الدرس الحادي عشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

1802 12
الدرس الحادي عشر

عمدة الفقه (6)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{سنشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- مِن باب الإحداد من كتاب عمدة الفقه للموفِّق ابن قدامة.
قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ اْلإِحْدَادِ
وَهُوَ وَاجِبٌ، عَلى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا، وَهُوَ: اجْتِنَابُ الطِّيْبِ وَالزِّيْنَةِ، وَالْكُحْلِ بِاْلإِثْمِدِ، وَلُبْسِ الثِّيَابِ الْمَصْبُوْغَةِ لِلتَّحْسِيْنِ، لِقَوْلِ رَسُوْلِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ تَحِدُّ امْرَأَةٌ عَلى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلاَّ عَلى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلاَ تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوْغًا إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ، وَلاَ تَكْتَحِلُ، وَلاَ تَمَسُّ طِيْبًا، إِلاَّ إِذَا اغْتَسَلَتْ، نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ»)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلهِ وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ.
أمَّا بعدُ؛ فأسألُ الله -جلَّ وعلا- أن يزيدنا مِن العلم وأن ينفعنا به، وأن يعقبنا التَّوفيق فيه، وأن يجعلَنا هداةً مهتدينَ، غيرَ ضالِّينَ ولا مُضلِّينَ، متَّبعين لهديِ نبيِّنا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبه مُستنِّينَ، وأن يوفِّقنا لذلك أبدًا ما حيينا يا ربَّ العالمين.
بابُ الإحدادِ -كما ذكرنا في آخرِ الدَّرس الماضي- هو مناسبٌ ذكره بعدَ باب العدَّةِ؛ لأنَّ من المعتدَّات مَن يلزمها مع العدَّةِ إحدادٌ، ومَن يتعلَّقُ بها حكمُ اجتناب الزِّينةِ -على ما سيأتي تفصيله -بإذن الله جلَّ وعلا.
وأصل الإحداد في كتاب الله -جلَّ وعَلا- في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرً﴾ [البقرة: 234]، وقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حديث أم حبيبة: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ علَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إلَّا علَى زَوْجٍ، فإنَّهَا تُحِدُّ عليه أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرً» ، وذلك لأنَّ أمَّ حبيبةَ لمَّا توفِّيَ أخوها أبو سفيان بقيَت ثلاثة أيَّامٍ، ثم دعَت بشيءٍ من الطِّيب فتطيَّبَت به، وقالت: "إنِّي كُنْتُ عن هذا لَغَنِيَّةً، لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ:..." ، ثم ذكرت هذا الحديث.
هذا مِن جِهَةِ مشروعيَّةِ الإحدادِ، وهو محلُّ إجماعٍ بينَ أهلِ العلمِ، ولذلك قالَ المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهُوَ وَاجِبٌ)، يعني أنَّه فرضٌ لازمٌ على كلِّ امرأةٍ أن تُحادَّ على زوجها، وهذا الحِداد سواء كان بعدَّةِ أربعةِ أشهرٍ وعشرًا إن كانت قد تُوفيَ عنها زوجها وهي غيرُ حامل، أو كان إحدادها في وقت زمنِ عدَّتها إذا كانت حاملًا حتى تضع حملها؛ فإنَّها تُحادَّ تلك المدَّة كلها، حتى إذا انقضت عدَّتُها انقضَى إحدادُها.
فبناءً على ذلك؛ لو أنَّ امرأةً كانت حاملًا فمات زوجها فهي تعتدُّ ويلزمها الإحداد وهو اجتناب الزِّينة وما سيأتي تفصيله في هذا الباب؛ فإذا وضعت من الغدِ فنقول: انتهت عدَّتها وذهب إحدادها.
ولو أنَّ امرأةً مات زوجها ولم تعلم به إلا بعدَ سِتَّةَ أشهرٍ؛ فنقول هنا: انقضَت عدَّتُها وفات إحدادها؛ لأنَّ الإحداد والعدَّة هي المدَّة التي تَلِي مدَّة الوفاة، كما أنَّ العِدَّة لِمَن طلَّقها زوجها أو خَالعها هي المدَّة التي تَلِي هذا الفسخَ أو هذا الطَّلاق؛ فلو أنَّها لم تتنبَّه لها إلى بعدَ أن انتهت فلا تبدئه مِن جديد، ولا يجبُ عليها أن تستأنفه مِن أوَّلِهِ، بل ذهبَ محلُّه، فإن كان ذلك بتفريطٍ منها فهي آثمةٌ، وإن كانَ ذلك بغيرِ تفريطٍ فليس عليها شيء.
على سبيل المثال: لو أنَّ امرأةً لم تعلم بوفاةِ زوجها إلَّا بعدَ ستَّةَ أشهرٍ؛ نقول: ليس عليها شيء، وانتهت عدَّتها وانتهى إحدادها، ولها أن تتزوَّجَ من يومها هذا، وتلبس ما شاءت من الثِّياب وتتطيَّب بأحسنِ ما أرادت مِن الأطيابِ.
ولو أنَّ امرأةً عَلِمت أنَّ زوجها قد ماتَ، ولكنَّها لا تحبُّه ولا تألفُه، فقالت: والله لا يستحقُّ إحدادًا! حتى إذا انتهى إحدادها جاء مَن ذكَّرها وخوَّفها، كيف تفعلين ذلك وهذا حقُّ الله -جلَّ وعَلا؟! فأرادت أن تستعيد ذلك؛ فنقول: فات محلُّه، وليس عليكِ إلَّا أن تستغفري الله -جلَّ وعَلا- وأن تطلبي العفوَ والمغفرة، فإنَّه ممَّا يفوتُ محلُّه ولا يُمكن استدراكه، ولا يكون له قضاء.

قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَهُوَ وَاجِبٌ عَلى الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَ)، سواءٌ اعتدَّت بالأشهر، أو كانت حاملًا فاعتدت بوضع حملها.
هل يكون إحدادٌ على غير الزَّوجِ؟
نقول: كما في ظاهر الحديث: «لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ، أَنْ تُحِدَّ علَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ، إلَّا علَى زَوْجٍ، فإنَّهَا تُحِدُّ عليه أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرً»، فمن مات له أخٌ أو أبٌ أو أمٌّ أو ابنٌ أو قريبٌ أو صديقٌ أو حبيبٌ؛ فإنَّه في اليوم الأوَّلِ والثَّاني والثَّالث له أن يتبذَّلَ، ويتركَ ما اعتاده من طِيبِ اللباسِ والطِّيب ونحو ذلك، لكن لا يجوز له أن يزيدَ على ذلك؛ لأنَّ هذا مخالفٌ لهدي النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفيه إظهارُ عدمِ الرضَا بقضاءِ الله وقدره، وإنَّما كان هذا لِضعفِ النُّفوسِ، فإنَّ النُّفوسَ لابدَّ أن تأسَى على فِراق حبيبها، فأذن لها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قدرٍ مألوفٍ ومعهودٍ، لكن لَمَّا كان أمرُ الزَّوجية أعظم، ولَمَّا كانَ للزَّوجِ على زوجته حقٌّ أكبرٌ؛ فإنَّه جُعِلَ له خصوصيَّةٌ في ذلك وصارت هذه المدَّة التي هي أربعةُ أشهرٍ وعشرًا.

ثم ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ تَعالى- وقال: (وَهُوَ: اجْتِنَابُ الطِّيْبِ وَالزِّيْنَةِ، وَالْكُحْلِ بِاْلإِثْمِدِ، وَلُبْسِ الثِّيَابِ الْمَصْبُوْغَةِ لِلتَّحْسِيْنِ).
حقيقةُ الإحداد: تركُ الزِّينَة والطِّيبِ، والكُحل بالإثمدِ، ولُبس الثِّيابِ المصبوغةِ، فليسَ للمرأة أن تتزيَّنَ بلُبسِ حليٍّ، أو بأن تجعل في وجهها ما يُكسبه حُمرة، كما يقول الفقهاء "إسفيداج"، وهي كلمة ليست عربيَّةٌ، ومثل ما يقولون "مكياج" أو نحوه، فكلها ليست عربيَّة، ولكنَّها كلماتٌ يُقصَدُ بها ما يحصل به التَّجميل؛ فإنَّ هذه أشياء لا تفعلها المرأة، ولذلك نهى النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تكتَحِلَ المرأة بالإثمدِ الذي يحصلُ به تجميلٌ للعينِ وتزيينٌ لها، وأمَّا ما كانَ مِن غيره ممَّا لا أثرَ له، وإنما يُجعل طبًّا وتطبُّبًا فهذا يُفهَم من كلام المؤلف الإذن فيه، وأنَّه لا يحصل به ما يحصل بغيره من التَّزيُّن والتَّجمُّل.
كذلك مِن أعظم ما يكون به التَّجمُّل والرَّغبة في النكاح وميل الرجال إلى النساء هو في الطِّيب، ولمَّا كانت والمحادَّةُ ممنوعةٌ من كلِّ ما يدعو إلى نِكَاحها، وهي آسفةٌ على ما فاتَ من زوجها ونحو ذلك؛ فإنَّها لا تتطيب، ولأجل هذا جاء في الحديث "وَلاَ تَمَسُّ طِيْبًا".
والأطياب منها ما هو معلومٌ ظاهرٌ، سواءٌ مِن الأطيابِ المصنَّعة، أو كان مثل البخور ونحوه.
ومن الأطياب مَا يلتَصِقُ بالمنظِّفاتِ والأدهانِ، وهي كثيرةٌ في هذه الأحوالِ، فإذا وُجدَ بعضُ الصَّوَابينَ التي فيها رائحةٌ معطَّرة فإنَّها تمتنع منها، وهذه الرَّوائح سواء كانت في الأدهان -الكريمات أو اللوشن- أو في الصَّوَابين أو الشَّامبو الذي يُستعمل لغسيلِ الشَّعر وتنظيفه؛ فهذه على ثلاثة أحوال:
• منها ما هو مقطوعٌ به أنَّه ليس له رائحة، فهذا لا إشكال فيه.
• ومنه ما هو رائحته زكيَّةٌ ويُعلَم أنَّه نوعُ طيبٍ، ومقصودُ الرَّائحة به، فهذا يُمنَع منه.
• ومنه ما هو محلُّ إشكالٍ.
ونحن نُطِيلُ هنا لكثرةِ الحاجة إليه، وضابط الفقهاء هنا: أنَّ مَا كانت رائحته زكيَّة ويتَّخذه النَّاس عادةً طيبًا فلا يجوز استعماله، ففي الأصلِ أنَّ رائحة الفواكه طيِّبَة ولكن ما يتَّخذونها طيبًا، مثل رائحة النعناع مثلًا فهي طيبة ولكن لا تُتَّخذُ طيبًا، فهذا عادة.
وبعض الرَّوائح هنا تكون متردِّدَةٌ، فالأصلُ أنَّها جائزة، ولكن إذا قوِيَ عند الإنسان التَّجمُّل بها والتَّطيُّب كان النَّاس عادة يستنشقونها ويستطيبون برائحتها، فينبغي لهم أن يمتنعوا عنها.
ولذلك لَمَّا كانت أكثرُ أحوالِ الكريمات والأدهان والصَّوابين في هذه الأوقات معطَّرةٌ بعطرٍ تتوق له النَّفس وتألفه وتقصد بذلك تغيير رائحتها به؛ فينبغي أن يجتنب في مثل تلك الحال، كما هو الحال أيضًا في حال الإحرام في أنَّ الإنسان لا يجوز له أن يمسَّ فيه طِيبًا.
واستُثنيَ في الطِّيبِ حالٌ واحدة، وهي إذا اغتسلت المرأة من حيضها، فإنَّ الحيض له رائحة كريهة، فلأجل ذلك يُطلب قطع هذه الرَّائحة، ولذلك لا يتأتَّى بأيِّ شيءٍ، فلذلك أذن لها النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن تغتسل بنبذةٍ مِن قسطٍ أو أظفارٍ، ويسميه بعضهم "الكُسْت" هو نوعٌ من البخور، فتتبخَّر به النساء لتذهب به رائحة الحيضِ أو ما يبقى من أثرٍ في الفرجِ وحوله من رائحةٍ كريهةٍ، فتُقطَعُ بمثل ذلك، فهذا شيءٌ استُنيَ من عموم الطِّيب، وإلَّا فالأصلُ أنَّ المرأةُ لا تطيَّبُ في تلك الحال البتَّة.
قال المؤلف: (وَلُبْسِ الثِّيَابِ الْمَصْبُوْغَةِ لِلتَّحْسِيْنِ).
الحقيقة أنَّ الثِّياب المصبوغة على حالين:
- منها ثياب مصبوغةٌ للتَّجمُّلِ.
- ومنها يُصبَغ لإرادةِ عدمِ ظهورِ الوَسَخِ، مثل الأسود والكُحْلِي؛ فالغالب أنها تلبَس حتى لا يَبين فيها وسخٌ أو قذرٌ، فلو لبست المرأة هذه الثياب فلا شيء فيها، لكن اللون الأخضر والأزرق والألوان البهيَّة والزَّهية ونحوها، فإنَّها تُمنَع منها؛ بل قالوا: لو كان اللون الأسود مما يُتجمَّل به فإنَّه يُجتَنَب.
ولأجل ذلك تعرف النساء أنَّ أنواعًا من السَّواد يكون فيها بريق، فينبغي أن تجتنبه، وأما ما كان منها دون ذلك، وإنما هي شيءٌ فيه هدوءٌ وامتصاص للأوساخ والأقذار حتى لا تتبيَّنُ بسهولةٍ فلا تضطرَ إلى غسله مرَّة بعدَ مرَّةٍ في وقتٍ قصيرٍ؛ فنقول: لا غضاضة عليها في لبسه.
إذا كان الشيء أبيضًا من أصله وليس فيه تجمُّل، فبعضهم يقول: لا بأس به باعتبار أنَّ أصله جميل، وليس للتَّجمُّل، وليس من الألوان التي صُبِغَت وطُلِبَ التَّزيُّن بها.
وبعضهم قال: حتَّى الأبيض فإنَّه يُجتَنب.
وعلى كلٍّ حالٍ؛ نتخلَّصُ من هذا: أنَّ المحادَّة لا تختصُّ بلونٍ معيَّنٍ، لكنَّها لا تتقصَّدُ شيئًا فيه زينةٌ وجمالٌ، ولا تلبس ممَّا جرت العادة باتِّخاذه لذلك، فما كان لونًا باهتًا أو غامقًا كالأسودِ ونحوه كالكُحلِيِّ، أو كان اللونُ مِن نفسِهِ فيه بياضٌ لم يُقصَدُ به ذلك فلا بأسَ بلبسه.
وبناءً على ذلك فالألبسة التي فيها قصٌّ وتزويقٌ ونقش ونحوها، فهذه تكون ثياب زينة حتى لو كان من لونه نفسه، لكنَّه يعتبرُ للتَّحسِينِ والتَّجمُّلِ.
وقوله هنا : (وَلُبْسِ الثِّيَابِ الْمَصْبُوْغَةِ لِلتَّحْسِيْنِ)، فكلُّ ما كانَ شأنه شأنَ التَّحسينِ، سواء كان ذلك بصبغٍ أو كان ذلك بخياطةٍ وحياكةٍ؛ فإنَّه ينبغي أن تجتنبه المرأة، وأمَّا ما كانَ ليس فيه جمالٌ أو جمالُه مِن نفسِه كالأبيضِ فرخَّصَ فيه بعضهم، وقالوا لا غضاضةَ على المرأةِ إذا لبسته على ذلك النَّحو.
قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلاَ تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوْغًا إِلاَّ ثَوْبَ عَصْبٍ» الثَّوب العَصْب هو ما لا يكون به شيءٌ من التَّجمُّل.
قال: «وَلاَ تَكْتَحِلُ»، ذكرنا ما يتعلَّق بالكحل.

قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَعَلَيْهَا الْمَبِيْتُ فِيْ مَنْزِلِهَا الَّذِيْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا اْلعِدَّةُ وَهِيَ سَاكِنَةٌ فِيْهِ، إِذَا أَمْكَنَهَا ذلِكَ)}.
قوله: (وَعَلَيْهَا الْمَبِيْتُ فِيْ مَنْزِلِهَا الَّذِيْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا اْلعِدَّةُ)، وهذا أصله جاءَ في قصَّة فريعة بنت مالك لمَّا أرادت أن تتحوَّل مِن بيتها، فسألت النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأذن لها، حتى إذا خرجت أمرها فرجعَت، فقال لها: «امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» ، فتبقى المرأة في بيتها الذي جاءها فيه خبرُ زوجها إلى أن تنتهي العدَّة.
والمقصود ببيت زوجها، أي: الذي تسكنه، فلو أتَاها وهي عندَ أهلها أو عندَ أخيها؛ فإنَّها تعودُ إلى بيتِها الذي تسكن فيه مع زوجها، وهذا هو الأصل، فتبقى المرأة في بيتها المدَّة التي تُحادُّ فيها، سواء كانت بأربعة أشهرٍ وعشرًا، أو كانت أمةً بشهرين وخمسة أيام، أو كانت حاملًا بوضع حملها.
نلاحظ مسألةً مهمَّة، والفقهاء نصُّوا على مثل هذه المسائل، وما يتعاطاه العوام وما يتردَّدُ بينَ بعضِ النَّاسِ اليوم وينضم إلى ذلك من جهالاتٍ كثيرةٍ يُضيِّقُ بها النَّاس على أنفسِهم ويُلحقونَ بها أنواعًا من الحَرجِ لا أصل له في الشَّرعِ، كأن لا تُكلِّمُ قريبًا، ولا تَظهرُ على محرمٍ، ولا تصادفُ نورَ القمرِ، وتطرحُ غطاءً على رأسها؛ فكلُّ ذلك لا أصلَ له، وإنَّما مَا وجب عليها هو أن تترك ثياب الزِّينة، وتمتنع مِن الطِّيبِ تلك المدَّة، ولا تكتحل، ولا تتطيَّب، ولا تخرج من بيتها إلا لحاجةِ.
قال: (وَعَلَيْهَا الْمَبِيْتُ فِيْ مَنْزِلِهَا الَّذِيْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا اْلعِدَّةُ)، والكلام هنا إنَّما هو في المبيت، لكن لو أرادت أن تخرج في نهارها فلا غضاضةَ عليها، لو احتاجت مثلًا لِشِرَاء حاجاتها حتى لو وُجدَ غيرها يقوم به، لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أذن لتلك المرأة أن تجذَّ نخلها؛ بل لو أنَّه لو حصلَ أن ضاقَ صدرُها أو اغتمَّت نفسُها، فرأت أن تخرجَ إلى بعضِ صويحبتها في بيتِ هذه أو تلك؛ فلا غضاضةَ عليها، لأنَّ بعض نساء الأنصار كنَّ يجتمعن حتى إذا غابت الشَّمس ذهبَت كلُّ امرأةٍ إلى بيتها، ولأجل ذلك عبَّر المؤلف وقال: (وَعَلَيْهَا الْمَبِيْتُ فِيْ مَنْزِلِهَ)، فلذلك لا يُشدَّد إذا احتاجت للذِّهاب إلى الطَّبيب مِن باب أولى، إذا كان لها وظيفة واحتاجت إليها ولم تجد بُدًّا من الذَّهاب إليها، وإلا انقطع رزقها وما تعيش به على ولدها، فلا بأس عليها.
إذن؛ هذه أمورٌ إذا احتاجَت إليها فإنَّه لا غَضَاضةَ عليها في شيءٍ مِن ذلك البتَّة.

قال: (وَعَلَيْهَا الْمَبِيْتُ فِيْ مَنْزِلِهَا الَّذِيْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا اْلعِدَّةُ وَهِيَ سَاكِنَةٌ فِيْهِ، إِذَا أَمْكَنَهَا ذلِكَ)، أمَّا إذا لم يُمكنها ذلك كأن تكون في مكانٍ بحيث تخاف ولا يُؤمَن عليها، أو كانَ المكانُ مستأجرًا وليس عندها ما تكتريه به فتبقى، ولم يرضَ ذلك الرَّجلُ أن يُبقيها ولا أن يُنظِرها، أو انتهت المدَّة ولم يُرد أن يُجدِّد لها وأمرها أن تخرج؛ ففي تلك الأحوال كلِّها يُمكن أن تتحوَّل، ولكن الأصل أنَّه ما دامَ أمكنها أن تبقَى في بيتها فإنَّها لا تخرج منه، حتى لو وجدت شيئًا مِن المشقَّة أو البُعدِ عن أهلها أو نحو ذلك، ولكن إذا ترتَّب على ضررٌ أو خوفٌ أو لم يتيسَّر لها أن تبقى كأن تكون في دارٍ متسأجرةٍ فتحوَّل عنه ولا تُمكَّن منه أو لا تجدُ أجرةً عليه؛ فلا بأسَ عليها في التَّحول.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ خَرَجَتْ لِسَفَرٍ أَوْ حَجٍّ؛ فَتُوُفِّيَ زَوْجُهَا وَهِيَ قَرِيْبَةٌ، رَجَعَتْ لِتَعْتَدَّ فِيْ بَيْتِهَا، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ مَضَتْ فِيْ سَفَرِهَ)}.
لو أنَّ المرأة خرجَت لسفرٍ أو لحجٍّ، ثم أُخبِرَت أنَّ زوجها ماتَ، يقول المؤلِّف: إذا كانت قريبة فإنَّها في حكم المقِيمَة، فلا يشقُّ عليها الذَّهاب، والإحدادُ متعيِّنٌ في هذه الحال، والحجُّ يُمكنها في حالٍ ثانيةٍ، ولا يضيقُ وقتُه؛ بل يتَّسعُ في مثل حكمها، وبناء على ذلك ترجع إلى بيتها.
يقول المؤلف: (وَإِنْ تَبَاعَدَتْ)، يعني: إن كانت في نِصف الطَّريق، أو بعدَ أن قطعت شوطًا لا بأسَ به، أو كانت بمكَّة أو ما قاربها؛ فإنَّها لا يلزمها الرُّجوع، ولذلك قال المؤلف: (مَضَتْ فِيْ سَفَرِهَ)؛ بل إذا كانت قد خافت فوات الحجِّ وهي قد قربَت منه فالأولى لها أن تكمل حجَّها؛ لأنَّهما واجبان، أحدهما وجب عليها وهو الإحداد، والثَّاني وجبَ عليها وهو إتيان تلك الفريضة، وليس أحدهما بأولى مِن الآخر، فكان ما تلبَّست به وشَرعَت فيه أولى، وبناءً على ذلك تُكمل ما مضت فيه من حجٍّ؛ ولأنَّ الأمرَ هنا يتعلَّق فقط بلزوم المسكن، وأمَّا الأشياء الأخرى فإنَّها لازمةٌ لها سواءٌ بقيَت في بيتها أو كانت في حجِّها، مِن اجتناب الزِّينة، وعدم تجمُّلِ ثيابٍ.
لقائل يقول: هي محرمةٌ؟
نقول: ليس كلُّ وقتها إحرامٌ، فإذا خرجَت مِن إحرامها فكذلك يلزمها ألَّا تتجمَّل ولا تتزيَّن ولا تتطيَّب، ولا تكتحل بإثمدٍ ونحوه.

هنا مسألة: ما يتعلَّق بالتَّنظُّفِ والاغتسالِ؛ فهذا لا حدَّ للمرأةِ فيه، فسواءٌ اغتسلت كلَّ يومٍ أو كل يومٍ مرتين، أو أقلَّ مِن ذلك أو أكثر؛ فلا غضاضة عليها، لأنَّها ليست ممنوعةً من النَّظافة ولا تكميلها، وإنما هي ممنوعة من الزِّينةِ وما شابهها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلاَثاً مِثْلُهَا، إِلاَّ فِيْ اْلاِعْتِدَادِ فِيْ بَيْتِهَ)}.
المطلَّقة ثلاثًا -البائن- هل يلزمها الإحداد أو لا يلزمها؟ هل يجب عليها اجتناب الزينة أو لا يجب عليها؟
لمَّا قال المؤلف (وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلاَث)، فمَا بالُ المطلَّقة واحدة أو اثنتين؟
المشهورُ عند الفقهاءِ أنَّ الأولَى للرَّجعيَّة أن تتزيَّن، لأنَّ ذلك أدعَى لزوجها أن يعودَ إليها؛ فإذن هذه قد انتهت.
بقي عندنا المطلقة ثلاثًا؛ هل هي مثل المحادَّة التي مات عنها زوجها أو لا؟
ظاهرُ كلامِ المؤلِّف في ذلك أنَّه شبَّهها بها في أحد الحالين، وهو اجتناب الزِّينة ونحوها، ولم يُشبِّهها في اللُّبث في البيت، وقد جاء هذا في قصَّة فاطمة بنت قيس لمَّا تحوَّلت عند أو شُريكٍ، ثم حولها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى بيتِ ابن أم مكتومٍ، وقال: « فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ» ، فدلَّ على أنَّها لا يلزمها أن تبقى في بيت الزَّوجيَّة.
هل عليها المحادَّة أو لا؟
هذه المسألة فيها قولان لأهلِ العلم، ونحا المؤلِّفُ إلى أنَّها تجتنب الزِّينة، ولكن المشهور من المذهب أنَّ هذا لا يجب عليها، وإنَّما الخلاف في أنَّه مباحٌ أو مسنونٌ، ولعلَّ مَن ذهبَ إلى أنَّ المرأةَ تُحادُّ في مثل تلك الحال؛ فإنَّه يقول: إنَّ المرأة حالَ عدَّتها وهي بائن لا تَطلَّعُ إلى النِّكاح لأنَّها ممنوعة منه، فتطلُّعها بالتَّزيُّن والتَّجمُّلِ ونحو ذلك يُزري بها ويُلحق بها التَّهمة، فكأنَّهم ذهبوا إلى أنَّها مثل المتوفى عنها زوجها، فيجب عليه أن تجتنبَ الزِّينة.
ونقول: ليس شيءٌ في ذلك واجبٌ، وليس شيءٌ في ذلك متحتِّمٌ، والأمرُ دائرٌ بينَ الإباحةِ والاستحباب، وعلى كلِّ حالٍ؛ فحفظًا لنفسها، ولئلا يُتطاوَل عليها، فاقتصارها على ما تحتاج إليه من نظافةٍ ونحوها أولى من التَّجمُّل ونحوه، أو على الأقل تترك المبالغة في ذلك وتتفاداه حتى تنتهي عدتها، والله أعلم.

{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (باَبُ نَفَقَةِ اْلمُعْتَدَّاتِ
وَهِيَ ثَلاَثَةُ أَقْسَامٍ، أَحَدُهَا: الرَّجْعِيَّةُ، وَهِيَ: مَن يُمْكِنُ زَوْجُهَا إِمْسَاكَهَا، فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى)
}.
بعضُ أهلِ العلم يذكر هذا الباب تبعًا للمعتدَّة، وبعضُهم يذكره في كتابِ النَّفقات؛ فيجمع كلَّ ما يتعلَّق بالنَّفقات جميعًا، والمؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- مشَى على خلافِ ذلك، فذكرَ نفقةَ الزَّوجة في أحكامِ عِشرة النِّساء -كما تقدَّم معنا- وذكرَ نفقةَ الأقارب في بابِ النَّفقات، وذكر نفقةَ المعتدات في بابٍ مخصوصٍ في كتابِ العدَّة ونحوها، وهو الذي ذكره المؤلف هنا.
فأوَّلهنَّ الرَّجعيَّة، وهي مَن كانَ إمساكها ممكنٌ للزَّوج، وهي ألا تكون قد طُلِّقَت بعوضٍ أو خالعَها زوجُها، ولا أن يكونَ قد فسخَ القاضي نكاحهما، ولا أن تكونَ بُتَّ طلاقُها -يعني: ثلاث تطليقات- فإذا كانت مُطلقةً واحدةً أو اثنتين، ولم يكن فيه عوض، ولم يكن فسخٌ من حاكم؛ فهذه مَن يُمكن رجعتها، وبناء على ذلك إذا كان يُمكن رجعتها فلها النَّفقة والسُّكنَى؛ لأنَّها زوجةٌ من الزَّوجات، ولأنها محبوسةٌ على زوجها حتى تنقضي عدَّتها، فبناء على ذلك فلها العدَّة، وهذا لا اختلاف فيها بينَ أهل العلم، أنَّ الرَّجعيَّة زوجة، وأنَّ لها ما للزَّوجات.
لقائلٍ أن يقول: الزَّوج لا يستمتع بها، وقد ذكرنا أنَّ النَّاشز لا نفقة لها!
نقول: فرقٌ بينَ النَّاشز وبينَ الرَّجعيَّة، فالنَّاشز هي التي استدعت لنفسها إسقاط النَّفقة؛ لأنَّها ترفَّعَت على زوجها ولم تؤدِّ حقَّه، أمَّا الرَّجعيَّة المطلَّقة ما طلبت الطَّلاق ولا سعَت إليه، وهو الذي طلَّقها، وهي محبوسةٌ لأجله هذه المدَّةِ، فتعظيمًا لهذا العقد، ولعلَّه أن يقع في قلبه محبَّةُ إرجاعها، فبناءً على ذلك كان لها النَّفقة والسُّكنَى؛ لأنها زوجةٌ من الزَّوجات.
{ما الحكم إذا بانت البينونة الصُّغرَى، فهل تستمر النَّفقة؟}.
إذا انقضت عدتها انتهت النفقة، فلا عُلقَةَ بينهما، وبناءً على ذلك لا تستحق نفقةً لنفسها.

{قال: (إِنْ أَسْلَمَ زَوْجُ اْلكَافِرَةِ أَوِ ارْتَدَّتْ امْرَأَةُ اْلمُسْلِمِ فَلاَ نَفَقَةَ لَهُمَ)}.
إذا أسلمَ زوجُ الكافرة وهي لم تسلم وباقيةٌ على كفرها، فيقول الفقهاء: لا نفقة لها، وإن كانت الفرقةُ قد جاءت من جهةِ الزَّوج، لكن لَمَّا كانت هي التي تأخَّرَت في الإسلام، وهي مأمورةٌ بالإسلام؛ فكأنَّها هي التي استدعت على نفسها ذهاب نفقتها.
ومثل ذلك لو ارتدَّت المسلمَةُ سيُفرَّق بينهما، وكأنَّها هي التي استدعَت تفويت نفقتها، فبناء على ذلك لا نفقةَ لهما، والعكسُ بالعكس.
قال المؤلف: (وَلَوْ أَسْلَمَت امْرَأَةُ اْلكَافِرِ)، فإنَّها يُفرَّق بينهما لأجل إسلامها، فالفرقةُ جاءت من جهتها، لكن يقولون مع ذلك أنَّ لها النَّفقة؛ لأن الكافر يلزمه الإسلام، فكأنَّه هو الذي تأخَّر وتوانى عن أداءِ ما يجبُ عليه من الإسلام، وهي أدَّت ما عليها من دخولها في الإسلام، وبناء على ذلك يلزمه النفقةُ لها.
ومثل ذلك قوله: (أَوِ ارْتَدَّ زَوْجُ اْلمُسْلِمَةِ)، فهو الذي استدعَى الفرقة، والمسلمة ثابتةٌ على دينها مُستحقَّةٌ لحقِّها، فلأجل ذلك قال المؤلف (فَلَهَا نَفَقَةُ اْلعِدَّةِ)؛ لأنهم فعلوا ما يجب عليهم.

{قال: (الثَّانِيْ: اْلبَائِنُ فِيْ اْلحَيَاةِ بِطَلاَقٍ أَوْ بِفَسْخٍ، فَلاَ سُكْنَى لَهَا بِحَالٍ، وَلَهَا النَّفَقَةُ إِنْ كَانَتْ حَامِلاً، وَإِلاَّ فَل)}.
قوله (اْلبَائِنُ فِيْ اْلحَيَاةِ بِطَلاَقٍ أَوْ بِفَسْخٍ، فَلاَ سُكْنَى لَهَا بِحَالٍ)، أي: التي طُلِّقَت طلاقًا بائنًا سواء كان ذلك بطلاقٍ أو فسخٍ أو خلعٍ؛ فلا سُكنَى لها، وهذا أظهر ما يكونُ، وهو محلُّ اتِّفاقٍ بينَ أهل العلم، ففي حديث فاطمة بنت قيسٍ «لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ» ، وفي بعض الروايات «إلا أن تكوني حاملً»، ذلك أن زوجها أرسل إليها شيئًا، فكأنَّها استقلَّته وكرهته وردَّته، فذكر النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألا نفقة لها ولا سُكنَى غير أن ذلك كان إحسانًا منه.
وعلى كلِّ حالٍ؛ فليس لبائنٍ سُكنَى البتَّة ما دامت طُلِّقَت ثلاثًا أو بانت بخلعٍ، أو بفسخٍ أو انتهت عدَّتُها فلا حقَّ لها البتَّة.
هل تكون لها نفقة أو لا؟
إن كانت غير حاملٍ فلا نفقة لها للحديث، وأما إن كانت حاملًا فإنَّ لها النَّفقة، لأنَّ النَّفقة حقٌّ لهذا الولد وهو ولد الزَّوج، والنَّفقةُ عليها لِقيام ذلك الحمل وثباتٌ له وإنعامٌ عليه، وهذا واجبٌ عليه، فلذلك تجب لها في مثل تلك الحال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّالِثُ: الَّتِيْ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا عَنْهَا، فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا وَلاَ سُكْنَى)}.
التي تُوفيَ عنها زوجها لا نفقة لها ولا سُكنَى، هذه من أكثر المسائل التي يكثُر عليها الكلام، ويزيدُ فيها النِّقاش ونحوه.
فكونه لا نفقة لها فهذا ظاهرٌ من جهةِ أنَّها وارثة، فما كان من ميراثها فهو لها، وما زاد عن ذلك فإنَّه قدرٌ يزيد على حق الورثة، فالأصل أنَّ لكلِّ وارثٍ حقًّا، فبناء على ذلك لا نفقة لها البتَّة.
هل تجب لها السُّكنَى أو لا؟
هذه المسألة فيها إشكالٌ من جهة أنَّ المرأة مُطالبةٌ بالبقاء في بيتها الذي جاء خبر زوجها فيه، وأنَّ بقاءها في هذا البيت لحق زوجها، فهي جلست في البيت حدادًا على زوجها، وبناء على ذلك هل تكون لها السُّكنَى أو لا؟
من أهل العلم مَن قال: لا سُكنَى لها -كما هو مشهور المذهب هنا- وهو قول أبي حنيفة وجماعة من أهل العلم.
ومنهم من يقول: إنَّ لها النفقة، وهو قولٌ لمالكٍ وقولٌ عند الشَّافعي -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
وسببُ ذلك: منهم من قال: لأنَّها وارثة، وأنَّ هذا حقٌّ للزَّوجيَّة فيلزمها أن تقوم به، ومنهم من سلكَ مسلكًا آخرَ وهو أنَّها لمَّا كان بقاؤها لحقِّ الزَّوج فإنَّ السُّكنَى في التَّركةِ ثابتة، وبناء على ذلك لا تُحوَّل من هذا البيت إذا كان بيتًا للزَّوجِ، وإذا كان مكترًى فإنَّها يُدفَعُ لها مِن التَّركةِ قدرَ هذه المدَّة حتى تنتهي عدَّتها فتتحوَّل، لأنَّها بقيَت لأجله.

فهذه مِن المسائل التي يكثر فيها الكلام ويُعاد فيها الحديث، وهي مِن المسائل التي جرى فيها خلافٌ بينَ أهلِ العلم، فهذا إشارةٌ إليه، ونحن لا نُحبُّ ذكرَ الخلافات كثيرًا، لأنَّها لا تزيد إلَّا تشعُّبًا وتشتُّتًا، وكثيرٌ مِن النَّاسِ إذا نُقِلَت له الخلافات يَظنُّ أنَّه في فُسحةٍ مِن الأمرِ فيأتي هذا أو يأتي ذاك؛ وهذا إنَّما هو الهوَى، والنَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «استفتِ قلبكَ» ، فلا يخلُ المتلقِّي لذلك إمَّا أن يكونَ مِن أهلِ العلم الذي يستطيع أن يُمايزَ بينَ الأقاويل ويعرفَ الرَّاجحَ مِن المرجوح، وله منزلةٌ رفيعةٌ لا يقدرُ عليها إلَّا الخُلَّص من النَّاس والقلَّة منهم، فإذا عَلِم مِن نفسه ذلك واجتمعت له آلةُ النَّظرِ والاجتهادِ؛ فهو موكولٌ إلى نظرِهِ واجتهادِهِ ومؤتمنٌ على ذلك.
وإن لم يكن قد بلغَ هذه المرتبة -وهو غالب حالنا- فإنَّ الإنسان لا يسعه إلَّا أن يعملَ بقولِ مَن يثقُ به، فإن كانَ على مذهبٍ معروفٍ معتبرٍ فأخذَ بهذا المذهب المعتبر فهو على ما هو عليه، وإن كانَ له مُفتٍ في بلدِه يعلم ديانَته وتمامَ علِمِه وحُسنَ نظرِهِ ولا يشكُّ فيه، ويرتفع عنه أن يكون صاحبُ هوًى، أو قائلٌ بالجهلِ؛ فأخذَ بقوله فهو في سلامةٍ وعافيةٍ.
وأمَّا إن بدا يتنقَّل من قولِ هذا إلى قولِ ذاك بزعمِ أنَّ هذا قولٌ للشَّافعي وذاك قولٌ لأحمد، ويسعه القول بهذا أو بذاك؛ فلا، فإنَّ هذا هو تتبُّع الرُّخَص، ومنَ تتبَّعَ الرُّخَصَ فسَقَ، كما نصَّ على ذلك الفقهاء -رَحِمَهُم اللهُ تَعَالَى- بل جاء عنهم ما هو أشدُّ من ذلك، ونحن في زمانٍ كثُرَ المتقوِّلةُ على العلماء، وربَّما تجمَّل بذلك بعضُ مَن يخرجون في الشَّاشاتِ وينقلون للنَّاس الأقاويل والخلافات، بعضهم يُريد بذلك تقريب النَّاس للشُّررورِ وتسهيلها عليهم، وأنَّ هذا يوجد فيه قولٌ، وهذا يُوجَد فيه قولٌ، ولا تُلزموا النَّاس بهذا ولا بكذا وكذا؛ ثم يقع على النَّاس أنواعٌ من الجهالات؛ فهذا بابٌ من أبواب السُّوء والجهل، وإمَّا أن يذكر ذلك على سبيلِ النَّقل ونحوه ويظن أنَّ ذلك خيرٌ وهو ليس بخيرٍ، لأنَّه تشتيتٌ لعوامِّ النَّاس، وهم لا يعرفون أنَّ هذا القول أصوب من هذا، أو أنَّ هذا العالمَ أتمَّ من هذا العالم، فيُفضِي بهم إلى أن يأخذوا مِن هنا وهناك، فيحملهم في بعض الأحوال على أن يقولوا بالهوى، فهذه مسألةٌ مهمَّةٌ وبابٌ خطيرٌ.
ولذلك تَلحظون أنَّنا في كلِّ الشَّرحِ نتجنَّبُ الخلافَ قدرَ الاستطاعةِ، مع علمنا من أنَّ المتلقِّين لمثل هذه الدروس تختلف مذاهبهم ومشاربهم وديارهم وبلدانهم، لكن لمَّا كانَ الأصل الأصيل للتَّعلُّمِ والتَّعليم عند أهل العلم المتقدِّمين والمتأخِّرينَ على اختلاف مذاهبهم أنَّ الطالب في أوَّلِ درجاتِ تأهُّله إنَّما يأخذ المسألةَ على قولٍ واحدٍ، وأنَّه لا يسعه الانتقال إلى الخلافات وذكر الأقاويل، فجرينا هنا قدرَ الاستطاعةِ على ذلك.
وفي بعض المسائل نذكر الخلاف لكثرة الخلاف فيها وشهرته، فلابدَّ مِن الإشارةِ إليه حتَّى تُعلَم منزلة هذه المسألة مِن بين المسائل، لكن مَن صارَ على مذهبٍ مِن المذاهب فلا تخلو بعض المذاهب في بعض الأحوال القليلة مِن أقوالٍ شاذَّة، فإذا تنبَّه إلى قولٍ شاذٍّ لعالمٍ سابقٍ في الفَضلِ، أو جرت الفتيا والعمل على خلاف ذلك فذهب إلى محلِّ العمل ونحوه وما جرت عليه الفتيا فلا غضاضةَ عليه، ولا يُناقضُ ذلك ما ألِفَه مِن كثرة الذِّهاب إلى قولِ ذلك الإمام، لكن لا يكون متشهيًا متنقِّلًا، لأنَّ كثيرًا مِن النَّاسِ في هذا الزَّمان مَن يتشهُّونَ بالأقاويل، ويتفكَّهون بذكر خلافاتِ العلماء ليسَ لشيءٍ إلَّا لأنَّه وجدَ فيه قولَ فقيهٍ.
فنقول: هذا لا يكون صحيحًا، ولا يكون معتبرًا، ومَن أراد السَّلامة في دينه فإنَّه يلتزم ما يكون به السَّعي على منهج أهل العلم، وفي ذلك غُنيةٌ له وسلامة، والله الموفق، وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمدٍ.
{جزاكم الله خيرًا يا شيخ.
وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك