الدرس الخامس

معالي الشيخ أ.د. سعد بن ناصر الشثري

إحصائية السلسلة

4638 10
الدرس الخامس

مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية

الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أفضل الأنبياء والمرسلين.
أمَّا بعد؛
فأرحبُ بكم في اللقاء الخامس من لقاءاتنا في قراءة "مقدِّمة التَّفسير" لشيخ الإسلام ابن تيمية -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وكان مما أخذناه: أنَّ الاختلاف بين الصَّحابة في تفسير القرآن قليل، وأن غالب ذلك الاختلاف هو من اختلاف التَّنوع الذي قد يكون من إطلاق الأسماء المتكافئة التي تَصدق على مسمًّى واحد، وإن كان في كلٍّ منها دلالة على معنى زائد، أو كان من تفسير اللفظ القرآني ببعض أنواعه، أو ببعض مسمياته، وبالتَّالي كل واحد من الصَّحابة قد فسَّر اللفظ القرآني ببعض أنواعه، فلا يكون هناك اختلاف، وقد يكون هناك اختلاف يسير في بعض المواطن، ولكنه ليس هو الغالب، وكذلك إنما يكون في المسائل نادرة الوقوع، وبالتَّالي تقل الحاجة إليها.
وقد يكون هذا الاختلاف الذي هو من اختلاف التَّضاد؛ لأن أحد أصحاب القولين قد خفي عليه الدَّليل، أو نسِيَه وذَهَل عنه، وقد يكون لكونه لم يسمع ذلك الدَّليل، وقد يكون هناك غلط في فهم النَّص، ففهم اللفظ بغير مدلوله، وقد يكون لاعتقاد وجود معارض راجح؛ وبالتَّالي يحصل هذا الاختلاف، ويكون من اختلاف التَّضاد.
من أمثلة ذلك: في تفسير قوله -جل وعلا: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾ [الأنفال:60]، فإن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسَّر القوة بالرمي، فعندما يأتي بعض الصَّحابة فيفسره بتفاسير أخرى يكون قد خفي عليه هذا الدَّليل.
ومثل هذا: ما ورد في النص بوضع نفقة وسُكنى للمطلَّقة، فإنه قد جاء في الحديث أن المراد به المطلقة الرَّجعية، وليس المراد به المطلقة البائن وذلك في قوله: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ [الطلاق: 6]، فهذه الآية يراد بها المطلقة الرجعية، بدلالة حديث فاطمة بنت قيس أنَّ زوجها طلَّقها فبتَّ طلاقها، فحكمَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّ لا سُكنَى لها ولا نفقة؛ فخفي هذا الحديث على بعض الصَّحابة، وبالتَّالي فسَّروا الآية بأن المراد بها المطلَّقة البائن كالمطلَّقة الرجعيَّة، وكان هذا لخفاء الدَّليل عنهم.
وفي مرات قد يكون هناك غلط في فهم النص، كما في تفسير بعض مَن لم يفهم النص القرآني من الصحابة في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْ﴾ [المائدة: 90- 93]، فظنَّ بعضهم أنَّه يجوز تناول الخمر إذا كان الإنسان متَّقيًا لقوله: ﴿لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْ﴾ بعد آيات الخمر، فبيَّن له الصحابة أنَّه لو كان مُتَّقيًا لَمَا تناول الخمر، فكان ذلك التفسير تفسيرًا ناشئًا مِن فَهمٍ خاطئٍ للنَّص.
وهكذا في مرات قد يُفسَّر النَّص لعدم الاطِّلاع على المخصِّص له، يعني مثلًا في قوله -جَلَّ وَعَلَا: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرً﴾ [البقرة: 234]، والمراد من الآية المتوفى عنها زوجها أن عليها العدَّة والإحداد هذه المدَّة، وقد نزل في الآية الأخرى: ﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ [الطلاق: 4].
فقال بعض الصَّحابة: إنَّ المتوفى عنها زوجها الحامل تعتدُّ بأطول الأجلين، ولم يلتفتوا إلى تفسير النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأنَّه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حكمَ على سبيعة الأسلميَّة أنَّ وقتها عدتها ينتهي بوضعها للحمل، حيث وضعت بعد وفاة زوجها بأيامٍ قلائل، فأحلَّ لها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تتزيَّن، وأن لا تلتزم بحكم الإحداد بعد ذلك.
لعلنا أن نواصل في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، ونستمع للشيخ محمد في ذلك.
{الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم اغفر لشيخنا وللسامعين.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- شيخ الإسلام ابن تيمية: (فَصْلٌ فِي نَوْعَيْ الاخْتِلاَفِ فِي التَّفسير الْمُسْتَنَدِ إِلَى النَّقْلِ وَإِلَى طُرُقِ الاسْتِدْلاَلِ.
الِاخْتِلَافُ فِي التَّفسير عَلَى نَوْعَيْنِ: مِنْهُ مَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ فَقَطْ. وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ.
إذْ الْعِلْمُ: إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ. وَإِمَّا اسْتِدْلَالٌ مُحَقَّقٌ.
وَالْمَنْقُولُ: إمَّا عَنْ الْمَعْصُومِ. وَإِمَّا عَنْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: الخِلاَفُ الوَاقِعُ فِي التَّفسير مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ وَالْمَقْصُودُ بِأَنَّ جِنْسَ الْمَنْقُولِ - سَوَاءٌ كَانَ عَن الْمَعْصُومِ أَوْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ وَهَذَا هُوَ النَّوْعُ الْأَوَّلُ - فَمِنْهُ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ وَالضَّعِيفِ.
وَمِنْهُ مَا لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِيهِ، وَهَذَا الْقِسْمُ الثَّانِي مِن الْمَنْقُولِ، وَهُوَ مَا لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى الْجَزْمِ بِالصِّدْقِ مِنْهُ؛ عَامَّتُهُ مِمَّا لَا فَائِدَةَ فِيهِ وَالْكَلَامُ فِيهِ مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ.
وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ فِيهِ دَلِيلًا. فَمِثَالُ مَا لَا يُفِيدُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْهُ: اخْتِلَافُهُمْ فِي لَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ. وَفِي الْبَعْضِ الَّذِي ضُرِبَ بِهِ قَتِيلُ مُوسَى مِنَ الْبَقَرَةِ. وَفِي مِقْدَارِ سَفِينَةِ نُوحٍ وَمَا كَانَ خَشَبُهَا. وَفِي اسْمِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ. وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَهَذِهِ الْأُمُورُ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهَا النَّقْلُ فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا مَنْقُولًا نَقْلًا صَحِيحًا عَنْ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَاسْمِ صَاحِبِ مُوسَى أَنَّهُ الْخِضْرُ فَهَذَا مَعْلُومٌ.
وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ مِمَّا يُؤْخَذُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، كَالْمَنْقُولِ عَنْ كَعْبٍ وَوَهْبٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَأْخُذُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ تَصْدِيقُهُ وَلَا تَكْذِيبُهُ إلَّا بِحُجَّةِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقِّ فَتُكَذِّبُوهُ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلِ فَتُصَدِّقُوهُ».
وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَمَتَى اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ.
وَمَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحابة نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ؛ لِأَنَّ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ مِنْهُ أَقْوَى. وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحابة عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مِنْ نَقْلِ التَّابِعِينَ. وَمَعَ جَزْمِ الصَّاحِبِ فِيمَا يَقُولُهُ، فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّهُ أَخَذَهُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَقَدْ نُهُوا عَنْ تَصْدِيقِهِمْ؟
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ صَحِيحُهُ وَلَا تُفِيدُ حِكَايَةُ الْأَقْوَالِ فِيهِ هُوَ كَالْمَعْرِفَةِ لِمَا يُرْوَى مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ وَأَمْثَالِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الصَّحِيحِ مِنْهُ فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، فَكثيرًا مَا يُوجَدُ فِي التَّفسير وَالْحَدِيثِ وَالْمَغَازِي أُمُورٌ مَنْقُولَةٌ عَنْ نَبِيِّنَا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ، وَالنَّقْلُ الصَّحِيحُ يَدْفَعُ ذَلِكَ؛ بَلْ هَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ وَفِيمَا قَدْ يُعْرَفُ بِأُمُورِ أُخْرَى غَيْرِ النَّقْلِ.
فَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْمَنْقُولَاتِ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الدِّينِ قَدْ نَصَبَ اللَّهُ الْأَدِلَّةَ عَلَى بَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ صَحِيحٍ وَغَيْرِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَنْقُولَ فِي التَّفسير أَكْثَرُهُ كَالْمَنْقُولِ فِي الْمَغَازِي وَالْمَلَاحِمِ؛ وَلِهَذَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَد: "ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ: التَّفسير وَالْمَلَاحِمُ وَالْمَغَازِي". وَيُرْوَى "لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ" أَيْ إسْنَادٌ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ مِثْلُ مَا يَذْكُرُهُ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالشَّعْبِيُّ وَالزُّهْرِيُّ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَابْنُ إسْحَاقَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الْأُمَوِيِّ وَالْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ والواقدي وَنَحْوِهِمْ فِي الْمَغَازِي.
فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْمَغَازِي أَهْلُ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَهْلُ الشَّامِ، ثُمَّ أَهْلُ الْعِرَاقِ.
فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْلَمُ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ. وَأَهْلُ الشَّامِ كَانُوا أَهْلَ غَزْوٍ وَجِهَادٍ فَكَانَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِالْجِهَادِ وَالسِّيَرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا عَظَّمَ النَّاسُ كِتَابَ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري الَّذِي صَنَّفَهُ فِي ذَلِكَ وَجَعَلُوا الأوزاعي أَعْلَمَ بِهَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ.
وَأَمَّا التَّفسير فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمُجَاهِدِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَطَاوُوسِ وَأَبِي الشَّعْثَاءِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَمْثَالِهِمْ.
وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْكُوفَةِ مِنْ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَمَيَّزُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ.
وَعُلَمَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي التَّفسير مِثْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ الَّذِي أَخَذَ عَنْهُ مَالِكٌ التَّفسير وَأَخَذَهُ عَنْهُ أَيْضًا ابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَأَخَذَهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ.
والْمَرَاسِيلُ إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهَا وَخَلَتْ عَنْ الْمُوَاطَأَةِ قَصْدًا أَوْ الِاتِّفَاقِ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَانَتْ صَحِيحَةً قَطْعًا.
فَإِنَّ النَّقْلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِدْقًا مُطَابِقًا لِلْخَبَرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ أَوْ أَخْطَأَ فِيهِ؛ فَمَتَى سَلِمَ مِنْ الْكَذِبِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ كَانَ صِدْقًا بِلَا رَيْبٍ.
فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ جَاءَ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ جِهَاتٍ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَى اخْتِلَاقِهِ وَعُلِمَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فِيهِ اتِّفَاقًا بِلَا قَصْدٍ عُلِمَ أَنَّهُ صَحِيحٌ.
مِثْلُ شَخْصٍ يُحَدِّثُ عَنْ وَاقِعَةٍ جَرَتْ وَيَذْكُرُ تَفَاصِيلَ مَا فِيهَا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَيَأْتِي شَخْصٌ آخَرُ قَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُوَاطِئْ الْأَوَّلَ فَيَذْكُرُ مِثْلَ مَا ذَكَرَهُ الْأَوَّلُ مِنْ تَفَاصِيلِ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. فَيُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ تِلْكَ الْوَاقِعَةَ حَقٌّ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا كَذَّبَهَا عَمْدًا أَوْ خَطَأً لَمْ يَتَّفِقْ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَأْتِيَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِتِلْكَ التَّفَاصِيلِ الَّتِي تَمْنَعُ الْعَادَةُ اتِّفَاقَ الِاثْنَيْنِ عَلَيْهَا بِلَا مُوَاطَأَةٍ مِنْ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يَنْظِمَ بَيْتًا وَيَنْظِمَ الْآخَرُ مِثْلَهُ أَوْ يَكْذِبَ كِذْبَةً وَيَكْذِبَ الْآخَرُ مِثْلَهَا. أَمَّا إذَا أَنْشَأَ قَصِيدَةً طَوِيلَةً ذَاتَ فُنُونٍ عَلَى قَافِيَةٍ وَرَوِيٍّ، فَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِأَنَّ غَيْرَهُ يُنْشِئُ مِثْلَهَا لَفْظًا وَمَعْنًى مَعَ الطُّولِ الْمُفْرِطِ؛ بَلْ يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْهُ وَكَذَلِكَ إذَا حَدَّثَ حَدِيثًا طَوِيلًا فِيهِ فُنُونٌ، وَحَدَّثَ آخَرُ بِمِثْلِهِ فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاطَأَهُ عَلَيْهِ أَوْ أَخَذَهُ مِنْهُ أَوْ يَكُونَ الْحَدِيثُ صِدْقًا.
وَبِهَذِهِ الطَّرِيقِ يُعْلَمُ صِدْقُ عَامَّةِ مَا تَتَعَدَّدُ جِهَاتُهُ الْمُخْتَلِفَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهَا كَافِيًا إمَّا لِإِرْسَالِهِ وَإِمَّا لِضَعْفِ نَاقِلِهِ.
لَكِنْ مِثْلُ هَذَا لَا تُضْبَطُ بِهِ الْأَلْفَاظُ وَالدَّقَائِقُ الَّتِي لَا تُعْلَمُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ فَلَا يَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى طَرِيقٍ يَثْبُتُ بِهَا مِثْلُ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ وَالدَّقَائِقِ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَتْ بِالتَّوَاتُرِ غَزْوَةُ بَدْرٍ بِالتَّوَاتَر وَأَنَّهَا قَبْلَ أُحُدٍ بَلْ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ حَمْزَةَ وَعَلِيًّا وَعُبَيْدَةَ بَرَزُوا إلَى عُتْبة وَشَيْبَةَ وَالْوَلِيدِ، وَأَنَّ عَلِيًّا قَتَلَ الْوَلِيدَ وَأَنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ قَرْنَهُ ثُمَّ يُشَكُّ فِي قَرْنِهِ هَلْ هُوَ عتبة أَوْ شَيْبَةُ؟
وَهَذَا الْأَصْلُ يَنْبَغِي أَنْ يُعْرَفَ فَإِنَّهُ أَصْلٌ نَافِعٌ فِي الْجَزْمِ بِكَثِيرِ مِنَ الْمَنْقُولَاتِ فِي الْحَدِيثِ وَالتَّفسير وَالْمَغَازِي وَمَا يُنْقَلُ مِنْ أَقْوَالِ النَّاسِ وَأَفْعَالِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَلِهَذَا إذَا رُوِيَ الْحَدِيثُ الَّذِي يَتَأَتَّى فِيهِ ذَلِكَ عَنْ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ وَجْهَيْنِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا لَمْ يَأْخُذْهُ عَنْ الْآخَرِ جُزِمَ بِأَنَّهُ حَقٌّ، لَا سِيَّمَا إذَا عُلِمَ أَنَّ نَقَلَتَهُ لَيْسُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى أَحَدِهِمْ النِّسْيَانُ وَالْغَلَطُ.
فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ الصَّحابة كَابْنِ مَسْعُودٍ وأبيّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِمْ عَلِمَ يَقِينًا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ كَمَا يَعْلَمُ الرَّجُلُ مِنْ حَالِ مَنْ جَرَّبَهُ وَخَبَرَهُ خِبْرَةً بَاطِنَةً طَوِيلَةً أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ يَسْرِقُ أَمْوَالَ النَّاسِ وَيَقْطَعُ الطَّرِيقَ وَيَشْهَدُ الزُّورَ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ التَّابِعُونَ بِالْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ فَإِنَّ مَنْ عَرَفَ مِثْلَ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ وَالْأَعْرَجِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَأَمْثَالِهِمْ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِي الْحَدِيثِ فَضْلًا عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُمْ مِثْلِ مُحَمَّدِ بْنِ سيرين أَوْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَوْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَوْ عُبَيْدَةَ السلماني أَوْ عَلْقَمَةَ أَوْ الْأَسْوَدِ أَوْ نَحْوِهِمْ.
وَإِنَّمَا يُخَافُ عَلَى الْوَاحِدِ مِنْ الْغَلَطِ؛ فَإِنَّ الْغَلَطَ وَالنِّسْيَانَ كثيرًا مَا يَعْرِضُ لِلْإِنْسَانِ وَمِنْ الْحُفَّاظِ مَنْ قَدْ عَرَفَ النَّاسُ بُعْدَهُ عَنْ ذَلِكَ جِدًّا كَمَا عَرَفُوا حَالَ الشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَعُرْوَةَ وقتادة وَالثَّوْرِيِّ وَأَمْثَالِهِمْ لَا سِيَّمَا الزُّهْرِيُّ فِي زَمَانِهِ وَالثَّوْرِيُّ فِي زَمَانِهِ فَإِنَّهُ قَدْ يَقُولُ الْقَائِلُ: إنَّ ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ لَا يُعْرَفُ لَهُ غَلَطٌ مَعَ كَثْرَةِ حَدِيثِهِ وَسَعَةِ حِفْظِهِ.
والْمَقْصُودُ أَنَّ الْحَدِيثَ الطَّوِيلَ إذَا رُوِيَ مَثَلًا مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ امْتَنَعَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ غَلَطًا كَمَا امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ كَذِبًا؛ فَإِنَّ الْغَلَطَ لَا يَكُونُ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَإِنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِهَا فَإِذَا رَوَى هَذَا قِصَّةً طَوِيلَةً مُتَنَوِّعَةً وَرَوَاهَا الْآخَرُ مِثْلَمَا رَوَاهَا الْأَوَّلُ مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ امْتَنَعَ الْغَلَطُ فِي جَمِيعِهَا كَمَا امْتَنَعَ الْكَذِبُ فِي جَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ مُوَاطَأَةٍ.
وَلِهَذَا إنَّمَا يَقَعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي بَعْضِ مَا جَرَى فِي الْقِصَّةِ مِثْلِ حَدِيثِ اشْتِرَاءِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْبَعِيرَ مِنْ جَابِرٍ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَهُ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ.
وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فَإِنَّ جُمْهُورَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِمَّا يُقْطَعُ بِأَنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَهُ؛ لِأَنَّ غَالِبَهُ مِنْ هَذَا النَّحْوِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ؛ فَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ كَذِبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ وَالْأُمَّةُ مُصَدِّقَةٌ لَهُ قَابِلَةٌ لَهُ لَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَصْدِيقِ مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ.
وَلِهَذَا إنَّمَا يَقَعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ غَلَطٌ فِي بَعْضِ مَا جَرَى فِي الْقِصَّةِ مِثْلِ حَدِيثِ اشْتِرَاءِ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْبَعِيرَ مِنْ جَابِرٍ؛ فَإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ طُرُقَهُ عَلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ.
وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، فَإِنَّ جُمْهُورَ مَا فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِمَّا يُقْطَعُ بِأَنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَهُ؛ لِأَنَّ غَالِبَهُ مِنْ هَذَا النَّحْوِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ تَلَقَّاهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْقَبُولِ وَالتَّصْدِيقِ وَالْأُمَّةُ لَا تَجْتَمِعُ عَلَى خَطَأٍ؛ فَلَوْ كَانَ الْحَدِيثُ كَذِبًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ وَالْأُمَّةُ مُصَدِّقَةٌ لَهُ قَابِلَةٌ لَهُ لَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى تَصْدِيقِ مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَذِبٌ، وَهَذَا إجْمَاعٌ عَلَى الخطأ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَإِنْ كُنَّا نَحْنُ بِدُونِ الْإِجْمَاعِ نُجَوِّزُ الْخَطَأَ أَوْ الْكَذِبَ عَلَى الْخَبَرِ فَهُوَ كَتَجْوِيزِنَا قَبْلَ أَنْ نَعْلَمَ الْإِجْمَاعَ عَلَى الْعِلْمِ الَّذِي ثَبَتَ بِظَاهِرٍ أَوْ قِيَاسٍ ظَنِّيٍّ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ فِي الْبَاطِنِ؛ بِخِلَافِ مَا اعْتَقَدْنَاهُ، فَإِذَا أَجْمَعُوا عَلَى الْحُكْمِ جَزَمْنَا بِأَنَّ الْحُكْمَ ثَابِتٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا.
وَلِهَذَا كَانَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا تَلَقَّتْهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ تَصْدِيقًا لَهُ أَوْ عَمَلًا بِهِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ.
وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُونَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد إلَّا فِرْقَةً قَلِيلَةً مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ اتَّبَعُوا فِي ذَلِكَ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ؛ وَلَكِنَّ كثيرًا مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ أَوْ أَكْثَرِهِمْ يُوَافِقُونَ الْفُقَهَاءَ وَأَهْلَ الْحَدِيثِ وَالسَّلَفَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَشْعَرِيَّةِ كَأَبِي إسْحَاقَ وَابْنِ فُورَك.
وَأَمَّا ابْنُ الباقلاني فَهُوَ الَّذِي أَنْكَرَ ذَلِكَ وَتَبِعَهُ مِثْلُ أَبِي الْمَعَالِي وَأَبِي حَامِدٍ وَابْنِ عَقِيلٍ وَابْنِ الْجَوْزِيِّ وَابْنِ الْخَطِيبِ والآمدي وَنَحْوِ هَؤُلَاءِ.
وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو الطَّيِّبِ وَأَبُو إسْحَاقَ وَأَمْثَالُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ شَمْسُ الدِّينِ السَّرَخْسِيُّ وَأَمْثَالُهُ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ. وَهُوَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو يَعْلَى وَأَبُو الْخَطَّابِ وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ الزاغوني وَأَمْثَالُهُمْ مِنْ الْحَنْبَلِيَّةِ.
وَإِذَا كَانَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَصْدِيقِ الْخَبَرِ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ بِهِ فَالِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، كَمَا أَنَّ الِاعْتِبَارَ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى الْأَحْكَامِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِبَاحَةِ.
والْمَقْصُودُ هُنَا: أَنَّ تَعَدُّدَ الطُّرُقِ مَعَ عَدَمِ التَّشَاعُرِ أَوْ الِاتِّفَاقِ فِي الْعَادَةِ يُوجِبُ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِ الْمَنْقُولِ؛ لَكِنَّ هَذَا يُنْتَفَعُ بِهِ كثيرًا فِي عِلْمِ أَحْوَالِ النَّاقِلِينَ.
وَفِي مِثْلِ هَذَا يُنْتَفَعُ بِرِوَايَةِ الْمَجْهُولِ وَالسَّيِّئِ الْحِفْظِ وَبِالْحَدِيثِ الْمُرْسَلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ يَكْتُبُونَ مِثْلَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَيَقُولُونَ: إنَّهُ يَصْلُحُ لِلشَّوَاهِدِ وَالِاعْتِبَارِ مَا لَا يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ.
قَالَ أَحْمَد: قَدْ أَكْتُبُ حَدِيثَ الرَّجُلِ لِأَعْتَبِرَهُ. وَمَثَّلَ هَذَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ.
وَمَثَّلَ هَذَا بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ لَهِيعَةَ قَاضِي مِصْرَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ أَكْثَرِ النَّاسِ حَدِيثًا وَمِنْ خِيَارِ النَّاسِ؛ لَكِنْ بِسَبَبِ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ وَقَعَ فِي حَدِيثِهِ الْمُتَأَخِّرِ غَلَطٌ فَصَارَ يَعْتَبِرُ بِذَلِكَ وَيَسْتَشْهِدُ بِهِ وَكثيرًا مَا يَقْتَرِنُ هُوَ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَاللَّيْثُ حُجَّةٌ ثَبَتٌ إمَامٌ.
وَكَمَا أَنَّهُمْ يَسْتَشْهِدُونَ وَيَعْتَبِرُونَ بِحَدِيثِ الَّذِي فِيهِ سُوءُ حِفْظٍ، فَإِنَّهُمْ أَيْضًا يُضَعِّفُون مِنْ حَدِيثِ الثِّقَةِ الصَّدُوقِ الضَّابِطِ أَشْيَاءَ تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ غَلِطَ فِيهَا بِأُمُورِ يَسْتَدِلُّونَ بِهَا وَيُسَمُّونَ هَذَا عِلْمَ عِلَلِ الْحَدِيثِ؛ وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ عُلُومِهِمْ بِحَيْثُ يَكُونُ الْحَدِيثُ قَدْ رَوَاهُ ثِقَةٌ ضَابِطٌ وَغَلِطَ فِيهِ وَغَلَطُهُ فِيهِ عُرِفَ.
إمَّا بِسَبَبٍ ظَاهِرٍ كَمَا عَرَفُوا أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلَالٌ.
وَكَذَلِكَ أَنَّهُ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ عُمَرٍ، وَعَلِمُوا أَنَّ قَوْلَ ابْنِ عُمَرَ: إنَّهُ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ، مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ.
وَعَلِمُوا أَنَّهُ تَمَتَّعَ وَهُوَ آمِنٌ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَنَّ قَوْلَ عُثْمَانَ لِعَلِيّ: كُنَّا يَوْمَئِذٍ خَائِفِينَ. مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ.
وَأَنَّ مَا وَقَعَ فِي بَعْضِ طُرُقِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ النَّارَ لَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ لَهَا خَلْقًا آخَرَ. مِمَّا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ. وَهَذَا كَثِيرٌ.
وَالنَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ طَرَفَانِ:
طَرَفٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ هُوَ بَعِيدٌ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَأَهْلِهِ، لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالضَّعِيفِ فَيَشُكُّ فِي صِحَّةِ أَحَادِيثَ أَوْ فِي الْقَطْعِ بِهَا مَعَ كَوْنِهَا مَعْلُومَةً مَقْطُوعًا بِهَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ.
وَطَرَفٌ مِمَّنْ يَدَّعِي اتِّبَاعَ الْحَدِيثِ وَالْعَمَلِ بِهِ، كُلَّمَا وَجَدَ لَفْظًا فِي حَدِيثٍ قَدْ رَوَاهُ ثِقَةٌ أَوْ رَأَى حَدِيثًا بِإِسْنَادِ ظَاهِرُهُ الصِّحَّةُ يُرِيدُ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا جَزَمَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِصِحَّتِهِ حَتَّى إذَا عَارَضَ الصَّحِيحَ الْمَعْرُوفَ أَخَذَ يَتَكَلَّفُ لَهُ التَّأْوِيلَاتِ الْبَارِدَةَ أَوْ يَجْعَلُهُ دَلِيلًا لَهُ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ مَعَ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ يَعْرِفُونَ أَنَّ مِثْلَ هَذَا غَلَطٌ.
وَكَمَا أَنَّ عَلَى الْحَدِيثِ أَدِلَّةً يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ صِدْقٌ وَقَدْ يُقْطَعُ بِذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَدِلَّةٌ يُعْلَمُ بِهَا أَنَّهُ كَذِبٌ وَيُقْطَعُ بِذَلِكَ؛ مِثْلُ مَا يُقْطَعُ بِكَذِبِ مَا يَرْوِيهِ الْوَضَّاعُونَ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْغُلُوِّ فِي الْفَضَائِلِ، مِثْلِ حَدِيثِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَأَمْثَالِهِ مِمَّا فِيهِ أَنَّه مَنْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ لَهُ كَأَجْرِ كَذَا وَكَذَا نَبِيًّا.
وَفِي التَّفسير مِنْ هَذِهِ الْمَوْضُوعَاتِ قِطْعَةٌ كَبِيرَةٌ مِثْلُ الْحَدِيثِ الَّذِي يَرْوِيهِ الثَّعْلَبِيُّ وَالْوَاحِدِيُّ والزَّمَخْشَرِي فِي فَضَائِلِ سُوَرِ الْقُرْآنِ سُورَةً سُورَةً فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
والثَّعْلَبِيُّ هُوَ فِي نَفْسِهِ كَانَ فِيهِ خَيْرٌ وَدِينٌ وَكَانَ حَاطِبَ لَيْلٍ يَنْقُلُ مَا وُجِدَ فِي كُتُبِ التَّفسير مِنْ صَحِيحٍ وَضَعِيفٍ وَمَوْضُوعٍ.
والْوَاحِدِيُّ صَاحِبُهُ كَانَ أَبْصَرَ مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ؛ لَكِنْ هُوَ أَبْعَدُ عَنْ السَّلامةِ وَاتِّبَاعِ السَّلَفِ.
والبغوي تَفْسِيرُهُ مُخْتَصَرٌ مِنْ الثَّعْلَبِيِّ لَكِنَّهُ صَانَ تَفْسِيرَهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الْمَوْضُوعَةِ وَالْآرَاءِ الْمُبْتَدَعَةِ.
وَالْمَوْضُوعَاتُ فِي كُتُبِ التَّفسير كَثِيرَةٌ مِثْلُ الْأَحَادِيثِ الْكَثِيرَةِ الصَّرِيحَةِ فِي الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ.
وَحَدِيثِ عَلِيٍّ الطَّوِيلِ فِي تَصَدُّقِهِ بِخَاتَمِهِ فِي الصَّلاة فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَمِثْلُ مَا رُوِيَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾ [الرعد: 7]، أَنَّهُ عَلِيٌّ ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ [الحاقة: 12]، أُذُنُك يَا عَلِيٌّ)
}.
بعدَ أن مهَّد المؤلفُ لذكرِ أنواعِ الاختلافِ بين الصَّحابة -رضوان الله عليهم- وقسَّم ذلك الاختلاف إلى:
- اختلاف تنوُّعٍ: وهو الغالب، وهو الذي يقع في المسائل التي يحتاج الناس إليها.
- اختلاف التَّضاد، وبيَّن أنه قد يكونُ له أسباب.
انتقلَ إلى ذكر تطبيقات على ما سبق على أنواع التفسير؛ فإنَّ التفسير على نوعين:
* تفسير منقول عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
* تفسير حصل بالاجتهاد.
ولذا قال: (الِاخْتِلَافُ فِي التَّفسير عَلَى نَوْعَيْنِ: مِنْهُ مَا مُسْتَنَدُهُ النَّقْلُ فَقَطْ)، يعني بدليل من حديث النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو من آية أخرى. قال: (وَمِنْهُ مَا يُعْلَمُ بِغَيْرِ ذَلِكَ).
ولذا قسَّم العلم إلى قسمين:
الأول: (إمَّا نَقْلٌ مُصَدَّقٌ)، يعني ورد في الكتاب أو في السنة.
الثاني: قال: (وَإِمَّا اسْتِدْلَالٌ مُحَقَّقٌ)، يعني: الثابت بالاستدلال المحقَّق.
وبالتالي ننظر إلى هذا المنقول عن مَن نُقل:
- فمرَّة يُنقَل عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالتالي ننظر في إسناده.
- ومرَّة يكون منقولًا عن الصحابة.
- ومرَّة يكون منقولًا عن التابعين ممَّن ليس قولهم حجَّة شرعيَّة.
قال: (وَالْمَنْقُولُ: إمَّا عَنْ الْمَعْصُومِ)، كالمنقول عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قوله: (وَإِمَّا عَنْ غَيْرِ الْمَعْصُومِ)، كأقوال التابعين في التفسير.
والنَّوع الأوَّل -وهو المنقول عن معصوم- منه ما يُمكن معرفة الصَّحيح منه، فنتمكَّن من مقارنة الأقوال والنَّظر في أدلتها من معرفة الراجح من المرجوح، ومنها ما لا يُمكن أن نعرف فيه الأرجح وما هو الصَّحيح.
وهذا الذي لا يُمكن معرفة الصَّحيح منه من الضعيف في الغالب لا فائدة لنا فيه، ولا ثمرة من معرفته؛ بل هو من فضول الكلام.
قال: (وَأَمَّا مَا يَحْتَاجُ الْمُسْلِمُونَ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَبَ عَلَى الْحَقِّ فِيهِ دَلِيلً)، يعني: يُبيِّنه ويُقيم الدليل عليه.
ثم ضرب أمثلة لأشياء منقولة لا يُمكن معرفة الصحيح من الضعيف فيها لكوننا لا نحتاج أصلًا إلى التَّرجيح فيها:
المثال الأول: (اخْتِلَافُهُمْ فِي لَوْنِ كَلْبِ أَصْحَابِ الْكَهْفِ)، هل هو أبيض أو أسود أو غير ذلك من الألوان؛ فنقول: لا فائدة لنا من هذه المسألة، ولا نستفيد شيئًا من معرفة الرَّاجح من المرجوح، وبالتالي لَمَّا كنَّا غير محتاجين إليه لم ينص ربُّ العزَّة والجلال على هذا الأمر.
المثال الثاني: ما ورد في قصَّة موسى من قوله: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَ﴾ [البقرة: 73]، فهذا رجل قتله قريبه ليرثه، ثم جاء القريب إلى نبي الله موسى فقال: أقم القصاص على قاتل عمِّي؛ فبحثوا عن القاتل لم يتمكنوا به، فجعل الله لهم آية، وهي تلك البقرة التي اشتروها بالأثمان الغالية، فقال نبيهم لهم: اضربوا هذا القتيل ببعضها. ما هو بعضها؟ بعضهم يقول: يد. وبعضهم يقول: رجل. وبعضهم يقول: رأس. وبعضهم يقول: صدر!
نقول: لا يوجد نقل نعرف فيه الصحيح من الضعيف، وبالتالي لا ندخل في الترجيح، ويدلُّك على ذلك أنَّنا لا نستفيد شيئًا من معرفة لون الكلب، فهذه التفاصيل التي لا يُحتاجُ إليها لم يكن الرواة يهتمُّون بها، ولم ينقلوها، وهذا جعل بعض الناس يمنع من ثميل الصحابة وتمثيل الأنبياء، لأنَّ هناك أشياء في حياتهم غير مذكورة وغير منقولة، وبالتالي فعندما نثبت فيها شيء لا تستطيع عند التمثيل أن تغفلها، فلابدَّ أن تثبت لها شيئًا، فإذا أثبتَّ شيئًا كنتَ قد قلتَ على الله بلا علمٍ، وتكلَّمتَ في هذا بغير دليلٍ.
مثلًا: لَما يأتي الإنسان ويُريد أن يُمثِّل لِنَجَاةِ نوح، فيضع السفينة، وعندما تتكلم وتقول: سفينة نوح؛ لا تحتاج إلى ذكر طولها وعرضها، لكن في التمثيل تحتاج إلى ذكر ذلك.
إذًا؛ لَما تأتينا أقوال من بعض الناس في طولها وفي عرضها متفاوتة مختلفة؛ فحينئذٍ لا نحتاج إلى التَّرجيح بينها؛ لأنَّنا لا نستفيد من ذلك شيئًا، وبالتَّالي فعند حكايتها لا نحتاج إلى ذكر هذه التفاصيل، بخلاف التَّمثيل لها فأنت ملزمٌ بذكرِ تفاصيلها.
سفينة نوح قد صُنعت من الخشب أو من الحديد؟
الجواب: الله أعلم، يُمكن أن تكون من الخشب.
ما نوع الخشب الذي صُنعت منه سفينة نوح؟
الجواب: لا نعلم، ولم يُنص عليه.
قال: (وَفِي اسْمِ الْغُلَامِ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ. وَنَحْوُ ذَلِكَ؛ فَهَذِهِ الْأُمُورُ طَرِيقُ الْعِلْمِ بِهَا النَّقْلُ)، فلا يُمكن أن نعلمها إلَّا من خلال النقل.
قال: (فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا مَنْقُولًا نَقْلًا صَحِيحًا عَنْ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، فإنَّنا نقبله ونرضى به.
قال: (كَاسْمِ صَاحِبِ مُوسَى أَنَّهُ الْخِضْرُ فَهَذَا مَعْلُومٌ)، لم يرد في القرآن، لكن ورد في السنَّة الصحيحة -صحيح البخاري- فهذا علمناه.
قال: (وَمَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ مِمَّا يُؤْخَذُ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)، فهذا لا نصدقه ولا نكذبه، ولا نجزم فيه بشيء، ولذلك كثير من النقول التي ينقلها كعب الأحبار ووهب بن المنبِّه، ومحمد بن إسحاق في التفسير، وغيرهم ممَّن يأخذ عن أهل الكتاب؛ فهذا لا يجوز لنا أن نصدقه ولا أن نكذبه إلَّا بدليلٍ يدل عليه.
قال: (ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «إذَا حَدَّثَكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ فَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِحَقِّ فَتُكَذِّبُوهُ وَإِمَّا أَنْ يُحَدِّثُوكُمْ بِبَاطِلِ فَتُصَدِّقُوهُ»، فإذا كذبتموهم تكونوا قد كذبتم بالحق، ويُمكن أن يكون ما نقلوه من الكذب، فإذا صدَّقتموهم صدَّقتموهم على الباطل والكذب).
قال: (وَكَذَلِكَ مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ)، فإنَّهم قد يأخذونه من أهل الكتاب، لكن لا يُصرِّحون بأنهم أخذوه من أهل الكتاب.
مثل قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ [البقرة: 102]، فيه من الروايات الإسرائيليَّة، وهكذا في قصة سليمان، وقصة داود، وما فيها من الروايات التي يُخالف بعضها ظاهر القرآن، كيف يُقبَل بها؟ وكيف يؤخذ بها.
قال: (فَمَتَى اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ لَمْ يَكُنْ بَعْضُ أَقْوَالِهِمْ حُجَّةً عَلَى بَعْضٍ)، يعني: لا نرجِّح قول بعضهم على بعضهم الآخر إلَّا بدليلٍ يدل على رجحان هذا القول.
قال: (وَمَا نُقِلَ فِي ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ الصَّحابة نَقْلًا صَحِيحًا فَالنَّفْسُ إلَيْهِ أَسْكَنُ مِمَّا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ التَّابِعِينَ)؛ يعني ما نقله الصحابة من تفاسير فنحن أقرب إليه وأقرب إلى تصديقه من كلام التابعين، لأنَّ غالب ما ينقله الصحابة منقول على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: (وَلِأَنَّ نَقْلَ الصَّحابة عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَقَلُّ مِنْ نَقْلِ التَّابِعِينَ).
إذا وجدنا الصحابي فسَّر القرآن بتفسيرٍ، ووجدناه قد جزمَ بأنَّ ذلك هو تفسير القرآن، فكيف يُقال إنه قد أخذه عن أهل الكتاب، وأهل الكتاب قد نُهينا عن تصديقهم.
إذًا؛ إذا جزم الصحابي بتفسير فالغالب أن ذلك التفسير ليس منقولًا عن أهل الكتاب.
المقصود: أنَّ هذا النوع من التفسير الذي يكون منقولًا ولا يُعلَم ما هو الرَّاجح من المرجوح ولا الصحيح من الضعيف؛ فغالبه مما لا ثمرة من معرفته، ولا تفيد حكاية الأقوال فيه، قال: (هُوَ كَالْمَعْرِفَةِ لِمَا يُرْوَى مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا دَلِيلَ عَلَى صِحَّتِهِ).
أما القسم الأول -وهو التفسير المنقول الذي يُعلم صحيحهُ من ضعيفهِ- فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ، كل المسائل التي نحتاج إليها فلنا سبيل إلى معرفة الراجح والمرجوح، وهذا ليس خاصًّا بالتَّفاسير؛ بل هو في المغازي والسِّير، وفي أحاديث النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وبالتالي يكون ما نُقل فيها من المتعارض والمتقابل يُمكننا معرفة الرَّاجح من المرجوح فيه.
إذًا؛ القسم الأول: ما لا يُمكننا معرفة الراجح من المرجوح والصحيح من الضعيف من تفاسير القرآن؛ فهذا غالبه مما لا نستفيدُ منه.
القسم الثاني: ما يُمكن معرفة الصَّحيح منه؛ فهذا هو الذي يُمكننا أن نستفيد منه، وليس هذا خاصًّا بالتفسير؛ بل يشمل الحديث والمغازي.
ومن ثَمَّ نقول: إنَّ ما نحتاج إليه مما نُقل في تفسير القرآن -ولو وُجد فيه اختلاف- فهناك طرائق لتمييز القول الراجح من القول المرجوح في ذلك الاختلاف؛ فإن الله -جَلَّ وَعَلَا- قد نصبَ أدلَّةً في المسائل التي يُحتاج إليها في الدين تُبيِّن الصَّحيح من غيره.
وكما ذكرتُ أنَّ هذا كما يحدث في التفسير يحدث في المغازي والملاحم، يقع بينهم اختلاف، لكننا نتمكَّن فيه من معرفة الراجح من المرجوح.
ومن أمثلة هذا ما سيأتي إليه المؤلف، أنَّ ابن عباس ذكر "أن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تزوَّج ميمونة وهما حرام"، يعني: وهما محرمان؛ لكن ميمونة نفسها تقول: "تزوجني وأنا حلال". وأبو رافع يقول: "تزوجها وكانا حلالان، وكنت السفير بينهما"، وبالتالي صاحب القصَّة أعرف من غيره، والمباشر لها أعرف من غيره؛ فنرجِّح روايتهما على رواية ابن عباس.
ففي هذه المسألة نستطيع أن نتوصَّل فيها إلى التَّمييز بين الصَّحيح والضعيف، وهذا كما تقدم أنَّه يشمل المغازي ويشمل الملاحم، قال الإمام أحمد: "ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لَيْسَ لَهَا إسْنَادٌ"، يعني أنَّ في كثيرٍ منها أخبارٌ لم يقع إسنادها للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "التَّفسير وَالْمَلَاحِمُ"، الملاحم: الغزوات الكبيرة والقتال العظيم. قال: "وَالْمَغَازِي"، يعني: السِّيَر. قال: (وَيُرْوَى "لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ" أَيْ إسْنَادٌ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَيْهَا الْمَرَاسِيلُ)، لفظة "المراسيل" تطلق على معنيين:
المعنى الأول: أن ينسب راوٍ لم يلقَ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حديثه إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
المعنى الثاني: أن ينقل صحابيٌّ أو تابعيٌّ حديثًا لم يسمعه عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فينسبه للنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
مثلًا في مراسيل الصحابة: لَمَّا يأتي ابن عباس فيقصُّ علينا قصَّة في مسألة بدء نزول الوحي، فحينئذٍ نقول: هو لم يشهد هذه الواقعة، لأنَّه لم يُولَد بعد، فهذا من مراسيل الصحابة، أكيد أنَّ واحدًا من الصحابة قد أخبره بذلك، أو أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخبره بذلك.
أمَّا مراسيل التابعين: فهي التي يُسقطون فيها أسماء الصحابة.
مثال ذلك: عروة بن الزبير، ابن الزبير ابن العوام، لم يُولد إلَّا بعد وفاة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقرابة العشرين سنة، في سنة 29 للهجرة، وبالتالي إذا روى عروة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهذا مُرسَل.
ومثل: عامر بن شراحيل الشعبي، فهو قد وُلد في عهد عمر، وبالتالي إذا نقل حديثًا عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان من مراسيل التابعين.
ومثله: محمد بن مسلم الزُّهري، فهذا إذا روى عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مباشرة فإن روايته مرسلة.
ولكن نفرِّق؛ فهناك مَن لا يُسقط إلَّا الثقات، مثل ما قيل عن سعيد بن المسيِّب، وهناك مَن يُسقط كل أحد حتى الضعفاء مثل الزهري، ولذلك حكم الأئمة أن مراسيل الزهري ضعيفة.
ومثله أيضًا موسى بن عقبة، وهو من تلاميذ عروة بن الزبير، إذا روى عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئًا يكون مرسلًا.
ومثله رواية ابن محمد بن إسحاق بن يسار؛ فهذا من التابعين أو تابعي التابعين، ومَن بعدهم كيحيى بن سعيد الأموي، وهو من علماء المدينة، وقد توفي سنة 194 للهجرة، ومثله الوليد بن مسلم الذي كان مقارنًا ليحيى بن سعيد، توفي سنة 195 للهجرة، ومثله الواقدي، وقد توفي بعد المائتين، ونحوهم من كُتَّاب المغازي فإنَّهم إذا رووا عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئًا مباشرة كان من المراسيل.
قال: (فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِالْمَغَازِي أَهْلُ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ أَهْلُ الشَّامِ، ثُمَّ أَهْلُ الْعِرَاقِ.
فَأَهْلُ الْمَدِينَةِ أَعْلَمُ بِهَا لِأَنَّهَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ)
؛ لأنها كانت في مناطقهم ويشاهدون مواطن الغزوات.
قال: (وَأَهْلُ الشَّامِ كَانُوا أَهْلَ غَزْوٍ وَجِهَادٍ)، لكونهم يُشاركون فيها كثيرًا لكون الشام من الثغور، فعندهم من تصوُّر الغزو وما يكون فيه ما ليس لغيرهم، ولذا كانت روايتهم أحسن من رواية أهل العراق فيما يتعلق بالمغازي، قال: (فَكَانَ لَهُمْ مِنْ الْعِلْمِ بِالْجِهَادِ وَالسِّيَرِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا عَظَّمَ النَّاسُ كِتَابَ أَبِي إسْحَاقَ الفزاري الَّذِي صَنَّفَهُ فِي ذَلِكَ)، يعني في المغازي.
قال: (وَجَعَلُوا الأوزاعي)، وهو عبد الرحمن بن عمرو عالم أهل الشام. قال: (أَعْلَمَ بِهَذَا الْبَابِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأَمْصَارِ)، لكونه من أهل الشام، وهم يُخالطون ويعرفون المغازي والغزوات، وكيفيَّة وقوعها.
قال: (وَأَمَّا التَّفسير فَإِنَّ أَعْلَمَ النَّاسِ بِهِ أَهْلُ مَكَّةَ).
ذكرنا أن أعلم الناس بالمغازي أهل المدينة ثم أهل الشام، أما التفسير فأعلم الناس به أهل مكَّة.
قال: (لِأَنَّهُمْ أَصْحَابُ ابْنِ عَبَّاسٍ)، فابن عباس قد دعا له النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأن يعلمه التَّأويل والأحكام، وبالتَّالي فعنده من العلم بالكتاب ما ليس عند غيره، ثم إنَّ ابن عباس قد عرض القرآن على النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على قولٍ.
ثم بعد ذلك أتباعه وتلامذته، قال: (كَمُجَاهِدِ)، مجاهد بن جبر المكي، وهو من تلاميذ ابن عباس، وقد مات بعد سنة المائة.
قال: (وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ)، فقيه أهل مكَّة، وتوفي سنة 114 للهجرة.
قال: (وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ)، وقد توفي بعد المائة.
فهؤلاء قد سمعوا من ابن عباس، وابن عباس كان يشتغل بالتفسير، وعنده من العلم بالتفسير ما ليس عند غيره.
قال: (وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ عَبَّاسٍ كَطَاوُوسِ)، فإنَّه من تلاميذ ابن عباس، فعنده من العلم بالتفسير ما ليس عند غيره.
قال: (وَأَبِي الشَّعْثَاءِ) جابر بن زيد، فإنه من تلاميذ ابن عباس.
قال: (وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ)، هذا أيضًا من تلاميذ ابن عباس.
وبعد أهل مكَّة في التفسير: أهل الكوفة؛ لأنَّهم كانوا يُصاحبون ابن مسعود، وابن مسعود كان يشتغل بتفسير القرآن، فأخذوا عنه من العلم في ذلك الشيء الكثير. قال: (وَمِنْ ذَلِكَ مَا تَمَيَّزُوا بِهِ عَلَى غَيْرِهِمْ).
قال: (وَعُلَمَاءُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِي التَّفسير مِثْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ)، أسلم مولى لعمر، وزيد ابنٌ لأسلم، لكنه ليس من الصحابة، الإمام مالك لقي زيد بن أسلم، فأخذ عنه التفسير، ومثله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وعبد الله بن وهب؛ فهؤلاء أخذوا عن زيد بن أسلم.
ثم تكلم المؤلف عن المراسيل ومدى حجيَّتها، فيقول: إنَّ المرسل قد يشهد له شواهد تجعله مقبولًا، وهذا وارد عن ابن عباس، مثل اعتضاده بمرسل آخر مع اختلاف المخرج، هذا في مدينة وهذا في مدينة، أو نحو ذلك.
قال: (والْمَرَاسِيلُ إذَا تَعَدَّدَتْ طُرُقُهَا وَخَلَتْ عَنْ الْمُوَاطَأَةِ)، أي: الاتفاق بين الرواة، فإنه قد يروي بعضهم عن بعض، وبالتالي يكون المرجع واحد. قال: (وَخَلَتْ عَنْ الْمُوَاطَأَةِ قَصْدًا أَوْ الِاتِّفَاقِ بِغَيْرِ قَصْدٍ كَانَتْ صَحِيحَةً قَطْعً).
قال: (فَإِنَّ النَّقْلَ إمَّا أَنْ يَكُونَ صِدْقًا مُطَابِقًا لِلْخَبَرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ كَذِبًا تَعَمَّدَ صَاحِبُهُ الْكَذِبَ أَوْ أَخْطَأَ فِيهِ؛ فَمَتَى سَلِمَ مِنْ الْكَذِبِ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ كَانَ صِدْقًا بِلَا رَيْبٍ)، أي: إذا علمنا أنَّه لا كذب في الاتفاق المرسلين وعدم وجود التواطؤ فيهما؛ فحينئذٍ نعلم أنَّه قد سلم من الكذب، وحكمنا عليه بأنَّه صدق وأنَّه حقٌّ موافقٌ للواقع.
ثم قال: (فَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ جَاءَ مِنْ جِهَتَيْنِ أَوْ جِهَاتٍ وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ لَمْ يَتَوَاطَآ عَلَى اخْتِلَاقِهِ)، يعني على الكذب به.
قال: (وَعُلِمَ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا تَقَعُ الْمُوَافَقَةُ فِيهِ)، يعني في لفظه وحكايته لا يُمكن أن يتفقوا عليها عُلِمَ أَنَّهُ صَحِيحٌ.
قال: (مِثْلُ شَخْصٍ يُحَدِّثُ عَنْ وَاقِعَةٍ)، مثل أن يأتينا شخص يقول: رأيتُ سفينة على البحر احترقت. ثم يأتينا شخص آخر يبعد عن مكان الشخص الأول مائة كيلو ويقول: أنا رأيتُ سفينةً في البحر احترقت؛ فهذا يُورثنا تصديقًا لقولهما، خصوصًا إذا بدؤوا يحكون تفاصيل يتفقون فيها، كأن يقولا: كان علمها أزرق، كان صاريها طويلًا، كان لون السفينة أسودًا؛ ويتَّفقون في مثل هذه التفاصيل؛ فحينئذٍ نعلم أنَّ هذين الراويين قد صدقا، وأن روايتهما معتمدةُ موثوق بها، لأنَّنا نعلم أنَّه لا يُمكن أن يكون هناك مواطأة بينهما.
ومثَّل لذلك بما لو جاءنا اثنان بقصيدة كاملة؛ فحينئذٍ نعلم أن منشأها واحد، لكن لو اتفقوا في شطر بيت؛ فحينئذٍ يُمكن أن يقع مثل ذلك مع عدم التَّواطؤ.
إذًا؛ قد يتَّفق أن ينظِمَ رجلٌ بيتًا وينظم الآخر مثله، أو يكذب كذبه ويكذب الآخر مثلها، أمَّا إذا جاء بقصيدة طويلة ذات فنونٍ على قافيةٍ واحدةٍ، وعلى رويِّ أوزان الشعر؛ فلم تجرِ العادة بان غيره يُنشئ قصيدة تماثلها في اللفظ والمعنى مع هذا الطُّولِ المفرِط؛ بل نعلم أن أحدهما قد أخذها من الآخر.
ومثل لو حدَّث الرَّاوي بحديثٍ طويلٍ فيه تفاصيل، وحدَّث الآخر بذلك الحديث الطويل مع تفاصيله؛ فهذا يُورثنا طمأنينة -إذا لم يكن بينهما تواطؤ- أن ذلك الحديث صدقًا.
ثم ذكر المؤلف أنَّ الأحاديث التي تعدَّدت طرقها فإنَّ ذلك يدل على صدقها، وينبغي أن نجزم بصدقها.
باركَ الله فيك، ووفق الله للخير، كما أسأله -جَلَّ وَعَلَا- لإخوتي المشاهدين من طلبة العلم التوفيق لكل خير، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين، هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك