الدرس السادس

معالي الشيخ د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

3168 10
الدرس السادس

مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعدُ؛ فهذا هو اللقاء السَّادس من لقاءاتنا في قراءة "مقدِّمة التَّفسير" لشيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وقد ذكرنا أنَّ المؤلف بيَّنَ أنَّ القضايا التي يقع فيها الاختلاف في تفسير القرآن على نوعين:
النَّوع الأوَّل: قضايا فيها أسانيد.
النَّوع الثَّاني: قضايا فيها استدلالات وليس فيها أسانيد.
إذًا؛ الاختلاف في التَّفسير يقع على نوعين من أنواع التفاسير:
الأوَّل: تفاسير فيها نُقولات.
الثَّاني: تفاسير مبنيَّة على الاستدلال.
الذي يُبنَى على الاستدلال سيذكره في الفصل القادم.
والآن نحن في ذكر الاختلافات في التفاسير التي تُبنَى على النُّقول، وهذه المسائل التي فيها نقل على نوعين:
الأوَّل: مسائل لا نتمكَّن فيها من التَّرجيح، بحيث أن الاختلافات الواردة في تفسير هذه الآيات التي تُبنَى على النَّقل لا نتمكَّن من معرفة الرَّاجح من المرجوح، وهذه في الغالب في قضايا لا نستفيد من التَّرجيح فيها، ومثَّل لها بلونِ كلبِ أصحابِ الكهف، أو اسم الغلام الذي قتله الخضر، أو اسم المدينة التي كان فيها أصحاب السفينة، ونحو ذلك.
الثَّاني: اختلافات في التَّفسير مبنيَّة على نُقولات، لكنَّنا نتمكَّن من معرفة الرَّاجح من المرجوح، فحينئذٍ نعمل بالرَّاجحِ منها.
وهذا كلُّه في اختلاف التَّضاد، وهذا النُّوع قد نعرف الرَّاجح منه بطرائق التَّرجيح بين الأدلَّة، أو باستناد أحد النَّقلين إلى دليلٍ آخرٍ يعضده، ومن ذلك ما يتعلَّق بالتَّرجيح بناء على كثرة مرويَّات الرَّاوي في التَّفسير، وارتباطه بمَن يُعرَف بالتَّفسير من الصَّحابة، ونحو ذلك.
وذكر المؤلِّف ما يتعلَّق بتفسير القرآن بالمراسيل مِن أقوال التَّابعين التي يُسندونها للنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فبيَّن أنَّ المرسل متى اعتضدَ بغيرهِ -كمرسلٍ آخر أو رواية أخرى- ولم يكن هناكَ مواطأة؛ فهذا دليل على صحَّة ذلك المرسَل، وإن كان تفسير القرآن به.
لكن القرائن والأدلَّة التي تجعلنا نرجِّح ونقوِّي الرِّواية المرسلة لا يُمكن ضبطها، ولذا قال: مِثْلُ هَذَا الذي تُقوَّى به الرِّوايات لا يُمكن أن يُضبط بلفظٍ دقيقٍ بحيث يُميَّز بين كل منها؛ بل يحتاج ذلك إلى طريق يثبت بها مثل تلك الألفاظ والدقائق.
ومثَّل المؤلف لذلك بوقائع السِّيرة، فإنَّها لَمَّا رُويَت من طُرُقٍ مُتعدِّدةٍ دلَّ ذلك على وقوعها، ولهذا ثبتت غزوة بدرٍ بالتَّواتُر، وثبت أنَّها قبل أُحد، وهكذا في تفسير قوله تعالى: ﴿هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ﴾ [الحج: 19]، في أنَّها نزلت في حمزة وعلي وأبي عبيدة؛ لَمَّا برزوا إلى عتبة وشيبة والوليد، وبالتَّالي تلك الرِّواية نثبتها ونُقرُّها لتعدُّدِ مَن رواها، ولكثرة الرُّواة الذين رووها.
قال المؤلف: (وَهَذَا الْأَصْلُ)، وهو تقوِّي الرِّوايات بعضها ببعضها الآخر (يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ فَإِنَّهُ أَصْلٌ نَافِعٌ فِي الْجَزْمِ بِكَثِيرِ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّفسير وَالْمَغَازِي وَمَا يُنْقَلُ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلِهَذَا إذَا رُوِيَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ عَنْ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ وَجْهَيْنِ)
، يعني: جاءنا الحديث من رواية فلان ورواية فلان، ولم يكن بينهما تواطؤ، وجزمنا بأنَّ أحدهما لم يأخذ من الآخر؛ فحينئذٍ نجزم بأنَّ ذلك الخبر حق، وجزمنا بأنَّه صحيح، خصوصًا إذا كنَّا نعلم أنَّ رواته ونقلته ليسوا ممَّن يتعمَّد الكذب، لأنه إذا رواه واحد يُمكن أن يكون فيه غلط ويُمكن أن يكون فيه نسيان، فإذا رواه آخر لا علاقة بينهما ولا تواطؤ؛ فحينئذٍ ينتفي عنَّا احتمال وجود الغلط والنِّسيان.
ولا شكَّ أنَّ الصَّحابة وعلماء التَّابعين وأئمَّة الحديث ليسوا ممَّن يتعمَّد الكذب في حديث رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالتَّالي فنحن بمعرفتنا لسيرتهم ولطريقتهم ولهديهم ومعاشرتنا لرواياتهم نجزم بأنَّهم لم يكونوا ممَّن يتعمَّد الكذب، فيُوجَد عندنا احتمال وقوع الخطأ، لكن إذا تأيَّدَ برواية أخرى؛ فحينئذٍ ينتفي ذلك الاحتمال، وبهذا نعلم صدق هؤلاء الرواة كأنَّنا قد خالطناهم وعشنا معهم، فهو بمثابة شهادة الرَّجل لشخصٍ آخر قد عاشَ معه السَّنوات الطَّويلة وعرفه في الحضر وفي السَّفر، وعامله بالدِّهم والدِّينار ونحو ذلك.
وهكذا مَن عرف أحوال السَّلف من التَّابعين علم قطعًا بأنَّهم لم يكونوا ممن يتعمَّد الكذب في الحديث، مثل السَّمَّان وعبد الرحمن الأعرج، ومثل سليمان بن يسار، وزيد بن أسلم، وأمثال هؤلاء الذين كثُرَت مروياتهم ونشاهدها ونعرفها، ووجدناها متوافقة مع روايات الآخرين؛ فعندما يأتينا بحديث يغلب على ظنِّنا أنَّه لم يكن ممَّن يتعمَّد الكذب فيه.
وهكذا مثل محمد بن سيرين، فهو من أئمَّة التَّابعين، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، أو سعيد بن المسيب، أو عبيدة السَّلماني، وعلقمة، والأسود؛ فهؤلاء هم علماء الأمَّة الذين يُوثَق فيهم ويُرجَعُ إليهم، وعُرِفَ من حالهم الزَّهد، وعُرف من حالهم العبادة، وعُرف من حالهم التَّوقِّي في الكلام والتَّحرُّز فيه؛ فمثل هؤلاء يغلب على ظنِّنا أنَّهم لم يكونوا يتعمَّدونَ الكذب، إنَّما نخشى عليهم من الغلط والنسيان، فهذا قد يعرض.
قال: (وَمِنْ الْحُفَّاظِ مَنْ قَدْ عَرَفَ النَّاسُ بُعْدَهُ عَنْ ذَلِكَ جِدًّا كَمَا عَرَفُوا حَالَ الشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ وقتادة وَالثَّوْرِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ)، فهؤلاء أئمة، فالزَّهري روى آلاف الأحاديث، ولم يُعهَد عنه أنَّه أخطأ ولا غلطَ في رواية من الروايات، وبالتَّالي نجزم أنَّه لم يكن يتعمَّد الكذب، وعندما نقارن رواياته بروايات الآخرين نجد أنَّها مُستقيمة، ولا يُوجد فيها اختلاف ولا تضاد، وبالتَّالي هذا يجعلنا نجزم بأنه لا يقع منهم تعمُّد الكذب، فإذا رُوي الخبر من وجهين وكان خبرًا طويلًا؛ فحينئذٍ نجزم بأنَّ تلك الرواية رواية صحيحة؛ لأنَّنا نجزم بأن رواته لم يكونوا يتعمَّدون الكذب، وتوافق هاتين الرِّوايتين معناه أنَّه لم يُوجَد غلط ولا نسيان في ذلك، وبالتَّالي نجزم بصحَّةِ هذا الخبر، ولو وقع جزئيَّة اختلف فيها الرُّواة فإنَّ بقيَّة الخبر تكون مُصدَّقةً عندنا، ومثَّل له المؤلف بحديث شراء النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للبعير من جابر، فإنَّه وإن اختلفوا في مقدار الثَّمن هل هو خمس أوقيَّات أو زيادة أو أقل إلَّا أنَّ أصل القصَّة وأصل الرِّواية قد رُويَت من أوجهٍ مُتعدِّدةٍ كلها متَّفقة، فبالتَّالي نعلم قطعًا أنَّ الحديث صحيح، وإن وُجدَ اختلاف في مقدار الثَّمن.
الإمام البخاري والإمام مسلم رووا أحاديث في صحيحيهما، والأمَّة قد اتَّفقَت على قبول ما في هذين الصَّحيحين، فهذا طريقٌ آخر يفيدنا الجزم بصحَّة ذلك الخبر.
إذًا؛ عندنا طرائق متعدِّدة للجزم بالخبر، منها:
- حالُ الرُّواة.
- ما يتعلق باتِّفاق لرِّواية.
- قبول الأمَّة للخبر. فإنَّ أهل العلم قد تلقَّوا ما في الصَّحيحين بالقبول والتَّصديق، والأمَّة لا تجتمع على خطأ كما أخبر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والإجماع على الخطأ ممتنع على الأمَّة بشهادة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإذا وقع إجماعٌ علمنا أنَّ ذلك الحكم قد ثبتت نسبته إلى الله باطنًا وظاهرًا.
قال: (وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَوْ عَمَلًا بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ).
هذه مسألة: خبر الواحد هل يُفيد العلم أو لا يُفيده.
إذا أردنا أن نحرر محل النِّزاع نقول: لا يوجَد أحد يقول إنَّ كل خبر واحد يُفيد العلم والجزم؛ لأنَّ أخبار الكذَّابين والوضَّاعين لا تفيده.
إذًا؛ هناك صفات خاصَّة، وبعضهم قال: لا يُمكن أن يكون هناك خبر واحد يُفيد العلم، وهذا الجزم خاطئ؛ لأنَّ خبر الواحد قد يقوم به من القرائن ما يجعلنا نجزم بصحَّة ذلك الخبر وصدقه، ومن تلك القرائن أن تتلقى الأمَّة ذلك الخبر بالقبول تصديقًا له أو عملًا به، فإنَّ مثلَ ذلك يُوجِدُ عندنا جزمًا ويقينًا وطُمأنينةً وعلمًا بثبوت ذلك الخبر عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذه المسألة قد بحثها العلماء في علم أصول الفقه.
قال المؤلف: (وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد)، أي: يقولون إنَّ خبر الواحد متى احتفَّت به القرائن فإنَّه يُفيد العلم، ومن تلك القرائن: قبول الأمَّة له بالقبول تصديقًا أو عملًا.
قال: (إلَّا فِرْقَةً قَلِيلَةً مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ)؛ أي: يقولون: إنَّ خبر الواحد لا يُفيد العلم مُطلقًا.
قال: (وَلَكِنَّ كثيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ يُوَافِقُونَ الْفُقَهَاءَ وَأَهْلَ الْحَدِيثِ وَالسَّلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ كَأَبِي إسْحَاقَ وَابْنِ فُورَك)، فهؤلاء يقولون: إنَّ خبر الواحد الذي تلقَّته الأمَّة بالقبول يُفيد العلم والجزم.
قال: (وَأَمَّا ابْنُ الباقلاني فَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَ ذَلِكَ)، قال: لا يُمكن أن يوجَد خبر واحد يُفيد العلم.
قال: (وَتَبِعَهُ مِثْلُ أَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي حَامِدٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَابْنِ الْخَطِيبِ والآمدي وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ)، قالوا بالقول الثاني.
قال: (وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو الطَّيِّبِ وَأَبُو إسْحَاقَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ شَمْسُ الدِّينِ السَّرَخْسِيُّ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو يَعْلَى وَأَبُو الْخَطَّابِ وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزاغوني وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ)، أنَّهم يقولون: إنَّ خبر الواحد متى تلقَّته الأمَّة بالقبول فإنَّه يُفيد العلم والجزم.
قال: (وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَصْدِيقِ الْخَبَرِ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ بِهِ فَالِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ)، وليس غيرهم من الطَّوائف والنَّاس؛ لأنَّ المعوَّل عليه في كلِّ فنٍّ أصحاب ذلك الاختصاص، وبالتَّالي فإذا أجمع أهل العلم بفنِّ الحديث على قبول خبر كان مقبولًا.
وأهل العلم بالحديث قد أجمعوا على قبول ما في الصَّحيحين، فيكونُ ما في الصَّحيحين مما يُفيد العلم.
والقول بأنَّ الإجماع المعتبر في صحَّة الأحاديث وفي قبولها وفي إفادتها للعلم يُرَجع فيه إلى أهل الحديث؛ هذا يتوافق مع قضيَّة الاختصاص، ولذلك فإنَّ المعتبر والمعوَّل عليه في الإجماع في الأحكام الفقهيَّة هو إجماع الفقهاء، وهكذا في كلِّ فنٍّ يُرجَعُ فيه إلى أهل ذلك الفن.
المقصود: أنَّه إذا وردنا خبر وتعدَّدت طرُقه فإنَّ ذلك يُفيدنا من الطُّمأنينة ومن غلبة الظِّن بصدقِ ذلك الخبر ما لا نستفيده مما لو كان الخبر مُرسلًا واردًا من طريقٍ واحدٍ.
قال: (والْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ تَعَدُّدَ الطُّرُقِ مَعَ عَدَمِ التَّشَاورِ أَوْ الِاتِّفَاقِ فِي الْعَادَةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِ الْمَنْقُولِ؛ لَكِنَّ هَذَا يُنْتَفَعُ بِهِ كثيرًا فِي عِلْمِ أَحْوَالِ النَّاقِلِينَ)، فإذا عرفنا أحوال الصَّحابة وأحوال التَّابعين وما عندهم من التَّحرُّز من الكذب، وما عندهم من صدق اللَّهجة، وما عندهم من العبادة، وما عندهم من الخوف من الله -جَلَّ وَعَلَا- وما عندهم من صفات أخرى، حيثُ بذلوا دماءهم وأموالهم ابتغاء مرضات الله؛ فكيف يسخطونه بالكذب في تفسير كلامه! فهذا يجعلنا نطمئن إلى ما رواه هؤلاء.
قال المؤلف: (وَفِي مِثْلِ هَذَا يُنْتَفَعُ بِرِوَايَةِ الْمَجْهُولِ وَالسَّيِّئِ الْحِفْظِ)، يعني: في التَّقوي بذلك الخبر.
المجهول الذي لا يُعلم عينه أو الذي لا يُعلَم حاله؛ هل يُمكن أن يُقوى به الخبر الضَّعيف أو لا يُمكن؟
هذا من مواطن الخلاف، والأظهر أنَّه لا يصح أن يُقوَّى به، وذلك لأنَّ هذا المجهول لا يُدرَى ما حاله، ولو فُتِّشَ قد يكون من الوضَّاعين، وقد يكون من المتروكين، وبالتَّالي كيف يُقوَّى به وهو غير معلوم الحال؟!
لكن لو وردنا راوٍ سيء الحفظ فأخبرنا بخبر، ثم وجدنا راويًا آخر سيء الحفظ لا علاقة بينهما فأخبرنا بنفس الخبر فإنَّ ذلك يجعل الحديث من قبيل الحديث الحسن لغيره، فيتقوى بتعاضد هذه الروايات، ومثل هذا ما يتعلق بالمراسيل فإنَّه يُقوي بعضها بعضًا.
قال المؤلف: (وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَكْتُبُونَ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ يَصْلُحُ لِلشَّوَاهِدِ وَالِاعْتِبَارِ مَا لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ)، فهذه الرِّواية الضَّعيفة قد تُقوَّى بها روايةٌ أخرى.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (قَالَ أَحْمَد: قَدْ أَكْتُبُ حَدِيثَ الرَّجُلِ لِأَعْتَبِرَهُ)، أي: من أجل أن أقويَ به روايةً أخرى قد وردت عن غيره.
قال: (وَمَثَّلَ هَذَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ)، عبد الله بن لهيعة من العلماء وكان قاضيًا في مصر، وكان يُقارَن بالليث بن سعد، وكان يروي الأحاديث من كتابه، فمن روى عنه في أول عمره كـ "العبادلة"؛ فإنَّ روايتهم مقبولة عنه، وأمَّا مَن روى عنه بعد احتراق الكتب فإنَّه روايته يُصبح فيها ضعف، لكن ذلك الضعف ليس ضعفًا شديدًا، بحيث يُمكن لنا أن نقوي بعض الرِّوايات ببعض روايات مَن يُماثله في الحال.
قال: (وَمَثَّلَ هَذَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ قَاضِي مِصْرَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ حَدِيثًا وَمِنْ خِيَارِ النَّاسِ؛ لَكِنْ بِسَبَبِ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ وَقَعَ فِي حَدِيثِهِ الْمُتَأَخِّرِ غَلَطٌ، فَصَارَ يَعْتَبِرُ بِذَلِكَ وَيَسْتَشْهِدُ بِهِ)، ولا يُعتَمَدُ عليه، ويُوقى به غيره، ولا يُجعَلُ أصلًا في الباب.
قال: (وَكثيرًا مَا يَقْتَرِنُ هُوَ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَاللَّيْثُ حُجَّةٌ ثَبَتٌ إمَامٌ)، والليث بن سعد من علماء مصر، وقد يكون بينهما اشتركٌ في الرِّوايات.
قال: (وَكَمَا أَنَّهُمْ)، يعني أهل الحديث. (يَسْتَشْهِدُونَ وَيَعْتَبِرُونَ بِحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ سُوءُ حِفْظٍ، فَإِنَّهُمْ أَيْضًا يُضَعِّفُون مِنْ حَدِيثِ الثِّقَةِ الصَّدُوقِ الضَّابِطِ أَشْيَاءَ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ غَلِطَ فِيهَ)، إمَّا لأنَّهم وجدوا أنَّها مخالفة لرواية مَن هو أوثق منه، وهذا ما يسمونه "الشَّاذ"، وإمَّا لكونهم وجدوا فيه صفة تقتضي ضعف حديثه متى كان فيه تلك الصِّفة.
مثال ذلك: معمر بن راشد، هو من الرُّواة الثقات، ولكنه يُحدِّث من كتابه، فذهب إلى العراق فحدَّث من حفظه، فوقع في حديثه بعض الغلط، وبالتَّالي يُضعِّفون هذه الرِّوايات في حديثه في العراق.
ومثله أيضًا: ابن عياش، فإنَّه إذا روى عن أهل بلده وروى عنه أهل بلده فروايته مقبولة، وإذا روى عنه غيرهم أو روى عن غير أهل بلده ضُعِّف في ذلك.
ومثلًا: سفيان بن حسين، فهو ثقةٌ في الحديث، لكنَّه أخطأ في مرَّاتٍ متعدِّدة في حديث الزُّهري عند مقارنته بحديث غيره، ولم يُعهَد عليه خطأ في حديثه عن غير الزُّهري، ولذلك قيل: سفيان بن حسين ثقة في غير الزهري، لكنه يُضعَّف في حديثه عن الإمام الزهري.
قال: (فَإِنَّهُمْ أَيْضًا يُضَعِّفُون مِنْ حَدِيثِ الثِّقَةِ الصَّدُوقِ الضَّابِطِ أَشْيَاءَ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ غَلِطَ فِيهَا بِأُمُورِ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا، وَيُسَمُّونَ هَذَا عِلْمَ عِلَلِ الْحَدِيثِ). ما هو الحديث الْمُعل؟
هو حديث فيه سبب خفيٌّ للتَّضعيف لا يعرفه إلَّا أهل الحديث، ولذا كان علم العلل من أشرف علوم أهل الحديث، ومَن يعرف علم العلل يكون عنده من الاطلاع على بقيَّة العلوم ما لا يكون لغيره.
قال: (إمَّا بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ كَمَا عَرَفُوا أَنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ).
ابن عباس روى أنَّ الرَّسول -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تزوَّج ميمونة وهو محرم.
لكن ميمونة قالت: "تزوجني وهو حلال"، وهي صاحبة القصة.
وأبو رافع قال: "تزوج النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ميمونة وهما حلالان، وكنتُ السَّفير بينهما".
إذًا؛ رافع وميمونة أعلم بهذه القصَّة من ابن عباس.
قال المؤلف: (وَأَنَّه صَلَّى فِي الْبيْتِ رَكْعَتَيْن).
هناك مَن قال: إنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يُصلِّ في البيت. وهناك مَن روى أنَّه صلَّى ركعتين.
نقول: مَن كان مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الكعبة روى أنَّه صلَّى ركعتين، ومَن كان معه أعلم به كبلال ونحوه.
قال المؤلف: (وَكَذَلِكَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ)، يعني أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعتمر في البيت أربع عُمَر.
قال المؤلف: (وَعَلِمُوا أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ: إنَّهُ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ، مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ)، كما ردَّته عائشة، فإنَّ ابن عمر اعتمر مع النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولكنَّه وهم في ذلك، فعمرة صُلح الحديبية رُدَّ فيها، وعندك عمرة القضيَّة، وعمرته مع حجَّته، وعمرته في الجعرانة، وكلها في ذي القعدة؛ وبالتالي يكون ابن عمر قد وهم فيما أخبر به أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعتمر في رجب.
قال المؤلف: (وَعَلِمُوا أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَهُوَ آمِنٌ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ)، وبالتَّالي ليس التَّمتُّع خاصًّا بحال الخوف.
قال: (وَأَنَّ قَوْلَ عُثْمَانَ لِعَلِيّ: كُنَّا يَوْمَئِذٍ خَائِفِينَ. مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ)، أي: مَن أنكرَ التَّمتُّع فإنَّه قد أخطأ، فهذا خطأ من عثمان -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ومثَّل لذلك بحديث «إِنَّ النَّارَ لَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ»، وهذا الحديث قد رواه البخاري، فإنَّ بعض أهل العلم قالوا: كيف يُدخل في النار مَن لم يعمل ما يستوجب دخوله النار؟
وآخرون قالوا: هذه الرِّواية خطأ، وصوابها: أنَّ الرَّحمن يضع قدمه "عليها" وليس "فيها" حتى يزوي بعضها بعضًا.
وآخرون قالوا: إنَّ قوله: «حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ»، ليس المراد به من بني آدم، فقد يوجَد من المخلوقات ما تمتلئ به النار من غيرِ المكلَّفين.
قال المؤلف: (وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ طَرَفَانِ:
طَرَفٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ)
، وبالتالي لا يُميِّز الحديث الصَّحيح من الحديث الضَّعيف، وليس عنده معرفة بالعلل، فإذا جاءنا وقال: أنا أشك في هذا الخبر. قيل له: أنتَ لستَ من أهل هذا الاختصاص، ولو أوردنا لك معلومة طبيَّةً من أهل الاختصاص فلا يصح لك أن تقول: أنا لا أقبل هذا الخبر منهم! لأنَّهم هم أصحاب الاختصاص، فهكذا في الحديث، خصوصا أنَّ الاختصاص في الحديث مبنيٌّ على النَّقل، والنَّقل فيه من التَّوثُّق ما لا يكون عند أهل الاستنتاج مثل أهل الطب، ولذلك فشكُّه لا يُلتفت إليه.
قال: (أَوْ فِي الْقَطْعِ بِهَا مَعَ كَوْنِهَا مَعْلُومَةً مَقْطُوعًا بِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ)، لو قال: أنا أقطع بهذه الرِّواية. قيل له: أنت لستَ من أهل الاختصاص!
قال: (وَطَرَفٌ مِمَّنْ يَدَّعِي اتِّبَاعَ الْحَدِيثِ وَالْعَمَلِ بِهِ، كُلَّمَا وَجَدَ لَفْظًا فِي حَدِيثٍ قَدْ رَوَاهُ ثِقَةٌ أَوْ رَأَى حَدِيثًا بِإِسْنَادِ ظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا جَزَمَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ)، يقول: هذا مقبول، وهذا مقطوع به، وهذا مجزوم، حتَّى ولو كان مخالفًا للروايات الأخرى أو كان فيه علَّة قادحة.
قال: (حَتَّى إذَا عَارَضَ الصَّحِيحَ الْمَعْرُوفَ أَخَذَ يَتَكَلَّفُ لَهُ التَّأْوِيلَاتِ الْبَارِدَةَ أَوْ يَجْعَلُهُ دَلِيلًا لَهُ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ)، مثل حديث ابن عباس، يأتي واحد ويجتهد لإثبات أنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تزوجها وهو محرم، ويحاول أن يوجد من التَّخريجات ويقول: عقد عليها مرتين، حتَّى يجمع بين هذه الروايات.
نقول: ابن عباس وهم، أو أن صحَّة الأمر أنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عقدَ عليها قبل الإحرام، ولم ينتشر الخبر إلَّا بعد الإحرام، فظنَّ ابن عباس أنَّه إنَّما عقدَ عليها بعدَ الإحرام.
قال: (وَكَمَا أَنَّ عَلَى الْحَدِيثِ أَدِلَّةً)، يعني يوجد عليها براهين ودلائل وقرائن (يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ صِدْقٌ وَقَدْ يُقْطَعُ بِذَلِكَ)، كما أنَّ بعض الأخبار يكون عليها من القرائن والدَّلائل ما نجزم بأنَّه كذب، مثل رواية الوضَّاعين وأهل البدع والغلو في بعض الفضائل.
قال: (مِثْلِ حَدِيثِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ)، فهناك من يروي أحاديث عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه يوم حزنٍ وأنَّه ينبغي أن يكون يوم حزنٍ إلى يوم القيامة، مع أنَّ فعل النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس على ذلك، وسبب الحزن الذي يستندون إليه هو مقتل الحسين لم يُوجَد في ذلك الزَّمان بعدُ، ومثله من يروي أحاديث التَّوسعة على الأهل في عاشوراء؛ لأنَّه إنَّما رواها مُقابلة لرواية أولئك.
قال: (وَأَمْثَالِهِ مِمَّا فِيهِ أَنَّه مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ كَذَا وَكَذَا نَبِيًّ)، فمنهم من روى حديث "من صلَّى ركعتين جعله الله يملك الجنة كلها"؛ فنجزم بأن مثل هذه الرواية كذب، وأن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يقلها.
وفي التَّفسير كذلك أشياء فيها دلائل وبراهين على أنها كذب، وأنَّها لا تصح أن تُنسَب إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال المؤلف: (مِثْلُ الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ الثَّعْلَبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ والزَّمَخْشَرِي فِي فَضَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ سُورَةً سُورَةً فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ)، فأهل الحديث يحكمون عليه بأنه حديثٌ موضوعٌ، والعبرة بكلام أهل الحديث.
قال المؤلف: (والثَّعْلَبِيُّ هُوَ فِي نَفْسِهِ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ وَدِينٌ وَكَانَ حَاطِبَ لَيْلٍ يَنْقُلُ مَا وُجِدَ فِي كُتُبِ التَّفسير مِنْ صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ وَمَوْضُوعٍ)، يعني: يجمع الغث والسمين، يجمع الصحيح والضعيف، ويجعله في كتاب التَّفسير، ويُفسِّر به كلام رب العزة والجلال، وبالتالي لا يصح أن يعتمَد على تفسيره.
قال المؤلف: (والْوَاحِدِيُّ صَاحِبُهُ كَانَ أَبْصَرَ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ)، يعني: يعرف دلالات اللفظ في اللغة.
قال المؤلف: (والبغوي تَفْسِيرُهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ الثَّعْلَبِيِّ لَكِنَّهُ صَانَ تَفْسِيرَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَالْآرَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ)، حذف كثير من الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة، والآراء المبتدعة، وبالتالي كان تفسيره أحسن من تفسير الثعلبي بكثير.
وهذه موازنة من شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ- في كتب التَّفسير.
ثم أتى المؤلف بحديثٍ يُروَى أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يجهر بالبسملة، وقد نُقل عن ابن عباس هذا الحديث، لكن هذا الحديث يُخالف الأحاديث المتَّفق عليها، كحديث أنس "ما كان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا أبو بكر ولا عمر يفتتحون القراءة إلَّا بـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾"، وفي رواية: "كانوا لا يجهرون إلَّا بـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
ومثله أيضًا الأحاديث الكثيرة الواردة في بيان أنَّ البسملة ليست من سورة الفاتحة، مثل حديث أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ ...» .
وهكذا الحديث المروي عن علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- في كونه تصدَّقَ بخاتمه في الصَّلاة، فهذا خبرٌ موضوع باتفاق أهل العلم، وهم يفسرون به قول الله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة/55]، قيل: إنَّ المراد به علي، ويروون في ذلك رواية أنه -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تصدَّقَ وهو راكع أو ساجد. وهذه الرواية موضوعة، وفي رواتها مَن هو وضَّاع، وبالتالي لا يصح أن نفسر كلام رب العزَّة والجلال بهذا الحديث الموضوع، ونبقي الحديث على عمومه ولا يصح لنا أن نخصِّصه.
ومثل هذا: ما رُوي في قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: 7]، أَنَّ المراد به عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فالخبر المنقول في ذلك خبرٌ موضوع، وبالتالي لا يصح أن نفسر كلام ربِّ العزَّة والجلال به، ثم إنَّ في الآية ما يدل على بطلان هذا التَّفسير، فإنَّه قال: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾، يعني أن الهُداة متعدِّدون، ولكل قوم فيهم مَن يُبيِّن لهم ويُوضِّح لهم ويهديهم هداية الدِّلالة، وبالتَّالي لا يصح أن يُفسَّر بأن المراد به علي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ومثله في قوله تعالى: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ [الحاقة: 12]، فهذه الآية يُراد بها قصَّة نوح -عليه السلام- وإنجاء الله -عَزَّ وَجَلَّ- له وأصحابه في السفينة، فهذا ليس مختصًّا بعلي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ بل كل مَن آتاه الله فهمًا فإنَّه يعي هذه القصَّة ويعرفها، ويعرف المراد منها، فالمراد من قوله: ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ أي: الأذُن التي تفهم القول وتعرف معانيه وتفهم المراد به، فالآية تبقى على عمومها، وبالتالي فلا يصح لنا أن نفسر كلام رب العزة والجلال بهذه الروايات التي لا تصح نسبتها إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإنَّما الواجب علينا في ذلك أن نقتصر في تفسير القرآن على النَّقل الصَّحيح.
والنُّقولات على أربعة أنواع:
النَّوع الأول: نقلٌ عن الأمم السابقة من طريقهم: فهذا لا يصح أن نفسر به القرآن، وإن كنَّا نقول بأنَّه لا يُصدَّق ولا يُكذَّب، لكن لا نفسر به القرآن، لأنَّنا إذا فسَّرنا القرآن به فحينئذٍ نكون قد جزمنا بصدقه وصدَّقناه، بل وألزمنا والآخرين بأن يصدِّقوه.
النَّوع الثاني: النقل عن التابعين الذي يكون من أقوالهم، فهذا النقل عن التابعين لا يُحتجُّ به في تفسير كلام ربِّ العزَّة والجلال إلَّا إذا أخذوه من دلالةٍ.
النَّوع الثالث: نقلٌ عن الصَّحابة -رضوان الله عليهم- فهذا مبنيٌّ على الكلام في حجيَّة قول الصَّحابي، ومبني على النَّظر في أنَّ ما يتكلَّم به ذلك الصَّحابي هل له حكم المرفوع أو حكم الموقوف عليه.
النَّوع الرَّابع: هو ما نُسِبَ إلى رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وهذا على ثلاثة أنواع:
* الأوَّل: منسوب إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو صحيح الإسناد، فهذا نقبله ونعتمده.
* الثاني: منقول عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لكن بإسنادٍ موضوع، أو إسنادٍ ضعيفٍ جدًّا؛ فمثل هذا لا يصح أن يُعوَّل عليه، ولا يجوز أن يُفسَّر كلام ربِّ العزَّة والجلال به.
* الثالث: ما نُقل عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيه ضعيف، ولكن ضعفه ليس شديدًا، ويصلح للاعتبار والشَّواهد، وبالتَّالي إذا قارنه غيره وشهد له غيره فإنَّنا نقبله ونعتمد على ما فيه، أمَّا إذا لم يأتِ له شاهد يدلُّ على اعتباره والاعتداد به فإنَّنا لا نقبله على الصَّحيح من كلام أهل العلم.
ما الذي يصح لنا أن نعضد به الخبر الضَّعيف؟
الرِّواية المرسلة قد يُعضد بها -على كلام الشيخ-، وإذا كان هناك شاهدٌ له من قول صحابي، فمثل ذلك لا علاقة له برواة ذلك الخبر الضَّعيف، ومثل ذلك لو كان له شاهدٌ في لغة العرب، أو كان له دليلٌ وحُجَّةٌ وبرهان يشهد له.
فهذه قواعد من قواعد تفسير كلام ربِّ العزَّة والجلال فيما يتعلق بالتَّفسير المنقول، ويبقى عندنا التَّفسير الذي يؤخذ من جهة الاستدلال.
والمؤلف أوردَ هذا الفصل من أجل النَّظر في الدَّليل الذي يتقوَّى به قول أحد المفسرين على قول مفسِّرٍ آخر، فإنَّنا عندما نقول إنَّ التَّفسير قد يقع فيه اختلاف تضاد فنحتاج إلى دليل يُرجِّح أحد القولين، هذا الدَّليل المرجِّح قد يكون دليلًا منقولًا، والمنقول على الأنواع الأربعة السابقة، وقد يكون الدليل المرجِّح من جهة الاستدلال، وهذا الذي سنتكلم عنه -إن شاء الله تعالى- في لقائنا القادم -بإذنه جل وعلا.
بارك الله فيك، وجزاك الله خيرًا، كما أدعو لإخوتي الذي يرتبون معنا هذا اللقاء سواء ممن كان معنا هنا من فنِّيين أو كان ممَّن يرتب هذا اللقاء ويُهيِّئه من مخرجٍ ونحوه، وكذلك نشكر للإخوة في الأكاديمية الإسلامية ما يقومون به من جهدٍ عظيمٍ في نشر العلم، جزاهم الله خير الجزاء، وبارك الله في جهودهم.
هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك