الدرس الثاني عشر
فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ مِن حلقات البناء
العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان، فأهلًا وسهلًا
بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، وحيَّاكَ الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات، وأسأل الله
لنا ولكم التَّوفيق والسَّداد.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- من باب استبراء الإِمَاءِ مِن كتاب "عمدة الفقه"
للإمام الموفق ابن قدامة.
قال -رحمه الله: (باَبُ اسْتِبْرَاءِ اْلإِمَاءِ.
وَهُوَ وَاجِبٌ فِيْ ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ:
أَحَدُهَا: مَنْ مَلَكَ أَمَةً، لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله
وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جلَّ وعَلا- أن يزيدنا من العلم، وأن يرفعنا بالعلم، وأن
يُوفقنا للتَّعليم، وأن يزيدنا من العمل، وأن يعقبنا فيه فضلًا في الدُّنيا، ورفعةً
في الآخرة، إنَّ ربنا جوادٌ كريم.
كنَّا في الدرس الماضي أتينا على ما يتعلَّقُ بالعِدَدِ وما أُلحِقَ بها من الكلام
على الإحداد.
ثُمَّ شرعَ المؤلف -رحمه الله تعالى- في مسألة مُقاربة، أو هي من باب العِدَدِ، وهي
استبراء الإماء، فإنَّ العِدَدَ في حقِّ المزوَّجات، والاستبراء في حقِّ الإماء
المملوكات، وَلَمَّا كانا يشتركان في أمرٍ وهو شغلُ الأرحام أو المباضعةِ
والمجامعةِ التي تُفضي إلى حصول الولد، وذلك له حقٌّ وحرمة؛ فإنَّه كان من
الأهمِّيةِ بمكانٍ أن يُذكَر بابُ الإماء واستبراء أرحامهنَّ حيثُ يُذكر ما
يتعلَّقُ بطلبِ براءة أرحام المزوَّجاتِ إذا طُلِّقنَ، أو حصلَت مُفارقة بفسخٍ أو
موتٍ أو سوى ذلك -على ما تقدَّم.
إذن؛ هذا الباب ظاهرة مناسبته واتصاله بكتاب العِدَدِ، وتسميته استبراء هو نوع
اصطلاح في هذا الباب مقارنة للعِدَدِ، وذلك اتِّباعًا لِما جاء في الكتاب
والسُّنَّة، فجاء في السُّنَّة أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لَمَّا جاءت سبايا أَوْطَاس؛ قال: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا
غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً» ، يعني: تُطلب براءة رحمها بأن تحيض
حيضةً -على ما سيأتي بإذن الله -جلَّ وعَلا.
فهذا هو الأصل من السُّنَّة عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يختلف
في ذلك أحدٌ من أهلِ العلم.
وربما يكون باب استبراء الإماء مُتوجِّهٌ أصالة إلى طلب براءة الرَّحمِ، وأنَّه غير
مشغولٍ بحملٍ لمالكٍ سابقٍ، أمَّا العِدَد ففيه شائبة للتَّعبُّد ومعرفة حق ذلك
الحق وتعظيمه وبيان كِبَرِ شأنه، وفيه أيضًا طلب براءة الرَّحم، وقد ذكرنا في بداية
باب العِدَدِ ما يتعلق بأنواع ذلك، وقلنا: إنها أربعةُ أصنافٍ:
منها التَّعبُّد المحض.
ومنها معنًى محض.
ومنها معنى يغلب فيه جانب التَّعبُّد، وذلك إذا تمَّت الحيَض ومع ذلك لم تزل في
عدَّتها كمن تُوفي عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا.
منها ما فيه معنى التَّعبُّد، ولكن يغلب فيه جانب طلب براءة الرَّحم، فتنتظر حت
تنتهي عدتها.
فعلى كل حالٍ؛ فإنَّ باب الاستبراء علاقته ظاهرة بباب العدَدِ.
واستبراء الإماء يكون لِمَن ملكَ أمةً، وسيأتي بيان متى يحصل الاستبراء.
قال المؤلف: (وَهُوَ وَاجِبٌ فِيْ ثَلاَثَةِ مَوَاضِعَ)، وذلك لِما جاء عن النبي
-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا
غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً»، فهذا نهيٌ من النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صريح.
ومن جهة المعنى: ففيه ما يتعلق باختلاط الأنساب لو تُرِكَ، فلو أنَّ شخصًا كانت له
أمة فوطئها، ثُمَّ باعها فوطئها المشتري فحبلت، فلا يُدر أهو من البائع أم من
المشتري، فيترتب عليه اختلاط الأنساب وفساد الأمر، وحصول الاشتباه، وذلك فيه إشكالٌ
ظاهر؛ فلأجل ذلك ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- هذه المواضع على سبيل الاختصار.
قال: (أَحَدُهَا: مَنْ مَلَكَ أَمَةً، لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَ).
عندنا مسألة هي كالمقدِّمة لهذه المسألة:
الأصل أنَّ الشَّخص إذا دخلت عليه أمةٌ فإنَّه لابدَّ أن يستبرئها لحديث البخاري في
قول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ،
وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً»، واحتياطًا لنفسه، وصيانةً
لِمَائِه ألَّا يَدخل على غيره أو يَدخل غيره عليه.
ومن جهة أخرى: أنَّ البائع إذا أراد أن يبيع أمةً فإنَّه لابدَّ أن يَستبرئها، وهذا
من وجه وهو أنَّ المشتري يُمكن أن يشتريها ليطأها فيستبرئها، ويُمكن أن يكون
اشتراها فقط للخدمة والاستخدام والانتفاع بها فلا يَستبرئها، فإذا لم يستبرئها ولم
يُلقِ لذلك بالًا فحبلت؛ فنحن لا ندري هل حبلت من هذا أو هذا؟!
فلابدَّ أن يكون البائع على يقينٍ أنَّه حين باعها وهي خاليةٌ من أن يكون لها
تعلُّقٌ به، أو فيها ماءٌ من مائه أو شيءٍ من ذلك، وجاء عن عبد الرحمن بن عوفٍ
أنَّه باعَ أمةً له قبل أن يستبرئها فعاتبه عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ولذلك كان المشهور من المذهب عند الحنابلة أنَّ البائع يستبرئ أمته قبل أن يبيعها،
لكن الاستبراء الذي هو لازمٌ وهو متحتِّمٌ على وجهٍ أظهر وأبينُ هو استبراء المالك
لها إذا أراد أن يطأها.
{قال -رحمه الله: (الثَّانِيْ: أُمُّ اْلوَلَدِ وَاْلأَمَةُ الَّتِيْ يَطَؤُهَا
سَيِّدُهَا، لاَ يَجُوْزُ لَهُ تَزْوِيْجُهُمَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهُمَ)}.
سبق لنا أن ذكرنا من هي أمُّ الولد، وهي التي ولدت من سيدها، فإذا كان سيدها يطأها
فولدت؛ فإنها تسمى أمُّ ولد؛ لأنها أمة من الإماء، لكنَّها ستؤول إلى العتق بموت
سيدها، فإن رغب سيدها عن الاستمتاع بها ونحو ذلك وأراد أن يُزوِّجها على شخص حتى
تلد له، فيكون الولد مملوكًا له، أو يُريد الإحسان إليها في إعفافها إذا لم يكن له
رغبةٌ فيها، فأيًّا كان سببُ ذلك سواء كان هذا أو ذاك؛ فإنَّه إذا أراد أن يُزوجها
فهي أمةٌ من الإماء، ولها حكم الإماء، وبناء على ذلك لا يُزوِجها حتى يستبرئها.
ومن سوى أم الولد من الإماء، فإن كان يستمتع بها سيدها ثم أراد أن يزوجها؛ فلابدَّ
أن يستبرئها؛ لأنَّه ليس على الزَّوج أن يستبرئ، والأصل أنَّ الزوجة تدخل على زوجها
ليستمتع بها ويبتدئ بذلك ويشرع فيه، وبناء على ذلك كان استبراء الأمة المُرادُ
تزويجها على سيدها قبل أن يُزوِّجها.
{قال -رحمه الله: (الثَّالِثُ: إِذَا أَعْتَقَهُمَا سَيِّدُهُمَا أَوْ عَتَقَا
بِمَوْتِهِ، لَمْ يَنْكِحَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَا أَنْفُسَهُمَ)}.
قوله: (إِذَا أَعْتَقَهُمَا سَيِّدُهُمَ)، يعني: سواء كانت أم ولد أو أمة، فإذا
أعتقها السيد وقال: أنتِ حرَّة لوجه الله أيُّتها الأمة، أو أنت حرة لوجه الله يا
فلانه -وهي أم ولده- ففي هذه الحال لا يجوز لها أن تتزوَّجَ أو تنكح حتى تستبرئ
نفسها، وذلك لأنها لو تزوجت فإنَّ الزوج سيطؤها، ولو وطئها الزَّوج فحبلت فلا
يُدرَى -إذا لم تستبرئ نفسها- أحبَلُها تجدد بوطء الزوج لها أو أن حبلها كان من
استمتاع سيدها السَّابق بها!
فلمَّا كان الأمر في ذلك مُختلطًا أو مُشتبهًا كان لابدَّ من الاستبراء، مع أنَّه
ينبغي للسَّيد قبل إعتاقهما أن يستبرئهما كذلك.
{قال: (وَاْلاِسْتِبْرَاءُ فِيْ جَمِيْعِ ذلِكَ بِوَضْعِ اْلحَمْلِ إِنْ كَانَتْ
حَامِلاً، أَوْ حَيْضَةٍ إِنْ كَانَتْ تَحِيْضُ، أَوْ شَهْرٍ إِنْ كَانَتْ آيِسَةً
أَوْ مِنَ اللاَّئِيْ لَمْ يَحِضْنَ، أَوْ عَشْرَةِ أَشْهُرٍ إِنِ ارْتَفَعَ
حَيْضُهَا لاَ تَدْرِيْ مَا رَفَعَه)}.
ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- الأحوال التي يجب فيها الاستبراء، وهي ثلاثة أحوال،
وقلنا: إنَّ البائع يجب عليه الاستبراء، وذكر الأشياء المتعينة والتي يترتب عليها
اختلاط النَّسب ونحوه، والأمر فيها أظهر.
ثم انتقل إلى ما يحصل به الاستبراء، متى نقول: إنَّ هذه أمةٌ قد استُبرئَت، أو
عُلِمَ أنَّها خليَّةٌ من الحمل ونحوه؟
يقول المؤلف: (وَاْلاِسْتِبْرَاءُ فِيْ جَمِيْعِ ذلِكَ بِوَضْعِ اْلحَمْلِ إِنْ
كَانَتْ حَامِل)، فمَن كانت حاملًا فإنَّها إذا وضعت حملها عُلِمَ أنَّ رحمها
بريئةٌ، وأنَّه ليس فيه نطفةٌ لأحد سابق، وأنَّ لمن ملكها أو تزوجها سواء في حال
رقِّها أو بعدَ عتقها فإنَّه يأمن أن يكون لمَن سبقه في بطنها حملٌ أو نحوه.
ثم يقول المؤلف: (أَوْ حَيْضَةٍ إِنْ كَانَتْ تَحِيْضُ)، إذا لم تكن حاملًا فإنَّها
إذا حاضت حيضةً فإنَّها يُعلم أنَّها ليست حاملًا، لأن الحمل إنَّما يُعرَف بارتفاع
الحيض، وجاء عن عائشة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- أنها قالت: "وهل تعرف النساء الحمل
إلَّا بذهاب حيضهن؟!"، وهذا أمرٌ معروفٌ ومستقرٌّ عندَ النساء، وهذا هو ما جاءت به
السنَّة الصريحة كما قلنا في الحديث الذي عند البخاري في سبايا أوطاس: «لَا تُوطَأُ
حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا غَيْرُ ذَاتِ حَمْلٍ حَتَّى تَحِيضَ حَيْضَةً».
قال المؤلف: (أَوْ شَهْرٍ إِنْ كَانَتْ آيِسَةً).
أمَّا إذا كات آيسة، وهي التي بلغن سنَّ الإياس فلم يعُد حيضها يأتيها؛ فإنَّه يحصل
استبراؤها أن تبقى شهرًا، ووجه ذلك أنَّ هذا بدلٌ عن الحيض، ولمَّا كان الاستبراء
بوضع الحمل أمرٌ مُتحقق ولازمٌ وواجب، فإنه يُؤال إلى بدله عند عدمه.
قال: (أَوْ مِنَ اللاَّئِيْ لَمْ يَحِضْنَ)، فإنَّ الصغيرة تكون عدَّتها بشهر.
ثم ذكر المؤلف -رحمه الله تعالى- أنَّها إذا كانت ممن ارتفع حيضها ولم تدرِ سببه،
قال: (أَوْ عَشْرَةِ أَشْهُرٍ إِنِ ارْتَفَعَ حَيْضُهَا لاَ تَدْرِيْ مَا رَفَعَه).
فإنَّها تمكث تسعة أشهر؛ لأنَّ هذه هي مدَّةُ الحمل، وهي لا تختلف في ذلك من كونها
حرَّة أو تكون أمة -كما تقدَّم معنا في بقاء الحرة تسعة أشهر- ثم بعد ذلك تمكث
شهرًا كحيضةٍ؛ لأنَّ انتظار التسعة أشهر إنَّما هو تربُّص وليست عدَّة كما تقدَّم
بنا، ومرَّ بنا الكلام في إمكانية الاكتفاء بذلك بالفحوصات التَّحاليل المخبريَّة
التي يحصل بها اليقين بعدم حصول الحمل.
أمَّا إذا كان الحيض قد ارتفع سببه؛ فكما تقدَّم أيضًا أنَّها تمكث حتى يعود إليها
حيضها فتستبرئ بحيضةٍ، ثم تكونُ حِلًّا لاستمتاع سيِّدها، أو زوجها إن رغبت في
التَّزويج ونحوه.
{قال -رحمه الله: (كِتاَبُ الظِّهاَرِ.
وَهُوَ: أَنْ يَقُوْلَ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ، أَوْ مَنْ
تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلى التَّأْبِيْدِ. أَوْ يَقُوْلَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأَبِيْ،
يُرِيْدُ تَحْرِيْمَهَا بِهِ، فَلاَ تَحِلُّ لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ، بِتَحْرِيْرِ
رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ،
فَإِطْعَامُ سِتِّيْنَ مِسْكِيْنً)}.
ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- كتاب الظِّهار؛ لأنَّه ممَّا يتعلق به حُرمة
النساء بوجهٍ من الوجوه، وأصله كان طلاق أهل الجاهليَّة، فكان الواحد إذا أراد أن
يُطلِّق امرأته قال لها: "أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ"، ثم هي لا مُطلقةٌ، ولا
هي مُزوَّجة يُستمتع بها، ولا تأنسُ بزوجٍ، ولا هي مُطلقةٌ تحل للأزواج فتنظر فيما
يكتبُ الله -جلَّ وعَلا- لها.
فلمَّا كان في ذلك من البلاء والأذيَّة والاستبداد والظُّلمِ للمرأة؛ كان محرَّمًا
في الشَّرع، ولذلك قال الله -جلَّ وعَلا: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ
الْقَوْلِ وَزُورً﴾ [المجادلة:2]، وهو عند أهل العلم محرمٌ إجماعًا؛ بل هو من
كبائر الذنوب، فلا يجوز للإنسان أن يلفظ بهذه اللفظة؛ لأنها مُحرمة ومنكرٌ من القول
وزورًا، وهي كبائر الذنوب، وهي من عادات أهل الجاهليَّة، ولا تليق عادات أهل
الجاهليَّة بأهل الإسلام، ويترفَّع عنها أهل الإيمان، وهذا لا إشكال فيه ولا
اختلاف؛ بل هو محل إجماعٍ في أنَّه محرَّمٌ، ولأجل ذلك لَمَّا كان من الحُرمة بهذه
المنزلة جعل الله -جلَّ وعَلا- في مُتعاطيه كفَّارةً، وبالغ فيما يجبُ في تلك
الكفَّارة.
وَلَمَّا لم يزل بعض الناس يأبى إلا أن يتعاطى مثل هذا المحرَّم؛ أراد الفقهاء
-رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- أن يُبينوا ما يدخل فيه وما لا يدخل، فإذا قال لها:
(أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ) فإن هذا هو الظِّهار الذي جاء الشرع بتحريمه.
وحقيقة هذه الكلمة: أنَّ هذه المرأة التي أحل الله له أن يستمتع بها، وأن يطأها وأن
يكون فوقها؛ قد حرَّمها هو على نفسه.
ومعنى: (أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ)، أي: أنَّ ركوبك عليَّ حرامٌ كحرمة ركوبي
على ظهر أمي -نسأل الله السلامة والعافية.
ولَمَّا كان بهذا المعنى فهو داخلٌ في الظِّهار، وهذا محلُّ إجماعٍ أنَّ مَن قالها
فإنَّه تعلَّقَ به حكمُ الظِّهار، وأنَّه فاعلٌ للمحرم، وأنه يحرم عليه وطء زوجته
حتى يُكفِّر، وأنَّ كفارته بالعتق أو الصيام شهرين أو الإطعام، على ما سيأتي من
ترتيب ذلك والكلام فيه.
ثم قال: (أَوْ مَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ عَلى التَّأْبِيْدِ)، كأنَّ المؤلف -رَحِمَهُ
اللهُ تَعَالَى- يقول: إنَّ هذا اللفظ لا يختص بالتَّشبيه بالأم، بل لو شبَّهها
بأخته أو عمَّته أو خالته؛ فكل ذلك داخلٌ في مثل هذا الحكم في قول أكثر أهل العلم،
حيث إنهم يقولون: إنَّ المعنى في ذلك واحدٌ، فلا يختلف بينَ أن يُشببها بأمِّه أو
يُشبهها بأخته؛ بل حتَّى لو شبَّهها بمن تحرم عليه على سبيل التَّحريم المُحدَّد لا
المؤبَّد، كأخت زوجته أو نحو ذلك، فإنَّ هذا داخل في حكم الظِّهار.
ثم قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (أَوْ يَقُوْلَ: أَنْتِ عَلَيَّ
كَأُمِّيْ)، وفي نسخة أخرى: (أَوْ يَقُوْلَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَأَبِيْ)؛ فقوله:
(أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّيْ) فيه نوع تشبيه، وهذا التشبيه يحتمل معنيين:
إمَّا أن يكون المعنى: أنتِ عليَّ كأمِّي في الحبِّ والاحترام والكرامة والقُرب
والاهتمام، إلى غير ذلك.
وإمَّا أن يكون المعنى: أنتِ عليَّ محرَّمةٌ كما تحرُمُ عليَّ أمِّي.
ما الفرق بين لفظ: (أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّيْ) ولفظ: (أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ
أُمِّيْ)؟
قوله: (أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ) نصَّ فيه على الظَّهْر، والظَّهرُ محلُّ
الرًّكوب، فتبيَّنَ أنَّ المراد في ذلك التشبيه لها بالرُّكوب، فالأمُّ محرمٌ
ركوبها، فكذلك نصَّ على تحريم ركوب الزَّوجة.
أمَّا قوله: (أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّيْ) فهو أعم، ولأجل ذلك حصل فيه الاختلاف.
وعلى كل حال؛ قال أهل العلم: إذا قال: (أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّيْ) فإنَّه يكون
ظهارًا، ولكن لو ادَّعى عند القاضي أنَّه أراد الإكرام وأراد معنًى صحيحًا فإنَّ
اللفظ يحتمله، وإذا كان اللفظ يحتمله فإنَّه يُقبل منه ذلك.
بعض أهل العلم يقول: إلَّا أن تكون ثَمَّ قرينة مانعة، كأن يكون قالها في حال غضبٍ،
أو أراد الإزدراء بها وإقصاءها.
ولكن الأصل أنَّ اللفظ يحتمله؛ لأنَّه في حال الغضب كأنَّه غضب منها وأراد أن
يُبيّن أنَّه مهما غضب منها فهي محل الإكرام والاهتمام.
أمَّا لو كان اللفظ: (أَنْتِ عَلَيَّ كَأَبِيْ) فهذا لفظٌ فيه إشكال؛ هل هو داخلٌ
في الظهار أو لا؟
لَمَّا نقل الفقهاء لفظ: (أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ)؛ لأنَّه اللفظ المشهور،
وهو الذي جاءت به الأحاديث ودلالات النُّصوص، وهو الذي نزلت فيه الآي التي تُتلى
إلى يوم القيامة.
ثُمَّ بعد ذلك ذكر أهل العلم ألفاظًا مُشابهة، إمَّا لكونها فيها معنى التَّشبيه،
وقد تكون مكتملة للأركان -المشبَّه والمشبَّه به ونحوه- وقد يكون فيها شيءٌ من
البُعد، فبعض أهل العلم في قوله: (أَنْتِ عَلَيَّ كَأَبِيْ) قالوا: هذا ظهار، فإنَّ
إتيان الأم محرم وكذلك إتيان الأبِ، فلأجل ذلك نقل الحنابلة أنَّ مَن قال ذلك
فإنَّه مُظاهر.
والقول الثَّاني عند الحنابلة وهو قول جماعة من أهل العلم؛ بل نقل أنَّه هو المذهب
عند الحنابلة، وهو المُحقَّق عندهم: وهو أنَّه إذا شبَّهها بمَن لا يحصُل به
تلذُّذٌ وليس محلًّا للاستمتاع كالميتة أو الخنزير، فقال لها: "أنتِ عليَّ كالميتة،
أو أنتِ عليَّ كالخنزير"؛ فهذا لا يكون ظِهارًا؛ لأنَّ مثل هذه المشبَّه بها ليست
محلًّا للاستمتاع، فغاية ما يكون ألَّا يكون ذلك ظهارًا، وإنَّما هو تحريم،
والتَّحريم كاليمين المحرِّمَة، فيكون قوله محرمٌ، ولكن كفارته كفارة يمينٍ، لقول
الله -جلَّ وعَلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ
لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ
اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ﴾ [التحريم:1]، وهذا جاء عن بعض الصَّحابة، كما جاء عن ابن عباس -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ.
وذكر بعض أهل العلم ألفاظًا نحوًا من هذه الألفاظ، فلا نريد أن نطيل فيها، خاصَّة
وأنَّ ذلك من الأمور التي يُمكن أن تعاطيها بصورةٍ قليلة، إلَّا عندَ بعض البوادي
ومَن في حكمهم، فقد يتعاطونَ ذلك.
ومن الألفاظ المشتهرة قوله: "أنتِ عليَّ حرامٌ"، فهذا القول ليس فيه تشبيه
كالظِّهار، ولكن فيه تحريم، وهذا التَّحريم ينصرف إلى تحريم الظِّهار؛ لأنَّه حرَّم
زوجته، والأصل أنَّ تحريم الزَّوجة يكون بالظِّهار؟ أو أنه يكون كاليمين؟
المشهور من المذهب عند الحنابلة وهو قول جمهور العلماء أنَّه يكون ظهارًا، وفي هذا
كلامٌ لأهل العلم طويل، وبعضهم ينتقلون إلى قولٍ آخر، لكن لا ينبغي التيسير فيه ولا
التسهيل لكثرة ما يأتي على ألسنة بعض الناس تساهلًا واستهتارًا، ثم بعد ذلك لا
يعتبرون أنَّهم فعلوا شيئًا، فلابدَّ من صدِّ الناس عن التَّمادي في مثل هذا
والاسترسال فيه، ولأجل ذلك إذا قال واحدٌ مثلَ هذه المقالة فإنَّه يُمكن أن يُقال:
إنَّ مردَّ ذلك للافتاء ليحكموا هل يجعلوه على الأصل أنَّه كالظِّهار، أو يُحيلوه
إلى كونه فيه كفارة يمين.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَلاَ تَحِلُّ لَهُ حَتَّى يُكَفِّرَ)،
يعني: مَن أتَى مثل هذا القول فإنَّ الزوجة محرَّمةٌ عليه، ولذلك لَمَّا جاء سلمة
بن صخر فقال: "إنِّي ظاهرتُ من امرأتي شهرَ رمضان، وإني رأيتُ خُلخالها في ضوء
القمر فأتيتها"، فقال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَقْرَبْهَا
حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ» .
إذن مَن تعاطى الظِّهار فإنَّ الزَّوجة تحرُم عليه، وأنَّه لا يجوز له إتيانها
إلَّا بعد أن يُكفِّر، وقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ
ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا
ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [المجادلة:3]،
فلأهل العلم في تفسير العود كلام طويل:
- منهم من يقول: الجماع، وبناء على ذلك إذا جامعَ تعيَّنَ عليه فعل الكفارة، وهذا
ظاهر وهو قول جمع من الصَّحابة، ولكن يجب عليه عند العزم على إتيانها أن يُكفر،
لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ
مَا أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ»، وبناء على ذلك مَن قال هذه الكلمة لا يجوز له أن يأتي
زوجته، فإن طلَّقها بعدَ ذلك انتهى الأمر، وإن لم يُطلقها ولم يُكفر عن يمينه فإنه
لا يقربها، ولها أن تُطالبه بالفسخ؛ لأنَّ فيه إضرارٌ بها، فإذا أراد أن يعود
فنلزمه بالكفارة، فإن كان قد وطئها، فتكون الكفارة قد تحققت عليه، ومع ذلك يبقى
ممتنعًا عنها حتى يُكفر.
ثم يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بِتَحْرِيْرِ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ
يَتَمَاسَّا، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَتَمَاسَّا، فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَإِطْعَامُ سِتِّيْنَ مِسْكِيْنً).
هذا بيان لخصال الكفارة في الظِّهار ثلاثة أشياء على الترتيب:
الأول: الإعتاق، وهو تحرير رقبة، وهذا هو نصُّ الآية في كتاب الله -جلَّ وعَلا.
الثاني: صيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع إعتاق رقبة لكونه غير مالك، ولا يستطيع
أن يشتريها، أو لكونها غير موجودة كهذه الأزمنة، فينتقل إلى الصيام، ولا يأتيها حتى
يصوم شهرين مُتتابعين.
الثالث: الإطعام لمن لا يستطيع الصيام، ولا يَقربها حتى يُكفِّر، لقوله تعالى:
﴿فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينً﴾ [المجادلة:4]، وليس فيها
"من قبل أن يتماسَّا"، ولكن قال أهل العلم: إنَّ الآية كُرِّرَت حيثُ احتيج إلى
التكرار، وتُرك حيث لم يُحتَجْ إليه، فإنَّ الله -جلَّ وعَلا- أعاد قوله: ﴿مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّ﴾ في الإعتاق وفي الصيام، لئلا يُظن أنَّه مُتعلق فقط
بالإعتاق، ثم لم يُعده في الإطعام لعدم الحاجة إلى ذلك؛ لأنه واجبٌ في خصال الكفارة
السابقة، فيكون الإطعام كذلك، ولأنَّ الإطعام أيضًا لا يأخذ وقتًا، فكان الأمر أيسر
في عدم ذكر هذا القيد مع اعتباره أصالةً، وهو قول أكثر أهل العلم.
قال تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينً﴾
[المجادلة:4] ، وكل ذلك من قبل أن يتماسَّا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَحُكْمُهَا وَصِفَتُهَا كَكَفَّارَةِ اْلجِمَاعِ
فِيْ شَهْرِ رَمَضَانَ)}.
يعني أن الأحكام المتعلقة بالكفارة وصفتها ككفارة الجماع في شهر رمضان، فأغنى ذلك
عن إعادة هذا والكلام عليه، لئلا يكون ذلك نوعُ تكرار، والكتاب مبناه على الاختصار
وعدم الإسهاب.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنْ وَطِئَ قَبْلَ التَّكْفِيْرِ، عَصَى،
وَلِزَمَتْهُ اْلكَفَّارَةُ الْمَذْكُوْرَةُ)}.
مثلما قلنا: إنَّ مَن ظاهرَ فلا يجوز له أن يمسَّ امرأته، لقول النبي -صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَقْرَبْهَا حَتَّى تَفْعَلَ مَا أَمَرَكَ اللَّهُ
بِهِ»، فإنَّ فعلَ فقد عصَى، فيكون عصيانه في قول الظِّهار وعصيانه في إتيانها قبل
التَّكفير، ثم إذا كان قد أتاها فقد تعين عليه الكفارة، أمَّا إذا لم يكن قد أتاها
فمثلما قلنا: إنه متى ما أراد العود فإنَّه تلزمه الكفارة حتى تحل زوجه.
لقائل أن يقول: كيف يُفِّرُق قبل أن يفعل المحلوف عليه، وهو إتيان المظاهر منها؟
نقول: لما جاء في كفارة اليمين «فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ يَمِينَكَ»،
فيجوز فعل الكفارة قبل وجوبها وتعيُّنها، وكذلك في الظِّهار.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَمَنْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ مِرَارًا، وَلَمْ
يُكَفِّرْ، فَكَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ)}.
مَن ظاهر من امراته مرارًا كأن يقول: "أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ"، ثم يأتي
من الغد ويقول: "أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ" وهكذا يفعلها مرات وكرَّات؛
فإنَّ عليه كفارة واحدة، كمَن حلف وأعاد اليمين مرة بعدَ مرة، ولكن بشرط أن يكون قد
كفَّر عن الظِّهار الأول، فإذا كان قد كفَّر عن الظِّهار الأول فإنه يلزمه كفارةٌ
أخرى، لكن لو لم يكن قد كفَّرَ فكفَّارةٌ واحدة تكفيه، وهذا قد جاء عن عمر -رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ- أنَّه أفتى فيمن ظاهرَ من امراته أكثر من مرة أنَّ عليه كفارة واحدة.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ ظَاهَرَ مِنْ نسائِهِ بِكَلِمةِ واحدةٍ
فكفَّارةٌ واحدةٌ، وَإِنْ ظَاهَرَ مِنْهُنَّ بِكَلِمَاتٍ، فَعَلَيْهِ لِكُلِّ
يَمِيْنٍ كَفَّارَةٌ)}.
لو كان له أكثر من زوجة، كأن يكون له زوجتان أو ثلاث أو أربع فظاهر منهنَّ فقال:
"أنتنَّ عليَّ كظهر أمِّي، أو زوجاتي عليَّ كظهرِ أمِّي"، أو غير ذلك من الألفاظ
المقاربة لهذا اللفظ المفيد لهذا المعنى؛ فنقول: إذا ظاهر من نسائه بكلمة واحدة
تلزمه كفارة واحدة، كمن حلفَ على أكثر من شيء فقال: "والله لا أشربُ وماءً ولا آكل
سمنًا"، فلا يعني أنه إذا شرب ماءً يُكفِّر وإذا أكل سمنًا يُكفِّر؛ بل هي يمينٌ
واحدةٌ لها كفارةٌ واحدة، فكذلك إذا ظاهرَ مرَّةً من أكثر من زوجةٍ فهو ظهارٌ واحدٌ
وقع على أكثر من عينٍ.
ولكن لو كان قد ظاهر من كل واحدة بلفظٍ مُستقر، فإنَّ اللفظ اختلف والعين اختلفت،
فلمَّا كان ظهارًا بألفاظٍ على أعيانٍ مُتباينةٍ كان لكلِّ يمينٍ حكمها، ولكلِّ
ظهارٍ حكمه، فبناء على ذلك إذا أراد أن يأتي الأولى فيُكفِّر عنها كفارة ظهار، وإذا
أراد أن يأتي الثانية فيُكفِّر عنها كفَّارة ظهار، فيكون عليه عن كلِّ واحدةٍ
كفَّارة، ولا تُجزئ عنهنَّ كفارةٌ واحدة كما في المسألة الأولى، فبنهما فرقٌ لِمَا
ذكرنا من أنَّ هذه أيمانٌ وظهارٌ مُتعدِّدٌ على أعيانٍ مُختلفة، فكان لكلِّ واحدٍ
منها حُكمه.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ أَوْ حَرَّمَهَا، أَوْ
حَرَّمَ شَيْئًا مُبَاحًا، أَوْ ظَاهَرَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا أَوْ
حَرَّمَتْهُ، لَمْ يَحْرُمْ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِيْنٍ)}.
قوله: (ظَاهَرَ مِنْ أَمَتِهِ)، إذا قال لأمته: "أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّيْ".
قوله: (أَوْ حَرَّمَهَ)، كأن قال لها: (أنتِ عليَّ حرام)؛ فيقول المؤلف -رَحِمَهُ
اللهُ تَعَالَى: إنَّه لا يكون حكمها حكمُ المظاهر منها، وأنَّ الظهار إنما هو في
الأزواج، وهذه ليست زوجة، والذي كان عند أهل الجاهليَّة إنَّما كان الظهار من
الزوجة؛ لأن الزوجة هي التي لها حقٌّ وحرمة، فبناء على ذلك لو جرى من السيد على
إمائه شيءٌ من مثل هذه اللأفاظ، فلا يكون ذلك ظهارًا، ولا تترتب عليه أحكامه، ولكن
يكون قد فعل محرَّمًا من جهة أنَّه حرَّم على نفسه ما أحلَّ الله -جلَّ وعَلا- وهذا
يدخل في قوله الله -جلَّ وعَلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا
أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ
وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [التحريم:1]، وبناء على ذلك مَن حرَّمَ امته أو ظاهر
منها فعليه كفارة يمينٍ.
ومثل ذلك لو حرم الإنسان على نفسه شيئًا مُباحًا، وهذا يحصل كثيرًا حتى لو بغير لفظ
اليمين، لو قال: "لا أكلتُ هذا التَّمرَ أبدًا، أو هذا العسل حرامٌ عليَّ أن يدخل
بطني أو أن أتذوَّقه".
نقول: إنَّ مثل هذا هو تحريم لشيءٍ أحلَّه الله، وتضييقٌ لِمَا وسَّعه الله عليه،
وبناء على ذلك تكون كفارته كفارةُ يمينٍ لهذه الآية، ولما جاء عن ابن عباس وجاء عن
غير واحدٍ من السلف وحكم به الفقهاء، فتكون عليه كفارة يمين.
والمؤلف قال هنا: (لَمْ يَحْرُمْ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِيْنٍ)، أراد أن
يُبيِّن أنَّه ليس بظهار، وأنَّ كفارته كفارة يمين.
ثم قال: (أَوْ ظَاهَرَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا أَوْ حَرَّمَتْهُ)، كأن تقول
المرأة لزوجها: "أنتَ عليَّ كظهر أبي".
نقول: الظهار الذي جاء في الشرع لم يكن في جانب المرأة، وأنَّ الظهار نزل على ما
كان عليه أهل الجاهليَّة، وكان المُظاهِر في أهل الجاهليَّة هو الرجل، وهو الذي
يكون منه الإيذاء للمرأة والتضييق عليها، فمن حيث الأصل لا يكون من المرأة ظهار؛
لأنَّ الذي جاء به الحكم على بساطِ حالٍ مَعلومةٍ معروفةٍ، فتعلَّقَ الحكمُ بها،
فهذا ما يتعلق بأصل ذلك.
ثم قال: (لَمْ يَحْرُمْ، وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِيْنٍ)، لو قالت المرأة:
"أنتَ عليَّ كظهر أبي"، فهذا محل خلاف، والمشهور من المذهب عند الحنابلة أنَّ عليها
كفارةُ ظهارٍ وإن لم يكن ظهارًا عندهم، وأصل ذلك أنَّ عائشة بنت طلحة -وهي من
حسناوات العرب وكان يتطلع إليها الوجهاء، فأراد مصعب بن الزبير أن يتزوجها- فقالت:
"إن تزوجت مصعبًا فهو عليَّ كظهرِ أبي"، ويأبى الله إلَّا أن تتزوَّج مصعبًا، فجرى
في ذلك سؤال بعض أهل ذلك الزمان من التابعين ومن الصحابة، فحكموا أنَّ عليها
إعتاقًا وأن يأتيها زوجها.
ومشهور المذهب: أنَّ عليها كفارة ظهار.
والحقيقة وإن كان يُحتاج إلى أن تُراجع ألفاظ ذلك الأثر؛ فحتى في كفارة اليمين فيها
إعتاق؛ فلأجل ذلك ذهب بعض أهل العلم أنها كفارة يمينٍ؛ لأنه ليس بظهار، وأنَّ الذي
جاء في الأثر يُمكن أن يُحمل على أنه كفارة يمين، وعلى ذلك قول المؤلف هنا -وإن كان
خلاف مشهور المذهب عند الحنابلة- وهو قول شيخ الإسلام وجمع من أهل العلم.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَاْلحُرُّ وَالْعَبْدُ فِي اْلكَفَّارَةِ
سَوَاءٌ، إلَّا أَنَّهُ لا يُكفِّرُ إِلَّا بِصِيَامٍ)}.
في نسخة أخرى: (وَاْلحُرُّ كالْعَبْدِ فِي اْلكَفَّارَةِ سَوَاءٌ، إلَّا أَنَّهُ لا
يُكفِّرُ إِلَّا بِصِيَامٍ)، يدل هذا على أن العبد والحر سواء في الكفارة، وقوله
(إلَّا أَنَّهُ لا يُكفِّرُ إِلَّا بِصِيَامٍ)، إنما هو في العبد.
وتقدَّم الكلام عن الحر من جهة الأحكام وهو الأصل، ولكن لو جرى من العبدِ ظهارٌ،
كأن زوَّجَ السَّيِّدُ عبدَه فظاهرَ من زوجته فيكون كذلك؛ لأنَّه نكاح، كما أنَّ
أحكام الطلاق تجري على العبيد كما تجري على الأحرار؛ فكذلك ما يكون من إجراء هذه
الألفاظ المحرَّمة فإنه يتعلق به حكمها، ويلحقه تبعتها، فيكون آثمًا وقد فعلَ
محرَّمًا، ويجب عليه الامتناع من زوجه، وعليه الكفَّارة، ولكن لَمَّا كانت
الكفَّارةُ منها ماليّ وهو ليس من أهل التَّملُّك ولا يجد المال فتكون كفارته
بالصيام، لأن هذا هو الذي يُمكنه، وهو الذي يليق به في حاله حيثُ لا ملكيَّة للعبد،
فلأجل ذلك قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (إلَّا أَنَّهُ لا يُكفِّرُ إِلَّا
بِصِيَامٍ).
{أحسن الله إليكم شيخنا..
ذكرتم أنَّ من ألفاظ الظِّهار "أنتِ عليَّ حرامٌ"، يحصل في هذه الأزمنة أن يقول
"عليَّ الحرام"، وبعضهم ما يدري أنه قد يكون لفظ ظهار}.
قوله: "أنتِ عليَّ حرام" لا إشكال في أنه ظهار في مشهور المذهب، وهو قول جماهير أهل
العلم.
لكن لفظ "عليَّ الحرام" إذا خاطب به زوجته يُمكن أن يُلحق بذلك، وإذا لم يُخاطب به
زوجته فهو محتملٌ أنه يُحرِّم كلَّ شيءٍ ومنها الزَّوجة، ويحتملأنَّه لم يقصد بذلك
الزَّوجة، فيحصل بذلك الإشكال.
وكل هذه من سبيل الشيطان، ومن الأقاويل السَّيّئة، وأنا في عادتي ألَّا أتكلمُ فيها
إفتاءً ولا تبيينًا للحكم بالنسبة للأحوال الخاصَّة على سبيل الإطلاق لكثرة ما فيها
من الإشكال.
وبعض أهل العلم يُحيلها إلى أنها كفارة يمينٍ، ولكن لا يخلو هذا اللفظ من أنَّ
صاحبه قد أدخل نفسه مدخلًا ضيِّقًا، وقد لحق به من التَّبعةِ ما الله به عليم، وهو
يوشك ان يكون قد حمَّل نفسه من تبعة الظِّهار ما هو بيِّنٌ، ولكن القطع بهذا أو
بذاك محلُّ نظرٍ، ومَن جرى منه شيءٌ من ذلك يستغفر الله ويتوب إليه، ثم يستفتي؛
لأنِّي أتحفَّظُ أنَّ أقولَ فيها شيئًا، والله يتولَّانا برحمته.
{لكن في الجملة يا شيخنا مما يجري به اللسان في الطَّلاق، وهذه الألفاظ عمومًا؛ فما
نصيحتكم؟}.
النَّصيحةُ أن يُؤدَّبَ النَّاسُ وأن يُعلَّم النَّاسُ أنَّ هذه ألفاظٌ مسؤولة،
وأنَّها أقاويلٌ بها تبعةٌ في الدُّنيا وفي الآخرة، ولها تعلُّقات بالزَّوجات، ولها
تعلُّقات ببقايا عقدة النِّكاح، ولها تعلقٌ بفعل الإنسان للمحرَّم، وعليه تبعةٌ
عندَ الله -جلَّ وعَلا- فلأجلِ ذلك ما دامَ أنَّ أهلَ العلم يستسهلون مثل هذا، وكل
مَن سأل أجبناه بانه فيه كفارة يمين أو نحو ذلك؛ لم يزل النَّاس في هذا الجانب.
وينبغي ألَّا يُسهَّل للنَّاس في هذا حتى يرتجعوا، وحتى لا يجعلوا نساءهم ألعوبةً،
كلَّما ارتفعَ شيءٌ حرَّم، وكلَّما خفضَ شيءُ حرَّمَ، كلَّما خرجَ من البابِ حرَّم،
وكلَّما دخلَ حرَّم، كلَّما تحرَّك هواءٌ حرَّم! أي شيءٍ هذا!! فما جعلَ الله
المرأة كأيسر وأحقر ما تكون حتى يجعلها الرجل على لسانه!
بعضهم يجعل الطَّلاق والظِّهار ونحوه من هذه الألفاظ هي نوع سبابٍ وشتام، فيشتم بها
زوجه، أو يشتم بها غيرَ زوجتهِ أو أهلَها او نحو ذلك؛ كلُّ هذا بلاءٌ عظيمٌ، فلذلك
لو أنَّه عُظِّم على النَّاس حتى مَن وقعَ فيه علم أنَّه وقع في أمرٍ عظيمٍ، وأنَّه
لا يكاد يخرج منه بأمرٍ يسيرٍ، فإنَّ النَّاس إذا رأوا مَن وقعَ في ذلك لَحِقَ به
مِن الضِّيق والحرجِ ما لَحِقَ؛ فإنَّهم يرتدعون أن يفعلوا مثل تلك الأفعال، أو
يقعوا في مثل تلك الأمور.
أظن أنَّ هذا المجلس هو آخر المجالس في هذا الفصل، ولعلَّنا أن نَقِفَ عند كتاب
اللعان.
وبينَ يدي هذا الختام؛ أستبيحكم عذرًا على ما يكونُ مِن ضَعفٍ أحيانًا في شرحٍ، أو
اقتضابٍ في الوقوفِ على مسألةٍ ونحوها، خاصَّةً أنَّ البضاعةَ في العلمِ بضاعةٌ
قليلةٌ، وأنَّ الذِّهن مكدودٌ، وأنَّ النَّفسَ ضعيفةٌ، ويعترينا ما يعترينا مِن
النَّقصِ كما هي حالةُ البشرِ، والله يتولَّانا برحمته.
ولا يسعني في ختام هذه المجالسِ إلَّا أن أسألَ الله -جلَّ وعَلا- أن يزيدكم مِن
العلم،ِ وأن يرفعكم به، وأن يجعله خالصًا لوجههِ، وأن يعقبكم فيه درجةً عليَّةً في
الدُّنيا والآخرة، وأن يبلِّغكم فيه ما يكونُ تيسيرًا وتسهيلًا، وتوفيقًا وفقهًا،
وخيرًا وهدًى، وألَّا يجعله حجَّةً علينا يومَ نلقاهُ، ونعوذُ بالله مِن الخذلان أو
أن يكونَ حُجَّةً علينا عند لقاء الرَّحمن، وأن يغفرَ لنا ذنوبنا ووالدينا وأزواجنا
وذرياتنا وجميع المسلمين.
ثم إنِّي أشكرُ لكم ما جعلتموه لنا مِن الوقت حتَّى تجلسوا إلينا وتسمعوا ما نذكره
مع ضَعفٍ في المقالة وقلَّةٍ في العلمِ، والله يتولَّانا برحمته، وحسبنا أنَّها
مجالس علم، نرجوا أن تكون فيها بركة، وأن يكون فيها أجرٌ وأثرٌ عند الله -جلَّ
وعَلا.
كما أنِّي أشكرُ كلَّ مَن تسبَّبَ في مثلِ هذه اللقاءات، وفتحَ لنا مثل هذه القنوات
التي نصل إليكم وتصلونَ إلينا، ونتواصى على الخير والبرِ والتَّقوى، وأسأله -سبحانه
وتعالى- أن يجزيهم خير الجزاء، وأن يرفعهم بذلك، وأن يزيدَهم مِن العلم،ِ وأن يفتحَ
لهم أبوابَه وأن ييسِّر لهم نشرَه، وأن يبقيهم منارةً عاليةً شامخةً في هذا الخيرِ
مظهرةً له، باقية ما بقي النَّاس إلى يومِ القيامة، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريم، كما
نسألُ الله -سبحانه وتعالى- أن يُعيدَ لقاءنا بكم مرَّاتٍ وكراتٍ على خيرٍ وهُدًى،
وبرٍّ وتُقى، على العلمِ وطلبِ ما يكون به النُّهى، إنَّ ربنا جوادٌ كريم، والله
المسؤول أن يعفو عني تقصيري، وأن يغفر لي ولإخواني ولأحبابي وللمسلمين، وصلَّى الله
وسلَّم وبارك على نبينا محمدٍ.
{وفي ختامِ هذا الفصل نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ
ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد
العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم
ورحمةُ اللهِ وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
13092 33
-
16746 27
-
23141 18
-
76432 18
-
4938 6
-
2856 22
-
2681 24
-
2643 12
-
5680 12
-
8699 12
-
10597 24
-
11399 13