الدرس العاشر

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

1824 12
الدرس العاشر

عمدة الفقه (6)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حياكَ الله.
{سنكمل في هذه الحلقة -بإذن الله- باب العدَّة.
قال المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّانِيْ: امْرَأَةُ اْلمَفْقُوْدِ الَّذِيْ فُقِدَ فِيْ مَهْلَكَةٍ، أَوْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ، فَلَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ. تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِيْنَ، ثُمَّ تَعْتَدُّ لِلْوَفَاةِ. وَإِنْ فُقِدَ فِيْ غَيْرِ هَذَا، لَمْ تَنْكِحْ حَتَّى تَتَيَقَّنَ مَوْتَهُ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصلَّى اللهُ وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ وعلى آله وأصحابهِ وسلِّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين.
لا يزال الحديث موصولًا فيما ذكره المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- في المعتدَّات، وكنَّا في آخر الدَّرس الماضي قد شَرعنا فيمَن تتربَّص بين يدي العدَّة، فذكرنا التي ارتفع حيضُها ولم تَدرِ سببه، والمرأة التي ارتفع حيضُها وعلمَت سببه فإنَّها تبقى حتى يعود إليها حيضها، أو تبلغ سنَّ الإياس فتعتدَّ به.
ثمَّ ذكر المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- امرأة المفقود التي فُقدَ زوجها ولم يُعلَم خبرُه، فإنَّ أهل العلم ذكروا فيه حالين:
الحال الأولى: أن يُفقَد في حالٍ الغالب فيها الهلكَة، وقد ذكروا لذلك أمثلةً أشرنا إليها في الدَّرس الماضي، كأن يُفقَد في التحام معركةٍ، أو يُفقَد في سفينة في عَرَض البحر، أو فُقِدَ فجأةً وهو بينَ أهله ولم يُعلَم له خبرٌ؛ فالغالب في هذه مثلِ هذه الأحوال أنَّها مواضع هَلكةٍ، وأنَّه لا يسلمُ مَن فُقدِ فيها، ومع ذلك فإنَّ الفقهاءَ ذكروا مُدَّةً يحصلُ معها اليقين مع الحال الذي احتفَّت به بأنَّ فلانًا قد ماتَ، وأنَّه يكاد ينعدم رجاء رجوعه، فلأجل ذلك قالوا: (فُقِدَ فِيْ مَهْلَكَةٍ، أَوْ مِنْ بَيْنِ أَهْلِهِ، فَلَمْ يُعْلَمْ خَبَرُهُ)، يعني: انقطعَت عنه الأخبار فلم يُعلَم أيُّ شيءٍ عنه، فإذا احتفَّ هذه الحال الذي هلكَ فيها وهذه المدَّة التي انتظرَه أهلُه فالغالبُ أن يُقطَع بهلاكهِ، فإذا قُطع بهلاكِهِ فبناء على ذلك يُنتظَر أربعَ سنين، ثُمَّ بعدها تتربَّصُ المرأة كما تتربَّصُ التي أخبرَت بوفاة زوجها أربعةَ أشهرٍ وعشرًا، فإذا انقضَت فإنَّها تحلُّ للأزواج.
إذن عِدَّتُها بعدَّة المتوفَّى عنها زوجها لا تكون إلَّا بعدَ تربُّصها هذه المدَّة، وهذا قضاء عُمر وعُثمان وعلي وابن عباس وابن الزبير، ولذلك يقول الإمام أحمد: "أي شيءٍ يقول مَن لم يقل بهذا"، يعني: هذا أمرٌ ثابتٌ وظاهرٌ وبيِّنٌ، قضَى به الصَّحابة -رضوان الله تعالى عليهم وأرضاهم.
وكما قلنا في الدَّرس الماضي: إنَّه في مُدَّة التَّربُّص -الأربع سنوات- حُكْمه حُكم الأحياء، وأنَّ زوجته في هذه المدَّة يُنفَق عليها مِن مَاله، ويُقام عليها ممَّا بيده.
مسألة: لو أنَّ المرأة ارتفعت إلى القَاضي بتضرُّرها ببقائها، إمَّا لكونها لا يُنفَق عليها، ولا شيء يوجد مِن ورائه يُمكن بيعه ويُنفَقُ عليها منها؛ أو لكونها لا تَصبر عن زوجٍ، فتريدُ مَن يقوم بإعفافها والقيام بحقِّها ونحو ذلك؛ فإنَّ للقاضي النَّظر في فَسخِ النِّكاح، فإذا فسخَ القاضي النَّكاح فإنَّها تَعتدّ عِدَّة المطلَّقة بحسبِ حالها، فإذا كانت من ذوات الأقراء فإنَّها تعد بثلاثة قروء، أو تعتد بثلاثةِ أشهرٍ إذا كانت صغيرةً أو آيسة، بحسبِ حالها على ما تقدَّم بيانه فيما مضى.
{أحسن الله إليكم..
هل يُنظَر في هذه المسألة إلى قضاءِ عُمر على أنَّه حُكمٌ، أو نرجع إلى قضاء القاضي؟}.
الذي استقرَّ عليه قولُ أهل العلم ومِن ذلك الإمام أحمد أنَّه قال: "جاء هذا عن خمسة من أصحاب النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
فهو ممَّا ثبتَ، وسنَّة الخلفاء الراشدين مأمورٌ باتِّباعها، فقال النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي، وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» ، ثمَّ إنَّ هذا ممَّا يشتهر، فكان كالإجماع السُّكوتي، فلا يسع لإنسان أن يُخالفَهُ أو يصير إلى سواه.
الحال الثَّانية: قول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ فُقِدَ فِيْ غَيْرِ هَذَا، كالمسافر للتِّجارة)، يعني: لو أنَّ شخصًا سافرَ للتِّجارة فانقطَعَ خبره.
ويَلحظ الإخوة المشاهدين والمشاهدات أنَّ الفَقْدَ في هذه الأزمنَة لم يكن مثل الأزمنَة الماضية، فإذا فارقَ الإنسانُ قريته في الأزمنة الماضية لا يكاد يأتي له خبرٌ بسهولةٍ، لتباعدِ الأماكن وعدم حُصولِ ما يُسَهِّلُ التَّواصل، حتَّى كتابة الرسالَة ليس مِن الأمر اليسير باعتبار أنَّ أكثر النَّاس لا يعرفون الكتابة، وإلى عهد قريبٍ كان في بعض بلداننا بعض كبار السِّن يسألون بعضهم بعضًا: ولدك تعلم يكتب الخط أو ما تعلَّم؟!
إذن؛ ليست الحالُ كما يَتصوَّر البعضُ كيف يكون هذا الفَقدُ، قد يكون الآن نادرًا أو قليلًا ، أو لا يُتصوَّر كثيرًا، ولكن فيما مَضى كان كثير الوقوعِ، ويُبتَلى به النَّاس في أحوالٍ كثيرة، فلو أنَّ بعض النَّاس يهرب مِن جُوعٍ أو مِن فَاقةٍ، أو مُصيبةٍ نزلَت عليه أو على أهله، أو يُتَّهم في شيء فيخافون من تَبعةِ ذلك؛ فقد يُهاجر، أو بعض النَّاس إذا ذهبَ فأنِسَ في مكانٍ لم يعد يلتفت إلى أهله!
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ فُقِدَ فِيْ غَيْرِ هَذَا، كالمسافر للتِّجار)، إنسانٌ سافرَ للتَّجارة في بلاد السِّندِ أو بلاد الهند، بلادٍ قريبةٍ أو بعيدةٍ؛ فأنِسَ بتلك البلاد ولم يرجعْ إلى أهلهِ وانقطعَ خبرُه، أمَّا إذا لم ينقطعْ خبرُه كأن يتَّصل بأهلهِ أو حتَّى لو لم يتَّصل بأهله ولكن يأتي شخصٌ ويقول: أنا سافرت إلى المكان الفلاني فقابلتُ فلانًا، أو قابلتُ فلانًا وقال إنَّه رأى فلانًا -الذي هو مفقود- فهذا لا يُعتَبر انقطاعَ خبرٍ.
وانقطاعُ خبرِهِ هو ألَّا يأتي عنه شيء، حتى لا يُعرَف أحيٌّ هو أو ميِّتٍ، أمَّا إذا عُرِفَ على حالٍ، أو كانَ خبرُه غيرَ مُنقطعٍ؛ فبناءً على ذلك يُحكَم بأنَّه في حال الحياة.

وبناءً على ذلك نقول: إنَّ المرأة لا تَنكِحَ حتَّى تتيَّقنَ موته، وقد حكمَ أهلُ العلم في مثل هذه المسألة بأن يضربون له تسعين عامًا منذُ ولادته، فإذا كانَ مثلًا حالَ فقده كان عمره واحدُ وسبعون سنةٍ، فيُنتظر تسعة عشرة عامًا حتَّى يُحكَم بفقده؛ لأنَّ الغالب أنَّ النَّاس في الأحوال المستقرَّة لا يبلغونَ التِّسعين، فإذا انضمَّ إلى ذلك فقدٌ فالغالب -أو اليقين- أنَّه لا يبلغ ذلك المبلغ، والأصل أنَّه لا يُحكَم بموته إلَّا بيقينٍ، وهذا جاء عن عليٍّ وعن بعضِ أهل العلم.
وهذا يأتي عليه بعض الإشكال؛ فيُقال: لو فُقِدَ وعمره تسعة وثمانين فلا يُنتَظر إلا سنة واحدة؟
نقول: الذي فُقِدَ وعمره تسعة وثمانين فالغالب أنَّه تنقطع حاله وتذهب حياته، ومع ذلك نقول: إنَّ هذا هو الأصل، وهذا الذي جاء به الأثر، وهو مُعتبرٌ في الجملَة، وقد يرى القاضي في حالٍ خاصَّةٍ ما يحتفٌّ بها ممَّا قد يزيد فيه عامًا أو ينقص أو نحو ذلك، بحسبٍ ما يحتفُّ بذلك من الأحوال والقرائن.
ومثل ذلك لو فُقد وهو ابن واحدٍ وتسعين، أو ابن تسعين؛ فهل نقول لا يُنتظر؟
لا، يُنتَظر ولكن قد يُقال: إنَّ هذا مردَّه إلى القاضي باعتبار أنَّ ما جاء عن السَّلف والصَّحابة إنَّما هو فيما دون ذلك، أو هذه حالٌ مسكوتٌ عنها فيُنظَر فيها.
كذلك نقول: إنَّ هذا الحكم من جهة الحكم بموته واعتدادها بأربعةِ أشهرٍ وعشرًا، لكنَّها لو تضرَّرَت ولم تعد تصبر فيُمكنها أن ترتفع إلى القاضي لطلبِ الفَسخِ، فيفسخ القَاضي النِّكاح، سواء قلنا من أنَّ القاضي يلي ذلك فيفسخ النِّكاح هو، أو يُحضِر أحدًا من أوليائه فيتولَّى تطليقها، على قولٍ لبعض الفقهاء.
المهم أنَّ المرأة يُمكن لها أن تفسخ منه في حالٍ إذا كانت لا يُمكنها أن تَصبرَ على البقاءِ معه، سواء كانَ ذلك لأمرِ نفقةٍ، أو كانَ ذلك للإعفافِ، أو كانَ ذلك لأنَّها لا تأنَس وحيدةً مُنفردَة، أو لكونها تطلع إلى ولدٍ وحملٍ ونحوه، فأيًّا كان السببُ فإنَّها يُمكنها أن ترتفع إلى القاضي ويفسخ النكاح في مثل تلك الحال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (الثَّالِثُ: إِذَا ارْتَابَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ قَضَاءِ عِدَّتِهَا؛ لِظُهُوْرِ أَمَارَاتِ اْلحَمْلِ، لَمْ تَنْكِحْ حَتَّى تَزُوْلَ الرِّيْبَةُ، فَإِنْ نَكَحَتْ لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ، وَإِنِ ارْتَابَتْ بَعْدَ نِكَاحِهَا، لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهَا إِلاَّ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهَا نَكَحَتْ وَهِيَ حَامِلٌ)}.
كما قلنا: إنَّه فيما مضى لم تكن الأمور التي يُتبيَّن بها الحمل مِن الأمور الظَّاهرة المقطوع بها، وإنَّما هي أماراتٌ وعلاماتٌ قد تظهر بحيث يغلب على الظَّنِّ تحقُّق الحملِ ونحوه، كأن تنقطع عنها العادة ويحصل لها انتفاخٌ، ويأتيها ما يأتي النِّساء من مُقدِّمات الحمل ونحوه من أشياء تعلمها النِّساء، وقد لا يكون كذلك.
فيقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (إِذَا ارْتَابَتِ الْمَرْأَةُ)، يعني: حصل عندها ريبة هل هي حامل أو ليست بحاملٍ؟ وهذا لمن ابتدأ عدَّتها بالحيَض أو بالأقراء -كما تقدَّم بنا- وهنا ذكر المؤلِّف حالين، وترك الحال الثَّالث لظهوره.
فأمَّا الحال الأولى: إذا ارتابت وهي لا زالت في العدَّة، يعني: بعدَ أن حاضت حيضةً أو حيضتين رأت في بطنِها تحرُّكًا، فليست كلُّ النِّساء تحيض كل شهرٍ، فبعض النِّساء لا تأتيها الحيضة إلَّا كل ثلاثة أشهر، فلو أنَّها أحسَّت انتفاخًا، أو ظهرت عليها الأمارات التي تألف من نفسها أنَّ تلك الأمارات هي مُقدِّمات حملِهَا؛ ففي مثل هذه الحال إذا كانت في أثناءِ العِدَّة فلا شكَّ أنَّها لا تنتهي عِدَّتُها إلَّا بيقينٍ، واليقينُ أن تذهب عنها هذه الرِّيبة ويرتفع عنها هذا الشَّك، فإمَّا أن تنتظر حتى يتبيَّن أنَّها حامل فتضع الحمل، أو يُقطَع من أنَّها غير حامل فتكمل العدَّة التي ابتدأتها من الحيض ونحوه.
الحال الثَّانية: هي التي تُقابل الأولى، وهي أنَّها لَمَّا انقضت عدَّتها بالأقراء تزوَّجت وعقدت النِّكاح، ثم بعدَ أن عقدَت النِّكاح استعجلها شيءٌ مِن انتفاخِ البَطنِ، ولا يُمكن أن يكون هذا الانتفاخ مِن أثَرِ زَواجها الجديد، فرأت على نفسها مُقدِّمات الحمل، فهنا نقول: هذه أماراتٌ وشكوكٌ، وعندنا عقدٌ صحيحٌ قطعًا مبنيٌّ على انتهاء عِدَّةٍ صحيحةٍ وهي ثلاثة قروء، فلا يُنقَضُ اليقينُ بالشَّكِّ، فيبقى النَّكاح على ما هو والزَّوجيَّةُ بحالها، ولا يُلتَفت إلى الشُّكوك في إنهاء عقد الزَّوجيَّة.
ولكن مع ذلك يقول الفقهاء -رحمهم الله تعالى: يجب على الزَّوج أن يتريَّث، فلا يُجامعها ولا يطأها؛ لأنَّ النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» ، فعندنا الآن شُبهة أنَّها قد تكون حاملًا مِن غيره، فننتظر لئلَّا تختلط الأنساب وتشتبه الأمور، فينتظر الزَّوجُ ولا يُجامِعَ زوجتَه ولا يُقاربها حتى يتبيَّن، فإذا تبيَّنَ أنَّها حامل فعند ذلك تبيَّنَّا أنَّ عقدَ النِّكاحِ عليها كانَ باطلًا؛ لأنَّ نكاحَ المعتدَّة باطلٌ -كما سيأتي في الجملة التي ذكر المؤلِّف بعد ذلك- فنُبطل هذا النِّكاح، وتعود المرأة لتُكمل عدَّتها حتى تلد.
وإمَّا أن يُتبيَّن أنَّ هذه المقدِّمات إنَّما هي شيءٌ عارضٌ لا حقيقةَ له، فتعود المرأة بانتظام حيضتها ونحو ذلك، ونقول: إنَّ الزَّوجيَّة بحالها، وللزَّوج بعدَ ذلك أن يطَأَها ويأتِيَها كسائر الأزواج.
الحال الثَّالثة: هي الحال التي بينَ هذين، وهي أن تكون انتهت عدَّتُها ثلاثة قروءٍ، لكن لم تتزوَّج، ورأت بعدَ انتهاء العدَّة ما هو مُقدِّماتٌ للحمل، سواء قلنا: انتفاخ البطن، أو ما تجده النساء من شعورٍ وتغيُّرٍ في بعض أحوالها وهذا معلومٌ لدى النِّساء؛ فهنا يقول الفقهاء: عليها أن تنتظر في أصح القولين، لاحتمال أنَّ الدَّم الذي نزلَ منها يُمكن أن يكونَ دمَ حيضٍ فتنتهي به العدَّة، ويُمكن أن يكونَ دمَ فسادٍ، فلمَّا كان الأصل أنَّه دمَ حيضٍ لكن قابلَه ما قد يرفع هذا اليقين وهو أنَّ الحامل لا تحيض؛ فما دام أن جاءتنا مُقدِّمات فإمَّا أن نتيقَّن أنَّها ليست حاملًا فنقول: إنَّ هذا دمَ حيضٍ، أو نتيقَّن أنَّها حاملًا فيتبيَّن أنَّ ذلك دمَ فسادٍ، فلمَّا كانَ الأمر في ذلك متأرجحًا فيقولون: إنَّ الانتظارَ في مثلِ هذه الحال والتربُّص حتَّى يتبيَّنُ حالها واجبٌ مُتعيِّنٌ، لئلَّا تتزوَّجَ فيتبيَّنَ أنَّها كانت حاملًا، فإمَّا أن تُدخل على زوجها ولدًا ليسَ له وتختلط الأنساب، أو أنَّها تعودُ على نكاحها بالبطلان إذا تبيَّن أنَّها حاملًا قبل ذلك.
ولَمَّا كان الأمر محلِّ ريبةٍ، والنِّكاحُ لا يكون إلَّا على أمرٍ مُتيقَّنٌ، ومثلها لم يُتيَقَّنُ عدتها؛ فبناء على ذلك لا يحل نكاحها، وهذا هو الأشهر من القولين، وإن كان بعضهم يقول: ما دامت انتهت عدَّتها فلا يُلتفت إلى مثل هذه الشُّكوك، وهذا قول، وكلُّ هذا متصوَّرٌ كثيرًا فيما مضى، ولكنَّه أقل ما يكون في مثل هذه الأزمنة، لَمَّا صارَ ما يُفحَص به النساء ويؤول إليه من النَّتائج من وجود حملٍ من عدمه هو مِن أيسر ما يكونُ في الطِّبِّ، وأوضح ما يكونُ في العلمِ، فيُعلَم بحملها من عدمه، فيكون الكلام في مثل هذه الأمور يسيرًا وسهلًا وظاهرًا، لا كما ذكره الفقهاء ممَّا أوردوا فيه من الإشكالات وصارَ فيه من الأخذ والرَّدِّ والقول ومخالفته، فرحم الله عُلماء الإسلام جزاءَ ما بذلوا واجتهدوا في المسائل حتى يُحرِّروها على أدقِّ ما يكون مع ما يحتفُّ بها من الإشكالات ويُداخلها من التَّعارضات.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَمَتَى نَكَحَتِ الْمُعْتَدَّةُ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَ)}.
لو أنَّ المعتدَّة شَرَعت في عدَّة، سواء كانت من عدَّة طلاق، أو عدَّة فسخ حاكمٍ، أو خلعٍ، أو كانت عدَّة وفاة؛ فتزوَّجَت في أثناء عدَّتها، فإنَّ نكاحها باطلٌ مجمعٌ على بُطلانه، فلا حكم لذلك النِّكاح ولا أثر له؛ لأنَّها فعلت شيئًا مُجمَعٌ على خلافه، فلا يجوز لها فعل ذلك، وتُعزَّر لو كانت قد فعلته قصدًا؛ لأنَّ بعض النساء لا تدري أنَّ عدَّتها قد انتهت كأن تظن أنها انتهت بحسابها ثُم تزوَّجَت، ثُم جاءتها أختها وقالت لها: تذكرين حصل كذا أو كذا، فأنتِ الآن لازلتِ في العِدَّة، وإنَّما انتهى من حيضتك اثنتان، فتبيَّنَ لها، أو بعض النساء ممَّن عادتها ليست متتابعة، فتحيض بعدَ حيضةٍ ثم تطهر ثم تأتيها تكملةُ الحيضَة فتظنَّها حيضتين فتحسبها، فتسأل بعض أهل العلم فيقولون: إنَّ بين الحيضتين ثلاثة عشر يومًا، وهو ما يُسمَّى عند الفقهاء بتَلفِيقِ الحيضَةِ، وهي أن تُجمِّع بعضُ النِّساء الأيام التي ينزل معها الدَّم والأيَّام التي ينزل فيها، حتَّى تُجعل حيضة واحدة، فإذا تبيَّن ذلك فإنَّنا نُبطل النِّكاح ولا يكون عليها تَبعَةٌ؛ لأنَّها مَعذورةٌ في هذا إذا لم يكن منها تقصير أو إخفاءٌ لذلك الأمر وعدم إظهارٍ له، أو لم تكن عالمة بذلك.
إذن؛ أيًّا كانَ الأمر فإنَّها لو نكحت وهي مُعتدَّةٌ فنكاحها باطل، فإن كان ذلك قصدًا منها فهي آثمةٌ ويُمكن تعزيرها، وإن كان ذلك بخطأ أو جهلٍ أو غير ذلك فإنَّه يُفرَّقُ بينهما ولا يكون ذلك النِّكاح صحيحًا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (فَإِنْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُوْلِ، أَتَمَّتْ عِدَّةَ اْلأَوْلِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُوْلِ، بَنَتْ عَلى عِدَّةِ اْلأَوَّلِ، مِنْ حِيْنِ دَخَلَ بِهَا الثَّانِيْ، وَاسْتَأْنَفَتِ اْلعِدَّةَ لِلثَّانِيْ)}.
إذا نكحت المرأة وهي مُعتدَّةٌ فمعنى ذلك أنَّ عندنا من حالها أمران:
 عدَّةٌ لم تُكملها.
 وزواج لم يصح لها.
وبناءً على ذلك نُفرِّق بينهما، ثُمَّ إذا فُرِّق بينهما فيقول أهل العلم: إنه يُبدَأُ بالأوِّل فالأوَّل، فالأوَّل الذي اعتدَّت منه انقضت من عدَّتها حيضة وبقيت لها حيضتان، فتُكمل حيضتين، ثُمَّ إذا أكمَلت حيضتين فإنَّها تعتدُّ للثَّاني، وإذا كان بقِيَت لها حيضة فتُتمُّ حيضتان ثم تعتدّ للثَّاني، ولذلك يقول المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ: (بَنَتْ عَلى عِدَّةِ اْلأَوَّلِ، مِنْ حِيْنِ دَخَلَ بِهَا الثَّانِيْ، وَاسْتَأْنَفَتِ اْلعِدَّةَ لِلثَّانِيْ)، فالبدخول كأنَّ العدَّة الأولى توقَّفت، وبناء على ذلك إذا فُرِّقَ بينهما تحتسب العدَّة إلى دخول الزوج الثاني، وتُكمل عدَّتها، فإذا انتهت بدأت عدَّةً جديدةً لهذا النِّكاح الثَّاني؛ لأنَّ لكلِّ حقٍّ حكمه. هذا إذا كانت قد دخل بها.
أمَّا إذا لم يكن قد دخلَ بها فإنَّه لا أثر له، فتُكمل عدَّتها للأوَّل، ولا عدَّة للنِّكاح الثَّاني ولا أثر له في ذلك، وبناء على ذلك ليس علينا إلَّا أن نُفرِّقَ بينهما، وتُتم عدَّة الأوَّل. وهذا قد جاء عن الصَّحابة، أنَّ امرأة تزوَّجت رجلًا ثانيًا، ثُمَّ تبيَّنَ وجودُ زوجها الأوَّل؛ ففُرِّقَ بينهما، وكذلك إذا كانت في عِدَّة؛ فإنَّ العدَّة حقٌّ أن تُكمَل، فتُتمُّ عدَّة الأوَّل، ثمَّ تعود إلى عدَّة الثاني فتُكملها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَلَهُ نِكَاحُهَا بَعْدَ قَضَاءِ اْلعِدَّتَيْنِ)}.
هذا الشَّخص الذي نكحَ المرأة نكاحًا باطلًا هل له أن ينكحها أو لا؟
فيه خلاف، وجاء عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أنَّه حرَّم عليه نكاحها، والمؤلِّف هنا قال: إنَّ له نكاحها، فكيفَ ذلك؟
قالوا: إنَّ ما جاء عن عمر قابلَه ما جاء عن عليٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فحكمَ عليٌّ بأنَّ له أن يتزوَّجها، فلأجل ذلك جازَ، ثُمَّ إنَّ الذي جاء عن عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- رُويَ أنَّه رجعَ عنه، وبناء على ذلك ترجَّح في المذهب عندَ الحنابلة وهو الذي ذكره المؤلِّف هنا وهو أنَّه لا يُحال بينه وبينَ نكاحها، وأنَّها لا تحرم عليه بعدَ انقضاء عدَّتها.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ مِنْ أَحَدِهِمَا، اْنقَضَتْ بِهِ عِدَّتُهُ، وَاعْتَدَّتْ لِلآخَرِ)}.
كيف يُعرَف ذلك؟
في بعضِ الأحوالِ يتبيَّن أنَّه لأحدِهما لا محالة، فلو أنَّها بعدَ أن تزوَّجَت الثَّاني ولدت ولدًا لأقل من ستةِ أشهرٍ وعاشَ؛ فمعنى ذلك أنَّنا نقطع يقينًا أنَّه لا يُمكن من الزَّوج الثَّاني؛ لأنَّ الزَّوج الثَّاني ما دخلَ بها إلَّا بعدَ ذلك، فلا يُمكن أن تحمل وتأتي به لستة أشهر؛ لأنَّ الولد لا يعيش لأقل من ستة أشهر، فنتيقَّن أنَّه للأوَّل، وبناء على ذلك لو وضعت هذا الولد نقول: انتهت عدَّة الأوَّل، فتستأنف عدَّةً للثَّاني.
وهنا يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدٍ مِنْ أَحَدِهِمَا، اْنقَضَتْ بِهِ عِدَّتُهُ، وَاعْتَدَّتْ لِلآخَرِ)، والحكمُ كذلك لو قُطِعَ من أنَّه للثَّاني، وذلك بأن تَأتي به بعدَ أربعِ سنين مِن فراقها للأوَّل، فإنَّ المرأة لا يُمكن أن تحمل لأكثر مِن أربع سنين، وهذا بناء على قول الحنابلة أنَّه يُمكن أن يكون الحمل أربع سنوات، والآن العلم له كلام في هذا، ولكن هو مُشتهرٌ عند السَّلف، فقد نُقِلَ عن الإمام أحمد والشَّافعي وغير واحدٍ، وربَّما نُقلت وقائعُ كثيرةٌ في الأزمنةِ الماضيةِ -والنِّساء تعرف ذلك- مِن كون بقاء المرأة تحمل سنةً أو سنتين أو أكثر مِن ذلك، ولكن العلم الحديث يقول: لا يُمكن أن يزيد عن أحد عشر شهرًا.
وعلى كلِّ حالٍ؛ لا يُمكن القطع بعلومِ الطِّبِّ ونحوها؛ لأنَّها تتجدَّد، وما كان مقطوعًا به في بعضِ الأحوالِ يكون غير مقطوعٍ به في حالٍ أخرى، وما دامَ أنَّه ثبتَ في الوجودِ حالٌ من الأحوالٍ فإنَّنا نحكم به، وهذا ثبت فيما مضى، وأيضًا يُذكر في تتابع الأيَّام وفي تأريخ الأمم، وحتى فيما يتسامع به النَّاس مِن أخبار والديهم وأجداهم، وقد سمعنا مِن أهالينا شيئًا من ذلك، وذكر ابن القيم -رَحِمَهُ اللهُ- شيئًا من ذلك؛ فأيًّا كان فهو فيما مضى كان أكثر مدَّة للحمل أربع سنين، فلو افترضنا أنَّها لَمَّا نكحت الثاني وبقيت معه خمس سنوات ولدَت، فهنا نتبيَّن قطعًا أنَّه من الثَّاني لا من الأوَّل، وبناء عليه تنتهي عدتها من الثاني، وتعتد للأوَّل وتكمل عِدَّتها ثلاثة قروء، ثُمَّ للثَّاني أن ينكحها بعدَ ذلك؛ لأنَّ نكاحها كان باطلًا.
لقائل أن يقول: كيف يكون الولد ولد الزَّوج الثَّاني؟
نقول: هذا يُسمَّى عند الفقهاء بـ "الوطء بشبهةٍ"، فلو ظنَّت أنَّها انقضت عدتها فنكحها، فهذا النِّكاح صحيح، وبناء على ذلك فالوطء بشبهة يندفع به الحدُّ، ويثبت به النَّسب، وتُقرُّ به العدَّة، وسواء كانت الشبهة راجعة إلى العقد، فظنُّوا أنَّ العقدَ صحيحًا وهو ليس بصحيحٍ، أو راجعةً إلى الحال، كما لو دخل شخصٌ على بيته راجعًا من سفرٍ، ولم يكن في الزمان الأوَّل كهرباء، فيدخل في ظُلمةٍ شديدةٍ، فلو أنَّه وجدَ امرأةً على فراشه فجامعها يَظُنُّها زوجته، ثُمَّ تبيَّن أنَّها ليست زوجةً له، فهذا وطءٌ بِشُبهةٍ، وبناء على ذلك لو وُلِدَ لها فيكونُ ولدًا له، ويثبت نسبه، ويدفع عنه الحد، وتعتد هي ثلاثة أشهرٍ.
{سؤال للفائدة: بعضهم يقول: لِمَ تصيرون إلى أقوالِ الفقهاءِ في أكثر مُدَّة الحملِ سنتين أو أربع سنوات؛ بالرَّغم أنَّ الطِّبَّ يقول: إنَّ أكثر المدَّة أحد عشر شهرًا؛ فربما هذه الإشكالات التي تقع من رحمة الله أن يُدفَع بها كثير من هذه الإشكالات}.
الفقهاء -رحمهم الله- لا ينظرونَ إلى حالٍ واحدةٍ، فما يُوجَد عندنا مِن أحوالٍ تتكشَّف بها الأمور ولا يوصل إلى مثل هذه الحدود هي أحوال خاصَّة، إذا وُجدَ عندنا من التَّيسرات ونحوها فقد لا يوجَد عند غيرنا، ونحن لا نتعلم الفقه وندرسه لي ولك، أو لمجتمعٍ صغيرٍ، أو لوقتٍ قصير، فالفقهاء كانوا يدرسون العلم لوقته، وما بعدَ وقته، وللمكان الذي عاشوا فيه، ولأبعدِ الأماكن عنهم، ولمن كان أقل منهم حالًا، ولمن كانوا أحسن منهم حالًا؛ فذكروا في كلِّ تلكم الأحوال أبعدها، حتى تشملَ هذا وذاك، وحتى لا يحتاج المتعلم للفقه الذي يدرس كتبهم إلى مزيد بحثٍ، فبمجرَّد أن يدرسَ ما ذكروه فإنَّه يُمكن أو يطبق ما حفظه مما ألَّفوه.
ثمَّ ما الذي يُدرينا أنَّ الطبَّ يبقى على ما هو عليه! فيُمكن أن تذهب كثير من هذه الإمكانات لأيِّ سببٍ من الأسباب، فإذا تعطَّلت موارد الطَّاقة، وإذا تعطَّلت أسباب هذه التَّقنية، وإذا تعطَّلت أشياء كثيرة؛ يُمكن أن تقف أشياء كثيرة، ولذلك جاء في بعضِ الأدلَّة أنَّ الأمور يُمكن أن تعود إلى ما كانت عليه من سابق الأمر، وثم أيضًا يُمكن أن توجَد حتى الآن، فلو جئنا إلى بعض البلدان ونحن لسنا بحاجةٍ إلى التَّسمية؛ لأنَّ التَّسميةَ في بعضِ الأحيانِ قد يظنها البعض ازدراءً لتلك الدِّيار؛ ولكن قد لا يتأتَّى لهم مثل هذه الإمكانات، ولو وُجدَت في بلدانهم ولكنه لا يتأتى لبعض النَّاس أن يصل إلى مثل هذا التَّيسير، ونحن مُهمَّتنا أن نُبيِّنَ الفقه، ثم إنَّ الفقه يُحفظُ تعبُّدًا لله -عزَّ وَجَلَّ- وتعلُّمًا لتيسير وقائعِ النَّس، وما قد يجد من الأزمان والأماكن واختلافها، فلأجل ذلك نُدرسه على هذا النحو.
وفيه مسألة أخرى: كثيرٌ ما يُقال: إنَّ الفقهاء يتكلَّفون، إن الفقهاء يتعمَّقون، إنَّ الفقهاء يذكرون ما لا يُتصوَّر وقوعه، وأنَّهم يفرضون من المسائل ما هو أشبه بالخيال!
فنقول: إنَّ هذه الدَّعوة ليست صحيحةً على إطلاقها، وليست سِمةً غالبةً في كُتُبِهم، فإنَّ الفقهاء -رحمهم الله تعالى- يدرسون العلم بحسب ما يحتاجه النَّاس، لكن مهما كان من تصوري أو تصوُّركَ أو تصوُّر فلانٍ الذي حكمَ على الفقهاء بأنَّهم يتكلَّفون لأنَّه تصوُّرَه ضيِّق، أو لأنَّه يظن أنَّ النَّاس لا يحتاجون إلَّا إلى ما يحتاجه هو؛ فهذا ليس بصحيحٍ.
ثمَّ إنَّ الفقهاء إذا ذكروا المسألة فإنَّهم يذكرونها بواقعها الكثير، ويذكرونها بحدودها القليلة، حتى تكون حدًّا محدودًا وأمرًا ظاهرًا بيِّنًا، فهذا كثير، وقد يظن النَّاس أنَّ أبعدَ ما يكون من هذه المسألة في هذا الطَّرف وأبعد ما يكون في هذه المسألة في هذا الطَّرف أنَّه نادر أو شاذٌّ؛ وبناء على ذلك هذا لا يُعتبر.
هل وُجدَ الفقهاء بعض التَّكلُّفات؟
نقول: نعم، وهذا لا يخلو منه علم، فالعلم لحقَ به ما يُكمِّله ولحق به ما ينبغي أن يُجرَّدَ عنه.
واشتهر ذلك في مدرسة أهل الرأي، ومدرسة أبي حنيفة، وكان له طريقة في التَّدريس انتفع بها الطُّلاب مِن جهةِ تقويةِ مَلَكَتهم الفقهيَّة، وأثَّرَت على تصورهم للعلم، وإن كان بعض تلك الوقائع لم تكن بمتوقع حصولها، فأيًّا كان ذلك فإنَّ هذا قد وُجدَ في حالٍ ضيِّقة، وله مسوِّغاته عند أهل العلم، واعتذروا لأبي حنيفة لأنَّه كان بعيدًا عن موارد الأحاديث والنَّقل والنُّصوص، ووُجد في مجتمعٍ كثُرَت فيه تغيُّراتهم من الأعاجم وفارس ونحوها، فوقعت وقائع كثيرة، فكان أبو حنيفة دائرٌ بين أمرين:
• بينَ أن يُعمل النَّظرَ والرأيَ والأقيسَةَ، وهذا قد يعوزه إلى زيادةٍ في حُسنِ النَّظرِ وتقليب المسائل وإبداء الرأي ونحوه.
• أو بينَ الوقوف الذي يُفضي إلى حيرة النَّاس في كثيرٍ من وقائعهم، فحصل منه الاجتهاد.
فنقول: إنَّه اجتهد بسببٍ، وهو فيما اجتهدَ فيه مأجور، وقد تكون بعض المسائل التي سواءٌ وُجدَت في مذهب أبي حنيفة أو مذهب مالك أو مذهب الشافعي أو مذهب الحنابلة؛ مُتكلَّفات أُلحِقَت بكلِّ مذهبٍ، وهذا لا يخلو منه علم، ولكن ليست كثيرةً، وليست إلَّا نادرةً، ولبعضها ما يُسوِّغها، وبعضها مما لحق بها، فيُعتَذَرُ للعلماء ويُطلَبُ لهم المغفرة، فإنَّهم ما اجتهدوا إلَّا رجاء تقريب العلم وتسهيله وتذليله وذكر غرائب مسائله، وعسى الله أن يتجاوز عنَّا وعن علماء المسلمين، أن يغفر لنا ولهم ما عملوا وما قدَّموا وما اجتهدوا وما تفقَّهوا وما يسَّروا وما ألَّفوا.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُوْنَ مِنْهُمَا، أُرِيَ اْلقَافَةَ، فَأُلْحِقَ بِمَنْ أَلْحَقُوْهُ مِنْهُمَا، وَانْقَضَتْ بِهِ عِدَّتُهُا مِنْهُ، وَاعْتَدَّتْ لِلآخَرِ)}.
الحال الثالثة: أنَّها لَمَّا تزوَّجَت الثَّاني وكان نكاحها في العدَّة -وهو نكاحٌ غيرُ صحيحٍ- وهي الآن هي حامل، وهذا الحمل ولدته لأكثر من ستَّةِ أشهرٍ ولأقل من أربع سنوات، فيُمكن أن يكونَ من الأوَّل، ويُمكن أن يكونَ من الثَّاني، فبناء على ذلك يقول المؤلِّف -رَحِمَهُ اللهُ: أنَّه يُرى القَافَة، وهم أناسٌ يعرفون الأنسابَ بالشَّبه، فإذا رأوا فلانًا يقولون: هذا ابن فلانٍ؛ بل بعضهم يعرفُه بالقدم، وهذا جاء في السَّنُّة، فلمَّا كثُرَ كلام بعض مَن تكلَّمَ في نسب أسامة بن زيد من أبيه، لكونِ زيد فيه بياض، وكان أسامة فيه سوادٌ وسُمرَة، فرآه مزجَّج المدلجي فقال: إنَّ هذه الأقدام لمن بعض؛ ففرح النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى سُرِّيَ عنه، وقال لعائشة: «أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مُجَزِّزًا نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ فَقَالَ إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» ، فكأنَّها انطفأت بذلك نار الشُّبهة التي ربَّما أثَّرَت فيهم.
فأخذ من هذا أهل العلم أنَّ اعتبار الأشباه والحكم بها في الشَّرع قد جاء، إذن هم قومٌ يعرفونَ الأنسابَ بالشَّبهِ، سواءٌ كانوا من آل مرَّة -وهي مشهورة فيهم- أو كانوا من غيرهم، ولا يختصُّ بهم -كما يذكر الفقهاء- فمتى وُجدَ شيءٌ من ذلك فإنَّه يُحكَم به، ويُشترطُ أن يكونَ عدلًا، ولأهل العلم فيه كلام، وذكروا ذلك في أحكام اللقيط، وأظن أنَّها مرَّت بكم في دراسة هذا الكتاب.
إذن؛ من جهة النَّظر يُحكَمُ به، فإذا رآه القافة وقالوا هذا ولدُ فلانٍ فإنَّه يُلحَقُ به؛ وللفقهاء طريقة في ذلك، أنَّهم يحتبرونهم أولًا ويأتون بأناسٍ ليسوا لآبائهم، ثم يأتون بغيرهم، ويُجربوا عليهم الإصابَة ويعلموا الدِّقَّة والمعرفة، فإذا ألحقوه بفلانٍ لحق به، وإذا ألحقوه باثنين لحق بهم؛ لأنَّه جاء ذلك عن الصَّحابة في أكثر من واحدٍ ألحقه القافة باثنين، فيُلحَق بهما، وإذا نفوه عنهم فهذا هو محل الإشكال، يقول المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ: (فَأُلْحِقَ بِمَنْ أَلْحَقُوْهُ مِنْهُمَ).
لقائلٍ أن يقول: هل يقوم الآن بعض ما جدَّ في العلم من تحاليلٍ وفحوصاتٍ مخبريَّةٍ يُمكن الاستدلال بها على أنَّ هذا ابن فلانٍ أو ابن فلانٍ؟
نقول: إنَّ مَردَّ هذا العلم إلى الحكم بمقدِّمات الأمور، وبعض ما ثبتَ بالتَّجربةِ وصولها إليه، وهذا القدر موجودٌ في القافة، وقد حكمَ به -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بل وربَّما كانَ أدقَّ منه وأظهر، فإذا كان الأمر كذلك فإنَّ مُقتضَى ما جاء في الشَّرعِ من الحكم بالقافة وإجراءِ ما حكموا به وترتيب آثاره عليه يقتضي أنَّ ما جدَّ من مثل هذه التَّحاليل المسمَّاة بـالحمض النووي (DNA)، ونحوها، ويُمكن أيضًا أن توجد بعض الأشياء التي تقارب ذلك وتكون صالحةً للحكمِ، ويُمكن أن تُجرَى على هؤلاء فيُبيَّن أهو ولدٌ لهذا أم للآخر، فإذا قضينا أنَّه ولد أحدهما فإنَّها يُعتَدُّ للآخر.
بقيت مسألة: إذا كانت المرأة فراشًا لشخصٍ، وجاء الولد بوجهٍ حرامٍ؛ فهنا لا يكون فيه قافة، فالولد للفراش وللعاهر الحجر كما قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإنَّما ذكر الفقهاء هنا مسائل تتعلَّق بأنَّ لكل واحدٍ وجهٍ استمسكَ به، ولم يكن أحدهما بأولى من الآخر، أمَّا مَن كانت فراشًا للرجل والولد لا وجه له البتَّةَ فإنَّ ذلك لا حكم له، ولم يعتبره الفقهاء متعلقٌّ به بحالٍ من الأحوال.
{قال -رَحِمَهُ اللهُ: (بابُ الإِحْدَادِ)}.
الإحدَادُ له ارتباط بالعدَّةِ من جهةِ أنَّه حالٌ من أحوالِ المعتدَّة التي تعتدُّ من وفاة زوجها بما جاء في الشَّرعِ بما تجتنبه وتتبعه من الأحكام التي اختصَّت بها، فهذا هو مناسبة ذكر باب الإحداد بعدَ أحكام العدَّة.
والإحداد هو: اجتناب المرأة لِمَا يُرغِّبُ في نكاحها ويُزيِّنُها ويُجمِّلُها، وحقيقته تركُ ما يُرغِّبُ في نكاح المرأة ويزيد من جمالها ويدعو إلى النَّظرِ إليها.
وحقيقة الإحداد الشَّرعي: تربُّصُ المرأة المدَّة المفروضَة عليها شرعًا مُتجنِّبَةً لكلِّ ما يدعو إلى نكاحها ويُرغِّبُ في النَّظرِ إليها، وهو حاصلٌ بأربعةِ أشياء سيذكرها المؤلف -رَحِمَهُ اللهُ- هنا.
وأصل الإحداد جاء في قول الله -عزَّ وَجَلَّ: ﴿وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ۖ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ [البقرة:234]، وذلك أنَّ أهل الجاهليَّة كانت لهم حالٌ أشدَّ من ذلك، فكانت المرأة تجلسُ سنةً ولا تغتسل، ولا تخرجُ من بيتٍ، فجاء الشَّرعُ بالإبقاء على الإحداد على وجهٍ صحيح لا يُضرُّ بالمرأةِ ويَظهر به تعظيم الزَّوجة لزوجها، وقيامها بحقِّ هذا العقد، فلأجل ذلك كانت مشروعيَّة الإحداد.
ونجعل هذا الباب والدُّخول فيه في مقدَّمة الدَّرس القادم، أسأل الله لي ولكم التَّوفيق والسَّداد، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك