الدرس الثامن

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

4720 10
الدرس الثامن

مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أما بعدُ؛ فهذا هو اللقاء الثَّامن في شح مقدِّمة التَّفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وقد ذكر المؤلف أنَّ الخطأ في التَّفسير قد يكون خطأً بسبب النَّقل، وقد يكن خطأً في التَّفسير بالاستدلال، وأنَّ الخطأ في التَّفسير بالاستدلال قد يكون ناتجًا عن مذاهب يُريد المفسر أن يحمل اللفظ القرآني عليها، واللفظ القرآني لا يدل عليها، وإمَّا لكون اللفظ يحتمل معانيَ إذا نُظِرَ إليه مجرَّدًا؛ فيحمل المفسِّر ذلك اللفظ على ذلك المعنى بدون أن يلتفت إلى سياق الكلام والقرائن اللفظيَّة والحاليَّة الموجودة مع ذلك اللفظ.
ومن الصنف الأول: تفاسير أهل البدع للقرآن، وتفاسير بعض المذاهب الفقهيَّة للآيات القرآنيَّة بما يتوافق مع مذاهبهم.
ومثَّل المؤلف لذلك بقواعد المعتزلة التي يبنونها بناءً على تأصيلٍ فاسدٍ، ثم يحملون اللفظَ القرآني عليها، ومن ذلك الأصول الخمسة، وهي:
- التوحيد.
- العدل.
- المنزلة بين المنزلتين.
- إنفاذ الوعيد.
- الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر.
فهذه خمسة أصولٍ عندهم، وأرادوا بالتوحيد: نفي الصفات.
وأرادوا بالعدل: نفي القدر، على ما تقدم معنا في اللقاء السابق.

وأمَّا إنفاذ الوعيد في الآخرة فأرادوا به أنَّ الله لا يغفرُ لأصحاب الكبائر، فلمَّا يأتيهم مثل قوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 116] حملوا هذا اللفظ على التَّائبين، وفسَّروه بغير مراد الله، ولم يلتفتوا إلى أنَّه علَّقه بالمشيئة في قوله: ﴿لِمَنْ يَشَاءُ﴾، وأنَّ الله قد وعدَ التَّائبين بقبول توبتهم في قوله: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى﴾ [طه: 82]، وقوله: ﴿وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمً﴾ [النساء: 110].
إذًا؛ الآية ليست في التائبين، وإنَّما الآية في غير التَّائبين، وبالتالي هذا ينقض هذا الأصل الذي يؤصِّله المعتزلة، فهم يقولون: لا يقبل الله في أهل الكبائر شفاعة، والأحاديث التي وردت يكذِّبونها، ويقولون: لا أحد يخرج من النار بعدَ أن يدخلها، ولذلك يقولون: إنَّ أهل الكبائر مخلَّدون في نار جهنَّم.
وردَّ عليهم طوائف من المرجئة الذين يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنبٌ، ولا تنقص مكانة العبد بفعل الكبائر؛ لأنَّ الإيمان عندهم رتبة واحدة، أمَّا المعتزلة فيقولون: أي ذنب من الكبائر فإنَّه يخرج به صاحبه من الإيمان، وبالتَّالي يكون خالدًا مخلَّدًا في نار جهنَّم. فانظر الضَّلال في الفئتين!
ثم جاؤوا وحملوا النُّصوص القرآنيَّة والنَّبويَّة على مذاهبهم، فكانوا كالأعور، يشاهد بعض النُّصوص ولا يُشاهد بعضها الآخر، ومن شأن المؤمن أن يؤمن بالجميع، كما قال تعالى: ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَ﴾ [آل عمران: 7]، وبالتالي نجمع بين هذه النُّصوص.
فلمَّا يأتي المعتزلي ويقول: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. وفي المقابل يأتينا المُرجئ ويقول: اسمع لقول الله: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُو﴾ [الحجرات: 9]، وقوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: 10]؛ فهذا نظرَ إلى نصٍّ، وذاكَ نظرَ إلى نصٍّ، وما فهموا أنَّ المعنى المراد بالإيمان هنا مغاير للمعنى المراد بالإيمان هناك، فإنَّ لفظة الإيمان مرَّةً تُطلق ويُراد بها الإيمان المطلق التَّام، ومرَّة تُطلق ويُراد بها مطلق الإيمان، وهو أدنى ما يصدق عليه الاسم، وبالتالي نفسر هذا اللفظ في كل محلٍّ بحسب السياق الذي ورد فيه، وبحسب القرائن المحتفَّة به.
وفي حديث أبي ذر عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه قال: «وإن زنا وإن سرق...»، ليس معناه أنَّه يدخل الجنَّة ابتداءً، ولكن معناه أنَّ مآله ومصيره إلى الجنَّة، وبالتَّالي ليس فيه دلالة لمذهب المرجئة، وليس فيه دلالة لمذهب المعتزلة؛ بل فيه ردٌّ عليهم.
والمرجئة ردُّوا كلام المعتزلة مرَّات بكلام حق، ومرات بباطل، فأحسنوا مرَّةً وأساؤوا في أخرى، حتَّى صاروا -المعتزلة مع المرجئة- في طرفي نقيض، وأهل السُّنة: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطً﴾ [البقرة: 143].
وهكذا فيما يتعلق بالأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر؛ أراد المعتزلة بهذا الأصل الخروج على أصحاب الولاية، ففسَّروا اللفظَ الوارد في الكتاب والسنَّة بغير مراد الله، وأخطئوا في هذا التَّفسير لأنَّهم لديهم مذاهب فاسدة أرادوا أن يحملوا اللفظ القرآني عليه، قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا رَأْيً)، مثل: جواز الخروج على الأئمَّة والولاة.
قال: (ثُمَّ حَمَلُوا أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ)، كما في قوله: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [التوبة: 71].
قال: (وَلَيْسَ لَهُمْ سَلَفٌ مِنْ الصَّحابة وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا فِي رَأْيِهِمْ وَلَا فِي تَفْسِيرِهِمْ)، لا يُوجد لهؤلاء مَن يقول بمثل قولهم من الصحابة والتابعين ولا من أئمة المسلمين، لا في الرأي ولا في التَّفسير، لا في الدَّليل ولا في المدلول.
قال: (وَمَا مِنْ تَفْسِيرٍ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ إلَّا وَبُطْلَانُهُ يَظْهَرُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ)، يتأمَّل الإنسان في تفسيرهم للقرآن وحملهم للفظ القرني على مذهبهم؛ يجد أنَّ ذلك النَّص يدل على بطلان مذهبهم لا على صحَّته.
قال: (وَذَلِكَ مِنْ جِهَتَيْنِ:
- تَارَةً مِنَ الْعِلْمِ بِفَسَادِ قَوْلِهِمْ.
- وَتَارَةً مِنَ الْعِلْمِ بِفَسَادِ مَا فَسَّرُوا بِهِ الْقُرْآنَ، إمَّا دَلِيلًا عَلَى قَوْلِهِمْ، أَوْ جَوَابًا عَلَى الْمُعَارِضِ لَهُمْ)
، يعني تفسير باطل لا يدل عليه اللفظ القرآني؛ بل يكون ذلك الدليل دليلًا عليهم، أو جوابًا عن بعض احتجاجاتهم.
قال: (وَمِنْ هَؤُلَاءِ)، أي من هؤلاء الذين يُفسِّرون القرآن على المذاهب الفاسدة.
قال: (مَنْ يَكُونُ حَسَنَ الْعِبَارَةِ فَصِيحً)، يختار كلامًا جميلًا.
قال: (وَيَدُسُّ الْبِدَعَ فِي كَلَامِهِ)، ولذا قال قائل: "استخرجنا الاعتزال من الكشاف بالمناقيش"، وأعطيك مثالًا: لَمَّا تأتي الآيات التي فيها ذكر دخول المؤمنين للجنَّة، ثم يُعقب عليها بقوله: "وذلك أعلى درجات النَّعيم"؛ كلام جميل أراد به أن ينفي رؤية المؤمنين لله -عَزَّ وَجَلَّ- التي هي أعلى النعيم الذي يحظى به أهل الجنَّة.
ومثله في قوله: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّ﴾ [يوسف: 2]، فيقول: "أي: خلقناه"؛ يُريد نفي صفة الكلام لله -جَلَّ وَعَلَا.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ كَصَاحِبِ الْكَشَّافِ وَنَحْوِهِ، حَتَّى إنَّهُ يُرُوجُ عَلَى خَلْقٍ كَثِيرٍ مِمَّنْ لَا يَعْتَقِدُ الْبَاطِلَ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ مَا شَاءَ اللَّهُ)، فتجدهم يتكلَّمون بها وينطقونها.
يقول مثلًا قائلهم: "والله لن أنقض لك عهدًا، و (لن) تفيد النفي المؤبَّد"، أتى بهذا من المذهب الاعتزالي، وجرت على ألسنة الناس ويتكلَّمون بها، حتى راجت على أناس لا يرون مذهبهم، ولا يعتقدونه بناء على قراءتهم في هذه التفاسير الباطلة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَقَدْ رَأَيْت مِنْ الْعُلَمَاءِ المفسِّرين وَغَيْرِهِمْ مَنْ يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ وَكَلَامِهِ مِنْ تَفْسِيرِهِمْ مَا يُوَافِقُ أُصُولَهُمْ الَّتِي يَعْلَمُ أَوْ يَعْتَقِدُ فَسَادَهَا وَلَا يَهْتَدِي لِذَلِكَ)، أي: أنَّني رأيتُ ممَّن ينتسب إلى السنَّة إلى الحديثِ مَن يدرج في كلامه هذه البدع الباطلة من غير أن يشعر به، فيتكلَّم بهذا في ثنايا كلامه، ولا يحس أنَّه مبني على ذلك المذهب الباطل، وقد أشرنا من قبلُ إلى شيءٍ من هذا في كلمة "عبارة، وتعبير، وهو عبارة عن كذا..."، وقلنا إنَّ هذا مبني على مذهب مَن يرى أنَّ الكلام هو المعاني النَّفسيَّة، وأنَّ الأصوات والحروف "عبارة" عن الكلام وليست كلامًا.
قال: (ثُمَّ إنَّهُ لِسَبَبِ تَطَرُّفِ هَؤُلَاءِ وَضَلَالِهِمْ دَخَلَتْ الرَّافِضَةُ الْإِمَامِيَّةُ ثُمَّ الْفَلَاسِفَةُ ثُمَّ الْقَرَامِطَةُ وَغَيْرُهُمْ فِيمَا هُوَ أَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ)، فنجد أن الرَّافضة الإماميَّة بدؤوا يفسرون آيات القرآن بمعاني لا يُمكن أن يحتملها اللفظ -كما سيأتي- وهكذا جاءنا من المتفلسفة الإسلاميين مَن يحمل ألفاظ القرآن على غير مراد الله -سبحانه وتعالى-، وهكذا جاءنا من القرامطة، يأتيك القُرمطي ويقول: المراد بقوله: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: 43] ذكر الأئمَّة، والمراد بقوله: ﴿وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ حفظ الأسرار، أو ما يقولونه من تفسير الصيام بحفظ الأسرار؛ فحملوا اللفظ القرآني على غير معناه الذي يُريده الله -جَلَّ وَعَلَا- ليكون موافقًا لمذاهبهم الباطلة.
قال: (وَتَفَاقَمَ الْأَمْرِ فِي الْفَلَاسِفَةِ وَالْقَرَامِطَةِ وَالرَّافِضَةِ، فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا الْقُرْآنَ بِأَنْوَاعِ لَا يَقْضِي مِنْهَا الْعَالِمُ عَجَبَهُ)، أي: لو نظرتَ إليها لعجبتَ منها، ولسفَّهتَ آراءهم بسبب هذه التَّفسيرات التي لا يُمكن أن يحتملها اللفظ.
ثم مثَّل لذلك بأمثلة، فقال: (فَتَفْسِيرُ الرَّافِضَةِ كَقَوْلِهِمْ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ [المسد: 1] هُمَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ)، فهذا التَّفسير لا يحتمله اللفظ ولا يُمكن أن يدل عليه، لكنه عنده مذهب فاسد وأراد أن يحمل اللفظ القرآني عليه ولو كان غير متوافق مع مدلول هذا الألفاظ.
ومثل قوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: 65]، المراد به: الشرك الذي هو صرفُ العبادة لغير الله -جَلَّ وَعَلَا- وجعل غير الله مثل الله -عَزَّ وَجَلَّ-، ولكن القرامطة يقولون: إنَّ المراد بالآية: لئن أشركتَ مع عليٍّ غيره في الولاية ليحبطنَّ عملك.
فلفظ "الشرك" له اصطلاح في النَّص القرآني والنَّبوي، فمن جاءنا وفسره بغير الاصطلاح الشرعي فحينئذٍ قد ضلَّ في الدليل، وفسَّره بغير مدلوله، كما أنَّه يضل في المدلول.
ومثله في قوله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً﴾ [البقرة: 67]، فهذه الآية نزلت في بني إسرائيل، فلمَّا يأتي مَن يأتي ويقول: المراد بالبقرة عائشة -كما فسره بعض الرافضة- فهذا يُخالف المدلول اللغوي، وفي نفس الوقت يُخالف السياق والقرائن اللفظية الموجودة مع هذا اللفظ.
وهكذا في قوله: ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ﴾ [التوبة: 12]، فسَّره الرافضة بطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ -وهما من العشرة المبشرين بالجنة-، وهذا الآية نزلت في سياق فتح مكَّة، والمراد بها كبار أهل الشِّرك، فلما يأتي مَن يأتي ويُفسِّر هذا اللفظ بغير مدلوله وبغير السياق الذي ورد فيه، وبغير سبب نزوله؛ من أجل أن يتوافق ذلك التَّفسير مع مذهبٍ باطلٍ له؛ يكون هذا خطأً كبيرًا في التَّفسير.
ومثله في قوله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ﴾ [الفرقان: 53]، المراد بالبحرين: الماء المالح والماء العذب، وأراد الله -عَزَّ وَجَلَّ- أن يُظهر آيةً كونيَّةً للبشر من أجل أن يكون هذا سببًا من أسباب إيمانهم وإيقانهم بصدق أخبار الله -عَزَّ وَجَلَّ-، فلما يُفسِّرها الرافضة بأن المراد بها عَلِي وَفَاطِمَة؛ نقـول:
أولًا: هذا يُخالف المعنى اللغوي لكلمة "البحرين".
ثانيًا: أنَّ مرْجَ الشَّيئين له معنًى ومدلول لا يُمكن أن يُجعل بين فاطمة وبين علي -رضوان الله عليهم.
وبالتَّالي فهذا التَّفسير كما أنَّه يُخالف المقتضى اللغوي فهو يُخالف قرائن اللفظ وسياق الكلام.
وهكذا لَمَّا يأتينا مَن يُفسِّر قوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ﴾ [الرحمن: 22]، أنَّهما: الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ؛ فنقول: هذا التَّفسير يُخالف ظاهر اللفظ وسياق الكلام، وقرائنه الحاليَّة واللفظيَّة تدل على خلافه، وبالتَّالي يكون هذا من الخرافات.
من أين أخطئوا في هذا التَّفسير؟
من كونهم قد ذهبوا مذهبًا فاسدًا؛ فأرادوا أن يحملوا النَّصَّ القرآني على ذلك المعنى؛ فأخطئوا في الدَّليل، وأخطئوا في المدلول.
ومثل هذا في قوله تعالى: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ مُبِينٍ﴾ [يس: 12]، لما يفسرونه بعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه-؛ نقول: هذا يُخالف مدلول هذا اللفظ، فإنَّه قال: ﴿أحْصَيْنَاهُ فِي إمَامٍ﴾، معناه: أنَّ جميع ما في الكون من وقائع وحوادث وذوات مسجل في هذا الإمام المبين، فالمراد به: كتاب اللوح المحفوظ الذي سُجِّلَت فيه جميع الوقائع.
ومثله في قوله -عَزَّ وَجَلَّ: ﴿عَمَّ يَتَسَاءلُونَ﴾ [النبإ: 1-2]، أي: عن أيِّ شيءٍ يكون سؤالهم. قال: ﴿عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ﴾، النَّبأ في لغة العرب: الخــبر. والعظيم: يعني الكبير.
فلما يأتينا شخص ويقول: المراد بــ ﴿النبأ العظيم﴾ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ؛ نقول: هذا يُخالف المعنى اللغوي لكلمة "النبأ"، ويُخالف سياق الكلام، ولو فسَّرناه بـ "علي" لكان ذلك الكلام غير صحيحٍ وغير متوافق مع الواقع، فإنَّ هذه الآية تتحدَّث عن أهل مكَّة، ولم يكن علي محلَّ السؤال بحيث تُنزَّل الآية على ذلك التَّفسير.
ومثله في قوله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاة وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة: 55]، فاللفظ عام، والخطاب للذين آمنوا، فإذا جاءنا شخص وفسَّرها بشخص واحد؛ نقول: هذا يُخالف ظاهر اللفظ.
وما أوردوه من أنَّ عليًّا تصدَّق بصدقة وهو راكع لم يثبت -كما تقدم معنا- بل هو موضوعٌ، وبالتَّالي لا يصح أن يُفسَّر اللفظ القرآني بناء على نقل موضوع، كما أنَّه من جه الاستدلال لا يصح أن يُفسر هذا اللفظ القرآني بأنَّه علي، لأنَّه لفظٌ عام، ولا يصح أن يُفسر اللفظ العام بأن المراد به واحدٌ.
قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ﴾ [البقرة: 155]؛ فلما يأتي واحد ويقول: إنَّ هذه الآيات نزلت في علي لمَّا أُصيبَ بحمزة؛ نقول: هذا التَّفسير ليس له نقل موثوق، وإنَّما هو استدلال، وهذا الاستدلال لا يصح، لأنَّه يُخالف ظاهر اللفظ، فإنَّ الخطاب فيه عام في قوله ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ﴾ ما قال "لنبلونَّكَ"، وقال ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156] ، فقال: "أصابتهم"، "قالوا"، "أولئك"، ما قال "هذا، ذاك"؛ وبالتالي هذا التَّفسير بُني على مذهب فاسد، فحُمل القرآن على غير مدلوله لأجل أن يتوافق مع ذلك المذهب الفاسد، مع أن اللفظ لا يدل عليه البتَّة، وفيه من القرائن والسياقات ما يدل على خلاف ذلك التَّفسير.
قال: (وَمِمَّا يُقَارِبُ هَذَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ مَا يَذْكُرُهُ كَثِيرٌ مِنْ المفسِّرين فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: ﴿الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِين بِالْأَسْحَارِ﴾ [آل عمران: 17]، أَنَّ الصَّابِرِينَ رَسُولُ اللَّهِ، وَالصَّادِقِينَ أَبُو بَكْرٍ، وَالْقَانِتِينَ عُمَرُ، وَالْمُنْفِقِينَ عُثْمَانُ وَالْمُسْتَغْفِرِين عَلِيٌّ)، نقول: إنَّ هذه الصفات لموصوف واحد، وليست صفات لموصوفين متعددين، بدلالة أن كل واحد من هذه الصفات يرغِّب الناس في أن يتَّصفوا بها جميعًا، لا أن يتَّصفوا ببعضها دون بعضها الآخر.
قال: (وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ أَبُو بَكْرٍ)، نقول: قوله ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ﴾ جمع، فكيف تحمله على أبي بكر وحده؟! فهذا لا يصح.
قال: (﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ﴾ عُمَرُ)، أيضًا ﴿أَشِدَّاءُ﴾ جمع.
قال: (﴿رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ﴾ عُثْمَانُ)، كيف يكون رحيمًا من نفسه لنفسه؟! وإنما المراد أنَّ بعضهم يرحم بعضهم الآخر.
قال: (﴿تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدً﴾ [الفتح: 29] عَلِيٌّ)، فـ ﴿تَرَاهُمْ﴾ جمع، لا يصح أن يقتصر تفسيرها على الصحابي الجليل علي بن أبي طالب -رضي الله عنه.
قال: (وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: ﴿وَالتِّينِ﴾ أَبُو بَكْرٍ ﴿وَالزَّيْتُونَ﴾ عُمَرُ ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾ عُثْمَانُ ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ [التين: 1-3] عَلِيٌّ)، فهذا تفسير بغير مُقتضى اللفظ القرآني، وبغير مدلوله، وبالتالي لا يصح أن يُحمَل عليه.
قال: (وَأَمْثَالُ هَذِهِ الْخُرَافَاتِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ:
- تَارَةً تَفْسِيرَ اللَّفْظِ بِمَا لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِحَالِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتي لَا تَدُلُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصِ)
، لما قالوا ﴿وَالتِّينِ﴾ أَبُو بَكْرٍ؛ فما فيه دلالة أبدًا!
والعلماء لهم قولان في تفسير هذا اللفظ:
- منهم مَن يقول: ﴿وَالتِّينِ﴾ يُراد به الشجرة المعروفة.
- ومنهم مَن يقول: المراد بــ ﴿وَالتِّينِ﴾ أرض من الأراضي التي وقعت عليها النبوة، فالتين: أرض الشام. والزيتون: أرض سيناء؛ فالشام بُعث فيها عيسى -عليه السلام- وسينا بُعث فيها موسى -عليه السلام-، ففسروا ﴿والتين والزيتون﴾ أنها كناية عن بلاد الشام لأنَّه ينبت فيها، وقوله: ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾ كناية عن مكان نبوة موسى -عليه السلام- وقوله ﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ﴾ مكان نبوة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فبعضهم حمل اللفظ على ظاهره، وبعضهم حمل اللفظ على معنًى يتعلق بذلك الظاهر، أمَّا أن نحمله على معنى لا تعلُّق له بذلك اللفظ البتَّة فهذا ليس مقبولًا؛ بل يُعدُّ من الخرافات.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الَّتي لَا تَدُلُّ عَلَى هَؤُلَاءِ الْأَشْخَاصِ.
وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدً﴾ كُلُّ ذَلِكَ نَعْتٌ لِلَّذِينَ مَعَهُ وَهِيَ الَّتِي يُسَمِّيهَا النُّحَاةُ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ. والْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّهَا كُلَّهَا صِفَاتٌ لِمَوْصُوفِ وَاحِدٍ وَهُمْ الَّذِينَ مَعَهُ)
، وهذا الموصوف من صفته الجمع وليس الإفراد. لماذا فسَّره الرافضة بهذا التَّفسير؟
لأنَّهم لا يترضَّون عن الصحابة، ولا يرون لهم فضيلة، ويقصرون الصُّحبة في عددٍ قليل يسيرٍ، وبالتالي يحتاجون إلى هذه التأويلات ليكون النَّصُّ غيرَ دالٍّ على بطلان مذهبهم فيما يتعلق بالصحابة، وليس مرادهم بهذا بيان فضيلة هؤلاء، وإنما المراد هو إبطال التَّفسير الآخر الدَّال على مجموع الصَّحابة.
قال: (وَتَتَضَمَّنُ تَارَةً جَعْلَ اللَّفْظِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ مُنْحَصِرًا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ)، يأتينا لفظ عام ظاهره شمول جميع الأفراد، فيفسرونه بشخصٍ واحدٍ، فهذا مخالف لمقتضى اللغة في ذلك اللفظ.
قال: (كَقَوْلِهِ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُو﴾ أُرِيدَ بِهَا عَلِيٌّ وَحْدَهُ)، فـ "الذين" جمع، وقولهم: إنَّ المراد به علي وحده؛ هذا يُخالف ظاهر اللفظ.
قال: (وَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: أَنَّ قَوْلَهُ: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ [الزمر: 33]، أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ)، فكلمة "أولئك" تفيد الجمع، فلما يأتينا شخص ويفسره بشخصٍ واحدٍ لم نقبل منه هذا التَّفسير.
قال: (وَقَوْلِهِ: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾ [الحديد: 10]، أُرِيدَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ وَحْدَهُ)، نقول: هذا جمع، والمراد به المقارنة بين فئةٍ وفئةٍ، فلا يصح أن يُحمَل على فردٍ من الأفراد.
قال: (وتَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ)، تفسير "ابن عطية" مطبوع عنوانه "المُحرَّر الوجيز" وهو من التفاسير التي مدحها الشيخ، فقال: (وتَفْسِيرُ ابْنِ عَطِيَّةَ وَأَمْثَالِهِ أَتْبَعُ لِلسُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَأَسْلَمُ مِنَ الْبِدْعَةِ مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِي)، وإن كان فيه أشياء كثيرة، لكنها درجَت في ثنايا كلامه، يظهر أنَّه لم يتنبَّه لها.
قال الشيخ: (وَلَوْ ذُكِرَ كَلَامُ السَّلَفِ الْمَوْجُودُ فِي التَّفَاسِيرِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُمْ عَلَى وَجْهِهِ لَكَانَ أَحْسَنَ وَأَجْمَلَ)، فابن عطية قد يذكر من أقاويل السلف، لكنه يحمله على غير ظاهره.
قال: (فَإِنَّهُ كثيرًا مَا يَنْقُلُ مِنْ تَفْسِيرِ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطبري)، أي أن ابن عطية يأخذ من تفسير "جامع البيان" للطبري.
قال: (وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ التَّفَاسِيرِ المأثورة وَأَعْظَمِهَا قَدْرً)، فإنَّ الطبري ينقل أقوال السلف واختلافاتهم وأقوالهم.
قال: (ثُمَّ إنَّهُ يَدَعُ مَا نَقَلَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ السَّلَفِ لَا يَحْكِيهِ بِحَالِ)، وكان الأولى به أن يذكر تفسير السلف.
ثم ذكر الشيخ أنَّ ابن عطية لا يذكر أقوال الصحابة والتابعين ثم يأتي بقول ويقول: "قال المحققون كذا..." ويعني بهم طائفة من أهل الكلام، الذين أرادوا أن يجعلوا لهم اصولًا، وأرادوا أن يفسروا القرآن بما يدل على تلك الأصول، فكانوا مخالفين في الدليل وفي المدلول؛ فهؤلاء الذين ذكر ابن عطيَّة أنَّهم أهل التحقيق لهم أصول باطلة، وقد استدلوا على هذه الأصول بآيات قرآنية بتحريفها عن معناها وعن المراد بها من جنس ما قرَّرت به المعتزلة أصولهم.
والمراد بالمتكلَّمة هنا: الأشاعرة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ إلَى السُّنَّةِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ؛ لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُعْطَى كُلُّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ)، فكل مفسر وكل فرقة نعطيها حقها وما لها.
قال: (وَيَعْرِفَ أَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ التَّفسير عَلَى الْمَذْهَبِ)، يعني هذه الطريقة التي شار عليها ابن عطيَّة بناءً على طريقة الأشاعرة من جنس الخطأ السابق، وهو أنَّ الإنسان يُقرر مذهبًا ويسير عليه ويريد أن يفسر آيات القرآن لتكون دالَّةً عليه، وبالتالي يُخطئ في شيئين:
- يُخطئ في حمل مدلول القرآن على مذهبه وهو لا يدل عليه.
- وتأويل اللفظ القرآن بغير المراد منه مما لا يدل على صحَّة مذهبه، لكنه يصرف دلالة القرآن على بطلان مذهبه.
قال: (فَإِنَّ الصَّحابة وَالتَّابِعِينَ وَالْأَئِمَّةَ إذَا كَانَ لَهُمْ فِي تَفْسِير الْآيَةِ قَوْلٌ وَجَاءَ قَوْمٌ فَسَّرُوا الْآيَةَ بِقَوْلِ آخَرَ لِأَجْلِ مَذْهَبٍ اعْتَقَدُوهُ)، وحينئذٍ الواجب علينا أن نأخذ بقول السلف ولا نلتفت إلى قول أصحاب هذه المذاهب المتأخرة الذين لهم مذاهب مُسبقة أرادوا أن يحملوا اللفظ القرآني عليها، واللفظ القرآني لا يدل عليها.
إذًا؛ نُقارن بين تفسير الصحابة وبين تفسير أصحاب هذه العقائد والمذاهب، فإنَّ الصحابة والتابعين والأئمَّة إذا كان لهم في تفسير الآية قول، ثم جاء قومٌ فسَّروا الآية بقولٍ آخر غير قول الصَّحابة من أجل مذهبٍ اعتقدوه، وذلك المذهب ليس من مذاهب الصَّحابة والتَّابعين لهم بإحسان؛ فإنَّهم حينئذٍ سيكونون مخطئين في الدليل بحمل القرآن على غير معناه، وفي المدلول باختيار هذا المذهب الباطل، وبالتالي يكونون مثل المعتزلة في كونهم أخطئوا في الدليل وفي المدلول.
قال الشيخ: (وَفِي الْجُمْلَةِ)، يعني القاعدة الكليَّة: أنَّ (مَنْ عَدَلَ عَنْ مَذَاهِبِ الصَّحابة وَالتَّابِعِينَ وَتَفْسِيرِهِمْ إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ كَانَ مُخْطِئًا فِي ذَلِكَ)، لأنَّنا نعلم أنَّه لابدَّ أن يوجد قائل بالحق في كل زمان، لقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق»، فإذا كان الصحابة لا يقولون إلا بقول في تفسير الآية؛ فحينئذٍ لا يجوز لنا إحداث تفسير جديد يُناقض تفسيرهم، لأن الحق لابد أن يوجد به قائل في جميع أزمان الأمَّة، فإذا كان الصحابة يقولون بقولٍ واحدٍ؛ فهذا يدلُّنا هذا على أنَّ ذلك القول الواحد هو الحق، وإذا كان الصحابة يقولون بقولين في حكم أو في تفسير؛ فحينئذٍ الحق لا يعدو هذين القولين، ولا يُمكن أن يكون فيه شيءٌ ثالث.
إذًا؛ مَن عدلَ عن مذاهب الصَّحابة في التَّفسير فإنَّه يُعدُّ مخطئًا، بل إذا كان هذا منهجًا له فإنَّه يُعدُّ مبتدعًا، فلابدَّ أن يكون من أصول المفسر الاعتماد على إجماع الصحابة وعدم الخروج عن أقوالهم.
وهذا المبتدع في مرات قد يكونُ مجتهدًا مغفورًا له خطؤه وإن كان مخطئًا، لأنَّ من الصواب أن المخطئ في الأصول إذا كان معذورًا لجهلٍ ونحوه فإنَّه لا يُعدُّ آثمًا؛ بل قد يكونُ مأجورًا، لأنَّه لم يبلغه الدليل، والعقوبة والإثم إنَّما تكون بعدَ بلوغ الدليل ووصوله، كما قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولً﴾ [الإسراء: 15].
قال المؤلف: (فَالْمَقْصُودُ بَيَانُ طُرُقِ الْعِلْمِ وَأَدِلَّتِهِ وَطُرُقِ الصَّوَابِ)، وكذلك القدرة على الترجيح بين الأقوال التي فيها اختلاف تضاد، التي أُخِذَت من طريق الاستدلال.
قال: (وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ قَرَأَهُ الصَّحابة وَالتَّابِعُونَ وَتَابِعُوهُمْ وَأَنَّهُمْ كَانُوا أَعْلَمَ بِتَفْسِيرِهِ وَمَعَانِيهِ)، فالصحابة والتابعون قرؤوا القرآن مرات عديدة، وأنَّ الصحابة كانوا أعلم بتفسير القرآن من هؤلاء المتأخرين، وذلك لثلاثة أمور:
أولها: صحبتهم للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فعلموا من سنَّته وسيرته ما هو من مقاصد الشرع، وبالتالي هم ممَّن شاهدَ أسباب التَّنزيل.
ثانيها: أنَّهم أهل اللغة، ومعرفتهم باللغة أعظم من معرفة هؤلاء المتأخرين.
ثالثها: أنَّ ارتباطهم بالقرآن ارتباط وثيق، لأنَّهم يقرؤونه مرات عديدة، ويفسرونه مرَّةً بعدَ مرَّةٍ؛ فيتأمَّلون فيه ما لا يتأمَّل فيه أولئك المبتدعة.
قال: (كَمَا أَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِالْحَقِّ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَمَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ وَفَسَّرَ الْقُرْآنَ بِخِلَافِ تَفْسِيرِهِمْ فَقَدْ أَخْطَأَ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ جَمِيعً)، أي: مَن كان له مذهب يُخالف مذهب الصحابة، أو اعتقاد يُخالف اعتقاد الصحابة، أو له قول يُخالف قول الصحابة، أو فسَّر القرآن بخلاف قول الصحابة وتفسيرهم؛ فحينئذٍ لا يكون على الصواب؛ بل هو مخطئ، أخطأ في الدليل بتفسير القرآن على غير مراد الله، وفي المدلول باختياره مذهبًا مخالفًا لمذهب الصَّحابة -رضوان الله عليهم.
ونحن الآن لا نتكلم عن خطأ أصحاب هذه المذاهب، وإنَّما مرادنا هنا أنَّ نتكلَّم عن التَّفسير، وأن نُبيِّن أن التَّفسير المبني على الاستدلال يقع فيه الخطأ من هاتين الجهتين:
- إمَّا بحمل اللفظ على غير مدلوله بناء على جوازه في اللغة.
- وإمَّا بكون المفسر عنده مذهب سابق؛ فيريد أن يحمل اللفظ القرآني عليه.
قال: (والْمَقْصُودُ هُنَا: التَّنْبِيهُ عَلَى مَثَارِ الِاخْتِلَافِ فِي التَّفسير، وَأَنَّ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِهِ الْبِدَعَ الْبَاطِلَةَ الَّتِي دَعَتْ أَهْلَهَا إلَى أَنْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)، يعني أراد أصحابها أن يحملوا ألفاظ القرآن لتكون دالَّةً على تلك البدع، مما جعلهم يُحرفون الكلم عن مواضعه.
قال: (وَفَسَّرُوا كَلَامَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِغَيْرِ مَا أُرِيدَ بِهِ وَتَأَوَّلُوهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ).
ثم قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَمِنْ أُصُولِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ:
- أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ الْقَوْلَ الَّذِي خَالَفُوهُ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ)
، يعني مرات يأتي واحد ما يعرف إلَّا أقوال المعتزلة، فإذا سمع تفاسيرهم سلَّم بها.
متى يسلم؟
إذا عرف بقيَّة الأقوال، وفي مرات يأتينا مَن لا يعرف إلَّا قول المعتزلة أو قول الأشاعرة ولا يعرف قول أهل السنة، فيقع في حيرة، هذا فيه حق وفيه باطل، وذاك فيه حق وفيه باطل، فمرَّةً ينحاز يمينًا ومرَّة ينحاز شمالًا، لأنَّه لم يعرف مذهب أهل السنَّة في هذه المسائل.
قال: (وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تَفْسِيرَ السَّلَفِ يُخَالِفُ تَفْسِيرَهُمْ)، أي: أصحاب هذه الفِرَق المنحرفة.
قال: (وَأَنْ يَعْرِفَ أَنَّ تَفْسِيرَهُمْ مُحْدَثٌ مُبْتَدَعٌ)، أي: يعرف أن تفسير أصحاب هذه الفرق المنحرفة أمر جديد لم يكن موجودًا في عهد الصحابة؛ بل هو أمر محدَث مبتدَع.
إذًا؛ تكون عنده قاعدة إجماليَّة تشتمل على هذه الأمور:
1- لابد أن يكون عنده معرفة بمذاهب أهل الحق.
2- لابد أن يعرف تفاسير السلف.
3- لابد أن يكون عنده قاعدة كليَّة في أن تفاسير هؤلاء تفاسير محدثة مبتدَعَة يجب تركها واطِّراحها.
وهذا على سبيل الإجمال، ثم في تفاصيل المسائل يُطبِّق هذه القواعد على تفسير تلك الآيات.
قال: (ثُمَّ أَنْ يَعْرِفَ بِالطُّرُقِ الْمُفَصَّلَةِ فَسَادَ تَفْسِيرِهِمْ بِمَا نَصَبَهُ اللَّهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى بَيَانِ الْحَقِّ)، سواء كان بدلالة السياق أو بالقرائن الحاليَّة والمقاليَّة، أو بآياتٍ أخرى؛ فإنَّ القرآنَ مثاني يفسر بعضهم بعضًا، أو بسنَّة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنَّها تفسر القرآن.
وكما وقع الخطأ بسبب هذين الأمرين في تفسير القرآن؛ وقع الخطأ مثله في شرح أحاديث النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال: (وَأَمَّا الَّذِينَ يُخْطِئُونَ فِي الدَّلِيلِ)، يعني عنده مذهب حق ويستدل عليه بآيات من القرآن، لكنها لا تدل على هذه المسألة، وإنَّما لها أدلَّة أخرى، فهذا أخطأ، ولكن خطأه في الدليل فقط وليس في المدلول، فهذا مذهبه صحيحٌ.
مثال: لما يأتي واحد يقول: يتأكَّد فعل الوتر بالليل؛ لأنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- يقول: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]؛ فهنا المدلول صحيح، لكن الدليل حُمل على غير معناه، فالخطأ هنا في الدليل وليس في المدلول.
قال: (وَأَمَّا الَّذِينَ يُخْطِئُونَ فِي الدَّلِيلِ لَا فِي الْمَدْلُولِ؛ فَمِثْلُ كَثِيرٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْوُعَّاظِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ)، يأتي ويحمل آية قرآنية فيها حكم على أنَّها موعظة في بابٍ آخر، واللفظ ما يدل عليها.
قال: (كَثِيرٍ مِنْ الصُّوفِيَّةِ وَالْوُعَّاظِ وَالْفُقَهَاءِ وَغَيْرِهِمْ يُفَسِّرُونَ الْقُرْآنَ بِمَعَانٍ صَحِيحَةٍ؛ لَكِنَّ الْقُرْآنَ لَا يَدُلُّ عَلَيْهَ)، يعني عندهم مذهب وعندهم قول صحيح يفسرون اللفظ القرآن به، ولكن اللفظ القرآني لا يدل عليه.
قال: (مِثْلَ كَثِيرٍ مِمَّا ذَكَرَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلمي فِي حَقَائِقِ التَّفسير)، وهذا الصنف في مرات قد يكون عندهم خطأ في المدلول وخطأ في الدليل، فلما يأتي إنسان ويقول في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: 165] أنَّه دليل على أنَّ العبادة ينبغي أن تكون مبنية على المحبَّة وحدها. فحينئذٍ اشتمل كلامه على مدلول مخالف وغير صحيح، لأنَّ النُّصوص الأخرى قد دلَّتنا على أنَّه ينبغي أن يكونَ هناك خوفٌ، وأن يكون هناك رجاء، وأن يكون هناك تذلُّلٌ وخضوع، وبالتالي لا يصح قولهم، فإنَّ الله أثنى على الخائفين منه، قال تعالى: ﴿وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ﴾ [الرحمن: 46]، وقال: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى﴾ [النازعات: 40، 41]؛ فلما نفوا غير المحبَّة؛ فحينئذٍ نقولك هذا النفي باطل، فحملوا النَّص القرآني على مدلولٍ باطل، فأخطئوا في الدليل والمدلول.
والمقصود: أنَّ هذا الصنف أكثره يُخطئ في الدليل، لكنَّه لا يُخطئ في المدلول، وفي مرات يُخطئ في الدليل وفي المدلول.
قال: (وَإِنْ كَانَ فِيمَا ذَكَرُوهُ مَا هُوَ مَعَانٍ بَاطِلَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْخَطَأُ فِي الدَّلِيلِ وَالْمَدْلُولِ جَمِيعًا حَيْثُ يَكُونُ الْمَعْنَى الَّذِي قَصَدُوهُ فَاسِدً)، فهذا فيه دلالة على أنَّ الإنسان وإن كان منهجه صوابًا لكنَّه قد يُخطئ في بعض التفاصيل، وبالتالي فعلى الإنسان ان يسير على جادَّةٍ واحدة، خصوصًا فيما يتعلق بأمور التَّفسير، وأن يسير فيه على قاعدة واحدة، ولذا نجد أنَّ بعض هؤلاء يضطرب، فمرة يختار قاعدة، ومرة يختار قاعدة أخرى.
فمن قواعد التَّفسير: تفسير اللفظ بمعناه الظاهر، ولا يُصار إلى غيره إلَّا بدليلٍ، فلمَّا يأتينا ويحمل اللفظ على غير مدلوله وعلى غير معناه بدون دليل؛ يكون تفسيره تفسيرًا باطلًا، فلا يجوز صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلا لدليل، وإذا صُرف اللفظ عن معناه الظاهر لمعنى مرجوح لدليل؛ فإنَّه يكون تأويلًا صحيحًا، أمَّا إذا كان الصَّرف لغير دليل فإنَّه يكون تأويلًا باطلًا، وبالتالي يكون من الخطأ في الدليل.
مثال يوضح هذا الحال:
لَما يأتي مَن يقول في قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» ، أنَّ المراد به: أنَّ يونس أخطأ، وبالتالي الناس متساوون لا يتفاضل بعضهم على بعض، ومن ثَمَّ نفى الأفضليَّة لأنَّ الإيمان على درجةٍ واحدةٍ.
فهنا: الدليل والمدلول خطأ، فإنَّ الله -عَزَّ وَجَلَّ- قد بيَّن أن الأنبياء يتفاضلون كما قال تعالى: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ [البقرة: 253]. ومن مقتضى تفاضلهم: أن الإيمان يتفاضل.
أمَّا حديث «لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى» فلأهل العلم فيه تفسيران مشهوران:
الأول: أنَّ هذا خطاب لأفراد الأمَّة بأن لا يفضلوا أنفسهم على يونس بن متَّى؛ لأنَّهم يقولون إنَّ يونس بن متى أخطأ لَمَّا خرج من قومه بدون إذن من الله -جَلَّ وَعَلَا-، وبالتَّالي التقمه الحوت، فيأتي بعض الناس ويقول: إذًا أنا أفضل من يونس بن متى؛ فنهاهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن تفضيل أنفسهم على نبيٍّ من أنبياء الله -عليهم السَّلام.
الثاني: أنَّ قوله: «لَا تُفَضِّلُونِي» يعني النَّبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وذلك أنَّه وإن ثبتَ الفضل له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَّا أنَّه لم يكن يُريد إقامة التَّفاضل على سبيلٍ يُؤدِّي إلى تنقُّص أولئك الذين يفضلهم، ولذا قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى»، لئلَّا يحصل استنقاص لموسى -عليه السلام- ولئلَّا يحدث من المصاولة والمجاولة بين الناس بسبب هذه المفاضلة، ولذلك جاء في القصة لما قال اليهودي: والذي فضَّل موسى على البشر. فقال المسلم: حتى على محمد؟ فضربه، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى مُوسَى»، أي: من أجل أن لا يكون هناك مشاحنة وأن يكون هناك مقابلة بين الناس بعضهم مع بعضهم الآخر.
هذا شيءٌ مما يتعلق بتفسير ألفاظ كلام الشيخ في هذا الفصل ببيان أسباب خطأ الناس في التَّفسير المبني على الاستدلال.
أسألُ الله -جَلَّ وَعَلَا- لي ولكَ ولأخوتي الذي يرتبون هذا اللقاء وللمشاهدين الكرام التَّوفيق لكلِّ خيرٍ، وصلاحًا وسدادًا، كما أسأله -جَلَّ وَعَلَا- علمًا نافعًا وعملًا صالحًا ونيَّةً خالصة، هذا والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك