الدرس الثالث

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

1827 12
الدرس الثالث

عمدة الفقه (6)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ د. عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، وحيَّاكَ الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات في مجلسٍ من مجالس العِلم، وحلقةٍ مِن حِلَقِه، أسألُ الله أن يَنفعنا جميعًا بها.
{في هذه الحلقة -بإذن الله- نقرأ آخر فصلٍ مِن الفصول التَّابعة لباب القَسْم والنُّشوز.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَصْلٌ فِيْ النُّشُوْزِ
وَإِنْ خَافَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا نُشُوْزًا أَوْ إِعْرَاضًا، فَلاَ بَأْسَ أَنْ تَسْتَرْضِيَهُ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حُقُوْقِهَا، كَمَا فَعَلَتْ سَوْدَةُ حِيْنَ خَافَتْ أَنْ يُطَلِّقَهَا رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمَّا بعد؛ فأسأل الله -جَلَّ وَعَلا- أن يجعلنا وإيَّاكم مِن عِباده المتَّقين، الذين إذا أُعطوا شكروا، وإذا أَذنبوا استغفروا، وإذا نسوا تذكروا، وأن يَجعلنا هَادين مَهديين غير ضالِّينَ ولا مُضلِّينَ، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريمٌ.
يقول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ خَافَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا نُشُوْزًا أَوْ إِعْرَاضًا، فَلاَ بَأْسَ أَنْ تَسْتَرْضِيَهُ).
لا تخلو المرأة من أن تطلب رضا زوجها، سواء كان ذلك فيما يجب عليها طلبًا لمرضاة الله، أو كان ذلك فيما لا يجب عليها لتستكمل به الأجر، وتزداد به من الخير، وأعظم ما يكون من البذل والإحسان هو ما يبذله المرء لزوجه -المرأة لزوجها والزوج لزوجته- ولذلك كثيرٌ من الناس يُحسنون، يتصدَّقون، يلطفون بأقاربهم، يُحسنون إلى جيرانهم؛ غير أنَّ بيوتهم تلتهبُ نارًا، وهذا خلاف مَا أَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلا- به، فلذلك حينما ترى المرأة مِن زوجها شيئًا مِنَ الإعراض أو التَّأفُّفِ أو الاستنكار للبيتِ، أو على خلافِ ما أَلِفَته من سكونه وحُسنِ عَهده، ونحو ذلك؛ فلا بأس أن تسترضيه، وأن تُذهِبَ بعضَ حقِّها، وأن لا تُطالب بكامل ما يجب لها، فإذا رأت منه مثلًا انشغالًا، فإن كان له أكثر من زوجة، وقلبه يميل إلى إحداهنَّ، فخافت أن يكون ذلك سببًا لما هو أشد، فقالت: إذا تأخَّرتَ عندها أو ذهبت لها في بعض الليالي -كحلٍّ يسير- فإنِّي لا أجدُ عليك في ذلك شيئًا، وأنا أُحلِّلُكَ عند الله -سبحانه وتعالى.
وإن قالت: إن رأيتَ في بعض الأحيان أن تنام عندها، أو بدا لك أن تبقى في بيتك ذاك، أو نحوه؛ فهذا ممَّا تسترضي به المرأة زوجها، وربما كان ذلك أرفع لمنزلتها، وأدعى لأن يُقبل الزَّوج عليها، كما أنَّها تحفظ بذلك ما هو أكبر وأهم، من استقرارٍ البيت، أو سكون الأولاد، وحصول الخير، وأنَّه ما قد يفوت عليها بالطَّلاق قد يحصل لها في بعض الأحيان.
وكان شيخنا الشيخ ابن باز -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- يقول كلمة لطيفة: "أَنْ تَرضى المرأة بنصف زوجٍ، أو ثلث زوج، أو ربع زوج؛ خير من أن تكون بلا زوج!"
وهذا في حالِ ما إذا كان له أكثر من زوجةٍ، أو طمع في نكاحٍ وخافت في ذلك، فكثير من النساء إذا تزوَّجَ زوجها طلبت الفِراق، وهي في هذا خاسرة، فبدلَ أن كان لها نصف زوج صارت مُطلَّقة، والمطلقة يلحقها مِن الأعباء ويكون للناس عليها نظرة أقل بكثير مِن نظرتهم إلى مَن كانت مُزوَّجة، ولو كان عند زوجها زوجةٌ أخرى أو ثالثة أو رابعةٌ.
إذن ينبغي للمرأة أن تكون عاقلة، وينبغي للنساء أن يتواصين على ذلك؛ لأنَّ من أعظم ما يكون من السُّوء ويستجلب الشَّرَّ أن بعضهنَّ يُوصي بعضًا بالسُّوء والشَّر، ويتواصينَ بوصيَّةِ الشَّيطان في أن تفسد المرأة على زوجها، وأن تزيد مِن حَنْقِها، وأن لا تسكن نفسها، فتقول لها: لا تتركيه يفعل كذا، ولا تجعلي كذا...، وهذه فلانة سكنت فذهب بعض حقها...، وهذه...، وهذه...؛ فيلعب بها شيطان الجن وشيطان الإنس!
وويلٌ لمَن قالت تلك المقالات وذهبت بها الأيام، وتظن أنَّها في خير، وقد أعقبها الله -جَلَّ وَعَلا- سيئاتٍ يلحقنها يوم القيامة، وكم من النِّساء التي اجتلبت على بيتها بما أفسدت من بُيوت الناس شرًا عظيمًا، وهي لا تدري أنَّ سببها كلمة قد قالتها، أو سواءً قد استجرته -أو نحو ذلك- على غيرها.
إذن يتواصين النِّساء على الأُنس وإبقاء البيوت، والحفاظ عليهنَّ، والطَّمعِ في أن تكون على خير حالٍ، كما فعلت سَودة رضي الله عنها حين خافت أن يُطَلِّقَها رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكذلك الزَّوج إذا خاف من زوجته، فبعض الأحيان قد يكون الزوج مِنه ضعف، أو منه مرض، أو منه حالٌ سيئة، ثم هو في ذلك كلِّه قد يطلب من المرأة أشياء كثيرة، وقد تكون ليست بلازمةٍ لها، ولا بمتحتِّمةٍ عليها، فينبغي له إذا رأى شيئًا من ذلك أن يستطيب خاطرها وأن يسترضيها، فإن كان رضاها في مالٍ يزيد، أو كان في حاجةٍ لها يقضيها، وإن كان ذلك في بعض الأمور فيساعدها عليها، وكم من النساء طُلبَت في خيرٍ بأمرٍ يسير، وطابت بذلك الحياة، وأنِسَت بذلك النفوس، وكم من البيوت التي قاربت الفراق حُلَّت بأبسطِ ما يكون، بكلمةٍ، أو بفعلةٍ يسيرة.
إذن هذا هديٌ نبويٌّ، وفعلٌ صحيحٌ، وسنَّةٌ مرضيَّةٌ، وطريقةٌ نبويَّةٌ؛ في أنَّ المرأة والرجل إذا رأى كلٌّ واحد منهما من صاحبه شيئًا؛ فإنَّ له أن يطلب ما يمنع أن تفسد الزَّوجيَّة، أو أن يحصل فيها الخلاف، أو أن يدبَّ إليها الشيطان والنِّزاع.
فجعل المؤلف ذلك مُقدِّمةً، وهي من أنسب ما يكون لأن تستحضره الزَّوجات والأزواج في حياتهم، طلبًا لرضا الله -جَلَّ وَعَلا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ خَافَ الرَّجُلُ نُشُوْزَ امْرَأَتِهِ وَعَظَهَا، فَإِنْ أَظْهَرَتْ نُشُوْزًا، هَجَرَهَا فِيْ اْلمَضْجَعِ فَإِنْ لَمْ يَرْدَعْهَا ذلِكَ، فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ)}.
قال (وَإِنْ خَافَ الرَّجُلُ نُشُوْزَ امْرَأَتِهِ وَعَظَهَ)، هذه الدَّرجات هي آيةٌ تُتلَى في كتاب الله -جَلَّ وَعَلا- في سورة النساء: ﴿وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلً﴾ [النساء: 34].
والمشهور عند أهل العلم: أنَّ هذا الذِّكر ذكرٌ مرتَّبٌ وإن كان بواو الجمع، إلا أنَّه يدلُّ على أنَّه لا يُنتقَل إلى مرحلةٍ جديدة إلا إذا لم تنفع المرحلة التي قبلها، فإذا نفع في الزَّوجة الوعظ والتَّخويف والتَّذكير بالله -جَلَّ وَعَلا- وبما للزوج من الحق، وبما لها في ذلك من الأجر، وبما يلحقها من الإثم؛ فإنَّها تقرب من زوجها وتُراجع أمر الله -جَلَّ وَعَلا.
ومن المعلوم أنَّ كثيرًا من النساء في هذه الآونة الأخيرة بما اجتُلبَت من الشُّرور، وتداخلت من الثَّقافات؛ صارت تجعل رأسها برأس الزَّوج، وتجعل أمرها كأمره، فلا تلوي على قوله، ولا تأتمر بأمره، وكلُّ ذلك مخالفة لأمر الله -جَلَّ وَعَلا- ومهما وجدت في الدُّنيا من سَعةٍ، أو وجدت مَن يُقوِّي أمرها؛ إلا أنَّ عاقبتها عند الله -جَلَّ وَعَلا- خُسرًا، والله -جَلَّ وَعَلا- جعل للرجال قِوامة، وجعل لهم ولاية، ولا يجوز أن يُفتات عليهم في ذلك البتَّة.
على كلِّ حال؛ إذا خاف الرجل من امرأته نشوزًا وعظها، وهذا الوعظ تذكيرٌ بالله -جَلَّ وَعَلا- وبما أمر من حقِّ الزَّوجِ ونحو ذلك.
وإذا أَعْيَى الزَّوج أن يعظها لجهالته، أو لعدم علمه، أو لعدم انتفاذها به؛ فلا غضاضة أن يستعين بمَن يصحونها، وأن ينظر فيمن يعظها، أو أن ياتي إليها بكتابٍ، أو أن يُرسل إليها رسالة صوتيَّة أو مرئيَّةً أو نحوها؛ بما يُحصِّل هذا الوعظ والتنبيه.
بعض النساء ممَّن انقفلت قلوبهنَّ وفسدت نفوسهنَّ لا ينفع فيها الوعظ والتخويف، فيقول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِنْ أَظْهَرَتْ نُشُوْزً)، يعني: لم تستجب، ولم يبدو منها أيَّ إقبالٍ هجرها في المضطجع.
ما الذي يتحصَّل به النُّشوز؟
الفقهاء -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى- يقولون: يتحصل النشوز بترك ما يجب على المرأة من الحقِّ لزوجها، وهو الذي تقدَّمَ ذكره في المجلس قبل الماضي، لَمَّا قُلنا:
هل الواجب على المرأة أن تخلي بين زوجها والاستمتاع؟
أو أنَّ الواجب عليها ما يجب على مثيلاتها من القيام في البيوت بالمعروف؟
سواء كان ذلك في استمتاع الزوج بزوجته، أو كان ذلك في قيامها على بيته، وخدمته، والإحسان إلى ولده، فما كان ذلك معروفًا، وهذا يتباين فيه الناس كلٌّ بحسب ما اعتادوه، وبحسبِ منازلهم الدُّنيويَّة، وما يسَّر الله لهم من وجود خدمٍ، أو فُسحةٍ في الدُّنيا أو غير ذلك، أو اعتادوا أمرًا يعتادونه، فإنَّ مِنَ النَّاس مَن لهم وجاهةٌ بأسمائهم، أو بأشرافهم ونسبهم، فعادتهم ألا تخدم نساؤهم البتَّة، فمثل ذلك جرت العادة أنَّ لهنَّ خادمًا، فلابدَّ لها من خادمٍ، وهكذا..
فإذن نشزوها بترك ما وجب عليها، سواء قلنا الأول أو الثاني، فإذا أظهرت النُّشوز، كأن يأتي الزوج ولا يجد طعامًا في البيت، مثلها ممَّن يوجد الطَّعام، ويُصلح البيت بالغداء ونحوه؛ فإنَّ ذلك نشوزٌ منها، وإذا كان ذلك فيما هو أخصُّ -وهو ما لا خلاف فيه- فإذا طلبها وليس بها عذر كأن لا يكون بها مرضٌ أو علَّة أو عارض ونحو ذلك؛ ومع ذلك لم تُجب زوجها؛ فهي في هذا آثمة أيَّما إثم، وهي ناشزٌ، ويتعلق بها ما ذكره المؤلف هنا.
قال: (فَإِنْ أَظْهَرَتْ نُشُوْزًا، هَجَرَهَا فِيْ اْلمَضْجَعِ).
المقصود بالمضطجع: الجماع، وهو أن يترك جماعها، وقد يَفهم بعض النَّاس أنَّه لا يُكلمها، وهذا ليس بصحيحٍ، وليس بمطلوب؛ بل ليس له أن يفعل ذلك البتَّة، فإن كان ولابدَّ فاعلًا فليكن ثلاثة أيامٍ فأقل؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ» ، فلو كان ثلاثة أيام فأقل فلا بأس، ولكن لا يزيد على هذا، وأمَّا الهجران في المضطجع؛ فإنها مادامت ناشزًا فإنَّ له أن يهجرها فيه.
وهذا من أعظم ما يكون مُؤثرًا على الزَّوجات؛ ولأنَّ العلاقة بين الزوجين مبنية في كثير من الأحوال على ما يكون من المشاعر والعواطف وما يكتنف ذلك من تمام المودَّة، وحصول الأنس، والألفة بينهما، فإذا رأت منه جفوةٌ في ذلك؛ فإن ما جُبِلَت عليه المرأة أن تقرب من زوجها، وأن تعود إلى رشدها، وأن تتنبَّه إلى خطئها، ولأجل ذلك أمر الله به، وجاء في كتاب الله -جَلَّ وَعَلا- مُفصَّلًا لأهميَّته.
وقد جاء تفسير الهُجران عن ابن عباس -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فقال: يهجرها في فراشه فلا يقربها، وليس المقصود بذلك أن ينام في مكانٍ وهي تنام في مكان؛ لا، بل يناما في مكانٍ واحدٍ، ولا غضاضة في ذلك؛ بل هو مأمورٌ به، لكنَّه لا يُجامعها حتى يكون ذلك أدعى لعودتها ورجوعها.
يقول المؤلف: (فَإِنْ لَمْ يَرْدَعْهَا ذلِكَ، فَلَهُ أَنْ يَضْرِبَهَ).
فإنَّهم -كما يقولون: آخر العلاج الكيُّ!
فالضرب هو آخر الدرجات والمنازل الثلاث الذي يكون فيه عقاب وتأديب وتعزير النَّاشز، فله أن يضربها، وبهذا نطقت الآية، وهذا حُكم الله -جَلَّ وَعَلا- وحال أهل الإيمان أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَ﴾ [النور: 51].
أيتها النساء! مهما سمعتنَّ من الكلام، ومهما اجتمع مِن الأحاديث، ومَهما كثُرَت من الأقاويل، ومهما تداعى إليه أهل الشَّر والفسوق والفُجور، ومهما ذكروا فيه من الكلام، ومهما أجالوا فيه من الشُّبَه فإنَّ قولَ الله -جَلَّ وَعَلا- هو أعظم ما يكون لَكُنَّ استجابةً واستسلامًا، إيمانًا وإذعانًا، قبولًا واهتداءً، وإنَّه ليُعرَف أن عقلاء النساء يَقلنَ إنَّه أعظم ما يُصلحهنَّ ما يكون من الزَّوج من إظهار قوامته، وظهور رجولته، ومن ذلك ما يكون من ضربها، على أنَّ الضرب هنا إنما هو ضرب غير مبرح.
وهنا مسألة مهمَّة! ونحن أكثرنا في هذه المواطن الحقيقة من مُكملات ربما لا تكون مسائل فقهيَّة، لكن لمزيد الحاجة إليها، ولكثير ما يقع فيها من الشُّبهِ، وكثير ما تداعى إليه الأمر من السوء، إذا تكلمنا عن ضرب النِّساء، فمن أين تَلَقَّى النِّساءُ ضَربَ الرِّجال للنساء؟ والعرب فيما مضى لا يُمدَحون بضرب النِّساء حتى جاهليتهم، يقول قائلهم: شُلَّت يميني إن ضربتُ بها امرأة! ويعرفون أنَّ ضرب النِّساء والإقبال عليهن به ضعفًا، لكن تأملوا وانظروا وابحثوا؛ أليس ضرب النساء والاستطالة عليهن إنما جاءنا مع هذه الشاشات الفاحشة وهذه الأفلام المضلَّة؟
أليست في تلك الأفلام التي وفدت إلينا عبر أربعين سنةٍ من الغرب ومَن أخذ مناهجهم واستلهم أفكارهم، هم الذين إذا قامت بينهما أيُّ خصومة مدَّ يده فصفعها، وَلَكَمَهَا حتى امتدت في الأرض؟!
أليست هذه مشاهد معلومة متكررة؟!
فمن الذي يُعين على ضرب النِّساء؟
ومن الذي يدعو إلى ذلك؟
ومن الذي يُؤسس لهذه الثقافة؟
ومن الذي يُسَهِّلُها؟
ومن الذي يَنْشُرُهَا في المجتمعات؟!
تبًّا لتلك المسالك الوخيمة الظالمة الضَّالة، التي رمتنا بدائها وانسلَّت، وهي أقرب ما تكون إلى هذا الداء، وهي ألصق ما تكون بهذا السوء، فهم الضَّربةُ، وهم الضُّلَّال، وهم أهل الشَّرِّ، وهم أهل الفساد!
وبينَ يدي هذا؛ أذكرُ أنِّي كنتُ في مُقابلةٍ مع بعضِ إعلاميَّات مَشهوراتٍ في إحدى الدُّول التي تعد من أشهر مَن يُشكِّل الإعلام في تلك البلد، وسألونا عن أمر النساء وبعض المسائل المتعلقة بهنَّ، ووالله الذي قالوه لي بلسانهم: هلَّا علمتم أبناءنا هذه الأخلاق! أو إن كان عندك أزواج من بني بلدك فليتزوجون، وما قالوها إلا وهم يعرفون هذه المعاني مع ما لهم من المكان في مجتمعاتهم وفي إعلامهم!
فنقول: هُم الذين ضربوا النساء، وهم الذي اجترؤوا عليهم، وهم الذين أسَّسوا لذلك!
أمَّا ما جاء في الشَّرع فهو ضرب غير مبرِّح في حالٍ يسيرة صغيرةٍ محفوظةٍ، ولذلك قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يَجْلِدُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ» ، يعني: المرأة التي تضاجعها وتأنس بها لا يُناسب أن تضربها كما يُضرَب العبيد، أو كما ألِفَ الناس من الضرب السَّيء، وإن كان أيضًا لا يُقَرُّ ضربَ العبيد بسوء، ولكن هو تصوير بتشبيه الحال التي يعرفونها، وإلا فإنَّ الشَّرع جعل للعبيد أحكامًا وحقوقًا، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ، جَعَلَهُمُ اللّه تحْتَ أيْدِيكُمْ» ، وقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في آخر حياته: «الصَّلاَةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» ، يعني: في العناية بهم.
إذن محل الكلام، أنَّ الضرب يكون غير مُبرِّحٍ، ولذلك وصفه الفقهاء بأن يكون بخرقةٍ، فيلفها ويضرب، فهذه لا تؤثر ولا توجع، وإنما لها معنًى في إيقاظ ما سكنَ في النَّفس، وتحريك ما يُمكن أن ينفع، وحثُّ المرأة على ما بلغ به الأمر من الزوج من أنَّكِ تحتاجين إلى التَّأديب كما يُؤدَّبُ الصِّغار، وكما يُعلم الذين لا ينتبهون.
ولذلك فمهما بحثت في كتب التفسير، أو في كتب الفقهاء، أو في تصانيف وتضاعيف كتب شُرَّاح الأحاديث، ومهما اختلفت بلدانهم ومذاهبهم، أو مشاربهم؛ فلن تجد عند أحد من قول أهل الإسلام إلا أنَّ هذا الضرب محدود بهذا الحد، ومُقيَّدٌ بغير المبرح، فبعضهم يقول: بالسواك، ويقولون: لا يجلد بسوطٍ ونحوه، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: «وَلَا يَضْرِبْ الْوَجْهَ وَلَا يُقَبِّحْ» ، فحتى قول: "قبَّح الله وجهك"؛ فإنَّ ذلك مَنهي عنه في شريعتنا، فهذه الشَّريعة كاملة، وليس فيها ما يسوؤها ويُنقصها، وإنما هو تشويه بعض مَن حنقت نفوسهم على هذه الشَّريعة، وأُعجبُوا بأهل الأهواء والضَّلال، وأرادوا تلك المسالك الوخيمة، وحسبنا أن ننظر فيما قال ربنا وقال نبينا -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونحن حالنا حالُ أهل الاتباع والاهتداء، ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ ۚ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ۚ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285].
إذن هذا ما يتعلق بضربِ المرأة وما جاء فيه، وما يدل عليه، وما دوَّنه عُلماء الإسلام على اختلاف مذاهبهم فيه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ خِيْفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا، بَعَثَ اْلحَاكِمُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا مَأْمُوْنَيْنِ يَجْمَعَانِ إِنْ رَأَيَا وَيُفَرِّقَانِ، فَمَا فَعَلاَ مِنْ ذلِكَ لَزِمَهُمَ)}.
هذا مسلك من مَسالك الإصلاح، وطريقٌ من طرائق رأبِ الصَّدعِ بينَ الزَّوجين، ومنعٌ لأن يصل الأمر إلى التَّشتُّتِ والفراق، ولأن يصل الأمر إلى الخلاف والفراق والطلاق.
قال المؤلف: (وَإِنْ خِيْفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَ)، ولم ينفع الأمر الأول ولا الثاني ولا الثالث، ودامت الأمور على ما هي عليه من البلاء بينهما، وكلٌّ يشكو صاحبه.
قال: (وَإِنْ خِيْفَ الشِّقَاقُ بَيْنَهُمَا، بَعَثَ اْلحَاكِمُ)، فينظر القاضي في حَكَمَين عَدليْن يُحسنان النَّظر، ويَعرفانِ الأمر، ويتأنَّيانِ في الحكم؛ فيحكمان بما يريان، وهذا قد جاء في الكتاب، وفي قول الله -جَلَّ وَعَلا: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَ﴾ [النساء: 35].
وعلى الحكميْنِ أن يَطلبا الحقَّ والهُدى، وأَلَّا يكون في نفوسهما إرادة التَّفريق أو الظُّلم، أو الاعتداء عليهما، أو التَّشفِّي بفرقتهما؛ بل أن يُريدا في ذلك الإصلاح، وهذا أعظم ما يكون من الخير والهدى، وأعظم ما يحصل به الإصلاح؛ إرادة النِّيَّة منهما لذلك، فهذان الحكمان يكونان من أهلهما.
هل الحكمان نائبانِ عن الحاكم؛ فلهما حقٌّ في البتِّ والإنهاء؟ أم أنَّهما وكيلان عن المرأة والرجل؟
هذا خلاف بينَ الفقهاء، وظاهر كلام المؤلف هنا أنهما حكمان من الحاكم؛ فلهما البتّ، حتى لو لم يرض الزوجان بذلك.
وظاهر المذهب عند الحنابلة، وهو قولٌ لجمعٍ من الفقهاء: أنَّ الحاكم يبعث الحكمين بشرطِ أن يكونا وكيلين من المرأة والرجل، وأن يرضيا بهما، فإذا رضيا بهما فينوبان عنهما في الإصلاح، وفيما يُمكن رأبُه وجمعه ونحو ذلك، ولا يكون الفراق إلا بإذنهما، فإذا كانا قد أذنا لهما في التَّفريق أو في الطَّلاق، وأذنت المرأة في الخلع أو بذل العوض ونحو ذلك، حتى يذهب كلّ واحدٍ منهما إلى سبيله؛ فهو على ما وُكِّلا فيه.
فالأمر في هذا محلُّ نظرٍ، هل هما وكيلان، أو هما حكمان يحكمان؟
والظاهر أنَّهما وكيلان، فإذا قلنا: إنهما وكيلين فمعنى ذلك لا يكون إلا برضا الزوج والزوجة.
إذا لم يرضيا الزوج والزوجة بالحكميْن، فنقول: لا بأس أن يُبعَث حكمان، لكن لا يكون لهما سلطان في التَّفريق ونحوه، وإنَّما يُحاولان أن يُقرِّبا وجهات النَّظر، وأن يعظ كل واحدٍ منهما صاحبه، وأن ينظر فيمن وُجد منه الخلل، إن كان منهما جميعًا فيُبيِّنانِ لهما، وإن كان من أحدهما أو الابتداء من هذا والتَّكميل من هذا، وهذا يحصل منه أكثر من هذا...، بحسبِ الحال؛ المهم أن بعثَ الحكميْن من أهم ما يكون، ولابد أن يكونا عدليْنِ، ولابد أن يكونا من قرابتهما، وهذا من أحسنِ من يكون؛ لأنَّ كلٌّ أعرف بما يحتفُّ به وبما يليق به، فيكون ذلك حسنًا، وهذا مانع من انتشار الأمرو، وظهور خصائص البيوت، وما يدخل بين الزَّوجين من أمرٍ قد ينكشف لهذين، فإذا كانا غريبين فقد يشيع وقد يظهر، ويعود عليهما بالسُّوء، لكن إذا كانا من أهلهما فإنَّهما يحفظانِ من ذلك ما لا يحفظه غيرهما.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ اْلخُلْعِ.
وَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُبْغِضَةً لِلرَّجُلِ وَخَافَتْ أَنْ لاَ تُقِيْمَ حُدُوْدَ اللهِ فِيْ طَاعَتِهِ، فَلَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ)
}.
أذكرُ هنا لطيفةً: يُذكر أنَّ امرأة درسَت باب الخلع، وجعلت فيه بحثًا، فلما انتهت من بحثها خالعت زوجها!
باب الخلع هو شروعٌ من المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- فيما يحصل به الفرقة بينَ الزَّوجين، والفرقة بين الزوجين إمَّا أن تكون:
 بالطلاق: وهذا هو الأصل، لكن أخَّره المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- لطوله.
 أو بالخلع: ويكون من المرأة عقب النُّشوز، أو الخلاف، أو ما يجري منها من بُغضٍ للزوج وإعراضٍ عنه، فناسبَ أن يكون كذلك، وأن الباب لا تطول مسائله كطول مسائل الطلاق.
الفرقة بينَ الزوجين من أعظم ما يكون، ولذلك لم يفرح الشَّيطان بشيءٍ فرحه بأن يأتي بعض بعوثه فيقول: لم أزل بهما حتى فرَّقتُ بينَ الرجل وزوجه، فينصب له العرش ويُجلسه عليه! وهذا لعِظَمِ ما يتعلَّق بذلك من أثرٍ، وما يعقبُ ذلك من البلاء.
ما دام أنَّنا أجرينا بعض المسائل التي تتعلق بذلك؛ فهنا مسألة لا غضاضة أن نذكرها، وهي متعلقة بباب الخلع وكتاب الطلاق على حدٍّ سواء، وهي: ينبغي أن تعلم كل امرأة ويعلم كل زوجٍ أنَّهما لا يصيران إلى الطلاق بحالٍ من الأحوال بسبب أنَّه وُجدَ إشكالٌ لا حلَّ له، فإنَّه ما من بيتٍ من الزَّوجيَّة إلا وفيه إشكال، وأنَّها مهما عظُمَت معاناتهما، ومهما اشتدَّ أمرهما؛ ولكن متى يكون الفراق -سواء كان بالخلع أو بالطلاق؟
إذا تعذَّر عليهما قيام حياتهما، وكان الطلاق أو الخلع لهما خيرٌ من البقاء، فبعض النساء ترى أنَّها في مشكلة، فإذن لا حلَّ لها إلا بالطلاق أو الخلع، ولكن تنفتح عليها مشاكل كثيرة بعدما أن كانت مشكلة واحدة، فمثل هذه المرأة خيرٌ لها أن تبقى وأن تتحمل حتى ولو كانت هذه المشكلة كل يومٍ تتأوَّه منها وتتأذَّى.
ومثل ذلك الزوج، فلو كان بينه وبين زوجته إشكال، ثم هو يعلم أنه لا يقدر على نكاحٍ، وأنَّه لا يصبر بدون زواجٍ، فبدل أن كان يتأذَّى من زوجه ويجد منها خلافًا وتعنُّتًا ونحو ذلك صارَ لا يأمن على نفسه من الحرام، فلا هو الذي بقيَ مع زوجه على ما فيها من علةٍ وكدرٍ، ولا هو الذي استقبل بذلك حياة آنسُ وأسلم، فلا سَلِمَ دينُه، ولا استقرَّت حياته، ومثل ذلك أشياء كثيرة!
فكثير من الأواج يظن أنَّ وجود إشكالٍ بينه وبين زوجه داعٍ إلى حصول الفُرقة، سواء كان بالخلع أو بالطلاق؛ لا! وإنما نقول -وهذه كالقاعدة لكم: إنه لا ينبغي أن يسعى الزَّوجان إلى الفراق إلا أن تكون الحياة لهما بعدَ الفراق خير لهما من الحياة قبله، أو لطالب ذلك -إذا كانت المرأة أو الرجل- فإذا كانت تعلم أنها تستقر أمورها، أو أنها تعاني من بعض الأشياء، ولكن معاناتها في بعض هذه الأشياء أخف مما تعانيه حال بقائها من زوجها؛ فنقول: نعم.
ولذلك كم من الزوجات اللاتي ظلت تطلب الطلاق أو الخلع سنة او سنتين أو ثلاث، حتى إذا طلقها زوجها نادت على نفسها بالويل والثبور، واستدعت كل مَن استطاعت حتى يُعيدها إلى زوجها، وتنازلت عن كثيرٍ من أمورها حتى تعود كما كانت، وكانت هي في غُنيةً من ذلك.
ومثل ذلك بعض الأزواج، ما أن يسمع كلمة، أو يُقال عن زوجته مقالة، أو أن يدخل في إشكالٍ، أو أن يختلفا على أمرٍ، أو أن يحصل بينَه وبينَ أهلها شيءٌ حتى يُسرع إليها بالطلاق، حتى إذا ذهبت إلى أهلها وجد نفسه في بلاءٍ، واشتدَّت عليه الأمور، وانفتحت عليه أشياء لا طاقة له بها، فعلمَ أنَّه كان في رحمةٍ عظيمةٍ، وفي منَّةٍ كبيرة لو كان يرعاها!
فينبغي أن تُعلَم هذه الأمور، وأن تستقر النفوس، ولأجل ذلك ما جعل الله -جَلَّ وَعَلا- الطَّلاق لأوَّلِ وهلةٍ، وإنَّما حتى تطهر المرأة، ويُطلِّقها وهي طاهرٌ لم يُجامعها في ذلك الطُّهر؛ لأنَّه ليس انفلات نفسٍ، ولا غيظُ صدرٍ؛ وإنما شيءٌ يُرى أنَّه هو الصواب.
الخلع: أصله من خَلَعَ خُلْعًا وخَلْعًا، وخَالَعَتْهُ مُخَالَعَةً، فالمرأة تُخالع زوجها، وذلك أنَّ جهة الخلع هي الزوجة، وهي أن تطلب فسخ نكاحها بعوضٍ تبذله للزوج، وأصل ذلك السُّنَة والقرآن والإجماع.
من القرآن: قول الله -جَلَّ وَعَلا: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ [البقرة: 229]، أي: فيما تبذله من عوضٍ على أن يُفارقها.
ومن السُّنَّة: قصَّة قيسٍ لما كان قد تزوَّج المرأة، فاشتكت إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقالت: إنِّي أكرهه كما أكره الكفر في الإيمان. فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتردين عليه الحديقة؟ ويطلقكِ تطليقة». قالت: نعم، وردَّت عليه الحديقة.
فدلَّت السُّنَّة على أنَّ الخلع مَشروعٌ، وعلى ذلك اتِّفاق أهل العلم، ولأجل ذلك ذكر الفقهاء باب الخلع هنا.
قال: (وَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُبْغِضَةً لِلرَّجُلِ).
أصل الخلع: هو بُغض المرأة لزوجها، فلا تستطيع العيش معه، سواء كانت في ذلك قد أبغضت خَلقَه -وهي صورته الظَّاهرة- فلا تقبله، وتتقزَّز منه، وتتأفَّف مِن منظره، فهذه أشياء يجعلها الله -جَلَّ وَعَلا- في القلوب، فإذا رأت من نفسها أنَّها لا تجد في ذلك شيئًا البتَّة، وحاولت وأنفذت وسعها ونظرت إليها بعينِ المحبَّة، وبما يُشرق به من خلق، وبما يتم به من أمرٍ، ثم لم تجد قوبلًا في نفسها له؛ فلا بأس عليها في ذلك.
أو كرهت من خُلُقه: وهي صورته الباطنة، أي: صفاته وشمائله، ونحو ذلك، كأن تكره منه بُخلَه، أو سُرعة غضبه، أو تكره منه شيئًا من انكبابه على نفسه، لا يُكلمُ أحدًا، ولا يُحسنُ حديثًا، فإذا كانت المرأة قد أبغضت زوجها في خَلقٍ أو في خُلُقٍ فلا غضاضة عليها في ذلك، ولكن لو لم تُبغض زوجها فلا يحسن بها أن تطلب خلعًا، ولذلك جاء في الحديث: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلاقًا فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّة» .
والمشهور عند الفقهاء أنَّ طلب الخلع مع استقامة الحال إنَّما هو على الكراهة، ولهم في هذا الحديث توجيه، ومنهم من يقول: لما أحل الله للرجل الطلاق؛ أحل للمرأة أن تطلب الفراق، وأنه لا يتحتَّمُ عليها البقاء، فجاز لها الخلع، وإن كان بعضهم يُشدِّد في هذا.
قال تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ﴾ ؛ لأنَّ المرأة قد تخاف على دينها، فإذا كانت المرأة تبغض هذا الرجل، ويحملها ذلك على أن تتثاقل عن حقه ولا تقوم بواجبه، وهذا فيه من الوعيد ما فيه، فإن خافت من ذلك، أو خافت على نفسها، فهي لا تقبله ولا تُقبل عليه، وذلك لا يحصل به إعفافها، فلا غضاضة عليها في مثل هذا، فإذا طلبت الخلع، وخالعت زوجها فلا بأس.
أو كما يُفهم من كلام المؤلف: متى ما كانَ لها طريقٌ إلى الصَّبر والتَّجلُّد وأن تُمسك بذلك فهو حسنٌ لها، لكن ليس بلازمٍ، فلأجل ذلك قال المؤلف: (فَلَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ)، سواء تراضيا على قليل أو كثير، فإذا قالت: أعطيكَ خمسة، أو عشرة، أو دارًا، أو سيارةً، أو أبذل لك كل شهرٍ خمسة آلافٍ لمدة سنة، أو نحو ذلك من الأمور؛ فهما على ما اتفقا عليه، فينفذ الخلع، وتكون بينهما بينونة، فلا يُمكنه الرُّجوع إليها من عند نفسه، وإنما له أن يُراجعها إذا خالعها بنكاح جديد، فله أن يخطبها، ويأتي إلى أبيها، ويعقد عليها كأنه يعقد على امرأة أجنبية، فالخلع بينونة كبرى، أو بينونة بلا رجعةٍ.
أمَّا في حق الزوج: هل يُجيبها إذا طلبت أو لا؟
يقولون: يُستحبُّ أن يُجيبها؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لابن أبي جميلة: «اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» ، فيُستحب له أن يجيبها لئلا يحملها على سوء.
ويقولون: إن كان يُحبُّها ويميل إليها فله أن يصبر، فإذا كان يصبر ويتحمَّل بعضَ إعراضها لعل الأمور أن تنصلح؛ فهذا أحسن، وذكروا هذا في معرض ذلك، وكم من الناس الذي ابتدأت أمورهم ببغضٍ وضغينةٍ وبشيءٍ من الإعراض والانصراف وانتهت بالمحبة والألفة، وعمرت البيوت بالأولاد وقيام الزَّوجيَّة، واستقرار الحال واستمراره، والحمد لله على فضله.
إذن؛ إذا أمكنه الصَّبرُ ووجد ميلًا إليها، ووجد طريقًا إلى ذلك فهذا أحسن؛ ولأنَّ النِّساء سريعات النَّدامة، فأسرع ما تكون النَّدامة إليها، فربما ندمت عمَّا قريب، فإذا صبر هو، وتريثت ونظرت، وانفتحت لها بعض الأمور، وأراها من نفسه خيرًا في إصلاح ما يُمكنه إصلاحه، وتعقَّبَ ما يُمكن تعقُّبُه؛ فيكون في ذلك من الحسن ما فيه.
وقوله هنا: (بِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ)، فهذا هو الأصل سواء من قليل أو كثيرٍ، فلا غضاضة في ذلك.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَ)}.
قرَّرنا فيما مضى في قوله: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ ، وأطلق الله -جَلَّ وَعَلا- ذلك، فمن هذا أخذ الحنابلة وبعض الفقهاء: أنَّه يصحُّ الخلع بقليلٍ أو كثيرٍ، حتى ولو خالعته بمليون، أو بأكثر من ذلك؛ فلا غضاضة بما تراضيا عليه، ولكن يُستحب ألا يأخذ منها أكثر؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ» التي قد أعطاها إيَّاها وأصدقها بها.
وجاء في بعض الروايات: «ولا يزِد»، وهي وإن كانت رواية ضعيفة، ولكن قالوا بكراهية ذلك على سبيل الأحوط.
والأحوط الذي يخرج من ** خلافهم ولو ضعيفًا فاستبن
إذن نقول: يُستحب له أن لا يأخذ منها أكثر ممَّا أعطاها لِمَا ذكرناه، فإن أَخَذَ كانَ ذَلِكَ جائزًا لدخوله في عموم الآية.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (فَإِذَا خَالَعَهَا أَوْ طَلَّقَهَا بِعَوْضٍ، بَانَتْ مِنْهُ وَلَمْ يَلْحَقْهَا طَلاَقُهُ بَعْدَ ذلِكَ، وَإِنْ وَاجَهَهَا بِهِ)}.
فإذا أجرى الخلع الذي طلبته، بأن قالت: خالعني على عشرة آلاف؛ فخالعها على ذلك؛ انقطعت الزَّوجيَّة بينهما وبانت منه، ولم تكن له زوجة، ولم يجز له الرُّوجوع؛ لأنَّه لو جاز له الرُّجوع لَمَا كان ثَمَّ فائدة ممَّا دفعت، ولكان ذلك حيلةً للأزواج؛ لأن يأخذوا الأموال ثم يُراجعوهنَّ! إذن الخلع فراقٌ بدون رجعةٍ.
قال: (أَوْ طَلَّقَهَا بِعَوْضٍ، بَانَتْ مِنْهُ)، هذا راجع إلى مسألة: هل الخلع طلاق أو هوم فسخٌ؟
خلاف بين الحنابلة وجمهور الفقهاء:
الحنابلة: يجعلونه أحيانًا فسخًا، وأحيانًا طلاقًا.
أمَّا الجمهور:فيجعلونه طلاقًا.
فالحنابلة يعتبرونه فسخًا إلا أن يكون بلفظ طلاق، فإذا قال: خالعتُكِ؛ فيعتبر فسخًا، فيتفرقان، ولا يكون بينهما رجعة ولا زوجيَّة، ولا يُعتبر من عدد الطلاق؛ لأنَّ الله -جَلَّ وَعَلا- قال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ [البقرة: 229]، ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ ، ثم قال: ﴿فَإِن طَلَّقَهَ﴾ [البقرة: 230]، فعدَّ ثلاث تطليقات، والطلاق لا يكون أكثر من ثلاث، فدلَّ على أنَّ الخلع الذي ذُكر بينَ ذلك أنَّه فسخٌ وليس بطلاقٍ.
وذلك بشرط أَلَّا يكون قد قال: "طلَّقتُكِ"، فلو أعطته عِوضًا وقال لها: "طلَّقتكِ"، فيُحسَبُ عليه طلاق بعوض، فيأخذ أحكام الخلع من جهةِ أنَّه لا رجعة فيه، ويأخذ حُكم الطَّلاق من جهة أنه يُحسَب عليه تطليقة.
ويترتب على ذلك أنه لو تزوجها بعد هذا:
- فإذا قلنا أنه طلاق: فمعنى ذلك أنها ستُحسَب من عدد الطلقات، فلا يبقى لها إلا طلقتين، وإن كان قد طلقها قبلُ مرة، فلا يبقى لها إلا واحدة، وإذا طلقها طلقتين، وهذا الخلع الثالث مع قولنا أنه طلاق؛ فلا رجعة إلا بعدٍ زوجٍ آخر
- أمَّا عند الحنابلة في قولهم: إنه فسخ، وجرى بلفظٍ لا يدخل في الطلاق: فيقولون من أنَّه لا يُحسَب من ذلك، فلو رجع إليها يرجع بما كان عليه من الحال، فإذا لم يكن له سابق تطليق بقيت له ثلاث تطليقات، وإذا كان طلَّقها واحدة تبقى له اثنتين، وإن كان قد طلقها اثنتان بقيت له واحدة.
وشيخ الإسلام له قول، ولعلنا نجعله في استهلال الحلقة القادمة، وبه تستبين هذه المسائل.
أسأل الله أن يحفظ علينا البيوت، وأن يحفظ علينا الأمور، وأن يُعيذنا من مضلَّات الفتن، ومن مفرقات البيوت، ومن حصول النِّزاع في الزَّوجيَّة، وأن يُتمَّ علينا نعمَته، وأن يُفيض َ علينا من رحمته، وأن يجمع المتخاصمين، ويؤلِّف بين المتفارقين من الأزواج وغيرهم، وأن يجعل عاقبتهم غلى خيرٍ، إن ربنا جواد كريم، وصلى الله وسلَّمَ على نبينا محمدٍ.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم}.
والله يجعل في موازين حسناتكم وحسنات الإخوة الذين قاموا على هذا البرنامج، وهذا البناء العلمي، والإخوة المشاهدين والمشاهدات.
{اللهم آمين...
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك