الدرس الثاني
معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري
إحصائية السلسلة
الحمد لله رب العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعد، فهذا هو اللقاء الثَّاني من لقاءاتنا في قراءة المقدِّمة التي كتبها شيخ
الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لعلم التَّفسير.
وقد تقدَّم معنا في اللقاء السَّابق بيان حُجيَّة هذا الكتاب، والاستدلال عليه ببعض
الأدلَّة الدَّالَّة عليه، كما تقدَّم ذكر مُقدِّمة شيخ الإسلام لهذه المقدِّمة،
وبيَّنا أنَّ هذا الكتاب -وهو القرآن العظيم- تحصل به أمور، منها:
- الهداية كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2].
- طِيبُ الحياة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ
أَقْوَمُ﴾ [الإسراء: 9].
- تذكُّر الإنسان بحقيقته وللمراد منه، ولما يُقصَد منه أن يفعله وأن يُقدِم عليه
في حياته، ليعرف كيف يُخطِّط لهذه الحياة، ويعرف المنطلق الذي ينطلق منه، والهدف
الذي يُريد أن يصل إليه في هذا الكتاب، كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ
مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ﴾ [آل عمران: 58].
- بيان الطريق الذي يتمكَّن الإنسان من سلوكه ليصل إلى ربِّ العزَّة والجلال،
وبالتالي يحصل على الأجر العظيم لدخول الجنان.
- يستطيع أن يحمي الإنسان نفسه من العوارض والشُّبهات وأمراض القلوب التي يُمكن أن
تؤثِّر عليه وأن تعوقد مسيرته غلى ربِّ العزة والجلال.
ومن خصائص هذا الكتاب العظيم:
* أنه لا تلتبس به الألْسُن -يعني: أنها لا تختلط به- وإنَّما هو كلام رب العزة
والجلال، أُنزِلَ بلسان عربي مبين.
* أنَّه لا يَخلَق عن كثرة الترديد والقراءة -بمعنى أنه لا يُعتبَر قديمًا، بل كل
ما قرأ الإنسان في هذا الكتاب وُجدَ فيها معانٍ جديدة لم يكن يستشعرها في قراءته
السابقة، مَن أكثر قراءة هذا الكتاب وجد هذا جليًّا حاضرًا، بحيث لا تنقضي عجائبه،
بل فيه من الأشياء العجيبة والمعاني البليغة الحِكَم العظيمة ما يتجدَّد للإنسان
معرفته بكل قراءةٍ يقرؤها، لمميزات هذا الكتاب يُكثر الناس والعقلاء من قراءته ولا
يشبعون من هذه القراءة.
* أنَّه صادقٌ في أخباره، بحيث لا يُخبر إلَّا بأخبار تُماثل الواقع، سواء كان
مايًا أو كان مستقبلًا.
* أنَّ به النَّجاة، ويحصل الإنسان على الأجر بقراءته وباستماعه وبالتَّأمُّل فيه
والتَّدبُّر والتَّفكُّر في معانيه، وبالعمل به، فليس الأجر منحصرًا على جانبٍ دون
جانب من هذه المعاني، ولذا فإنَّ مَن كان يحكم على الأشياء بناءً على معانٍ صحيحةٍ
مأخوذة من هذا الكتاب؛ فإنَّه سيكون عادلًا، وسيتمكَّن من إيصال الحقوق لأصحابها،
ولذلك فإنَّ الدَّعوة لهذا الكتاب والتَّرغيب في قراءته والاستماع إليه وتدبر
لمعانيه؛ من أعظم ما يُنتج الخير الوفير، ويكون له سببٌ في هداية الناس، وفي جمع
كلمتهم، وفي تأليف قلوبهم، وفي ربطهم بربِّ العزَّة والجلال -سبحانه وتعالى.
ومَن تكبَّر عن هذا الكتاب ولم يأخذ منه ولم يستفِدْ منه فإنَّ العاقبة السيئة
ستكون له في الدنيا، وتنتظره عقوبة أشد في آخرته، ولذا فإنَّ العبد يُقارِن بين
أولئك الذين يطلبون الهداية، ويطلبون معرفة الحق من غير هذا الكتاب فيجد أنهم في
ضلال، ويجد أنهم لم ولن يصلوا إلى الحق؛ بل سيكون الأمر ملتبسًا عليهم.
ونجد هذا في بعض شبابنا الحاضر حينما طلبوا الحق والهُدى من بعض كتابات المتفلسفة؛
نجد أنهم لم يصلوا إلى حق، وإنَّما التبست الأمور عليهم، ولم يصلوا إلى درجة
الهداية؛ بل كان عندهم من مخالفة الحق الشيء الكثير.
وقد قرأنا عددًا من الآيات التي تدل على هذا المعنى، منها ما يدل على أن قارئ
القرآن لا يشقى، كما في سورة طه، فإن الله تعالى قال: ﴿طه (1) مَا أَنْزَلْنَا
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ [طه: 1، 2]، ثم قال -جل وعلا- في آخر السورة:
﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ
وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا
وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه: 123، 124]، فانظر كيف وصف معيشته
بالضَّنكِ والضِّيقِ لَمَّا تركَ الاستهداء بهذا الكتاب مع ما ينتظره من العقوبة
الأخرويَّة الشَّديدة، وهكذا في قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ [الأنعام: 125].
ومن هنا نعلم أنَّ طِيبَ الحياة إنَّما هو بالتَّمسُّك بهذا الكتاب، لا يُمكن أن
يكون لصاحبه شقاء؛ بل سيكون مُنعَّمًا، وسيكون هادئ البالِ، مرتاح النَّفس، وسيكون
ممَّن جُمِعَت له خيرات الدنياو الآخرة، وإن عرضَ له شيءٌ من المضايقة في أول أمره
ليختبره الله -جلَّ وعلا- وليعرف حقيقة ذلك الشَّخص، هل تمسُّكه بهذا الكتاب عن
يقينٍ وعن إيمان صادقٍ أو ليس كذلك، ولكن ستكون عاقبته أن ينال خيري الدنيا
والآخرة، كما قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ
بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]، وكما قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ
حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ
الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً
يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [الأعراف: 32]، ففي الدنيا ينالون الخير كله.
وانظر إلى قوله -جَلَّ وَعَلَا- مبيِّنًا أنَّ التَّمسُّك بهذا الكتاب ينتج عنه
الهداية ومعرفة الحق: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ﴾ [المائدة: 15، 16].
ومن هنا؛ فعلى الإنسان أن يُحسن النيَّة في تمسُّكهِ بهذا الكتاب وارتباطه به،
وقراءته له، وتدبُّره لمعانيه، وعمله بأحكامه، وإيمانه بما ورد فيه من أخبارٍ ومن
عقائدٍ، كما قال -جَلَّ وَعَلَا: ﴿اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ﴾، يعني أنَّ مَن كان قصده
إرضاء الله -جَلَّ وَعَلَا- فإنه سينال هذه الهداية العظيمة.
إنَّ قصدَ العبدِ رضا رب العزَّة والجلال قصدٌ صحيحٌ قد دلَّت النُّصوص عليه، كما
قال -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمً﴾ [النساء: 114].
ومن هذا المنطلق؛ علينا أن نقصد هذا المعنى، وأُريد بهذا الكلام رد كلام بعض
الطوائف الذين يجعلون قصدَ العبد مُنحصرًا في محبَّة الله -جَلَّ وَعَلَا- في أن
يكون العبد محبًّا لله؛ بل نحن نقصد إرضاء رب العزة والجلال، كما أنَّنا نقصد أجر
الآخرة ونريد ثوابها، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا
سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورً﴾ [الإسراء:
19].
ومن هذا المنطلق علينا أن تقرَّب إلى الله -جَلَّ وَعَلَا- بتدبُّر هذا القرآن، ولن
يكون هناك تدبُّرٌ صحيحٌ إلَّا بناء على قواعد صحيحة اعتنى العلماء ببيانها، ولهذا
أُلِّفَت هذه الرسالة، قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ
لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]، وقال
تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: 57]،
فهذا الهدى وهذه الرحمة وهذا الشفاء هو في كتاب ربِّ العزَّة والجلال.
ومن هذا المنطلق علينا أن نعرف القواعد التي يكون نظر الإنسان بها صحيحًا عندما
ينظر في كتاب ربِّ العزَّة والجلال؛ فإنَّ بعض الناس قد ينظر في هذا الكتاب لكن
نظره لا يكون على أُسسٍ وقواعد صحيحة، وبالتالي يكون هذا من أسباب فهمه السيء، وعدم
معرفته لحقائق معاني كلام ربِّ العزة والجلال.
إذًا؛ عندنا شيئان لابدَّ من تقديمهما في معرفة معاني كلام الله:
أولهما: القصد الحسن.
ثانيهما: معرفة قواعد التفسير التي يُمكن للعبد أن يفهم كلام الله -جَلَّ وَعَلَا-
على مراده -سبحانه وتعالى.
إنَّ العبد عندما يستحضر هذه المعاني ويستحضر هذه الشروط؛ يكون بذلك قد فهم كلام رب
العزة والجلال.
وهناك أمرٌ آخر؛ ألا وهو: إحسان العمل، فإنَّ رب العزة والجلال قد أخبرَ أنَّ من
اهتدى فإنَّه تعالى سيزيده من الهداية، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا
زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: 17]، ولذلك فعندما تعمل بأوامر
الله -جَلَّ وَعَلَا- فإن ذلك يُورثك فَهمًا لكلامه -جَلَّ وَعَلَا.
وشاهد هذا آيات كثيرة، منها: قوله سبحانه: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ
هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2]، ثم ذكر صفات المتقين فقال: ﴿الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ
يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ
رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 3- 5]، فهذه الآية تدل على أن
أصحاب هذه الصفات يُمكِّنهم الله -جَلَّ وَعَلَا- من الاهتداء بالقرآن العظيم،
ويجعلهم يفهمون معاني هذا الكتاب.
هذا الكتاب تحصل به الحياة، وبالتَّالي سمَّاه الله -جَلَّ وَعَلَا- "روحًا"، كما
قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَ﴾ [الشورى: 52]،
فلمَّا كانت الحياة الحقيقيَّة تحصُل بهذا الكتاب؛ سمَّاه ربُّ العزَّة والجلال
بهذا الاسم.
ومن هنا علينا أن نستشعر هذه الأمور الثلاثة لنتمكَّن من الفهم الصحيح لكلام ربِّ
العزة والجلال.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قواعد في هذا الباب، وكان
من القواعد: بيان أنَّ هذا القرآن يُمكن أن يُفهَم، وجميع ما في القرآن إنَّما
أُنزِلَ ليُعرَف المُرادُ منه، وليتمكَّن الناس من العمل به، ومن هنا فإنَّ قول بعض
الفقهاء: إن هذا الكتاب لم يعُد هناك مَن يستطيع أن يفهم؛ فهذا قولٌ باطل.
ولَمَّا قالوا: إنَّ باب الاجتهاد قد أُغلِقَ، كان بناء على أنَّ هذا الكتاب لم
يعُد ممكنًا للناس. فنقول: إنَّ هذه الكلمة كلمة باطلة، فإنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا-
إنَّما أنزل هذا الكتاب ليُعرَف المراد منه، وليُفهَمَ ما فيه، وليُعمَل بأحكامه،
وبالتَّالي علينا أن نستشعر أنَّ هذا الكتاب قد بُيِّنَ ما فيه، وأنَّ الإنسان
يتمكَّن من العمل به ومن فهمه متى استحضر هذه القواعد التي تعينه على فهم كلام ربِّ
العزَّة واجلال.
وهنا قاعدتان لابدَّ من بيانهما:
القاعدة الأول: أن هذا القرآن عربي، ونزل بلغة العرب، وبالتَّالي فلابد من معرفة
معاني كلام العرب، وأساليبهم في الكلام؛ من أجل أن يُفهَم هذا الكتاب، وبالتَّالي
لابد أن نعرف العلوم العربيَّة، ومن تلك العلوم: فهم معاني الكلمات، واستحضار ما
تدل عليه الكلمة من معانٍ، وكذلك فهم الأساليب البلاغيَّة بدلالاتها، وكذلك أيضًا
معرفة النَّحو الذي يُميَّز به الفاعل من المفعول من أنواع ما يُتكلَّم به؛ فلابدَّ
أن نستحضر أنَّ هذا القرآن يتمكَّن الناس من فهمه، وهذا الفهم ينطلق من لغة العرب.
كذلك هناك قواعد للاستنباط والفهم جعلها العلماء في علم مختص أسموه بعلم "أصول
الفقه"، فعلم الأصول يتمكَّن الإنسان به من فهم دلالات النص القرآني، ومعرفة ما
يشتمل عليه من معانٍ ودلالاتٍ، فلما يكون عند الإنسان معرفة بطرائق الفهم التي ينص
عليها علماء الأصول، سواء كانت بالمنطوق أو بالمفهوم، وأنواع كل منها عمومًا
وخصوصًا وإطلاقًا وتقييدًا، ونحو ذلك في المنطوق، وهكذا في المفهوم بأنواعه
المتعدِّدة بدلالة الإشارة، ودلالة التَّنبيه، ودلالة الإيماء، ودليل الخطاب، ونحو
ذلك من أنواع الدلالات ممَّا قد يأتي الكلام على شيءٍ منه في مستقبل شرحنا لهذا
الكتاب.
لعلنا نقرأ فصلًا من فصول هذا الكتاب لنعرف شيئًا من معاني كلام المؤلف، وبالتَّالي
ننطلق من ذلك إلى فهم كلام ربِّ العزَّة والجلال.
{الحمدُ لله، والصَّلاة والسَّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم
اغفر لنا ولشيخنا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ: فِي أنّ النَّبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيَّنَ لِأَصْحَابِهِ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ.
يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيَّنَ
لِأَصْحَابِهِ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ كَمَا بَيَّنَ لَهُمْ أَلْفَاظَهُ فَقَوْلُهُ
تَعَالَى: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ﴾ [النحل: 44]، يَتَنَاوَلُ
هَذَا وَهَذَا.
وَقَدْ قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السلمي: حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا
يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ كَعُثْمَانِ بْنِ عفان وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُمْ كَانُوا إذَا تَعَلَّمُوا مِنْ النَّبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَشْرَ آيَاتٍ لَمْ يُجَاوِزُوهَا حَتَّى يَتَعَلَّمُوا مَا
فِيهَا مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ. قَالُوا: "فَتَعَلَّمْنَا الْقُرْآنَ
وَالْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا؛ وَلِهَذَا كَانُوا يَبْقَوْنَ مُدَّةً فِي
حِفْظِ السُّورَةِ".
وَقَالَ أَنَسٌ: "كَانَ الرَّجُلُ إذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَلَّ
فِي أَعْيُنِنَا".
وَأَقَامَ ابْنُ عُمَرَ عَلَى حِفْظِ الْبَقَرَةِ عِدَّةَ سِنِينَ قِيلَ: ثَمَانِ
سِنِينَ ذَكَرَهُ مَالِكٌ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: ﴿كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: 29]، وَقَالَ:
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾ [محمد: 24]، وَقَالَ: ﴿أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا
الْقَوْلَ﴾ [المؤمنون: 68]، وَتَدَبُّرُ الْكَلَامِ بِدُونِ فَهْمِ مَعَانِيهِ لَا
يُمْكِنُ.
وَكَذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: ﴿إنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ
تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2]، وَعَقْلُ الْكَلَامِ مُتَضَمِّنٌ لِفَهْمِه.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ فَهْمُ مَعَانِيهِ
دُونَ مُجَرَّدِ أَلْفَاظِهِ، فَالْقُرْآنُ أَوْلَى بِذَلِكَ.
وَأَيْضًا فَالْعَادَةُ تَمْنَعُ أَنْ يَقْرَأَ قَوْمٌ كِتَابًا فِي فَنٍّ مِنَ
الْعِلْمِ كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَلَا يَسْتَشْرِحُوهُ، فَكَيْفَ بِكَلَامِ
اللَّهِ الَّذِي هُوَ عِصْمَتُهُمْ وَبِهِ نَجَاتُهُمْ وَسَعَادَتُهُمْ وَقِيَامُ
دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ؟
وَلِهَذَا كَانَ النِّزَاعُ بَيْنَ الصَّحابة فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ قَلِيلًا
جِدًّا، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ فِي التَّابِعِينَ أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الصَّحابة؛
فَهُوَ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ بَعْدَهُمْ.
وَكُلَّمَا كَانَ الْعَصْرُ أَشْرَفَ كَانَ الِاجْتِمَاعُ والائتلاف وَالْعِلْمُ
وَالْبَيَانُ فِيهِ أَكْثَرَ، وَمِنْ التَّابِعِينَ مَنْ تَلَقَّى جَمِيعَ
التَّفسير عَنْ الصَّحابة كَمَا قَالَ مُجَاهِدٌ: "عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى
ابْنِ عَبَّاسٍ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا"؛
وَلِهَذَا قَالَ الثَّوْرِيُّ: "إذَا جَاءَك التَّفسير عَنْ مُجَاهِدٍ فَحَسْبُك
بِهِ".
وَلِهَذَا يَعْتَمِدُ عَلَى تَفْسِيرِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْبُخَارِيُّ
وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَد وَغَيْرُهُ
مِمَّنْ صَنَّفَ فِي التَّفسير يُكَرِّرُ الطُّرُقَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَكْثَرَ مِنْ
غَيْرِهِ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ التَّابِعِينَ تَلَقَّوْا التَّفسير عَنْ الصَّحابة، كَمَا
تَلَقَّوْا عَنْهُمْ عِلْمَ السُّنَّةِ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ يَتَكَلَّمُونَ فِي
بَعْضِ ذَلِكَ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ، كَمَا يَتَكَلَّمُونَ فِي
بَعْضِ السُّنَنِ بِالِاسْتِنْبَاطِ وَالِاسْتِدْلَالِ)}.
ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- قاعدةً عظيمة في باب التَّفسير، ألا وهي: أنه
يُمكن فهم معاني كلام رب العزة والجلال، فإن الله -جَلَّ وَعَلَا- لم يُخاطبنا
بكلامٍ غامضٍ أو بطلاسم، وإنَّما خاطبنا بآياتٍ وأدلَّة، وهذه الأدلَّة لابدَّ أن
تكون مفهومة.
ويدل على هذا المعنى عدد من الأدلَّة:
الدليل الأول: أنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- أمرَ بالعمل بالقرآن العظيم، ولا يُمكن أن
يُعمَل به إلَّا إذا كان معناه مفهومًا، كما قال تعالى: ﴿اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ
إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الأعراف: 3]، فلا يُمكن أن نتَّبع ما أنزل إلينا من
ربنا إلَّا إذا فهمناه وعرفنا المعنى الذي أُريدَ به.
الدليل الثَّاني: أنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- قد أقام نبيه شارحًا لهذا الكتاب،
مبيِّنًا للمعاني التي اشتمل عليها، ولهذا قال تعالى: ﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾
[النحل: 44].
الدليل الثالث: ما ورد في النصوص من تنزُّه الله -جَلَّ وَعَلَا- عن العبث، فإن
الله لا يفعل شيئًا إلَّا لحكمة، وبالتَّالي لا يُمكن أن يُنزَل الكتاب ولا يُعرَف
معناه، لأنَّ ذلك من العبث الذي يتنزَّه عنه ربُّ العزَّة والجلال.
الدليل الرابع: أنَّ الله -جَلَّ وَعَلَا- قد أمر الناس بتدبُّر هذا القرآن، ولا
يُمكن أن يُتدبَّر إلَّا إذا عُرِفَت معانيه، كما قال تعالى: ﴿كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ [ص: 29]، فلا يُمكن أن
يحصل تدبر إلَّا بمعرفة معانيه.
الدليل الخامس: أن الله -جَلَّ وَعَلَا- أمرنا بعقلِ معاني هذا الكتاب، وجعله بلغة
العرب التي يتمكَّن بها العرب من فهم هذا الكتاب، قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ
قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [يوسف: 2]، وقال: ﴿إِنَّا
جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الزخرف: 3]، ومعنى
"تعقلون"، أي: تفهمونه، وتعرفون المعاني التي اشتمل عليها هذا الكتاب.
الدليل السادس: ما ورد عن الصحابة من كونهم قد فسَّروا هذا الكتاب، وشرحوا المعاني
التي اشتمل عليها، وكذلك سار على طريقتهم التابعون -رحمة الله عليهم.
ومن هنا نعلم أن هذا التفسير العظيم الذي ورد عن سلف هذه الأمَّة من الصحابة
والتابعين يدلُّ على أنَّهم قد فهموا هذا الكتاب.
وقد أورد المؤلف كلامًا لبعض التابعين في أنهم قد عرضوا المصحف على الصحابة، قال
مجاهد: "عَرَضْتُ الْمُصْحَفَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أُوقِفُهُ عِنْدَ كُلِّ آيَةٍ
مِنْهُ وَأَسْأَلُهُ عَنْهَا". وورد عن بعض الصحابة أنَّه قال: "لو أعلم أن أحدًا
أعلم مني بكتاب الله تشد إليه المطي؛ لرحلتُ إليه"، ممَّا يدل على أنهم اعتنوا بهذا
الباب.
وانظر لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ
أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ
مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ﴾ [النساء: 83]، أي أنَّ
أولئك العلماء يتمكَّنون من استخراج أحكام النَّوازل من هذا الكتاب، مما يدل على
أنَّهم يتمكَّنون من فهمه، إذ كيف يستنبطون أحكام هذه النوازل وهم لا يعرفون
المقصود منه!
الدليل السابع: عندما نعلم أن الله -جَلَّ وَعَلَا- قد أقام الحجَّة على العباد
بهذا الكتاب؛ فإنه لا يُمكن القول بذلك إذا قلنا بأنَّهم فهموا هذا الكتاب، وقد لا
يتمكَّن الإنسان من معرفة جميع المعاني، وإدراك جميع المقاصد من الآيات، لكن ذلك لا
يخفى عن مجموع الأمة، وذلك أن آيات هذا الكتاب قد تشتمل الآية الواحدة فيه على
معانٍ متعدٍّدة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك؛ فيتمكَّن بعض العلماء من معرفة بعض هذه
المعاني، ويتمكَّن آخرون من معرفة المعاني الأخرى.
وقد ذكر المؤلف هنا شأن السلف من الصحابة والتابعين فيما يتعلق بتفهُّم معاني كتاب
ربِّ العزَّة والجلال، ونقل عن الإمام أبي عبد الرحمن السلمي -وهو من التابعين-
قال: "حَدَّثَنَا الَّذِينَ كَانُوا يُقْرِئُونَنَا الْقُرْآنَ"، يقصد بذلك الصحابة
الذين أقرؤوا التَّابعين كتاب رب العزة والجلال، ومثَّلبعُثْمَانِ بْنِ عفان
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وأنَّ شأنهم كان في عهد النبوة أنهم كانوا إذا
تعلَّموا عشر آيات لا يجاوزونها حتى يعلموا حروفها ومعانيها، ويعملون بها.
وبالتَّالي نجد أنهم يُمضون الأوقات الطويلة في التَّمسُّك بهذا الكتاب، وإمضاء
الوقت الطويل في تعلُّم هذا الكتاب يُورث بركة في وقت الإنسان، ويجعله يتمكَّن من
تحصيل الأمور العظيمة في الدنيا، وفي أمور الآخرة، ولذا نجد أن صحابة رسول الله
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عندهم من أنواع العبادات من قيام الليل، وصيام
النهار، وقراءة القرآن، وعندهم من أنواع الأعمال الصالحة، سواء فيما يتعلق بالجهاد،
أو بالصَّدقات والنَّفقات، أو ما يتعلَّق بأمور المكاسب الدنيوية، حيث نجد أن رب
العزة والجلال قد فتح لهم الأرضين، وفتح لهم أبواب التجارة، وفتح لهم أنواع
الخيرات، حتى وُجد في تلك الأزمنة مَن يطوف بماله يُريد ان يتصدَّق به؛ فلا يجد مَن
يأخذ ذلك المال، وما ذاك إلَّا للبركة العظيمة التي جعلها الله -جَلَّ وَعَلَا- لهم
في حياتهم لكثرة قراءتهم للقرآن، وكثرة تدبرهم للمعاني التي اشتمل عليها، وبعملهم
بهذا الكتاب.
ولذلك تجد أن الأمَّة متى ابتعدت عن القرآن شغلها الله -جَلَّ وَعَلَا- بما لا
تستفيد منه في دنيا ولا في آخرة، وكلما تمسَّكَ الإنسانُ بهذا الكتاب باركَ الله له
في وقته، وبارك الله له في بدنه، وبارك الله له في قوله، وبارك الله له في جميع
شأنه.
أورد المؤلف أثرًا عن ابن عمر، أنه حفظ سورة البقرة في ثماني سنوات، وما ذاك إلَّا
انه يريد أن يتعلم ما فيها من العلم والعمل، ولم يكن مقتصرًا على قراءة الحروف
وحفظها، وإنَّما كان يسعى إلى تعلُّم المعاني العظيمة التي اشتملت عليها هذه
السورة.
وأورد المؤلف عن أنسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنه قال: "كَانَ الرَّجُلُ إذَا قَرَأَ
الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَلَّ فِي أَعْيُنِنَا"، أي: أصبح عظيمًا كبيرًا، ذا
مكانة في نفوسهم، وما ذاك إلَّا أنهم كانوا عند حفظهم لهاتين السورتين يتعلمون ما
فيهما من المعاني، ومن ثَمَّ يكون الإنسان مع حفظه لهاتين السورتين فقيهًا عارفًا
بأحكام ربِّ العزَّة والجلال، سواءً ما يتعلق بالأحكام التَّكليفيَّة، أو بالأحكام
الكونيَّة والدَّلائل والبراهين التي وضعها الله -جَلَّ وَعَلَا- في الكون، وكذلك
يتمكَّن من معرفة طرائق محاجَّة الأقوام المخالفين، وأصحاب النِّحل الأخرى.
ومن هذا المنحى نعرف أن الصحابة كانوا يفهمون معاني كتاب رب العزة والجلال، وإن لم
يستوعبوا هذه المعرفة، لأن الله -جَلَّ وَعَلَا- يريد للعباد أن يكون من شأنهم أن
يتعلموا شيئًا جديدًا بالتَّمسُّك بهذا الكتاب كلما مرَّت عليهم الأزمان والدُّهور.
ومن المعلوم أنَّ مَن كان حريصًا على تعلُّم علمٍ فإنَّه يسعى إلى فهم معاني كلام
أهل ذلك العلم وأهل ذلك الفن، ولذلك فإنَّ من كان مُعتنيًا بتعلُّم أحكام هذه
الشريعة فإنه سيبذل من نفسه لفهمِ كلام ربِّ العزة والجلال.
وقد استدل المؤلف على أن القرآن كان مفهومًا للصحابة لقلَّة النَّزاع بينهم في فهم
معاني القرآن، مما يدلُّ على أنهم قد فهموه، وأنَّ المعنى المقصود الذي يُراد
باللفظ القرآني كان واضحًا جليًّا عند صحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وهكذا سار التابعون على طريقتهم.
والمؤلف سيعقد فصلًا في هذه المقدِّمة لتَّعرُّف على مسألة هل أقوال التابعين حجَّة
في تفسير كلام رب العزة والجلال أو ليست كذلك، فنترك الكلام في هذا إلى حينه.
والمقصود: أن الصحابة والتابعين كان عندهم من الائتلاف والاجتماع، وكان عندهم من
التوافق في الأقوال ما لم يكن عند مَن بعدهم، مما يدل على أنهم كانوا فاهمين لكتاب
رب العز والجلال.
ولعل من أبرز الأسباب التي تجعل الصَّحابة يتَّفقون على معاني القرآن:
أولًا: أن هذا الكتاب نزل بلغة العرب، وهم أهل لغة وفصاحةٍ، وبالتالي فهِمُوا
المراد من هذا الكلام، وهكذا كانت عقائدهم سليمة، ولم يكن عندهم من الانحرافات
العقديَّة التي وُجدت في الأمة بعد ذلك، وبالتالي لم يكن من شأنهم أن يكونوا أصحاب
أهواء، يفسرون القرآن على مقتضى أهوائهم، وإنما يفسرون القرآن على مقتضى ما سمعوه
من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثانيًا: أن القواعد التي يُسارُ عليها في فهم الكتاب والسنة كانت راسخةً عندهم،
يعرفونها ويتمكَّنون من تطبيقها بسليقتهم العربيَّة، وبالتالي كانوا يتَّحدون في
هذا، فالخلاف في كثيرٍ من قواعد الفهم والاستنباط لم يُوجد إلَّا بعدَ عصورهم،
يعني: إذا كان هناك اختلاف في مسألة من مسائل التخصيص بتقديم الخاص أو العام، أو من
مسائل المفاهيم مثل مفهوم المخالفة؛ فإن هذا الخلاف لم ينشأ إلا بعدهم، فكان
الصحابة إنما يسيرون على قولٍ واحدٍ، ولذلك كانت إجماعات الصحابة على قواعد الأصول
كثيرة متعدِّدَة، ولازال العلماء يحكون من الإجماعات في قواعد الأصول ما يدلُّكَ
على سببٍ من أسباب قلَّة الخلاف بين الصحابة -رضوان الله عليهم- في تفسير هذا
الكتاب.
وإذا علم الإنسان أنهم كانوا يستغرقون أوقاتًا طويلة في الارتباط بهذا الكتاب، حتى
تجد أنهم لا يتركون فراغًا إلا ويستعملونه في هذا الكتاب، ولذا كان منهم من يختم
القرآن في الأوقات القليلة، في الأسبوع وفي الثلاثة الأيام، وما ذاك إلَّا
لارتباطهم بهذا الكتاب، وكانوا يتأمَّلون ما فيه، ويُحاولون إن يفسروه على مَن
عندهم ومَن حولهم، وكانت مجالسهم معمورة بقراءة آياتٍ من الكتاب، فلا يجلسون في
مجلسٍ إلَّا ويقرؤون آيات من الكتاب ثم يفسرونها، وكان من شأنهم أيضًا أن يذهب
علماؤهم إلى مجالس عامَّتهم من أجل أن يجعلوا تلك المجالس مبدوءة بقراءة آياتٍ من
القرآن وتفسيرها، ولذلك كان تفسير القرآن محل اهتمامٍ واشتغال للناس جميعًا في ذلك
الزمان. وهذا يدلُّك على أن هذا القرآن مفهوم.
وهكذا كان التَّابعون يسيرون على طريقة الصحابة في هذا الباب.
وقد أورد المؤلف هنا شيئًا من كلام التابعين في هذا الباب، ومن أمثلته ما ذكرتُ قبل
قليلٍ من كلام مجاهد بن جبر السدوسي، وهو من علماء الأمة ومن فقهائها، ومن الذين
اشتغلوا بتفسير كلام ربِّ العزَّة والجلال، ولذا كان أئمة هذا الشَّأن يعتمدون
التفسير الوارد عنه -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
واشتغال التابعين بالتَّفسير ليس منطلقًا من عند أنفسهم، وإنَّما ورثوه ممَّن قبلهم
من صحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والصحابة أخذوا ذلك عن رسول
الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيثُ كان يُجالسهم ويقرأ عليهم القرآن،
ويطلب منهم أن يقرؤوا عليه القرآن، ويُفسِّر لهم آيات القرآن في مجالسه الخاصَّة
والعامَّة.
ولا يعني هذا الكلام أن التَّابعين كانوا يقتصرون على التفسير المنقول عن الصحابة؛
بل إن التابعين كان عندهم من معرفة اللغة ومعرفة قواعد الفهم والاستنباط والقواعد
الأصوليَّة ما يُمكِّنهم من الاستنباط من الآيات القرآنيَّة، ولذا كان عندهم شيءٌ
من الاستنباط والاستدلال بآيات كتاب ربِّ العزَّة والجلال.
وحينئذٍ نعلم أن هذا الكتاب يُمكن أن يُعرَف المقصود منه، ولا يُمكن أن يكون هناك
آية في كتاب الله -جَلَّ وَعَلَا- لم يقصد الله بها معنًى يفهمه الناس ويتمكَّنون
من معرفة الحكمة من إيراد ذلك اللفظ.
وقد ذكر بعضهم شيئًا من الآيات التي حاول أن يُلبِّسَ بها على هذه القاعدة، ولعلِّي
أُلخِّص كلامهم، ثم أُجيبُ عنه:
أولًا: بعضهم ذكر أن في القرآن آيات مُشتملة على الحروف المقطَّعة، قال: وهذه
الحروف المقطَّعة لا يُعرَف معناها.
والجواب عن هذا: أنَّ هذه الحروف المقطَّعة أوردَت لمعنًى ومقصود، ألا وهو بيان
أنَّ هذا القرآن عربي نزل بلغة العرب وبحروفهم، فهذه الحروف المقطَّعة "الم -ألف،
لام، ميم" من جنس كلامكم، ومن جنس حروفكم يا أيُّها العرب، ومع ذلك لم ولن
تتمكَّنوا من الإتيان بمثله، ثم إن هذه الحروف تدل على أن هذا القرآن عربي،
وبالتالي فمن أراد أن يفهمه فليفهمه بلغة العرب، وبأساليب العرب.
ثانيًا: هناك من قال: إن في الآيات القرآنية ما هو مجمل، وبالتالي هذا المجمل لا
يُمكن أن يُعرَف المراد منه.
والجواب عن هذا: إنَّ هذا المجمل لابدَّ أن يكون هناك أدلَّة توضِّح ذلك المجمل.
فمثلًا في قوله تعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141]، فحقه
هنا مجمل، ولكن جاءت السُّنَّة ببيان ذلك الحق، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «فيما سقَتِ السماء والعيون أو كان عَثَريًّا: العُشْرُ، وفيما سُقِي
بالنَّضح: نصف العُشر» ، ونحو ذلك من الأحاديث الواردة، كما في قوله -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليسَ فِيما أَقَلُّ مِن خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» .
المقصود: أنه لا يُمكن أن يكون هناك لفظٌ مجمل ولا يُعرف المراد منه.
ثالثًا: قالوا: إن هناك كلمات في القرآن يُمكن أن يُفهم منها معانٍ مُتعدِّدة
مُتقابلة، وبالتالي يكون هذا من مخاطبة الناس بغير ما يعرفون، ومثَّل له بعضهم
بقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ
ثلاثة قروء﴾ [البقرة: 228]، فقالوا: إنَّ "القُرء" يُطلق على الطُّهرِ ويُطلَق على
الحيض، وكما في قوله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ﴾ [البقرة: 282]، قد
يُفهم منها أن الكاتب يُلحِقُ الضَّرر بغيره، ويُمكن أن يُقصَد منها أنَّ الكاتب
يَلحَقه الضَّرر.
والجواب عن هذا أن نقول:
أولًا: أنَّ الله -عز وجل- قد جعل في هذا الكتاب أشياء من أجل أن يجتهد الناس فيها،
ومن أجل أن يتعلَّموا معانيها، ومن أجل أن يكون هناك مجال للبحث والدراسة في آيات
القرآن، فهذه ميزة تجعل الناس يفهمون القرآن ويتدبَّرون المعاني التي اشتمل عليها.
ثانيًا: هذه الاختلافات لابدَّ أن يكون معها دليل يوضِّح المراد بها، وبالتالي إن
أوردَ لفظ قد يحتمل معانٍ متعدِّدَةٍ إلَّا أن هذا اللفظ في سياقه -أو في آيات
أخرى- ما يدل على المراد منه، فمثلًا ما ورد في الآيات أو في الأحاديث من تفسير
"القُرء" بأحد المعنيين هو دليل لذلك القول الذي فُسِّر به، فلما رأى أبو حنيفة
وأحمد أن المراد بــ "القُرء" الحِيَض، استدلَّا على ذلك بما ورد أنَّ الأمة «تجلس
حيضتين»، وفي لفظ «قُرْئَينِ»، وما ورد في الحديث أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال للمستحاضة: «دَعِي الصّلَاةَ أَيّامَ أَقْرَائِك»، فدلَّ هذا على أن
المراد به الحِيَض، إلى آخر ما في هذه المسألة من استدلالات.
وهكذا قد يكون من معاني هذا الكتاب: أن يشتمل اللفظ الواحد والسياق الواحد على
معانٍ مختلفة، وكلاهما يكون مُرادًا، فيكون المراد بقوله تعالى: ﴿وَلَا يُضَارَّ
كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ﴾: أن يُلحق الكاتب والشَّهيدُ الضَّررَ بغيرهما، كما يكون في
الآية نهيٌ للآخرين عن أن يُلحقوا الضَّرَ بالكاتب والشهيد. وبالتالي نعرف أن هذا
القرآن يُمكن فهمه ويُمكن تفسيره.
وهكذا شغَّبوا وقالوا: إنَّ هناك اختلافات كثيرة في القرآن، ممَّا يدلُّ على أنَّ
الفهم للمراد من هذه الآيات قد يكونُ غامضًا لوجود التَّردُّدِ بين هذه الأقوال،
وسيأتي معنا أن هذا الاختلاف في التفسير مرَّةً قد يكون اختلاف تنوُّع، وبالتَّالي
تكون كل الأقوال مرادةً وصحيحةً، وقد يكونُ من اختلاف التَّضاد، وهذا قليلٌ ونادرٌ،
وبالتَّالي نحتاجُ إلى معرفةِ الرَّاجح من الأقوال، والرَّاجح يُمكن الاستدلال عليه
ومعرفته.
فالمقصود: أنَّ هذا القرآن يُمكن أن يُفهَم، وأنَّه لا يُوجَد فيه مخاطبةٌ بأشياء
خفيَّة لا يتمكَّن الناس من معرفتها.
وممَّا شغَّبوا به: أن بعضَ معاني اللفظ القرآني لا يكونُ معروفًا.
فنقول: هذه الجهة التي لم يكن فهمها ممكنًا للناس ليست مقصودةً ولا مرادة.
مثلًا: لما يأتي الإنسان لكيفيَّة الصِّفات، فيقول: نحن لا نعرفها، ولكن نعرف
المعنى الذي تدلُّ على تلك الصِّفة.
لما يأتيك إنسان ويقول: هذا الكلب الذي ذكره الله -جَلَّ وَعَلَا- عن أصحاب الكهف،
ما لونه؟
نقول: هذا وإن كان مجملًا إلَّا أنَّنا غير معنيين به، ومعرفته لا تفيدنا شيئًا،
وبالتَّالي فهذه الجهة التي لم نفهمها مما يتعلق بفهم اللفظ القرآن غيرُ مرادة وغير
مقصودة بإنزال النَّص القرآني، وبالتَّالي فإن عدم معرفتها لا يؤثِّر على فهمنا
للقرآن، وفهمنا للمعاني والمقاصد التي أُنزلَ القرآن من أجلها.
بارك الله فيكم، ووفقنا الله وإيَّاكم لكل خيرٍ، وأشكركَ على حسنِ قراءتك، جزاكَ
الله خير الجزاء، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه
أجمعين.
سلاسل أخرى للشيخ
-
3800 1
-
6010 11
-
4672 10
-
5537 5
-
4118 23
-
5920 24
-
7075 24
-
8486 24
-
7448 11
-
10767 11
-
13169 11
-
16578 12