الدرس الرابع

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

1828 12
الدرس الرابع

عمدة الفقه (6)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقاتِ البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ الدكتور/ عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاك الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين.
{يقول المؤلف رحمه الله: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لاَ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا،فَإِذَا خَالَعَهَا أَوْ طَلَّقَهَا بِعَوْضٍ، بَانَتْ مِنْهُ، وَلَمْ يَلْحَقْهَا طَلاَقُهُ بَعْدَ ذٰلِكَ، وَإِنْ وَاجَهَهَا بِهِ، وَيَجُوْزُ اْلخُلْعُ بِكُلِّ مَا يَجُوْزُ أَنْ يَكُوْنَ صَدَاقًا، وَبِالْمَجْهُوْلِ)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدُ لله رَبِّ العَالمين، وصلَّى الله وَسَلَّم وبارك على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلَّمَ تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّينِ، أمَّا بعد:
فأسأل الله -جلَّ وَعَلَا- أن يُفيض علينا وعليكم من فضله، وأن يزيدنا من طاعته، وأن يُبلغنا الهُدى والبرَّ والتقوى، وأن يحفظ الإسلام والمسلمين إنَّ ربنا جوادٌ كريم.
كُنا في حلقة ماضية آتينا إلى نُتفةٍ ومقدمةٍ صغيرةٍ مما يتعلق بباب الخلع، ولَمَّا قرأتَ أنت من بدايته، فمن المستحسن أن نُعيد ما ذكرناه في الدرس الماضي.
فالخلع مِن خالعَ يُخالع، مُخالَعَةً، فهو مُخالِع، والمفعول مُخالَع.
ونقول: خالعت المرأةُ زوجهَا: أي، طلبت طلاقها بِبَذْلٍ من مالها تؤدّيه إليه.
والخلع هو أول الكلام على الفُرق التي تكون بين الزَّوج وزوجته، وهو يكون مِن جهة الزَّوجة، والخلع في الأصل يأتي بمعنى الفسخ، وهو هنا بمعنى الفُرقة بين الزَّوجين مِن جِهَتها بعوضٍ تبذله لِزَوجها بألفاظٍ مخصوصة، أو كما جاء ذلك في تعاريف مُتقاربة عند أهل العلم والفقه.
وذكرنا أنَّ أصل ذلك هو كتاب الله تعالى، وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم، كما أنَّ الإجماع مُنعقد على ذلك، قال تعالى: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ﴾ [البقرة: 229]، وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» كما جاء ذلك في حديث ثابت بن قيس لَمَّا كرهته زوجته ورغبت عنه. والإجماع مُنعقدٌ على ذلك.
وقلنا: إنَّ الخلع فسحة للمرأة إذا رأت أنها لا تقوم بحق زوجها، أو أنها لا تستطيع أداء ما افترض الله عليها لبعلها وزوجها؛ ولأجل ذلك قال المؤلف -رحمه الله: (وَإِذَا كَانَتِ الْمَرْأَةُ مُبْغِضَةً لِلرَّجُلِ وَخَافَتْ أَنْ لاَ تُقِيْمَ حُدُوْدَ اللهِ فِيْ طَاعَتِهِ).
أريد أن ألفت الانتباه إلى مسألة، وهي: متى يحسن بالرجل أو المرأة أن يصيرا إلى الفِراق، سواء كان من المرأة بخلع أو كان من الرجل بطلاق؟
ذكرنا أنه ليس ثمَّ إشكال ولو عظم أو طالت مدته، أو حسب أنه قد يبقى أبد الدهر بمسوغ للمرأة أن تطلب فر اق زوجها أو بمسوغ للرجل في أن يسعى إلى الطلاق، وإلى تيتيم الأطفال ونحو ذلك.
وقلنا: إنَّ النظر في هذا هو أن تكون حياته بعد الطلاق أفضل من حياته قبله، أو حياتها بعد الخلع أتم من حياتها قبله، وإلا فلا تنفك حياة إنسان من بلاء ونكد، قال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد:4].
يُذكر أنَّ امرأة تعبت في بيت زوجها ولحقها شيءٌ من العنت والمشقة والكد ونحو ذلك، فأجمعت أمرها على أن تذهب إلى أهلها في قرية من قُرى نجد، فخرجت من بيتها مُتجهة إلى بلدتها؛ فإذا بها تسمع الناس يصلون صلاة المغرب والإمام يقرأ قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ﴾ [البلد:4]، وكانت المرأة حكيمة، وأراد الله -عز وجل- لها الخير، فقالت: كبدٌ في بيت الزوج ولا كبدٌ في بيت الأهل؛ فرجعت إلى بيت زوجها.
وهذا يعني أنَّ الإنسان لا ينفك من غثاء بلاء، فالمرأة أن تبقى في بيت زوجها وما يحصل لها من العفة والنفقة والولد والقيام عليه، واحتساب الأجر في الزوج والقيام بالواجبات الزوجية هو أعظم من ذلك كله.
ولكن مع ذلك لو أنها كرهت أو أبغضت أو وجدت أنها لا تُطيق زوجها أو لا تصبر عليه أو ربما حَمَلَهَا ذلك على الإساءة إليه أو التلفظ أو النشوز أو نحو ذلك؛ فكرهت خَلْقَهُ، أي: صورته الظاهرة، أو خُلُقَهُ، أي: صورته الباطنة من أخلاق، مثل البخل، أو بعض الصفات في النوم أو القيام أو في الجلوس أو غير ذلك، فلها أن تطلب الطلاق، ولذلك قالت زوجة ثابت بن قيس: "إني أكرهه يا رسول الله كما أكره الكفر في الإسلام. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟» قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اقْبَلْ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا تَطْلِيقَةً» وأمره بفراقها.
ولأجل ذلك قال المؤلف -رحمه الله: (وَخَافَتْ أَنْ لاَ تُقِيْمَ حُدُوْدَ اللهِ فِيْ طَاعَتِهِ)، فمناط ذلك ليس البغض وإنما مناط ذلك الخوف من حصول الإثم والعدوان، أو السوء والتقصير، لكن مجرد البغض أو حصول الإشكال ونحوه، فكل البيوت لا تخلو من ذلك.
لكن لو كانت أمورها مستقرة وزوجيتها تامة وأنسها بالزوج حاصل ثم أرادت الخلع؛ فيقول الفقهاء: يكره لها ذلك مع استقامة الحال.
لكن الفراق بين الزوجين مُباح، فكما أنه يجوز للزوج أن يطلق زوجته بغير سبب، «إِنَّ أبغضَ الحَلالِ إلى اللهِ الطَّلاقُ» يجوز للمرأة أن تطلب الخلع -وإن كان الفقهاء كرهوا ذلك- إذا لم يكن هناك سبب، وإذا ما ترتب عليه محظور فقد يكون الخلع محرمًا، مثل أن تعرف من نفسها عدم قدرتها وصبرها على ترك النكاح والوطء، وأن ذلك قد يحملها على شرٍ أو سوء أو فاحشة، فيمكن أن يكون فعلها محرم لأنها تفوت على نفسها فرصة الإعفاف أو تحمل نفسها على السوء والفاحشة.
قال: (فَلَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ)، وسبق أن قلنا: إنَّ قوله: (بِمَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ) سواء كان قليلا أو كثيرًا؛ لأن الله تعالى قال: ﴿فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ به﴾ [البقرة: 229]، فدل ذلك على أنَّ الافتداء بالقليل أو الكثير مباح؛ ولأجل ذلك جاء عن ربيع بنت مُعَوِّز أنها خالعت زوجها على عقاص رأسها، يعني ما تربط به رأسها أو نحو ذلك، فأجاز ذلك علي.
ولهذا يجوز بالشيء القليل ويجوز بالشيء الكثير.
لكنهم يقولون: ويكره الزيادة، فإذا كان قد دُفِع لها مهر خمس أواقٍ أو عشر أواق من فضة أو ألف درهم أو خمسين دينارًا أو غير ذلك من معاملات الناس اليوم بالنقود الحالية، فردت إليه نحوًا من ذلك فحسنٌ، أمَّا الزيادة فمكروهة؛ لأنه جاء في بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ولا يزداد»، وهذا فيه النهي عن الزيادة فيها لما فيه من إقصاء للناس.
هل يجوز للزوج أن يُبَغِّضَ نفسه لزوجته حتى تخالعه؟
يعني هو لا يريدها، ولا يريد أن يطلقها فيذهب عليه مهرها كما يحدث كثيرًا من بعض الأزواج! أو أنه فُرِض عليه مؤخر من المهر عند الطلاق، فتجده يبدأ من الإساءة إليها أو التقليل من شأنها أو احتقارها وإذلالها وتكليفها بما لا تطيق.
نقول: هذا لا يجوز البتة، وفاعل ذلك آثم في الدنيا والآخرة، وما يأخذه من المال تبعا لذلك هو سحتٌ، وما يترتب على ذلك باطلٌ، فالزوجية بحالها والمال يرد إليها، وهو يعاقب على فعله، فهو يعضلها لتفتدي منه كما جاءت الآيات في سورة النساء، قال تعالى: ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [النساء:17].
أما إذا زنت المرأة أو بها شيء من الفجور والفحش -نسأل الله السلامة والعافية- فليس على الزوج غضاضة في مثل هذا، أي: أن يحملها على المفاداة والمخالعة؛ وذلك كما جاء في الاستثناء في قول الله -جل وعلا- ﴿وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [النساء:17].
ثم قال المؤلف -رحمه الله: (فَإِذَا خَالَعَهَا أَوْ طَلَّقَهَا بِعَوْضٍ، بَانَتْ مِنْهُ)، هذه مسألة مهمة وهي، ما الذي يترتب على الخلع؟
يترتب على الخلع بينونة، وهذه البينونة لا رجعة فيها، وهذا هو الفرق بين الخلع وبين الطلاق.
فالطلاق إذا حدث فللزوج أن يراجعها ما دامت في عدتها شاءت أم أبت، رضيت أم غضبت، سواء كان بعلمها أو بدون علمها.
إمَّا إذا كان خُلْعًا فقد بذلت فيه عوضًا؛ فاستحقت ما طلبته من الفراق، ولهذا ليس له أن يرجع إليها بحال. أو كما يعبر الفقهاء عنه بقولهم: إنها بينونة كبرى، أي ليس فيها ارتجاع.
إما إذا أرادها بعد الخلع، فنقول: إذا كان لم يستوف تطليقاتها الثلاث، فله أن يعقد عليها بعقدٍ جديد، ونكاح جديد، وحينئذ يتقدم لأهلها بخطبتها فإن وافقوا فيدفع مهرًا ثم يبني بها بعقد جديد، وتزويج جديد بولي وشهود وغير ذلك مما هو من متطلبات الزواج، ثم تعود على ما كانت عليه من تطليقات الزواج، فإذا كان قد طلقها واحدة؛ فيبقى له اثنتان، وإذا كان طلقها اثنتين؛ فيبقى له واحدة.
وأما إذا كان قد طلقها ثلاث فلا يمكنه الرجوع بعد الخلع، كما لو كان الخلع تطليقة، وكان تكملة الثنتين، فلا يرجع إليها إلا بزواجها من زوج آخر ثم يحدث بينها الفراق.
إذن الخلع يحصل به البينونة، ولابد له من العوض؛ لأنَّ أصل الخلع يقوم على دفع العوض.
ما حقيقة الخلع؟ هل هو طلاق؟ هل هو فسخ؟ هل يكون طلاقًا ويكون فسخًا؟
هذا لأهل العلم فيه كلام المشهور من المذهب عند الحنابلة، أنه إذا كان بلفظ الطلاق؛ فهو طلاق بائن، يعني: لا رجعة فيه.
كونه لا رجعة فيه، لا اختلاف فيه، ولكن هل هو لفظ من ألفاظ الطلاق فيحسب من تطليقاتها الثلاث، أم أنَّه لا يحسب؟ أم أنه يحسب في حالٍ دون حال؟
ذهب جمهور أهل العلم إلى أنه يحسب طلاقًا في كل حال، وبالتالي يحسب من عدد التطليقات.
وذهب ابن تيمية وهو قول لبعض السلف أنه فسخ، ولا يدخل في اسم الطلاق البتة.
وذهب الحنابلة وهم وسط بين ذاك وذاك، فقالوا:
- إن وقع بلفظ الطلاق؛ فنغلب فيه جانب الطلاق ونحتسبه من تطليقاتها، ونعتبره لا رجعة فيه؛ لأنه بِعوضٍ، وهي قد بذلت ودفعت لتسلم لها نفسها من ذلك الزوج الذي أبغضته وبعدت عنه.
- إن وقع بغير لفظ الطلاق، كأن يقول خالعتك على ألف، أو فسخت نكاحك بألف ريال تدفعينه إليَّ؛ فنقول: هذا عند الحنابلة يعد فسخًا إلا إذا كان ينوي بذلك الطلاق؛ لأنهم يعتبرون لفظ الخلع من كنايات الطلاق، أي: فهو مما يعتد به الطلاق إذا نوى.
إذن يتلخص لنا التالي:
- من أهل العلم من يعدونه طلاقا بائنًا لا رجعة فيه.
- من أهل العلم من يرونه فسخ لا يدخل في عدد التطليقات البته، اعتبارًا بالآية؛ لأن الله تعالى قال في كتابه: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَن يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ﴾ [البقرة: 229-230]، فيقولون: لَمَّا ذكر التطليقات الثلاث وذكر بينهما الخلع؛ دلَّ غلى أنه لا يحسب من هذه التطليقات؛ لأننا نعرف أن الطلاق لا يزيد عن الثلاث.
- الحنابلة قالوا: هو فسخ إن وقع بغير لفظ الطلاق، أو غير نية الطلاق، وهو طلاق إن وقع بلفظ الطلاق.
قال المؤلف رحمه الله: (فَإِذَا خَالَعَهَا أَوْ طَلَّقَهَا بِعَوْضٍ، بَانَتْ مِنْهُ)، وهنا نقول: لماذا فرق المؤلف بين اللفظين، وهما: (فَإِذَا خَالَعَهَا أَوْ طَلَّقَهَ)؟
نقول: ليبين أنه إذا خلعها يكون فسخًا، وإذا طلقها بعوض يكون طلاقًا، وهي في كل الحالين لا رجعة فيه؛ لكونها دفعت العوض.
لكن الخلاف في هل تحسب من تطليقاتها أو لا تحسب؟
ثم قال المؤلف -رحمه الله: (وَلَمْ يَلْحَقْهَا طَلاَقُهُ بَعْدَ ذٰلِكَ، وَإِنْ وَاجَهَهَا بِهِ)
نقول: لو أنَّ شخصًا طلق أجنبية، قال لها في عرض الطريق: أنت طالق، فهل يلحقها الطلاق؟
لا يلحقها؛ لأنه لا سلطان له عليها ولا زوجية بينهما، فكذلك يقول المؤلف -رحمه الله: إنه بمجرد أن يخالع امرأته فقد بانت منه، وهذه البينونة تجعل هذه المرأة أجنبية عنه، حتى ولو كانت في عدته. فلو قال لها بعد أن خالعها أنت طالق، نقول: أنت طلقت أجنبية فلا يلحقها طلاق سواء واجهها به أو كتبه إليها أو نحو ذلك، فلا يقع عليها ذلك الطلاق.
لماذا يذكرون هذه المسألة؟
لأنه لو تزوجها مرة أخرى وكان قد طلقها بعد أن خالعها فهل يعتد بهذا الطلاق؟
فنقول: ما دام أن التطليقات بعد الخلع؛ فلا يعتد بها، ووجودها كعدمها.
{طيب يا شيخ أحسن الله إليك، ما هو الأثر المترتب على كونه طلاق أو فسخ؟}
مثل ما قلنا من قبل، من أنه لو كان فسخًا فلن يحتسب من عدد تطليقاتها، فلو أنَّ شخصًا مثلا قد طلق امرأته تطليقتين، ثم خالعها بلفظ الخلع، فعلى قول الجمهور يعد طلاقًا، وبناء عليه لا يراجعها حتى تنكح زوجًا غيره.
وإذا قلنا: إنه فسخ فمعنى ذلك أنه لم يستنفذ إلا طلقتين، ولذا لو أراد أن يتزوجها فإنَّ له ذلك، وإذا تزوجها فهي زوجته ولا يبقى لها إلا طلقة واحدة.
{يقول -رحمه الله: (وَيَجُوْزُ اْلخُلْعُ بِكُلِّ مَا يَجُوْزُ أَنْ يَكُوْنَ صَدَاقًا، وَبِالْمَجْهُوْلِ، فَلَوْ قَالَتْ: اخْلَعْنِيْ بِمَا فِيْ يَدِيْ مِنَ الدَّرَاهِمِ، أَوْ مَا فِيْ بَيْتِيْ مِنَ الْمَتَاعِ فَفَعَلَ، صَحَّ، وَلَهُ مَا فِيْهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيْهِمَا شَيْءٌ، فَلَهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ، وَأَقَلُّ مَا يُسَمَّى مَتَاعً)}.
نعم، يقول: (وَيَجُوْزُ اْلخُلْعُ بِكُلِّ مَا يَجُوْزُ أَنْ يَكُوْنَ صَدَاقً)، وقد تقدم في باب الصداق أنه يمكن أن يصدقها دراهم أو دنانير أو خاتم من حديد كما جاء به النص، أو أن يعلمها مهنة من المهن كخياطة وحياكة أو صياغة ذهب أو فضة أو غير ذلك من المهن الأخرى، ويمكن أن يكون الصداق أيضًا بستانا أو عقارًا كبيت أو سيارة أو غير ذلك، وكل ما صح أن يكون مهرًا من قليل أو كثير يصح أن يحصل به الخلع، أو أن يكون عوضًا في الخلع من قليل أو كثير.
وكل ما صح أن يكون صداقًا صح أن يكون عوضًا في الخلع حتى بالمجهول، فإن الفقهاء يمنعون التعامل بالمجهول لما يفضي إليه في الغرر.
فلو أنَّ إنسانًا باع مجهولا أو أجر مجهولا؛ فإن ذلك لا يصح لما فيه من الغرر، ولما يترتب عليه من النزاع، لكنهم مع ذلك صححوا في باب الصداق وصححوا في باب الخلع، الخلع على مجهول والصداق على مجهول.
فلو أنه قال أصدقتك ما في هذا الصندوق أو بما في جيبي أو بما في حسابي الآن؛ فإنه يصح عندهم ذلك، لماذا؟
لأنهم يقولون: إن باب البيع والأجرة بابها هو باب المعاوضة المحضة، يعني المقصود منها أن تعطيني وأخذ مقابل ذلك، أما الصداق فليس هو معاوضة للمرأة، وليس مقابلا لها وإنما هو يطلب به في النكاح تعظيم شأن النكاح، وأيضا رفعة لقدر هذه المرأة؛ ولأجل ذلك لم يكن عوضًا محضًا، ولمَّا لم يكن عوضا محضًا جرى فيه التسامح.
فلو قال مثلا: أصدقتك عبدًا من عبيدي، والعبد منه ما يساوي مائة ألف، ومنه ما يساوي مائة ألف، فيقوله هذا فيه جهالة، ولا يصح أن يقول أشتري سيارة بعبد من عبيدي؛ لأنه قد يعطيه العبد الذي يساوي عشرين ألف، فيكون في ذلك شيء من الظلم.
إذن هذه من البيع وهي معاوضة محضة، ولذا لم تصح.
أمَّا النكاح فإنه ليس بمعاوضة محضة، وبناء على ذلك يصح حتى وإن كان فيه جهالة؛ لأن النفوس تتسامح فيه؛ ولأنه يؤتى إلى أرفع النساء شأنًا وشرفًا وحسبًا وجمالاً وتعليمًا ونحو ذلك؛ فتعطى صداقًا يسيرًا، وقد يؤتى إلى امرأة دميمة قلية القدر والمنزلة؛ فتعطى مهرًا كثيرًا؛ لأنه ليس مبناه على المعاوضة وإنما مبناه على المماثلة؛ ولذلك صححوه في المجهول.
يقولون: كما أننا نصحح الصداق في المجهول؛ نصححه كذلك في الخلع، فلو أنَّ امرأة خالعت على ما في البيت من متاع، وكان المتاع والآثاث الموجود في البيت لها، فقالت: هذا الأثاث والمتاع لك، وهذا الآثاث والمتاع يعد من المجهول.
وكذلك لو قالت لزوجها: أخالعك على ما اشتريت اليوم من أشياء، فلا بأس بذلك، ولو كان فيها جهالة.
ولو قال هذه قليلة، قلنا له: هذا يجوز حتى لو كان فيه جهالة؛ لأن الخلع ليس معاوضةٌ محضة؛ ولذلك قال: (وَبِالْمَجْهُوْلِ).
ثم مثَّل المؤلف رحمه الله تعالى لذلك، فقال: (فَلَوْ قَالَتْ: اخْلَعْنِيْ بِمَا فِيْ يَدِيْ مِنَ الدَّرَاهِمِ، أَوْ مَا فِيْ بَيْتِيْ مِنَ الْمَتَاعِ فَفَعَلَ، صَحَّ، وَلَهُ مَا فِيْهِمَ)، حتى وإن وجد في يدها خمسة دراهم فقط، فالحمد لله.
وإذا كان المتاع قد حملت أكثره من قبل إلى بيت أهلها ولم يبق في البيت سوى آلة الطبخ فقط، صح، حتى وإن كان يظن أنَّ هناك آثاث آخر في البيت.
قال: (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيْهِمَا شَيْءٌ)
سؤال: هل يذهب عليه إن لم يجد فيهما شيء؟
نقول: لا؛ لأن العوض شرط في الخلع؛ ولذا وجب عليها أن تُعطيه أقل ما يطلق عليه الاسم، فتعطيه من الدراهم كما قال المؤلف: (فَلَهُ ثَلاَثَةُ دَرَاهِمَ).
لماذا ثلاثة دراهم تحديدًا؟
لأنه أقل الجمع، فأقل الجمع في الدراهم هو العدد ثلاثة؛ وإن زادت فهو إحسان منها.
وتعطيه كذلك أقل مَا يُسمى متاعًا، قال المؤلف: (وَأَقَلُّ مَا يُسَمَّى مَتَاعً)، مثل سجادة وإناء، وغير ذلك مما يسمى متاعًا، ومن ثم تعطيه إياه.
المهم: أنه لابد أن يكون هناك عوض، وإذا لم يوجد شيء؛ فيعطى أقل ما يُطلق عليه هذا الاسم الذي صُرح به في وقت عقد الخلع.
سؤال: {وهل يمضيه القاضي وجوبا أحسن الله إليكم؟}
إي نعم يُمضيه، ولا يحول جهالة العوض في حصول الخلع.
وبالمناسبة: الخلع لا يُحتاج فيه إلى حُكم حاكم؛ لأنه مثل البيع والشراء، مثل عقد النكاح وغيره، وليس فيه كثير اختلاف، ولذا لا يحتاج فيه إلى فصل الحاكم، ولكن لو ارتفع إلى الحاكم فهو أمر حسن حتى يوثق ذلك.
وقد يكون للحاكم نظر في أمر الخلع لسببٍ آخر لا لسبب الجهالة.
{قال -رحمه الله: (وَإِنْ خَالَعَهَا عَلىٰ عَبْدٍ، فَخَرَجَ مَعِيْبًا، فَلَهُ أَرْشُهُ أَوْ رَدُّهُ وَأَخْذُ قِيْمَتِه، وَإِنْ خَرَجَ مَغْصُوْبًا أَوْ حُرًّا، فَلَهُ قِيْمَتُهُ)}.
يبين المؤلف -رحمه الله- أنَّه لو خالعها على عبدٍ، أي قال: "تعطيني عبدك فلان" أو قالت هي له: أُعطيك عبدي فلان؛ فتبين أنَّ هذا العبد فيه عيب؛ كأن يكون فيه مثلا مرض يُوشك أن يقضي عليه؛ فهذا مؤثر في قيمته؛ فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- (فَلَهُ أَرْشُهُ) وهذا معناه أنه ينظر في قيمة العبد صحيحًا، وقيمته معيبًا ثمَّ يُنظر إلى ما بين ذلك.
قال: (أَوْ رَدُّهُ وَأَخْذُ قِيْمَتِه) فقد يقول: أنا لا أحتاج؛ فأعطيني قيمة العبد هذا، فلها أن تبيع العبد وتعطيه قيمته، أو أن تجمع قيمة العبد من أي سبيل ومن ثم تعطيه.
إذن إذا تبين أن العبد فيه عيب فللرجل أن يرده ويطلب ثمنه، أو يكون أَرْشُهُ أو يتنازل.
{قال المؤلف -رحمه الله: (وَإِنْ خَرَجَ مَغْصُوْبًا أَوْ حُرًّا، فَلَهُ قِيْمَتُهُ)}
يُبينُ المؤلف -رحمه الله تعالى- أنَّه إذا خرج العبد مغصوبًا، أي أنَّ العبد لم يكن لها، بل لجيرانها مثلا، أو لصاحبة لها غصبته منها؛ فلمَّا علمت صاحبتها بانتقال ملكية العبد للزوج؛ جاءت بالأدلة والبراهين تطلب عبدها.
نقول في هذه الحالة: يرجع إليها، ويأخذ هو قيمة هذا العبد.
قال: (مَغْصُوْبًا أَوْ حُرًّ) وكذلك لو كان العبد ليس عبدًا بل هي حيلة من المرأة له وخديعة واحتيال، وهنا ننظر كم ثمن هذا الشخص لو كان عبدًا، أي: الذي قدمته المرأة على أنه عبد، ويعطى الزوج ما قيمته.
فلو كان ثمنه مثلا: ستة وسبعين ألفًا؛ فيجب عليها أن تعطيه الستة والسبعين ألفًا، كما لو كان عبدًا؛ لأنه إذا تعذر عين المعقود عليه فإنه يصار إلى بدله، سواء كان البدل من ذوات الأمثال أو قيميًا إذا كان له قيمة.
{قال المؤلف -رحمه الله: (وَيَصِحُّ اْلخُلْعُ مِنْ كُلِّ مَنْ يَصِحُّ طَلاَقُهُ)}
نعم (وَيَصِحُّ اْلخُلْعُ مِنْ كُلِّ مَنْ يَصِحُّ طَلاَقُهُ) وسيأتي معنا شروط من يصح طلاقه، مثل: العاقل، والبالغ، بل عند الحنابلة يصح الطلاق من غير البالغ إذا كان مميزًا ويعقل الطلاق ويكون مختارًا.
وهكذا الخلع يصح ممن يصح منه الطلاق كما قال المؤلف -رحمه الله.
فإذا كان الزوج يعرف الخلع ويعقله، ويعرف ما الذي يترتب عليه؟ وأن هذه المرأة التي هي زوجته لن تكون له زوجه؛ فيصح في مثل هذه الحال؛ ولذلك قال: (وَيَصِحُّ اْلخُلْعُ مِنْ كُلِّ مَنْ يَصِحُّ طَلاَقُهُ).
ومن طرق الفقهاء أن يحيلوا على الطلاق لما فيه من فوائد لطيفة للمتعلم والمتفقه منها:
أن يعرف المتعلم والمتفقه المسائل التي يطرد فيها الحكم والمسائل التي تبنى على سنن واحدة، فباب الخلع هو كباب الطلاق، فصار كل من يصح منه الطلاق يصح منه الخلع، ومن يصح منه الخلع يصح منه الطلاق.
وأيضًا فيها اختصار بدلا من التفصيل في ذلك في بابي الخلع والطلاق يفصل في أحدهما ويحيل على الاخر.
وأيضًا فيها تقوية الملكة لدى المتعلم، وأن يربط المتقدم بالمتأخر، والعادة عند الفقهاء أنهم يحيلون على متقدم ولا يحيلون على متأخر.
وهنا قد يقول قائل: الطلاق متأخر، والخلع متقدم فلما أحال المؤلف المتقدم على المتأخر، نقول: لأن الطلاق هو الأصل وهو الأشهر، فلذلك جعل المؤلف رحمه الله الكلام فيمن يصح خلعه يصح طلاقه، ومن يصح طلاقه يصح خلعه.
وعلى هذا نقول:
- الطفل لا يصح منه طلاقًا وبالتالي لا يصح منه خلعًا، وهكذا.
- من أكره على الطلاق فطلاقه غير صحيح، وبالتالي خُلْعُهُ ليس بصحيح.
- طلاق من زال عقله بجنون لا يصح، وكذلك خُلْعُهُ لا يصح وهكذا.
{قال المؤلف -رحمه الله: (وَلاَ يَصِحُّ بَذْلُ اْلعِوَضِ، إِلاَّ مِمَّنْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيْ الْمَالِ)}
قوله: (وَلاَ يَصِحُّ بَذْلُ اْلعِوَضِ، إِلاَّ مِمَّنْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيْ الْمَالِ) يعني يكون: حُرًا، رشيدًا، عاقلاً، بالغًا.
لابد من الحر الرشيد المكلف الذي يحسن التصرف في المال وأن يكون ممن له التصرف في المال، فلو كان مثلاً وليًا ليتيم، ويتصرف من مال اليتيم فهذا لا يجوز له؛ ولذا قال المؤلف -رحمه الله: (وَلاَ يَصِحُّ بَذْلُ اْلعِوَضِ، إِلاَّ مِمَّنْ يَصِحُّ تَصَرُّفُهُ فِيْ الْمَالِ)؛ لن فيها مُعاوضة، وما دام أن فيها مُعاوضة، فلابد أن يكون ممن يصح تصرفه.
بهذا نكون قد انتهينا من باب الخلع، وقبل أن نبدأ في باب الطلاق نود أن نرجع قليلا في باب العشرة، لما فيه من مسائل يُحتاج إليها، ولكن لما كان بيان ذلك يُتوجه إلى طلاب العلم أو إلى من يتعلق به تعلم تلك الأحكام؛ فإنه يمكن التفصيل فيه وإظهار ما يتعلق بهذه الأحكام، ولا ينفك طالب العلم أو طالبة العلم من الإلمام بذلك؛ لمزيد الحاجة إلى ذلك في إصلاح ما يكون بين الأزواج والزوجات وبيان ما لكل واحدٍ منهما من الحق، وما يترتب عليه من حق كل واحد لصاحبه من الاستمتاع والأنس وكمال قضاء الوتر وحصول العفة، ولكنها في الوقت نفسه موضوعات لها خصوصياتها في المجالس فلا تلقى على عموم الناس وفيهم الصغير وفيهم الكبير وفيهم الشاب وفيهم الشابة، وفيهم من قد يتلقى ذلك على حين من الشبق والإقبال، وقد يفضي به ذلك إلى أن يعرض للفتنة؛ فلأجل ذلك ربما نرى مع أهمية هذا الباب أن تجعل تفاصيله خاصةٌ بالطالب الذ قد يحتاج إلى ذلك، وقد دونَّا في هذا ما قد يتعلق بتفاصيل هذا الباب.
وعلى هذا فمن كان محتاجًا للتفاصيل من طلاب البناء العلمي الذين يدرسون في هذه الأكاديمية المباركة؛ فإنَّ لهم أن يأخذوه وأن يصلوا إليه، وأن ينتفعوا به، وكذلك لو احتاج إليه غيرهم، وعرف مناسبة ومصلحة دراسته له فكذلك.
هذا من جهة الكلام على هذا الباب من تفاصيله، والدخول في دقائق مسائله، وهذه المسائل -في الحقيقة- من الأهمية بمكان باعتباره الغاية من النكاح وهو حصول الإعفاف لكل واحد من الزوجين رجلا كان أو امرأة، ولَمَّا كان سوق الشهوات في هذا الوقت رائجًا، والبلاء في ذلك كثير؛ فإنَّ الحاجة إلى إعفاف النفوس وحملها على الحلال، وإبعادها عن الحرام أعظم وأتّمّ، ولذلك قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَفِي بِضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ» قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ كَانَ لَهُ أَجْرً»
ونحن من حيث الجملة نقول في مثل هذه المسائل ينبغي الفقه فيها مع ما يتعبد الله بها لما يترتب عليه من المصالح وأنس البيوت وسكن النفوس وإعفافها، والبعد عن الحرام والإبقاء على الحلال.
ومن جهة ثانية فقد يشاع كثيرا في مثل هذه الأوقات ما يسمونه بالثقافة الجنسية، ونقول: هذا هو ما ذكره الفقهاء في مثل هذا الباب؛ لكنهم ذكروه لمن يحتاجه، فهو بمثابة الداء الذي يعطيه الطبيب لمن يحتاج إليه، ولا يمكن أن يكون شائعًا كشيوع الطعام والشراب؛ فيتلقاه من لا يُحسنه، فيحمله على السوء والشر.
ومبنى الثقافة الجنسية الغربية على ما شاع بينهم ولم يجدوا بُدًا من حمل الناس على البعد عن هذه الأشياء؛ فكان أقل الخطر عندهم هو ما يحملهم على أقل الخطر وما لا يترتب عليه مفاسد أكثر من انتقال الأمراض، وحمل الصغار أو غير ذلك من أشيائهم وأبقوا على مساوئهم وفواحشهم وانتشار الشر بينهم وذهاب العفة وحصول الزنا، وقد سوقوا له بما يسمونه بالثقافة الجنسية، وأراد بعض ضلال المسلمين أو سفائهم أو جهالهم، إدخاله على المسلمين عامة ولهم عنه غُنية، وهم منه سالمون؛ ولذا فينبغي أن يُحصر ذلك فيمن احتاج إليه ويتعلق به، حتى ولو قيل: إنه وجدت بعض السلوكيات السيئة أو ممارسات خاطئة؛ فإنه يجب أن يُتعامل معها بحسبها، ويصلح بالطريقة المناسبة ولا يكون ذلك شيئا شائعًا؛ فيمررون ما يكون سببا لظهور الفساد، وانتشار الشرور.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى: (فَصْلٌ فِيْ آدَابِ اْلجِمَاعِ، وَيُسْتَحَبُّ التَّسَتُّرُ عِنْدَ اْلجِمَاعِ، وَأَنْ يَقُوْلَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذاَ أَتىَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، اللّهُمَّ جَنِّبْنَا الشّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطُانُ أَبَدَ»)}
استحباب الستر عند الجماع هذا عند الحنابلة وعند بعض الفقهاء، وأصله جاء عند ابن ماجة، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتجرد الزوجان تجرد البعيرين، قال: وليستر أحدكم نفسه؛ فاستحبوا ذلك، وإن كان هذا الحديث فيه شيء من المقال.
على كل حال إن كان ذلك يلائمهم فهو أحسن وأحوط، وإن كان الأمر فيه شيء من السعة بحسب ما يليق بحال الزوجين في تلك الحال.
قال: (وَأَنْ يَقُوْلَ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذاَ أَتىَ أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللهِ، اللّهُمَّ جَنِّبْنَا الشّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطُانُ أَبَدَ»)
طبعًا ما ورد هو سنة نبويَّة يترتَّب عليها حفظ لما قد ينشأ بينهما من الولد ولما تحبل به المرأة في الحفظ من الشَّيطان وأن يكون من أولاد الخير والبرِّ، وقد ذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- في هذا الموضوع ما يناسب هذا الذكر، وذكروا أيضًا في استصلاح الأولاد أمورًا كثيرة منها:
اختيار الزوجة، وطلب من يحصل بها حسن التربية والقيام على الولد وغير ذلك.
أيضًا ما يتعلَّق بالجماعِ فهو حقٌّ لكلِّ واحدٍ من الزَّوجين، وينبغي لكلِّ واحدٍ منهما أن يُعطي الثَّاني حقَّه، وألا يحرمه منه ويمتنع منه، فإنَّ ذلكَ قد يكون عليه مضرَّة أو يحمله على سوء.
وأمَّا بالنِّسبَةِ للمرأة: فلا يجوز للرَّجل أن يتأخَّرَ عنها أربعة أشهر، لأنَّ في هذا إضرارٌ بها، ولأنَّ ذلك كالإيلاء المذكور في قوله تعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [البقرة: 226]، فإمَّا أن يرجعَ وإمَّا أن يُطلِّق، فلا يُضارُّ بها فوقَ هذه الأربعة أشهر، وإن كانَ بعضُ أهلِ العلم يجعل لها الحقَّ بما لا يحصلُ به على الزَّوج مضرَّةٌ في ذلك، وهذا أيضًا قدرٌ صحيحٌ، وذهب إليه جمعٌ من أهلِ التَّحقيقِ.
أمَّا بالنِّسبةِ للرَّجل: فإذا دعا المرأة وجبت عليها الإجابة، فقد جاء في الحديث: «إِذَا بَاتَتِ الْمَرْأَةُ هَاجِرَةً فِرَاشَ زَوْجِهَا ، بَاتَتْ تَلْعَنُهَا الْمَلَائِكَةُ» .
ونقول: ينبغي أن يكونَ بينَ الزَّوجينِ من حُسنِ المعاشرةِ وتمام الاستمتاعِ ما يحصل به إعفافهما، وما يكون به تمام أنسهما، وهو سببٌ لصلاحِ الزَّوجيَّة، واستقرَارِ البيوتِ، وحصولِ الخيراتِ، وانتفاءِ كثيرٍ من الشُّرورِ، وتَفاصيل هذه المسائل -كما قلنا- مذكورة فيما ذكرَه الفقهاء في تَفاصيل كتبهم في هذا الموضع، وهذا الكتاب فيه شيءٌ مِن الاختصارِ والإجمالِ، وقد أشرنا إلى جملةٍ من المسائل كثيرة تتعلَّقُ بذلك، ولكن لا يصحُّ نشرها على العموم لخصوصيَّة حاجةِ الأزواجِ لها، أو مَن في حكمهم كطلبةِ العلمِ الذينَ يُفقِّهونَ النَّاس ويعلِّمونهم، أو النِّساء اللَّاتي يتصدَّينَ لمثلهنَّ تعليمًا وحثًّا على الخيرِ وحملًا عليه؛ فيُمكِنُ لهم أن يُراجعوا ما ذُكِرَ في هذا عبرَ هذه الأكاديميَّة والبناء العلمي، وهو غيرُ قابلٍ للنَّشرِ على العمومِ، ولا أن يُبثَّ على سبيلِ الإطلاق، وإنَّما يُنتفَعُ به فيمن يحتاج إليه ويترتَّب عليه فيه مصلحة-والله تعالى الموفِّق.
وهنا فائدة -وبها أختم: أنَّ مثلَ هذه المسائل قد تكون محبَّبةٌ إلى النُّفوسِ لِمَا فيها من الإتيان على شهواتِ النَّفسِ، سواءً كان ذلك قولًا في وصفٍ أو ذكرٍ يتعلَّقُ بذلك وما يتبعه، وقد يكون ذلك إشارة إلى بعض هذه الأمور التي تكون بينَ الزَّوجين، وقولُ مثلِ هذه المسائل ودراستها قد يكون أجرًا يُؤجَر عليه الإنسان إذا كان تعلُّمًا أو حثًّا على الخير، وطلبًا لتحصيل العفَّةِ والهُدَى في تكميل ما لكلِّ واحدٍ من الزَّوجين، وقد يكون ذلك ممَّا تُشبَّبُ به النُّفوسُ وتُحرَّك فيحملها على الحرام، فيكون الكلام في ذلك إثمًا حرامًا -والله تعالى الموفق.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (كِتاَبُ الطَّلاَقِ.
لاَ يَصِحُّ الطَّلاَقُ إِلاَّ مِنْ زَوْجٍ، مُكَلَّفٍ، مُخْتَارٍ، وَلاَ يَصِحُّ طَلاَقُ الْمُكْرَهِ، وَلاَ زَائِلِ اْلعَقْلِ، إِلاَّ السَّكْرَانَ)
}.
الطلاق من الأمور العظيمة، ومن الشَّرائع التي كان فيها عظيمُ الرَّحمَة وكبيرُ المنَّة، والله -جلَّ وعلا- قال: ﴿وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ﴾ [النساء: 130]، فمهما ظهرَ للنَّاس فيه أحيانًا من بلاءٍ، أو ترتَّبَ عليه من آثارٍ، أو حصلَ بسببهِ من القطيعة، أو تفرَّقت به البيوت؛ إلا أنَّه باعتبار جملة شرعيَّته وما يكون به من خلاصِ الأزواجِ وقد تشاكسا، وفراقهم وقد اختلفا، وانتهاء حياتهم وقد عظُمَ بينهما التَّربُّص والوقيعة والسُّوء، وربَّما اشتدَّ الأمر إلى ما هو أكبرُ من ذلك؛ فيكون فيه مصلحةٌ باعتبار العموم، وإن كان في ثنايا مسائلِهِ ما يكون فيه بلاءٌ وفتنةٌ، والله يتولَّانا برحمته، وهذا مثل قول الله -جل وعلا: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 179]، فمع كونِ القصاص يُقتَل فيه القاتل، ويُراقُ دمه، ويذهب على أهله وأحبَّته؛ ولكن ما يترتَّبُ على ذلك من حملِ النَّاس على الخيرِ وما يترتَّب على ذلك من كفِّ النَّاس عن الولوغِ في مثل هذه الأبواب؛ فكذلك أيضًا الطَّلاق، فإنَّه يحصل به انكفافُ كثيرٍ من الشُّرورِ التي اشتعلت في البيوت نارًا وبركانًا، وحصل بسببها بلاءٌ عظيم.
فمِن حيثُ مشروعيَّة الطَّلاق في الأصلِ ظاهرةٌ الحكمةُ فيها، والمصلحة الكبرى مترتِّبة على ذلك، ولكن باعتبار آحاد النَّاس فإنَّه قد يكون فيه شيءٌ من الثَّغرات أو التَّبعات، وهذه سنَّة الله -جل وعلا- في ابتلاء العباد، وما يلحقهم من فتنةٍ في هذه الدُّنيا.
الطلاق في أصله مشروعٌ في الكتاب والسُّنَّة والإجماع، الله -جل وعلا- قال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229]، ثم قال بعدها: ﴿فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: 230]، وهذه من أعظم الآيات الدَّالَّة عليه، وقوله ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ ، يعني فيما يتعارَف النَّاس عليه.
وقوله: ﴿أَوْ تَسْرِيحٌ﴾ ، مع أنَّ التَّسريحَ يكونُ حالَ البغضاء والضَّغينة والاختلاف والمشاكسة؛ إلا أنَّ الله أمرَ بالإحسان، فيُحسِن كلُّ واحدٍ منهما إلى صاحبه، وخاصَّة في جانب الزَّوج، لأنَّ في جانبه القوَّة والقوَامة، والعِصمَة والغلَبَة؛ فينبغي أن يكونَ أكثرَ إحسانًا إلى الزَّوجة في حالِ فراقها، خلافًا لحالِ ضِعَاف النُّفوس مِن أنَّه إذا عمد إلى الفِراق أرادَ أن يُنكِّلَ بالمرأة، وأن يفسد عليها حياتها، وأن يتعقَّبها في كلِّ خيرٍ فيفسده، وفي كلِّ قليل أو كثيرٍ فيفرقه، ويكون منه بلاءٌ في ذلك كبيرٌ.
ومهما ذهبَ على النَّاس في هذه الدُّنيا من حقِّ فإنَّه لا يذهب عند الله -جل وعلا- قال تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَ﴾ [الكهف: 49].
ثم هنا مسألةٌ أخرى: وهي أنَّ الطَّلاقَ ليسَ سبابٌ ولا شِتامٌ؛ لأنَّ بعضَ الأزواج إذا غضِبَ طلَّق زوجته، وكأنَّه يظنُّ أنَّه ممَّا يسبُّ به زوجه أو يشتمها!
فنقول: إنَّ الطَّلاق يترتَّب عليه آثار، فلا يكون إلا بعدَ رويَّةٍ ونظرٍ، ولذلك لا يكون الطَّلاق ُ إلا في طهرٍ لم يُجامعها فيه أو في حملٍ، لأنَّه لا يُمكن أن يُطلَقَ لعِظَمِ ما يترتَّب عليه لأوَّلِ وهلةٍ يعرضُ لكَ في الذِّهنِ.
ثم إنَّ الطَّلاقَ ليس سِلاحًا كما يظنُّ بعضُ النَّاسِ، فيقول: "عليَّ الطَّلاق، زوجتي طالق إن لم تفعل كذا..."، فهذا ما يفعله إلا أسافلُ النَّاسِ وأراذلُهم، وأقلُّهم حظًّا، وأذهبهم قدرًا، ولا حظَّ له لا في الدُّنيا ولا قدرَ له عند الله -جلَّ وعلا!
وإنَّ الطَّلاق إنَّما يكون بينَ الزَّوجين، فالطَّلاق لا يتعلَّقُ بالأولادِ، فحقٌّ على كلِّ أبٍ ألا يُخلَّ بحقِّ أولاده، ولا يمنع أمَّهم منهم، وأنَّ الأمَّ لا تمنع أولادها من أبيهم، ولا تزرع في قلوبهم شيئًا من الضَّغينة، ولا أن يفعل الزَّوج شيئًا من هذا، فلا يكون الأولاد حلبةَ صراعٍ، فهذا يمنعهم أن يذهبوا..، وهذا يحملهم على سوء...، وهذا يتربَّص بالزَّوج في أولاده...؛ حتى يحصلَ للأولاد من البلاء والفتنةِ ما الله به عليم!
فنقول: إنَّ الأولادَ لا مدخلَ لهم في الطَّلاقِ بحالٍ، فإنَّ استقرَّت حالُ آبائهم في بيتٍ وأسرةٍ فالحمد لله؛ وإن تفرَّقَ الآباءُ فالأولاد محفوظون، إن كانوا عند أمِّهم بما لأمِّهم من الحق وبما لأبيهم كذلك، وإن كانوا عند أبيهم لم يكن له أن يمنعهم منها، ولا أن يحملهم على كرهها، ولا أن يحول بينهم وبينها؛ بل يكون في تكميلِ ما نقصَ عليهم مِن رأفةِ الأمِ وشفقتها، ولا يحرمهم منها، وأن يزيد من زيارتهم لها، وأن يكونَ سببًا في أن يبقى الأبناءُ بعيدينَ عمَّا عليهم من الثَّغرة، فمع ما وجوده من أثرِ الطَّلاقِ ولوعةِ الفراقِ، وما حصلَ بينَ آبائهم؛ يرونَ كلَّ البيوت قائمة وبيتهم مهدَّمٌ!
ثم بعدَ ذلك يزيد الأمر بلاءً وفتنة في تجاذبهم وتراشقهم، أو الإساءة إليهم من أجل خصومةٍ بينَ الأبوين؛ فهذا خطأ!
نسألُ الله أن يحفظَنا، وأن يعصِمنا، وأن يُصلِحَ أحوالَ المسلمين، وأسأل الله أن يتمَّ علينا وعليكم نعمته، وأن يجزيكم خيرًا والإخوة المشاهدين، والقائمين على هذا البناء العلمي، والله تعالى أعلم، وصلَّى الله وسلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازينِ حسناتِكم}.
آمين.. وإيَّاكَ، وكل مسلم.
{هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك