الدرس الثاني

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

1828 12
الدرس الثاني

عمدة الفقه (6)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{نشرع في هذه الحلقة -بإذن الله- فيما يتعلق بعشرة النساء.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (وَلَهَا عَلَيْهِ الْمَبِيْتُ عِنْدَهَا لَيْلَةً مِنْ كُلِّ أَرْبَعٍ إِنْ كَانَتْ حُرَّةً، وَمِنْ كُلِّ ثَمَانٍ إِنْ كَانَتْ أَمَةً، إِذاَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْر، وَإِصَابَتُهَا مَرَّةً فِيْ كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ)}.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله رَبِّ العَالمين، وصلَّى الله وَسَلَّم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ، أمَّا بعد:
فأسأل الله -جلَّ وَعَلَا- أن يجعلنا من أهل العلم، وأن يرفعنا به، وأن يُظهر ذكرنا بالعلم، وأن يرفعنا به، وأن يُعقبنا فيه العمل والتَّوفيق والهداية، وأن يجعله ذُخرًا لنا يومَ لقاه، ووالدينا وأحبتنا والمسلمين، إنَّ ربنا جوادٌ كريمٌ.
كُنَّا في الدرس الماضي استهللنا الكلام في المسألة الأولى، وذكر المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ- ما يتعلق بمبيت الرجل عند زوجه، فيقول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (وَلَهَا عَلَيْهِ الْمَبِيْتُ عِنْدَهَا لَيْلَةً مِنْ كُلِّ أَرْبَعٍ)، وهذا كما قلنا هو مَشهور مَذهب الحنابلة على ما جاء في أثرِ كعب بن سور على ما أسند إليه عُمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- تلك المسألة، مع أنَّ أهلَ العِلم يقولون إنه يُكره للإنسان أن يبيت وحده، فجاء ذلك عن الإمام أحمد، لكن إذا احتاج إلى ذلك كما لو كان للتفرغ للعلم أو للعبادة أو شُغل بأمرٍ، أو كان ذلك يُؤذيه ويمنعه من تمام راحته التي يستقبل بها يومه ومعاشه ونحو ذلك؛ فهذا شيء آخر، لكن إذا لم يتأتَّى له إلا أن ينفرد فإنَّه لا يُفوِّتُ على زوجه ليلةً من كلِّ أربعٍ؛ لأننا نعتبر لو كان عنده أربع نساء.
ثم قال: (وَمِنْ كُلِّ ثَمَانٍ إِنْ كَانَتْ أَمَةً)، باعتبار أنه لو كان عنده أربع حرائر فتكون ثمانِ ليالٍ باعتبار أنَّ الأمة على النصف من الحرة -كما سيأتينا بإذن الله جل وعلا- وهذا أحد قولي الحنابلة، وإن كان مشهور المذهب عند الحنابلة أنها ليلة من سبع؛ لأنَّه لا يُتصوَّر أن يكون مع الأمة إلا ثلاث حرائر، فإذا كان معها ثلاث حرائر فلكل حرة ليلتين وللأمة ليلة واحدة، وبناء على ذلك تكون ليلة من كل سبعٍ.
قوله: (إِذاَ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْر)، أمَّا إذا كان له عذر كما لو كان مُسافرًا أو كان مَريضًا أو حال بينه وبين المجيء إليها سيلٌ أو شيءٌ فهذا شيءٌ آخر لا غضاضة عليه ولا يكون عليه في ذلك لزوم أو وجوب.
ثُمَّ قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (وَإِصَابَتُهَا مَرَّةً فِيْ كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ)، من المعلوم أنَّ للمرأة على زوجها حقٌّ كما أنَّ للرجل على زوجته حقٌّ، ومن أعظم ما يكون من الحقوق بين الزوجين هو إتيانها وإعفافها وما يحصل من إفراغ شهوتها وقضاء وطرها، وهذه من الأمور التي تدخل في مقاصد النِّكاح أصالةً، وهي أيضًا من العِشرة بالمعروف، ويترتب عليها حصول الولد وإعفاف الفرج، وحصول الخير من كلِّ أبوابه، فلأجل ذلك ينبغي أن يكون بينَ الزَّوجين مِنَ الأُلفةِ والمحبَّةِ والقُربِ وإتيان كلِّ واحدٍ منهما ما لصاحبه من الحق في الفراش والمضجع، وهذا من حيث الأصل.
وهنا يذكر المؤلف إذا ما احتيج للفصل ونشب بينهما نزاع، أو كان بينهما اختلاف، أو صار من الزوج جفاء لزوجه، وإعراض عنها، وعدم عبءٍ بها لأي سببٍ مِنَ الأسباب؛ فالمؤلف يقول: (وَإِصَابَتُهَا مَرَّةً فِيْ كُلِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)، لماذا قال الحنابلة مرة كل أربعة أشهر وقال به جمع من الفقهاء؟
الجواب: لأنَّ الله -جلَّ وَعَلَا- قال: ﴿لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 226]، فمن حلف على زوجه -كما سيأتينا في المسألة بعدها- أَلَّا يَطأها أربعة أشهر، فإنَّه يجب عليه أن يرجع، وإِلَّا يُؤمَر بالطلاق، فدلَّ ذلك على أنَّ إتيانها كل أربعة أشهر واجب، وهذا هو مشهور قول الفقهاء.
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية إلى أنَّه يجب على كلِّ زوجٍ أن يأتي زوجته بما تحتاج إليه إذا لم يكن ذلك يُضرُّه، وهذا قول ليس ببعيد، فإنَّه كما يجب عليه كسوتها بالكسوة التي تناسبها وتلائمها وتقوم بها، وكما يجب عليه إطعامها؛ فإنَّ قضاء وَطَرِهَا له من الأهمية كإشباع بطنها وكساء عُريِّها، فالأصل أنه يجب على كل واحدٍ منهما أن يقوم بما للآخر من الحق.
ولعل لهذه المسألة تتمة -بإذن الله جل وعلا- في مسائل العشرة والمعاشرة وما يتعلق بها، في فصلٍ سيذكره المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ- بعد مسائل القسم، فلعلنا نجمع الحديث في ذلك الموضع -بإذن الله -جل وعلا.
إذا كان له عذر كأن يكون مَريضًا، أو دخل في إحرامٍ فلم يخرج منه، فإنَّ الإحرام يمنعه من الجماع، أو انشغل بسفرٍ لا يستطيع القُدوم معه، أو أي سببٍ من الأسباب الأخرى؛ ففي كل هذه الأحوال يكون عذرًا له في إصابتها في هذه المدة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (فَإِنْ آلىَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَتَرَبَّصَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُر، ثُمَّ رَافَعَتْهُ إِلى اْلحَاكِمِ، فَأَنْكَرَ اْلإِيْلاَء، أَوْ مُضِيَّ اْلأَرْبَعَةِ أَشْهُرِ، أَوِ ادَّعَى أَنَّهُ أَصَابَهَا وَكَانَتْ ثَيِّباً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِيْنِهِ)}.
هذا من المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ- دخولٌ في مسائل الإيلاء، والعادة عند الفقهاء أنَّهم يذكرون باب الإيلاء منفصلًا بعد باب الطلاق وقبل الظهار.
حقيقة الإيلاء: أنه كان نوعًا من أنواع طلاق أهل الجاهليَّة، فأهل الجاهلية إذا أرادوا أن يُطلقوا امرأة آذوها فتصبح لا هي مُطلقة ولا هي مُزوَّجة فيحلف أَلَّا يَطأها، ثُمَّ تبقى زوجته، ولا تجد ما يجده النِّساء في بيوتهنَّ من الأزواج، فلمَّا كان الأمر كذلك جاء في الشَّرعِ ما يتعلق بقطع دابر هذه الفعلة المشينة التي تُحدث بين الأزواج مِنَ الفَجوة وتحملهم على الشَّر، وتفتح باب السوء على حياة الزَّوجيَّة.
الإيلاء: بمعنى آلى يولي إيلاءً، وأليَّة بمعنى حلف، فالمعنى: هو أن يحلف الزَّوج -بالله جلَّ وَعَلَا أو بصفةٍ من صفاته- أَلَّا يَطَأ الزَّوجة في قُبُلِها فوق أربعة أشهر.
وهذا التعريف -كما يقول أهل العلم: مُشتمل على شُروط الإيلاء الأربعة، وهي:
 الأول: أن يكون قد حلف بالله -جلَّ وَعَلَا.
 الثاني: أن يكون الامتناع عن الوطء في القبل.
 الثالث: أن تكون المدة أكثر من أربعة أشهرٍ.
 الرابع: أن يكون ذلك من الزَّوج بلا عذر، فإذا كان بُعذرٍ فقد تقدَّم معنا، كأن يكون محرمًا أو مريضًا ونحوه، فلا يدخل في أحكام الإيلاء.
فإذا فَعَل شيئًا من ذلك فقد فَعَلَ أمرًا مُحرمًا، هذا من جهة الحكم التَّكليفي، أنَّه آثمٌ وعليه إثم ذلك الفعل؛ لأنَّه إضرارٌ بالزوجة، والله -جلَّ وَعَلَا- أمر بالإحسان إليها والقيام بحقها، والعشرة بالمعروف، وحثَّ على ذلك، وجاء في ذلك مِنَ الدلائل والأحاديث والنُّصوص ما هو كثير جدًّا، وقد ذكرنا طرفًا منها، وأشرنا بإشارةٍ لطيفة إلى شيءٍ من ذلك فيما مضى من الدُّروس.
أمَّا مِن جهة ما يترتب عليه: يقول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (فَإِنْ آلىَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ)، يُفهم من هذا أنَّه لو كان قد حلف ألا يطأها شهر أو شهرين أو ثلاثة أشهر فليس عليه في ذلك شيء؛ لأنه يجوز له أن يترك وطئها هذه المدَّة بدون يمينٍ، وكما قلنا: إنَّ هذا نوعٌ من الإساءة بلا سببٍ.
ومحل الأحكام المترتبة على باب الإيلاء أن يكون أكثر من أربعة أشهر، وذلك أنَّ الله -جلَّ وَعَلَا- قال: ﴿لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 226]، يعني: للذين يحلفون على نسائهم ألا يطؤوهم يتربصون أربعة أشهر، فإمَّا أن يرجعوا عمَّا حلفوا عليه فيُراجعوا أزواجهم بوطئهنَّ ومعاشرتهنَّ، وإن امتنعوا فيكون الطَّلاق.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (فَإِنْ آلىَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَتَرَبَّصَتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُر، ثُمَّ رَافَعَتْهُ)، وهذا فيه إشارة إلى مسألة، وهي أنَّ الحقَّ هنا للمرأة، فإن عفَت أو خافت ممَّا هو أشد، وهي وإن كانت في حاجة لوطءٍ ونحوه إلا أن خوفها مِن فراق زوجها وتفرق أولادها يحملها على أن تحتمل ذلك؛ فهي مَأجورة وهي في خيرٍ وهو آثمٍ، وتبقى على ما هي عليه، ولو بقي سنةً أو سنتين أو عشر سنوات.
ولكن لو لم تقبل المرأة أو لم تحتمل ذلك أو خافت على نفسها؛ فهنا ينبغي أن يُعلَم أنَّ النِّساء مهما جُبلنَ عليه من الحياء إلا أنهن في مَواطنٍ إذا خافت على دينها فإنها ينبغي لها أَلَّا تَحْمِلَ نفسها على ما يضر بدينها لأجل حياة، ولذلك لما سمع عمر -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كما سيأتي- تلك المرأة وجاء ليسأل حفصة: كم تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: أمثلك يسأل مثلي. فقال: والله ما كنت لأسألك لولا حاجة المسلمين. فقالت: خمسة أشهرٍ أو ستًّا .
المهم أنَّ عمر لم يكن ليستحيي من أمرٍ جرت العادة منه أنَّ الآباء يستحيون والبنات يستحيين من آبائهنَّ أن يدخلن في مثل هذا الحديث أو يتكلمن بنحو ذلك، فإذا خافت المرأة على نفسها فيجب عليها أَلَّا تسكت على مثل هذا، ويُمكن ألا تفصح بذلك لكلِّ أحدٍ، ولكن تجد ثقة مِن أهلها أو بعض من تُسرُّ إليها من صاحباتها أو قريباتها قد تكون لسانًا لها ترفع عنها جلباب الحياء، وتحفظ ماء وجهها أن تتحدث إلى أهلها أو إلى أبيها أو إخوتها، فيحصل الخير ويمتنع الشر، فإن صبرت المرأة فذاك إليها.
يقول الفقهاء: لا يحصل الطلاق بمجرد مُضي الأربعة أشهر حتى تطلب ذلك ويطلب الحاكم منه التطليق، وهذا هو الذي جاء عن أكبر صحابة رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال المؤلف: (ثُمَّ رَافَعَتْهُ)، يعني: هي التي طلبت وارتفعت وسألت إما الفيئة أو الرجوع، وإما الطلاق والفراق، فإذا رفعته إلى الحاكم فإنَّ الحاكم يسأله، فإما أن يُقر، وإما أن يُنكر، فإذا أنكر وقال أنا ما حلفت، وما آليتُ منها، وقد وطئتها؛ فقال المؤلف: (فَأَنْكَرَ اْلإِيْلاَء)، يعني: أنكره من حيث أصله، وقال: أنا ما حلفت. أو أنكر أنه لم يصبها، قال: أنا حلفت ولكن أصبتها وجامعتها. أو قال: حلفتُ ولكن ليس ليميني إلا شهر أو شهرين، فليس لها أن ترافعني إلى بعد مضي المدة؛ ففي هذه الأحوال لا يخلو الأمر إما أن تكون بيِّنة، أو لا بيِّنة.
إن كان ثَمَّ بيِّنة: كأن يكون قد حلف أمام الناس، وأشهد إخوانه أو بعض أهله على ذلك، وإما أن يكون قد أقرَّ بذلك لدى أحدٍ ونحوه؛ فتثبت البينة.
وإن لم يكن ثَمَّ بيِّنة: فإن كانت ثيبًا فلا يُمكن إثبات هذا؛ لأنَّ هذا من الأمور الخفيَّة، والأصل عدم وجود البينة، فما دام أنَّه لا توجد بينة والأصل عدمها فقوي جانب الزَّوج، فلذلك قال الفقهاء: إنَّ القول قوله، فيقول: أنا ما آليتُ منها، فيحلف؛ لأنَّ القول قوله، واليمين على مَن أنكر -كما في الحديث- فإذا حلف فيلحقه بذلك أثر يمينه وكذبه على زوجه وإضراره لها، وتحايله في مجلس القضاء، إلى غير ذلك مما يلحقه في هذا الأمر.
إذن؛ القول قول الزوج مع يمينه في مثل هذه الأحوال.
أمَّا لو كانت بكرًا، كأن يكون آلى منها قبل أن يدخل بها؛ فيقولون: تُرسَل نساء ثقات فينظرنَ؛ فإذا وجدن بكارتها فإنَّ جانب المرأة قد قويَ أنَّه لم يطأها، وبناء على ذلك يكون القول قولها مع يمينها، لأنه ترجَّحت جهتها، واليمين مع من ترجَّحت جهته، فيكون القول قولها في مثل هذه الحال.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَإِنْ أَقَرَّ بِذلِكَ، أُمِرَ بِاْلفَيْئَةِ، وَهِيَ اْلجِمَاعُ، فَإِنْ فَاءَ، فَإِنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ، وَإِنْ لَمْ يَفِئْ، أُمِرَ بِالطَّلاَقِ، فَإِنْ طَلَّقَ، وَإِلاَّ طَلَّقَ اْلحَاكِمُ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِنْ رَاجَعَهَا، أَوْ تَرَكَهَا حَتَّى بَانَتْ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، وَقَدْ بَقِيَ أَكْثَرُ مِنْ مُدَّةِ اْلإِيْلاَءَ، وُقِفَ لَهَا كَمَا وَصَفَتْ)}.
الحال الثانية: إذا أقرَّ بالإيلاء، فهنا تترتب أحكام الإيلاء، قال الله -جلَّ وَعَلَا: ﴿لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ۖ فَإِن فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 226]، وتبدأ الأربعة أشهر منذ اليمين؛ لأنَّ هذا أمر لا خلاف فيه، فلا يُحتاج فيه إلى أن يُبَتَ ابتداء المدَّة عند القاضي، فنقول: إذا حلف عليها مثلًا في الخامس من محرم؛ فنحسب أربعة أشهر، فإذا تمت الأربعة أشهر فرافعته المرأة فأقرَّ فيُطلب إلى الفيئة -وهي الرجوع:
 فإمَّا أن يفيء ويرجع فيُجامع زوجته، فيؤدي حقها، ويذهب بلاؤها والإضرار بها.
 وإما أن يمتنع، فإذا امتنع فيؤمر بالطلاق، قال تعالى: ﴿فَإِنْ فَاءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 227].
فليس له خيار غير هذين الأمرين: إمَّا أن يَفيء ويرجع وهو خير له وأزكى عند الله -جلَّ وَعَلَا- وإمَّا ألا يفيء فيُلزَم بالطلاق.
والأمر بالطلاق إنما مَردُّه إلى أن تطلب الزوجة ذلك؛ لأنَّ الحق لها فيه، فإذا أعفته وإن لم يفيء، فلا نتجاوزها، لأننا إنما نريد رفع الإضرار عنها، فإذا علمت أو ظنَّت أنَّ ما يفوت عليها من بيت الزوجية والبقاء مع أهلها أعظم مما يفوت عليها من مُعاناة ومُقاساة ومُعالجة الشهوة ونحوها؛ فهي أعلم بذلك، فإذا لم تطلب الطَّلاق فلا يطلق الحاكم.
وإذا طلبت الطلاق وقالت: لا أريد أبقى معه؛ فيؤمر بالطلاق، فإذا طلق فالحمد لله، وإذا لم يطلق فإنَّ الحاكم يُطلق عليه، قال المؤلف: (فَإِنْ طَلَّقَ، وَإِلاَّ طَلَّقَ اْلحَاكِمُ عَلَيْهِ).
عندنا مسألة مهمَّة: إذا حلف رجل ألا يطأ زوجته ولم يجامعها، فهل يأخذ حكم المولي، بمعنى أنه إذا مضت أربعة شهور يُطلب منه ذلك.
الفقهاء لهم في هذا كلام، والذي يظهر: أنه إذا كان منه إصرار، أو ظهر منه إرادة إضرارٍ؛ فإنَّه تضرب له المدَّة، فإذا لم يفئ فإنه يؤمر بالطلاق وإلا طلق عليه الحاكم؛ لأنَّ هذا إضرار بالمرأة، وإذا أرادت المرأة رفع الإضرار عنها جازَ لها ذلك، فإمَّا أن يُؤدِّي حقها ويرفع الضرر، وإمَّا أن يُطلق، فإن لم يكن ذلك فسخَ الحاكم نكاحها.
فإذا لم يكن اليمين للإيلاء؛ فهل يُلحَق به أو لا؟
ذكرنا أنَّ للعلماء في هذا أقوال، وللحنابلة قولان فيهما شيءٌ من التَّضادِّ، ولكن الذي يَستقر عليه: أنه ما دام على سبيل الإضرار بها، ولم يكن ثَمَّ عذرٌ فللقاضي أن يدخل في ذلك ويأمره بالفيئة؛ لأنَّ المقصود حاصل بالإضرار بها، سواء كان بيمينٍ أو بلا يمين، فإن لم يفئ وطلبت المرأة الطلاق، أمره القاضي بالطلاق، وإلا فسخ عليه العقد.
يقول المؤلف: (ثُمَّ إِنْ رَاجَعَهَا، أَوْ تَرَكَهَا حَتَّى بَانَتْ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، وَقَدْ بَقِيَ أَكْثَرُ مِنْ مُدَّةِ اْلإِيْلاَءَ)، يعني: أنَّ الزوج لم يفئ بعد أن آلى منها ثم طلقها، ثم مضت العدَّة ثم تزوجها بعقدٍ جديد، ومدة الإيلاء لازالت باقية، فنحكم عليه بأنَّ الإيلاء ثابت إلى الآن، فيقول له القاضي: إمَّا أن ترجع وإمَّا أن تطلق.
ومثل ذلك: لو أنه راجعها في وقت العدَّة، فنقول ما دام أن مُدة الإيلاء باقية فإنها تُبنى على المدة الماضية؛ فنقول: مضى الآن منذ أن طلقها شهرين ونصف، وقبلها خمسة عشر يومًا، ثم بعدَ شهر تُضرب له المدة، فيُقال له: إمَّا أن تطلق وإمَّا أن تفيء.
ولذا قال المؤلف: (ثُمَّ إِنْ رَاجَعَهَ)، يعني في أثناء العدة. (أَوْ تَرَكَهَا حَتَّى بَانَتْ)، هل يُمكن أن تكون البينونة قبل انتهاء الأربعة أشهر؟
نقول: نعم، ربما كانت حاملًا، فوضعت بعدَ يومٍ من هذا الإيلاء، أو أن عادتها امتدَّت أكثر من ذلك، لا تأتيها العادة كلَّ شهرين، وهكذا.
قال: (ثُمَّ تَزَوَّجَهَا، وَقَدْ بَقِيَ أَكْثَرُ مِنْ مُدَّةِ اْلإِيْلاَء، وُقِفَ لَهَا كَمَا وَصَفَتْ)، يعني كما وصفنا من الحكم بأنه يؤمر بالفيئة أو الطلاق على ما مرَّ بنا.
{قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (وَمَنْ عَجَزَ عَنِ اْلفَيْئَةِ عِنْدَ طَلَبِهَا، فَلْيَقُلْ: مَتَى قَدَرْتُ جَامَعْتُهَا، وَيُؤَخَّرُ حَتَّى يَقْدِرُ عَلَيْهَ)}.
عَجَزَ -بالفتح- أحسن من عَجِزَ -بالكسر- وهي تصح بالفتح.
فإذا انتهت المدة وقال أنا سأفيئ، ولكن لا أستطيع الآن لأي سبب من الأسباب؛ فنقول: إنَّ الفيئة تكون باللسان، فإذا قال: أريد جماعها، أو رجعتُ عن كلامي، أو لا أمتنع من معاشرتها، أو نحو ذلك من الألفاظ؛ فإنَّ هذا الرجوع باللسان كافٍ، حتى إذا قدر عليه بالفعل وجب عليه، وإلا ترتَّبَ عليه ما سبق مما ذكرنا.
فمن عَجَزَ عن الفيئة عند طلبها إمَّا لمرضٍ أو علَّةٍ، أو لإحرامٍ ونحوه؛ فيكون عوده ورجوعه وفيئته باللسان، حتى إذا قدرَ فعلَ ذلك.
قال: (وَيُؤَخَّرُ حَتَّى يَقْدِرُ عَلَيْهَ)، فإذا فعل فالحمد لله، وإلا أمضينا عليه حكم الإيلاء.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (بَابُ اْلقَسْمِ وَالنُّشُوْزِ.
وَعَلى الرَّجُلِ أَنْ يُسَاوِيَ بَيْنَ نِسَائِهِ فِيْ اْلقَسْمِ)
}.
التعبير بــ (العدل) أحسن من التعبير بــ (يساوي)؛ لأنه قد يكون لواحدةٍ أكثر ممَّا للأخرى، أمَّا المساواة فتكون من كل وجهٍ، فإن كانت واحدة حرَّة وواحدة أمَّة، فسيكون للحرة ليلتين وللأمة واحدة، فالنُّسخة التي فيها (وَعَلى الرَّجُلِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ نِسَائِهِ فِيْ اْلقَسْمِ).
أوَّل ما نتكلم عليه الآن هو: مسألة القَسْم.
ومردُّ هذا الكلام راجعٌ إلى الزَّوج الذي عنده أكثر من زوجة، فهذا الذي يدخل فيه الكلام على القسم وإعطاء ما لكلِّ زوجةٍ حقها، وهذا من أكثر المسائل التي يحصل بها النِّزاع بين الأزواج والزوجات وتُعكِّر صفو الحياة، وقد تصل إلى الطلاق في المشاحَّة والمنازعة والمحاققةِ في هذا الباب.
وإني أوصي الأزواج أن يقوموا بحق أزواجهم، وأن يعدلوا، وأن يتقوا الله -جلَّ وَعَلَا- فإنَّه جاء في الحديث: «مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَتَانِ فَمَالَ إِلَى إِحْدَاهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ مَائِلٌ» ، والله -جلَّ وَعَلَا- افترض العدل في كتابه، فقال تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً﴾ [النساء:3]، فإذا خاف الإنسانُ أن يفوت عليه العدل أو بعضه فإنه يمتنع من ذلك حفاظًا على دينه، وهذا ممَّا ينبغي أن يُنبَّه إليه الأزواج، ويُخوَّف بالله -جلَّ وَعَلَا- فإنَّ الغالب إذا أقبلَ بعض الأزواج على زوجةٍ صغيرة نسيَ ما كَان لتلك المراة مِن سالفِ العشرة وطويل المودَّة، وما جرى بينهما من احتمال الأذى ونحو ذلك، فيُقبل على هذه، ويكسر قلب تلك ويُعرض عنها حتى يظهر منه الجفاء، فإنَّ هذا أعظم ما يكون إثمًا وذنبًا عند الله -جلَّ وَعَلَا.
ولأجل ذلك صار نكاح الثَّانية والثَّالثة عند كثير من النِّساء هو بلاء عظيم، وهو كذلك من حيثُ ما جُبلت عليه من محبَّةِ أن تكون مع زوجها لا شريكة لها في ذلك، ولكن مع ما حصل من سوء العدلِ وعدمِ إحسان العشرة زاد في حُصول كراهية ذلك وبلاء ما يتعلق به.
ومن جهة أخرى: ما هو محل العدل بين الأزواج؟
تأمَّل ما قاله المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ- هنا، قال: (وَعَلى الرَّجُلِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ نِسَائِهِ فِيْ اْلقَسْمِ). أين الكلام على العدل في النَّفقة؟ أو بعبارة أخرى: هل يجب العدل في النَّفقة أو لا؟
النَّفقة على الزوجات لا يجب فيها العدل عند الحنابلة وجمعٍ من الفقهاء، خاصَّة أنَّ الحنابلة يقولون: إنَّ الاعتبار في النَّفقة بحال الزوجين، فإذا كان عنده زوجة غنيَّة وزوجة فقيرة؛ فالاعتبار أنَّ لهذه من النَّفقة ما ليس للأخرى، فباب النَّفقة بابٌ مُستقل، وهو إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه، فيعدل في أن يُعطي هذه حقَّها من النَّفقة التي افترض الله لها على ما ذكر ذلك الفقهاء وقرَّره الحنابلة من اعتبار حال الزوجية، أو الزوجة، أو الزوج.
فمن قال بأنه يُعتبر بحال الزوجين، أو حال الزوجة: فإنَّه لا يكون في مثل هذه الحال تصوُّر أن يكون العدل هو التَّسوية بينهما، فإذا أعطى هذه خاتمًا أعطى هذه مثله، وإذا أدخل على هذا البيت رغيفًا أدخل على البيت الثاني كذلك؛ لا، وإنَّما يلتزم بالنَّفقةِ الواجبة لهم، وما زاد من أُعطياتٍ ونحوها فينبغي أن يعدل، حتى لا يحمل النفوس على الشطط والميل والحيف ونحو ذلك، ولكن أيضًا لا يُلزَمُ في ذلك، فلو أعطى هذه أو عطى هذه فذاك شيءٌ زائدٌ على النفقة.
أمَّا محل العدل فهو القَسم، وتمامه ألا يُفرِّقَ بينهم، فإذا أعطى هذه أعطى تلك، لتطيب القلوب وتسلم النفوس، وتقوم الحياة وتسعد النساء مع أزواجهنَّ.
وهذه من المسائل المهمَّة التي ينبغي أن يُنتفطَّنَ لها.
قال: (وَعَلى الرَّجُلِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ نِسَائِهِ فِيْ اْلقَسْمِ)، القَسْم: هو المبيت في الليل.
{قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (وَعِمَادُهُ اللَّيْلُ، فَيَقْسِمُ لِلأَمَةِ لَيْلَةً، وَلِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً، وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُنَّ فِيْ اْلوَطْءِ)}.
إذن القَسم في الليل، بأن يجعل لكل زوجةٍ ليلةٍ، وهذا هو الأصل؛ لأنَّ الناس يأنسون ويرجعون إلى بيوتهم ليلًا، قال تعالى: ﴿وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنً﴾ [الأنعام: 96]، فالليل هو محل سكون النَّاس في بيوتهم ورجوعهم إليه، وأمَّا النَّهار فهو محل الانتشار وطلب الأرزاق، وما يتبع ذلك من قضاء الحاجات وغيرها.
فيبيت عند كل واحدة ليلة، ويكون ميوامةً، يعني يومًا ويومًا، أو ليلةً وليلةً، وقولنا: يومًا لأن اليوم تبعًا لليلة، ولذلك تقول عائشة: "مات النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في يومي"، وإن كان الأصل هو الليل.
وإذا رضيت النِّساء أن يكون القسم على طريقةٍ غير ذلك فهما على ما اتِّفقا عليه، فإذا اتفقوا على ليلتين ليلتين، أو مسابعةً -أسبوعًا وأسبوعًا- أو مُشاهرة -يعني: شهرًا وشهرًا- أو مساناة -يعني: سنةً وسنة- فالحقُّ لهم، والواجب عليه العدل، والأصل هو اليللة والليلة، فإذا اتفقوا على غير ذلك فهم على ما اتفقوا عليه.
فعماد القَسم الليل إلا في حالةٍ واحدةٍ، لمن كان عمله ليلًا، كالعسس الذين يشتغلون في أعمال ليلة، ولم يكن في الزمان الأول من الأعمال الليلة إلا العسس -وهم من يحرسون البيوتات- ولكن الآن كثير من الأعمال تكون في الليل، فإذا كان عمل الإنسان في ليله فمحل سُكناه هو نهاره، فجيب عليه أن يعدل بينَ النساء في النهار، الذي هو وقتُ سُكناهُ وأنسه في بيته ومنامه وما يتعلق بذلك.
ثم قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (فَيَقْسِمُ لِلأَمَةِ لَيْلَةً، وَلِلْحُرَّةِ لَيْلَتَيْنِ).
أما إذا كانت حرة وحرة، أو أمة وأمة؛ فليلة وليلة، ولا إشكال في ذلك، ولكن إذا اختلفتا فإنَّ الأصل أنَّ الإماء على النصف من الحرائر، اعتبارًا بقول الله -جلَّ وَعَلَا: ﴿فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ [النساء: 25]، فأخذ من هذا فقهاء الصحابة واطردوا ذلك في مسائل كثيرة؛ أنَّ الإماء والعبيد على النِّصف من الحرائر والأحرار، ومن ذلك ما يتعلق بالقَسم، فإذا كان عنده أمة وحرَّة وتزوج الأمة بشرطها -على ما تقدم معنا في نكاح الإماء- فبناء على ذلك يبقى عند الأمة ليلة، وعند الحرة ليلتين.
وهنا الكلام على الأمة المزوَّجة، أمَّا إذا كانت سُرِّيَّة -التي يملكها- فهذه لا قَسْمَ لها.
قال: (وَإِنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً)، يعني: أنَّ الحرة لها ليلتين وإن كانت كتابيَّة، يعني أنه لا يفترق الأمر بينَ أن تكون كتابيَّةً أو مسلمة؛ فإنَّها على ضعف الأمة باعتبار حرِّيتها، وأن الأصل في الحرة أنَّها على ضعف الأمة، أو أنَّ الأمة نصف الحرة.
ثم قال: (وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُنَّ فِيْ اْلوَطْءِ).
أما الوطء والإتيان والجماع فلا يملك ذلك الإنسان في نفسه؛ لأنَّ مبنى الوطء هو على نشوة النفس وشهوتها، والشَّهوة مثل شهوة الطعام والشَّراب، فقد يشتهي طعامًا ولا يشتهي آخرًا، وقد يشتهييه يومًا ولا يشتهيه يومًا آخرًا، فلمَّا كان كذلك فإنَّ مردَّه إلى النفس، والإنسان لا يملك إقبال نفسه ولا إدبارها، فبناء على ذلك لو وطء هذه ليلتها وهذه لم يطأها في ليلتها؛ فما دام أنَّه بات عندها فقد أدَّى ما لها.
وكما قلنا: إنه لا ينبغي لزوجٍ أن يفوت حق المرأة أو أن يُضارَّ بها، حتى ولو وجدَ من نفسه رغبةً عنها، فإنَّه طلبًا للأجر وأداءً للحقِّ، وتمامًا للعشرةِ، وقيامًا بما جعل الله -جلَّ وَعَلَا- بينهما من المودة أن يُعطيها حقَّها، وأن يُعاشرها ويُجامعها، فيطلب بذلك الأجر من الله -جلَّ وَعَلَا- ولكن من حيث الأصل أنه ليس لذلك مدخل في القسْمِ ولا اعتبار في وجوب العدل بينَ الزَّوجات.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَلَيْسَ لَهُ اْلبَدَاءَةُ فِيْ اْلقَسْمِ بِإِحْدَاهُنَّ، وَلاَ السَّفَرُ بِهَا إِلاَّ بِقُرْعَةٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا، أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا، خَرَجَ بِهَا مَعَهُ)}.
قوله: (وَلَيْسَ لَهُ اْلبَدَاءَةُ فِيْ اْلقَسْمِ بِإِحْدَاهُنَّ)؛ لأنَّ القسم شيء، والبداءة فضيل، ولا يُتصوَّر أن يبدأ بهما على حالٍ واحدة، فلابد أن يُقدم إحداهما على الأخرى، فلمَّا كان التَّقديم تفضيل ولا يُمكن تحصيله لهما على حالٍ واحدة، فبناء على ذلك فإنَّ مرد الأمر إلى القُرعة، فيُقرعُ بينهما، فأيُّهما قرعت فيكون اليوم يومها، إلا أن يتفقا، فإذا اتَّفقا فالحق لهما؛ لأنَّ للمرأة أن تُسقط ليلتها، ولها أن تتنازل لصاحبتها، ولها أن تُحسن لزوجها، ولها أن تفعل أشياء كثيرة، وتطلب رضا ربها ورضا زوجها، وفي ذلك من الأجر ما فيه.
فبناء على هذا نقول: ليس له أن يخص واحدة بأن يبتدئ بها بالقسمٍ، وهذا إنَّما يُتصوَّر فيما إذا استويتا في الابتداء، كأن يتزوجهما بعقدٍ واحدٍ أو في ليلةٍ واحدةٍ، أو غير ذلك من الأمور التي حصل فيها استواء حقهنَّ في القسم.
قال: (وَلاَ السَّفَرُ بِهَا إِلاَّ بِقُرْعَةٍ)، كذلك السَّفر؛ لأن فيه اختصاصها به واختصاصه بها وتنقُّلها معه، فإذا لم يكن بينهما اتفاق، وإذا كانت على حالٍ كلٌّ يريد أن يذهب معه وأن يرافقه في سفره؛ فيكون المصير إلى القُرعة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا أراد سفرًا أقرعَ بينَ نسائه، حتى ولو قال أنا سأسافر بهذه الآن، وبعد أسبوع أسافر بالثَّانية؛ نقول: لا، تُقرِع الآن وتسافر بالثَّانية بعدَ أسبوع، إلا إن اتفقتا، فإذا اتفقتا على حالٍ فالحكم على ما اتفقتا عليه، لكن إذا تنازعتا أو كل أرادت أن تُسافر معه؛ فيكون المصير إلى القرعة على ما ذكرنا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهِبَ حَقَّهَا مِنَ اْلقَسْمِ لِبَعْضِ ضَرَائِرِهَا بِإِذْنِ زَوْجِهَا، أوْ لَه، فَيجْعَله لِمَنْ شَاءَ مِنْهنَّ؛ لأنَّ سَوْدَةَ وَهَبَتْ يَومَها لِعَائِشَة، فَكَانَ رَسُولُ الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْسِمُ لِعَائِشَة يَومَها وَيَومَ سَوْدَة)}.
ذكرنا أنَّ القَسْم محل الليل والنَّهار تبعٌ له، فإذا احتاج أن يبقى في النَّهار فيبقى عند التي هو عندها، لكن لا يُمنع أن يذهب إلى الأخريات في النَّهار، ولذلك جاء عن النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحديث الذي في الصحيح أنَّه كان يدور على نسائه بعد العصر كل يومٍ، فإذا كان يدخل يطمئن عليهنَّ، أو يُلاحظ بعض أمورهنَّ، يطمئنَّ على ما يحتاجون إليه ويتفقَّد أولاده، ونحو ذلك، فهذا لا بأسَ به، أمَّا الليل فهو خاصٌّ بمن سيبيت عندها ولا يخرج من عندها إلى أخرى إلا لضرورة، أو تأذن الأخرى أو يعلم أنها لا تُمانع من ذلك.
هناك مَسألة قد أجلناها إلى هذا الموضع، وهي مسألة ذكرنها في أول الكلام عن عِشْرة النساء، هل الواجب على المرأة تسليم نفسها لزوجها للاستمتاع بها أو الخدمة؟
عند بعض الفقهاء: أنَّ الواجب هو الاستمتاع فقط، فليس على المرأة لزوجها عمل ولا خدمة، لكن بعض النساء ربما تستمسك بذلك، وأيضًا ليس للزوجة على زوجها إلا النَّفقة الواجبة وأن يكسوها كسوة في الشتاء والصيف، ويُسكنها، أمَّا أن يذهب بها أو ينزهها أو يعطيها هدية لأهلها أو أمها أو أبيها؛ فهذه غير واجبة عليه.
والمشهور من القول عند بعض الفقهاء وهو اختيار ابن تيمية -رَحَمَهُ اللهُ- وهو الأليق والأتم في حال الزوجين والأمنع للنزاع: أنَّ لكلِّ واحدٍ منهما على صاحبه ما تعارف الناس عليه بالمعروف، فإذا كان عادة هؤلاء أنَّ المرأة تلي بيتها أو تقوم بخدمة زوجها، أو تنظف دارها، أو تطبخ طعامها فهو كذلك، ولذلك كانت عائشة تسقي النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجاء عن أسماء امرأة الزبير أنها كانت تصلح طعام فرسه، وهكذا؛ فدلَّ هذا كما في السُّنن أنهنَّ كنَّ يخدمن، وفاطمة اشتكت إلى النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما أصاب يديها وما أثقلها من العمل في بيتها، فطلبت خادمًا، فقال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلا أَدُلُّكُمَا عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ» ، فَدَلَّ ذلك على أنَّ نساء الصَّحابة كُنَّ يشقين في البيوت، ويعملن للأزواج، ويقمن على الأولاد، فينبغي أن يُتنبَّه إلى ذلك لمسيس الحاجة إليه.
ثم يقول المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ: (وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَهِبَ حَقَّهَا مِنَ اْلقَسْمِ لِبَعْضِ ضَرَائِرِهَا بِإِذْنِ زَوْجِهَ)، يعني إذا كانت أكثر من زوجة، وكان لها عذر، أو رأت من زوجها انصرافًا عنه وأرادت أن تحبَّب إليه، أو ظنَّت أنَّ ذلك أبعدَ للإثم عليها وعليه، أنها لا تستطيع أن تقوم بحقِّه، وتخشى أن تتأثَّمَ فيه، أو أنَّها رأت منه إعراضًا فخافت على نفسها أيضًا أن يكون منها مثل ذلك فتأثم بذلك؛ فرأت أن تبذل ليلتها فذاك إليها، وسودة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- لما رأت من النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئًا من عدم مَيله إليها ونحوه وهبَت ليلتها لعائشة، فأحسنت إليه، وأرادت أن تبقى في عِصمة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن تكون من زوجاته في الآخرة كما جاء في الأثر أنَّ زوجاته في الدنيا هنَّ زوجاته في الآخرة -رضوان الله عليهن- أمهات المؤمنين.
فللمرأة أن تهب ليلتها لبعض ضُراتها ولكن بإذن زوجها، فقالت مثلًا: هذه ليلتي لخديجة، وقبل الزَّوجان ذلك، فحسنٌ؛ لأنَّ الحق للزوج أيضًا، ولكن لو جعلت يومها لمرأة لا يُريدها الزَّوج فلا، فيقول: إن أن تأخذين ليلتك أو أنك تعطينها مَن أرتضي، فيكون الأمر كذلك.
إذن هي بين حالين:
 إما أن تهب ليلتها لامرأة من نسائه ويرضى بذلك.
 وإما ان تهبها لزوجها، فيضعها حيث يشاء، فله أن يضعها عند الولى أو الثَّانية، أو الثَّالثة، وله أن يجعلها مُتفرقة، مرة عند هذه، ومَرة عند هذه، ومَرة عند الثالثة.
قال: (أوْ لَه)، أي: تجعل ليلتها للزوج، فيجعلها هو لمن شاء منهن، لما جاء عن سودة -رَضِيَ اللهُ عَنْها- حينَ وهبت يومها لعائشة، فكان رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقسم لعائشة يومها ويوم سودة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَإِذَا عَرَّسَ عَلى بِكْرٍ، أَقَامَ عِنْدَهَا سَبْعًا، ثُمَّ دَارَ، وَإِنْ عَرَّسَ عَلى ثَيِّبٍ أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثاً، لِقَوْلِ أَنَسٍ: مِنَ السُّنَّةِ إِذَا تَزَوَّجَ اْلبِكْرَ عَلى الثَّيِّبِ، أَنْ يُقِيْمَ عِنْدَهَا سَبْعًا، وَإِذَا تَزَوَّجَ الثَّيِّبَ عَلى اْلبِكْرِ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَث)}.
هذه مسألة خاصَّة من مسائل القَسم، وهو إذا تزوَّج بكرًا ثانيةً أو ثالثة، فلمَّا كانت البكر يُداخلها الخوف ويختلف عليها الأمر، ولم يكن لها تجربةٌ مع الرجال، واحتاجت أن يبقى زوجها حتى يكون لها دُربَة، وحتى تألف ويذهب خوفها وما في قلبها؛ فجاءت السُّنَّة بأنَّ الزَّوج يبقى عندها سبع ليالٍ، وهذه السبع ليال حقٌّ لها، بمعنى أنه إذا بقيَ عندها سبع ليالٍ يدور على نسائه بدون أن يجعل لهن مثلها سبع سبع؛ فهذا حقٌّ أحقَّه الله -جلَّ وَعَلَا- لها كما جاء ذلك في سنَّة النَّبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أمَّا إذا كان قد تزوَّج ثيبًا فإنَّ فله أن يمكث عندها -كما جاء في الحديث- ثلاثًا؛ لأنَّ الثيب قد جربت النِّكاح وعرفت الأزواج، وخابرت ما في العلاقة ما هو معلوم؛ فلأجل ذلك سهلٌ أن تقرب نفسها، وأن يذهب خوفها، وأن تأنسَ بزوجها، فجاءت السُّنَّة بأن تُخص بثلاث ليالٍ؛ ثم بعدَ ذلك يدور على سائر نسائه.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ: (وَإِنْ أَحَبَّتِ الثَّيِّبُ أَنْ يُقِيْمَ عِنْدَهَا سَبْعًا، فَعَلَ، ثُمَّ قَضَاهُنَّ لِلْبَوَاقِيْ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ، أَقَامَ عِنْدَهَا ثَلاَثاً، ثُمَّ قَالَ «لَيْسَ بِكِ هَوَانٌ عَلى أَهْلِكِ إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ لَكِ، وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِيْ»)}.
هذه في الثَّيب إذا أرادت أن يبقى عندها سبعًا، فنقول: إذا بقيَ عندها سبعًا فذاك أمرٌ مردُّه إلى طلبها، لكن لتعلم إن طلبت سبعَ ليالٍ؛ فإنه إذا خرج منها فَسَيَقْسم لكل واحدة من زوجاته الأوليات سبعًا مثل ذلك، ولذلك قال -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَإِنْ سَبَّعْتُ لَكِ سَبَّعْتُ لِنِسَائِيْ» ، فإذا كان عنده واحدة جلس عندها سبع، وإن كانت اثنتين جلس عند الأولى سبعًا وعند الثَّانية سبعًا ثم دارَ على نسائه ليلة ليلة؛ فهذا حالٌ خاصَّة مردُّها إلى اختيار المرأة الثيب، فإذا أرادت الزيادة على ثلاثِ ليالٍ، أمَّا الأصل فإنَّ لها ثلاث ليالٍ، وإذا أعطاها الليالي الثَّلاث فإنه يقسم لهنَّ يومًا يوم، ولا يعوضهن عن الليالي الثلاث؛ لأنَّ ذلك حقٌّ مستحقٌّ لها لما جاء في سنة النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
هذا بالنسبة لما يتعلق بباب القَسْم، والحقيقة أنَّ فيه مسائل كثيرة مسيس الحاجة إليها، ولكني في النِّهاية أُوصي النِّساء بألا يُكثرن على أزواجهنَّ في المحاققة، ذهبتَ...، تأخَّرتَ...، زدَّتَ...، نقصتَ...، ذهبت في يومها إلى كذا ولم تذهب في يومي...، أو العكس...؛ فهذا كله مما يجلب البغضاء، ويُفسد الصفاء بين الأزواج، ولا يحصل منه خيرٌ البتَّة!
فلو أنَّ النِّساء ارتضينَ ما يحصل لهنَّ، وغضضنَ الطرفَ، وأنسنَ بالزوجِ، وطلبنَ الخير، واعتاضت المرأة عن كثرة الملاحَّة والمطالبة والمجادلة بأن تفوض الأمر إلى الله، وأن تطلبَ الخير منه، وأن تبذل ما فات عليها لله، وأن تطلب الأجر من الله -جلَّ وَعَلَا- فإنَّ الله يُعقبها بركةً في نفسها، وبركةً في ولدها، وخيرًا تجده من زوجها، وما يكون منها من تقصير فإنه يقابله ما يكون منها من وفاء، فيُذهب الله -جلَّ وَعَلَا- ذلك بذاك، ويحصل لها من الخير ما الله به عليم.
هذا أمر مهم! ومهما وَجَدَت المرأة من نفسها من غِيرةٍ أو شدَّةٍ أو تقَّلبَت نفسها؛ فإنَّ ذلك إنما هو من الشيطان، فيقول: جاء إليك وهو يضحك! وعندك لا يفعل كذا! فإنما ذلك من الشيطان، وكم من البيوت التي سُترَت هو أشد ما يكون فيها من البلاء وتظنُّه تلك الزوجة أنه في خيرٍ وسعادة وهناء، وكم من الأحوال التي كانت بركانًا على الأزواج ومزيجًا من البلاء والشَّر وتظنُّه الأخرى أنه في خيرٍ وصفاء!
فلو أنَّ المرأة أعرضت عن مثل هذه الأفكار والوساوس، وطرت الشيطان عن هذا الباب، ورضيت بما يجعل الله -جلَّ وَعَلَا- لها من الخير؛ فإن الله يُبارك لها، ويُعقبها هناءً في نفسها، ويُبارك لها في زوجها وولدها.
فهذه وصية، وإلا فمسائل التفاصيل في مثل هذا طويلة، ولكن نكتفي بما ذكره المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تعالى- ونسأل الله التوفيق والسداد.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلةَ الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك