلاف قوله، فإنَّه ثنَّى اليد،
والنِّعمة يؤتى بها مجموعة أو مفردة ولا يُؤتى بها على جهة التَّثنية، إلى غير ذلك
مما يدل على بطلان قولهم من القرائن الموجودة في الآية.
من أين نشأ هذا الخطأ؟
من كونه أراد أن يحمل ألفاظ القرآن على مذهبه، لا أن يحمل مذهبه على دلالات القرآن.
أمَّا السَّبب الثَّاني من أسباب الخطأ: فهو أن بعض الناس قد يُفسر اللفظ القرآن
بما يحتمله في اللغة من غير نظر إلى قرائن السِّياق، ومن غير نظر إلى المتكلِّم
بذلك وهو ربُّ العزَّة واجلال، ومن غير نظرٍ إلى مَن يُخاطَب بذلك الخطاب.
ومثله في الآية التي ذكرتُ قبل قليل من قوله تعالى: ﴿لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾،
فيقول: العرب قد تُطلق لفظ "اليد" على النِّعمة، ويُغفل ما في هذا النّص من قرائن
تدل على أنَّ هذا الجائز لا يُمكن جوازه هنا، مثل ما ذكرنا قبل قليل من التَّثنية.
والثَّاني: قومٌ فسَّروا القرآن بمجرد ما يسوغ وما يجوز في لغة العرب من غير نظرٍ
إلى مَن هو المتكلِّم بالقرآن، ومَن هو المُنزَّل عليه، ومَن هو المخاطب به؛ فحملوا
ألفاظ القرآن على غير مدلولها.
ومن أمثلة ذلك: قوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ [المائدة: 35]، فيأتي مَن يُفسر الآية
ويقول: الوسيلة هم الأنبياء أو الأولياء أو الملائكة؛ وبالتَّالي الآية تدل على
جواز اتِّخاذهم وسيلةً، وذلك بأن نعبدهم وأن ندعوهم ليكونوا لنا وسيلةً عند الله
-جلَّ وعلا- مع أنَّ هذه الآية فيها ﴿وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾ ولم يقل:
ابتغوا الوسيلة الموصلة إليه؛ والمعنى الصحيح للآية: اطلبوا الوسيلة بالعمل الصالح
الذي يُقربنا إلى الله -جلَّ وعل-، فكان عندهم مذهب سابق حملوا لفظ القرآن عليه.
ثم إنَّهم فسَّروا اللفظ بما يجوزُ في اللغة، لكنَّه لا يجوز في النَّصِّ القرآني
بدلالة الآيات الأخرى التي منعت من دعاء غير الله -جَلَّ وَعَلَا- كقوله: ﴿وَأَنَّ
الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدً﴾ [الجن: 18].
إذًا؛ قد يجتمع هذان السَّببان في صورةٍ واحدةٍ، وقد يُوجد أحد السَّببين في
التَّفسير الخاطئ الذي يكون بالاستدلال، ولذلك لابدَّ أن يُلاحظ السِّياق، ولابدَّ
أن تُلاحَظ القرائن، ولابدَّ أن تُلاحَظ الأدلَّة الأخرى الواردة في الموضوع حتَّى
يكون تفسيرنا للقرآن تفسيرًا صحيحًا.
الذين اعتقدوا المعاني راعوا المعنى الذي يذهبون إليه والذي ينظروه من غير اهتمام
بما يستحقه اللفظ القرآني من الدلالة والبيان.
وأصحاب هذا القسم تجد أنهم يسلبون اللفظ القرآني دلالته، ويُزيلون منه المعنى الذي
دلَّ عليه، أو يحملونه على معنًى لم يدل عليه اللفظ القرآني.
أمَّا الصنف الثَّاني الذين فسَّروا القرآن بما يجوز في اللغة من غير نظرٍ إلى
القرائن والأدلَّة والسياقات؛ فهؤلاء راعوا اللفظ فقط، فالأوَّلون راعوا المذهب
الذي ينتمون إليه عقديًّا وفقهيًّا، والآخرون راعوا اللفظ المجرَّد من غير مُراعاةٍ
لِما يحتفُّ به من قرائن، وما يكون معه من سياق، ولم يلتفتوا إلى ما يصح أن يُنسَب
للمتكلِّم وما لا يصح أن يُنسَب إليه.
وفي مراتٍ كثيرةٍ يجعلون اللفظ يحتمل أن يدلَّ على هذا المعنى، وفي الحقيقة أنَّه
لا يحتمل بالنَّظر إلى سياقه.
ومن هنا نعرف أن هناك منهجين في النَّظر إلى تفاسير الكلام:
الأول: يلتفت إلى الألفاظ المجرَّدة.
الثاني: يلتفت إلى الكلام تامًّا بسياقه.
والنَّظر العربي لا يلتفت إلى مجرد اللفظ، وإنَّما يلتفت إلى الكلام تامًّا،
ومثاله: لو قلتُ لكَ: ما معنى "قَالَ"؟
لو التفتنا إليها فقط فحينئذٍ قد نفسرها بغير مراد المتكلِّم بها؛ لأنَّها في مرات
قد يُراد بها "القيلولة" كما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَالي
وَلَلدُّنْيَا؟ مَا أَنَا في الدُّنْيَا إِلاَّ كَرَاكبٍ قَالَ تَحْتَ شَجَرَةٍ
ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَ»، فأراد بلفظة "قَالَ" القيلولة، وهو نوم وقت الظَّهيرة،
ولفم يُرد بها "القَوْل".
وهكذا في الألفاظ، سواء القرآنية أو النَّبويَّة، أو كلام الشِّعر أو كلام النَّثر،
لو التفت إلى اللفظ المجرد فإنَّه حينئذٍ سيحمل الكلام على غير مراد المتكلِّم به.
وهكذا فيما يتعلق بتفسير القرآن بناء على المذهب الذي يسير عليه الإنسان، فإنَّه قد
أخطأ في الدَّليل بأن حمله على غير مُراد الله به، وأخطأ في المدلول؛ لأنَّ المعنى
الذي ذهب إليه معنًى غير صحيح، والأدلَّة تدلُّ على خلافه.
إذًا؛ هناكَ مَن ينظر إلى معنى فاسد موجود عنده فيحمل اللفظ القرآني عليه، وهناك
مَن يلتفت إلى اللفظ فيحمله على مدلولٍ لا يدل عليه اللفظ متى اعتبرنا السِّياق
والقرائن الموجودة معه.
وبالتَّالي نعرف أنَّ أولئك الذين يكون عندهم مذهب سابق فيحملون ألفاظ القرآن عليه
مرَّات يُلغون اللفظ القرآني، ومرَّات يحملون اللفظ القرآني على مذاهبهم وأقوالهم،
ولذلك لَمَّا تأتي إلى مثل قوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى
تَكْلِيمً﴾ [النساء: 164]؛ يأتيك مَن يعتقد نفي صفة الكلام لله -عَزَّ وَجَلَّ-
فيقول: معنى هذه الآية: جرحَه بجروح الحكمةِ.
فانظر! حملَ اللفظ على معنًى غريب، وحملَ اللفظ على ما لا يحتمله؛ لأنَّه لَمَّا
قال: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمً﴾ لم يعد يحتمل معنًى آخر غير صفة
الكلام، وبالتالي فحمله لهذا اللفظ على ذلك المعنى بناء على المذهب الذي يراه جعله
غير دالٍّ على هذه المسألة، لا بإثباتٍ ولا بنفيٍ.
قال: (وَفِي كَلَا الْأَمْرَيْنِ)، أي: إمَّا بجعل اللفظ له معنى مغاير لمعناه
الصحيح، أو بإلغاء معناه وجعله لا يدل على أي معنى.
قال: (قَدْ يَكُونُ مَا قَصَدُوا نَفْيَهُ)، كنفي صفة الكلام.
قال: (أَوْ إثْبَاتَهُ مِنْ الْمَعْنَى بَاطِلً)، أي من الباطل وليس من الحق.
قال: (فَيَكُونُ خَطَؤُهُمْ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ)، أي يكونوا قد أخطئوا
في شيئين:
- مذهبهم: وهو المدلول.
- تفسير القرآن: وهو الدَّليل.
وفي مرَّات يكون المعنى الذي قالوه معنى حق، لكنَّ الآية لا تدلُّ عليه، وبالتَّالي
يكون الخطأ ليس في المدلول؛ لأنَّ المذهب الذي اختاروه مذهب صحيح، إنَّما الخطأ في
الدَّليل.
ومن أمثلة هذا: عندما يأتينا في بعض الآيات التي ليست من آيات الصفات، فتُحمَل على
أنَّها من آيات الصفات، فإثبات الصفات مذهب صحيح، لكن حمل هذه الآية على هذا
المدلول خطأ، وبالتَّالي كان الخطأ في الدَّليل وتفسيره، وليس الخطأ في المدلول.
قال: (وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ وَقَعَ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ)، يعني الخطأ في
الدليل والخطأ في المدلول (فَإِنَّهُ وَقَعَ أَيْضًا فِي تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ)، أي
وقع في سنَّة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما مثَّلنا بأمثلةٍ من
سنَّة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل قليل.
قال: (فَاَلَّذِينَ أَخْطَئُوا فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ -مِثْلُ طَوَائِفَ
مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ- اعْتَقَدُوا مَذْهَبًا يُخَالِفُ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِ
الْأُمَّةُ الْوَسَطُ الَّذِينَ لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى ضَلَالَةٍ كَسَلَفِ
الْأُمَّةِ وَأَئِمَّتِهَ)، ثمَّ حملوا النَّص القرآني على ذلك المعنى الباطل
فأخطئوا في الدليل بتفسيره بغير المراد منه، وأخطئوا في المدلول، فإنَّهم قالوا
قولًا باطلًا حملوا النَّص القرآني عليه.
قال: (وَعَمَدُوا إلَى الْقُرْآنِ فَتَأَوَّلُوهُ عَلَى آرَائِهِمْ)، وجعلوه من
مذاهبهم.
ومن أمثلة ذلك: قوله -جَلَّ وَعَلَا- لموسى: ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ [الأعراف: 143]، قال
بعض المعتزلة: هذا دليلٌ على أن الله لا يُرَى يوم القيامة؛ لأنَّ "لن" تفيد
النَّفي المؤبَّد.
فهنا أخطئوا في المدلول بقولهم: إنَّ الله لا يُرَى، وأخطئوا في الدليل بقولهم: إن
"لن" تفيد النفي المؤبَّد، والنَّاظر في آيات القرآن في مثل قوله -جَلَّ وَعَلَا:
﴿وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ [البقرة: 95] يعني
الموت، ثم إنَّهم يوم القيامة يتمنَّون الموت ﴿وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ
عَلَيْنَا رَبُّكَ﴾ [الزخرف: 77]؛ فهذا دليل على أنَّ "لن" لا تفيد النفي المؤبَّد،
وليس كلُّ ما نُفيَ في الدنيا يُنفَى في الآخرة، فهؤلاء رأوا مذهبًا باطلًا في نفي
رؤية الله -جَلَّ وَعَلَا- يوم القيامة ثم فسَّروا آيةً على مذهبهم، وهذه الآية لا
دلالة فيها على ذلك المذهب.
قال: (وَتَارَةً يَتَأَوَّلُونَ مَا يُخَالِفُ مَذْهَبَهُمْ)، فتأتيهم الآية التي
تدل على خلاف مذهبهم فيفسرونها بغير مراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- كما في قوله:
﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمً﴾، فهنا حملوا هذا اللفظ على غير المراد به
ممَّا يكون من جنسِ التَّحريف، وحرَّفوا الكلم عن مواضعه.
ومن هؤلاء الذين يفسرون القرآن تفسيرًا خاطئًا بناءً على مذاهبهم: فرق الخوارج، وهم
الذين يعتمد مذهبهم على بدعتين أصيلتين، هما:
- تكفير الناس بالمعاصي.
- والخروج على الأئمَّة والولاة.
ودخل معهم بدعٌ أخرى، مثل: تعطيل سنَّة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وممَّن أخطأ في الدَّليل والمدلول كذلك: الرَّوافض الذين يرفضون الأئمَّة، كأبي بكر
وعمر وعثمان، والجهميَّة الذين ينفون الصفات والأسماء، والمعتزلة الذين ينفون
الصفات، والقدريَّة الذين ينفون أنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- قد قدَّرَ الحوادث،
والمُرجئة الذين يؤخِّرون العمل عن الإيمان، ويقولون: إنَّ الإيمان لا يشمل
الأعمال، وإنَّ الإيمان على رتبةٍ واحدة يتساوى الناس فيها.
وممَّن أخطأ في الدَّليل والمدلول المعتزلة، فإنَّهم من أعظم النَّاس كلامًا
وجدالًا، وبالتَّالي تجد أنَّهم يفسِّرونَ القرآن بغير مدلوله بناء على مذاهبهم
التي يسيرون عليها.
قال: (وَقَدْ صَنَّفُوا تَفَاسِيرَ عَلَى أُصُولِ مَذْهَبِهِمْ) فحرَّفوا آيات
القرآن بناء على المذهب الذي يسيرون إليه.
ومثَّل المؤلف لذلك فقال: (مِثْلِ تَفْسِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كيسان
الْأَصَمِّ شَيْخِ إبْرَاهِيمَ بْنِ إسْمَاعِيلَ بْنِ عُلَيَّةَ الَّذِي كَانَ
يُنَاظِرُ الشَّافِعِيَّ)، أي يُجادل الشافعي في مسائل المعتقد.
قال: (وَمِثْلِ كِتَابِ أَبِي عَلِيٍّ الجبائي)، وهو من كبار المعتزلة.
قال: (وَالتَّفسير الْكَبِيرِ لِلْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَد
الهمداني. والجَامِعُ لِعِلْمِ القُرْآنِ لِعَلِيِّ بْنِ عِيسَى الرُّمَّانِيِّ.
وَالْكَشَّافِ لِأَبِي الْقَاسِمِ الزَّمَخْشَرِي)، فهذه الكتب مَبنية على مذهب
المعتزلة، حتى إن بعض كتب مَن يهتم بالتَّفسير الفقهي تجدها مبنية على المذهب
الاعتزالي، لَمَّا تجد كتاب "أحكام القرآن" لأبي بكر الجصَّاص، عُنيَ فيه بتفسير
القرآن تفسيرًا فقهيًّا، وحرِصَ أن يُظهر آراء أئمَّة الحنفيَّة ويستدلُّ لهم؛ بل
عنده من التَّأويلات والتَّحريفات من أجل أن يتوافق النَّص القرآني ويجعله دالًّا
على مذهب الإمام أبي حنيفة أشياء كثيرة، ولكنَّه لم يقتصر في هذا على باب الفقه؛
وإنَّما هو في باب المعتقد كان يرى رأي المعتزلة، فحمل النَّص القرآني على آراء
المعتزلة.
مثلًا في مسألة الخروج على الأئمَّة والولاة:
- المعتزلة يُوجبون الخروج على الأئمَّة والولاة، وبالتَّالي نجد أن الزَّمخشري
والجصَّاص وغيرهما يحملون آيات من القرآن للدَّلالة على مذهب المعتزلة في هذا الباب
بوجوب الخروج على الأئمَّة والولاة.
وفي قوله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ
فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ
ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 124]، تجد الجصاص
يستدل بهذه الآية على وجوب الخروج على الأئمَّة والولاة، وفسَّر الإمامة والعهد
المذكور في الآية بالولاية السِّياسيَّة، وبالتالي قال: إنَّ الظالمين لا يكون لهم
ولاية، ومن ثَمَّ يجب الخروج عليهم.
فهذا عنده مذهب باطل في مسألة الخروج على الأئمَّة والولاة ففسَّر النَّص القرآني
على خلاف المراد به، فالمراد من الآية الإمام في الدين، وليس المراد الولاية
السياسيَّة، وبالتَّالي أخطأ في الدليل وفي المدلول.
قال المؤلف: (وَأُصُولُ الْمُعْتَزِلَةِ خَمْسَةٌ)، يعني قواعد مذهبهم في مسائل
العقائد خمسة، وهي أسماء رنَّانة جميلة:
أولها: التَّوحيد.
ثانيها: العدل.
ثالثها: المنزلة بين المنزلتين.
رابعها: إنفاذ الوعيد.
خامسها: الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
فهذه أسماءٌ رنَّانةٌ، لكنَّهم حملوها وفسَّروها بغيرِ مُرادِ الشَّرعِ منها، فإنَّ
التَّوحيدَ مطلوبٌ، ولذلك قال النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمعاذ:
«إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا
تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ أَنْ يُوَحِّدُوا اللهَ»، فالتَّوحيدُ مطلوبٌ، لكنَّهم
فسَّروا التَّوحيدَ بتفسيرٍ مغايرٍ لمراد الله -جَلَّ وَعَلَا- ومُرادِ رسوله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فإنَّهم قالوا: مِن مُقتضى التَّوحيد أن يجعل
الله واحدًا، وأن نجعل القديم واحدًا، وبالتَّالي ننفي عنه الصِّفات؛ لأنَّنا لو
أثبتنا الصِّفات لقلنا بالتَّعدُّد، فلو أثبتنا صفة العلم وصفة الحلم، وصفة الكرم،
والصفات الخبريَّة؛ للزم من ذلك أن يكون هناك قدماء مُتعدِّدون، ومن ثَمَّ ننفي هذه
الصفات من أجل أن نوحِّدَ الله!
وما علموا أنَّ الشيءَ وصفات شيء واحد، لا يوجد انفصال بينَ الموصوف والصِّفة،
فالصِّفة جزء من الموصوف، وذلك أنَّهم ظنُّوا أنَّ الصفات التي توجد في الذِّهن لها
وجود خارجي، لَمَّا تقول: "العلم" فالعلم لا يوجد وحده، وإنَّما يُوجَد بموصوف،
فلمَّا ظنُّوا أنَّ العلم يُوجَد في الخارج وحده ظنُّوا أنَّ إثبات العلم صفةً لله
-جَلَّ وَعَلَا- يقتضي تعدُّد الآلهة، وهذا الاعتقاد فاسد وخاطئ، وبالتَّالي هنا
خطأ في المدلول، وخطأ في فهم الدَّليل.
قال: (وتَوْحِيدُهُمْ هُوَ تَوْحِيدُ الجهمية الَّذِي مَضْمُونُهُ نَفْيُ
الصِّفَاتِ وَعَنْ قَالُوا: إنَّ اللَّهَ لَا يُرَى، وَإِنَّ الْقُرْآنَ
مَخْلُوقٌ)، لأنَّهم لو أثبتوه صفةً وكلامًا لله -عَزَّ وَجَلَّ- لظنُّوا أنَّ
الإله متعدِّد، وأنَّه تالى ليس فوق العلم، وأنَّه لا يقوم به علم ولا قدرة، ولا
حياة، ولا سمع، ولا بصر، ولا كلام، ولا مشيئة، ولا صفة من الصفات، فانطلقوا في هذا
من التَّوحيد، وبعضهم ينطلق فيه من التَّنزيه الذي هو جزء من التَّوحيد، فيقول: لو
أثبتنا هذه الصفات لكان اللهُ مشابهًا لخلقه، وهذا فهم خاطئ، لأنَّ الاشتراك في أصل
المعنى لا يعني التَّماثل فيه، فإذا كنَّا نُدرك في المخلوقات فرقًا فيما بينها في
الصفة الواحدة فلا شكَّ أنَّ الفرق بين الخالق -جَلَّ وَعَلَا- والمخلوق في صفةٍ من
الصفات التي نثبتها لهما أعظم وأكبر.
مثلًا: عندما تشاهد أي صفة سواء كانت حسيَّة أو معنويَّة؛ فتشاهد تفاوت المخلوقات
فيها، مثلًا صفة الشَّم، فالمخلوقات تتفاوت، فمنهم مَن لا يشم إلَّا الشَّم اليسير،
ومنهم ما يكون عنده من خاصيَّة الشم ما يجعله يُميِّز الرَّوائح على المسافة
البعيدة، وبالتَّالي هنا وُجد تفاوت بين مخلوق ومخلوق في صفة؛ والتفاوت في الصفة لا
يعني التَّشابه والتَّماثل.
قال: (وَأَمَّا عَدْلُهُمْ)، وهذا هو الأصل الثاني من أصول المعتزلة، وهو: العدل،
فالعدل معنى جميل، والله قد أمر به في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾
[النحل: 90]؛ لكنَّهم ضمَّنوا هذا المبدأ نفي القدر، فقالوا: لو قدَّر الله على
العبد المعاصي لكان ظالِمًا له، فمن باب إثبات العدل له أن نقول: إنَّه لم يُقدِّر
عليه المعصية.
قال: (وَأَمَّا عَدْلُهُمْ فَمِنْ مَضْمُونِهِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشَأْ جَمِيعَ
الْكَائِنَاتِ وَلَا خَلَقَهَا كُلَّهَا وَلَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهَا كُلِّهَ)؛
وبالتالي يقولون ما خلق الله مشيئة العبد، ولا خلق الله المعصية، ويقولون: إنَّ
العبد يخلقُ فعلَ نفسه؛ فهؤلاء نفوا مشيئة الله -جَلَّ وَعَلَا- ونفوا خلقه لأفعال
العباد.
ويُقابل هؤلاء: طوائف المرجئة من الأشاعرة ومَن ماثلهم، فإنَّهم ينفون مشيئة العبد،
وينفون نسبة فعل العبد إلى نفسه.
من أين نشأ هذا الكلام؟
من عدم القدرة على معرفة وإثبات المشيئتين -مشيئة العبد ومشيئة الخالق- ومن عدم
التفريق بين الفعل والخلْق؛ فهذه المعصية مخلوقةٌ لله، وهي فعلٌ للعبدِ، وليس كما
يقول الأشاعرة: "فعل وخلق لله" وليس كما يقول المعتزلة: "فعلٌ وخلق للعبد".
وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان:
30]، فأثبت مشيئة للعبد، وأثبت مشيئة للرَّبِّ، وأثبت أنَّ مشيئة العبد مُرتبطةٌ
بمشيئة الرَّبِّ -سبحانه وتعالى.
عند المعتزلة: أنَّ أفعال العباد لا يخلقها الله، وإنَّما يخلقها العبدُ، وجاءت
النُّصوص بإثبات إرادتين:
- إرادة كونيَّة: كما في قوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]، فالإرادة الكونيَّة واقعة لا
محالة.
- وإرادة شرعيَّة: كما في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾
[النساء: 27]، وقال: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، فهذه إرادة شرعية.
فعندما يأتي مَن يأتي ولا يُميِّزُ بين الإرادتين؛ فحينئذٍ إمَّا:
- أن يلتفت إلى الإرادة الكونيَّة وبالتَّالي يجعل العبدَ مجبورًا، كما قالت
الأشاعرة ومَن ماثلهم.
- أو يلتفت إلى الإرادة الشَّرعيَّة وبالتالي ينفي الإرادة الكونيَّة، كما يقول
المعتزلة، ولذا قالوا: إنَّه لا يُريدُ إلَّا الإرادة الشَّرعيَّة.
قال: (وَمَا سِوَى ذَلِكَ)، يعني المراد الشَّرعي وما يقع من المعاصي (فَإِنَّهُ
يَكُونُ بِغَيْرِ مَشِيئَة)، أي على حسب مذهبهم ورأيهم في ذلك.
قال: (وَقَدْ وَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ)، أي مسألة القدر، (مُتَأَخِّرُو
الشِّيعَةِ)، ولذا نجد أنَّهم في باب الرَّفض يرفضون الصحابة، وفي باب القدر
ينفونه، ويكونون قدريَّة على مذهب المعتزلة، وعند الرَّافضة المتأخرين من البدع ما
لا يُوجَد عند مُتقدِّميهم، وعند الخوارج المتأخرين من البدع ما لا يوجد عند
مقدِّميهم، ولذلك تجد أنَّ أكثر هؤلاء يسيرون وينهونَ على طريقة المعتزلة.
قال: (وَلِأَبِي جَعْفَرٍ هَذَا تَفْسِيرٌ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ؛ لَكِنْ
يُضَمُّ إلَى ذَلِكَ قَوْلُ الْإِمَامِيَّةِ الِاثْنَيْ عَشَرِيَّةَ)، يقصد أبا
جعفر الطُّوسي.
قال: (فَإِنَّ الْمُعْتَزِلَةَ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ)، أي ببدعة
الرَّفض.
قال: (وَلَا مَنْ يُنْكِرُ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ
وَعَلِيٍّ).
بارك الله فيكَ، وجزاك الله خيرًا، وأسأل الله -جَلَّ وَعَلَا- لإخوتي المشاهدين
التَّوفيق لكلِّ خيرٍ، ولعلنا -إن شاء الله نتكلم عن بقيَّة الأصول للمعتزلة في
لقاء آتٍ -بإذن الله جل وعلا.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سلاسل أخرى للشيخ
-
3783 1
-
5964 11
-
4642 10
-
5512 5
-
4101 23
-
5905 24
-
7060 24
-
8467 24
-
7415 11
-
10734 11
-
13144 11
-
16533 12