الدرس السادس

فضيلة الشيخ د. عبدالحكيم بن محمد العجلان

إحصائية السلسلة

1827 12
الدرس السادس

عمدة الفقه (6)

{بسم الله الرحمن الرحيم.
السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرحبُ بكم إخواني وأخواتي المشاهدين الأعزَّاء في حلقةٍ جديدةٍ من حلقات البناء العلمي، وأرحب بفضيلة الشَّيخ/ الدكتور عبد الحكيم بن محمد العجلان. فأهلًا وسهلًا بكم فضيلة الشَّيخ}.
أهلًا وسهلًا، حيَّاكم الله، وحيَّا الله الإخوة المشاهدين والمشاهدات في كلِّ مكانٍ.
{نبتدئ في هذه الحلقة -بإذن الله- من باب "صَرِيْحِ الطَّلاَقِ وَكِنَايَتِهِ" من كتاب عمدة الفقه للموفق ابن قدامة.
قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (صَرِيْحُهُ: لَفْظُ الطَّلاَقِ ومَا تَصَرَّفَ مِنْه، أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ مُطَلَّقَةٌ أَوْ طَلَّقْتُكَ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ، وَمَا عَدَاهُ مِمَّا يَحْتَمْلُ الطَّلاَقَ فَكِنَايَةٌ لاَ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَهُ، فَلَوْ قِيْلَ لَهُ: أَلَكَ امْرَأَةٌ؟ قَالَ: لاَ، يَنْوِيْ اْلكَذِبَ، لَمْ تَطْلُقْ، وَإِنْ قَالَ: طَلَّقْتُهَا، طَلُقَتْ وَإِنْ نَوَى اْلكَذِبَ)}
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلَّمَ وباركَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدِّين.
أمَّا بعدُ؛ فأسألُ الله -جلَّ وعَلَا- أن يجعلنا من المتقينَ الشَّاكرينَ الصَّالحينَ، الذين إذا أُعطوا شكروا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا نَسوا تذكَّروا، وأن يُعيذنا من الفتن ما ظهرَ منها وما بطنَ، وأن يغفر لنا ولوالدينا ولجميعِ المسلمينَ، إنَّ ربَّنا جوادٌ كريمٌ.
هذا باب "صَرِيْحِ الطَّلاَقِ وَكِنَايَتِهِ"، فبعد أن استهللنا ما يتعلَّق بكتاب الطَّلاق في ذكر ما يتعلَّق بمَن يصحُّ طلاقه ومَن لا يصح طلاقه، وكم يملك الحرُّ من الطَّلاق وكم يملك العبد، وما يتعلَّق بطلاق السُّنَّة وطلاق البدعة، ومتى يكون طلاق سنةٍ ومتى يكون طلاق بدعةٍ، وأيضًا الكلام على هذا المصطلح -سنَّة الطَّلاق وبدعته- وسبب اختصاصه بذلك، على ما جرت الإشارة إليه في الدَّرس الماضي.
وهنا شرعَ المؤلِّف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- في ألفاظ الطَّلاق، فقال: (بابُ صَرِيْحِ الطَّلاَقِ وَكِنَايَتِهِ)، يعني: الألفاظ الصَّريحة في الطَّلاق وألفاظ الكناية.
فصريحُ الطَّلاقِ: هو الذي لا يحتمل غير الطَّلاق.
وأمَّا الكناية: فهو اللفظ الذي يحتمل الطَّلاق ويحتمل غيره، فيُمكن أن يُراد به الطَّلاق، ويُمكن أن يُراد به غير الطَّلاق.
فإذا قال رجل لزوجته: "أنتِ طالق"، فالكلُّ يعلم أنَّ المقصود بذلك حلُّ عقدِ الزَّوجيَّة.
أما لو قال لزوجته: "اُخرجي"، فقد يقصد بذلك أن تبعد عنه، وقد يقصد أن تخرجَ خروجًا لا ترجع بعدَه -الذي هو حلُّ عقد النِّكاح وهو الطَّلاق.
إذن؛ اللفظ الأوَّل يحتمل الطَّلاق لا غير، واللفظ الثَّاني يحتمل الطَّلاق ويحتمل غيره، فما كان لا يحتمل إلَّا الطَّلاق فهذا الذي يُعبِّر عنه الفقهاء بصريح الطَّلاق، وهو عند الحنابلة لفظٌ واحدٌ "الطَّلاق" وما تصرَّف منه بما يكون صالحًا للطَّلاق، وستأتي الإشارة إلى ذلك.
وأمَّا ألفاظ "فَارقتكِ، سرَّحتُكِ" فليست عند الحنابلة مِن ألفاظِ صَريحِ الطَّلاقِ، وإن كانت عندَ بعضِ الفقهاء تدخل في صريحِ الطَّلاق.
قال المؤلِّف: (صَرِيْحُهُ: لَفْظُ الطَّلاَقِ ومَا تَصَرَّفَ مِنْه، أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ مُطَلَّقَةٌ أَوْ طَلَّقْتُكَ).
ويقول أهل العلم: إنَّ المرأة تَطلُق بلفظ "أنتِ الطَّلاق" بصيغة المصدر، ولكن لا تَطلُق بلفظ الأمر، فلو قال: "طلِّقي، أو اُطْلُقي"، فلا تَطلُق؛ لأنَّ المقصود هو إيقاع الطَّلاق، وقوله: "طلِّقي، أو اُطْلُقي" ليس إيقاعًا، وإنما هو أمرٌ بالطَّلاق، فالأمر لا يدخل في ذلك.
ولو قال: "طَلِّقي" وقصَدَ توكيلها في الطَّلاق فهذه مسألة ثانية، فإذا قالت: "طلَّقتُ نفسي" فإنَّها تطلق.
اللَّفظ الثَّاني من ألفاظ الطَّلاق التي لا تدخل: لفظ اسم الفاعل، مثل قوله: "أنتِ مُطلِّقَة"، يعني: وقع منكِ الطَّلاق، والطَّلاقُ لا يقعُ من المرأةِ، وإنَّما الطَّلاق الذي يحصُل به الفِراق هو الطَّلاق الذي يقع عليها، فإذا قال: "أنتِ مُطلَّقةٌ" يقع به الطَّلاق، ولكن لو قال" أنتِ مُطلِّقَة" هذا لا يحصل به طلاق.
ومثل ذلك: لفظ المضارع، فلو قال: "أنتِ تطلقين"، فإنَّ هذا ليس إيقاعًا عليها، وإنَّما هو وعدٌ بالطَّلاقِ أو نحوه، وإن كان هذا اللفظ عند بعضهم يحتمل؛ لأنَّه يكون كالإخبار، كأنَّه يقول: أخبرتُكِ بأنَّ الطَّلاق واقعٌ عليكِ، كأنَّه الآن يجري عليكِ؛ لأن المضارع دالٌّ على الحصولِ في الحالِ.
إذن؛ لفظ "الطَّلاق" وما تصرَّفَ منه ممَّا يصلح لإيقاع الطَّلاق فإنَّه يحصل به، سوى الألفاظ الثلاثة التي ذكرناها.
أمَّا بلفظ الماضي والمصدر واسم المفعول، ونحو ذلك؛ فإنَّه يقع به الطَّلاق متى ما صدرَ من الزَّوجِ هذا اللفظ.
لقائل أن يقول: ماذا لو أنَّ الزَّوج قاله على سبيل الهزل، فما الحكم؟
نقول: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالعتَاقُ» ، هذا من جهةٍ.
لو قال: أخطأتُ، أردتُّ أن أقول لها: أنتِ طاهر -يعني متطهِّرة من الحيض- فسَبَقَ لساني فقلتُ: أنتِ طالق!
فيقول أهل العلم: إنَّ هذا لفظ طلاق والأصل إيقاعه، لكنَّه يُقبَل منه ديانة -فيما بينه وبين الله؛ لأنَّ الله أعلم بنيَّته- ولكن لو عُرِضَ إلى القضاء فإنَّ القاضي يحكم بالظَّاهر، فما دام أنَّه قال: "أنتِ طالقٌ" وصدر منه هذا اللفظ، فيُجري عليه ما ترتَّبَ عليه من أثرٍ.
قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِ).
يترتَّب على التلفُّظ بلفظِ الطَّلاق أنَّه يقع به الطَّلاق في كلِّ حالٍ، نوى أو لو لم ينوِ، جادًّا أو هازلًا؛ يقع الطَّلاق في كلِّ الأحوال، ما دام أنَّه تحرَّكت شفته أو نطقَ فمه بهذه الألفاظ: "أنتِ طالقٌ، أنتِ الطَّلاق، أنتِ مُطلَّقةٌ، طلَّقتُكِ"؛ فإنَّه يقع منه الطَّلاق، وتكون زوجته قد وقع عليها لفظ الطَّلاق، ودخلت في عدَّتها، ويترتب عليها ما يترتب على الطَّلاق، إن كانت الطَّلقة الأولى أو الثَّانية فيكونُ طلاقًا رجعيًّا، له أن يُراجعها في العدَّة على ما سيأتي، وإن كانت الثَّالثة من تطليقاتها فإنَّه طلاقٌ بائنٌ لا رجعة فيه إلا بعد أن تتزوَّجَ زوجًا آخر.
ثم قال: (وَمَا عَدَاهُ مِمَّا يَحْتَمْلُ الطَّلاَقَ فَكِنَايَةٌ لاَ يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَهُ)، انتهينا من صريح الطلاق والآن نتكلَّم على كنايته.
الكناية: هو اللفظ الذي يحتمل الشَّيء ويحتمل سواه.
فكناية الطَّلاق: اللفظ الذي يحتمل الطَّلاق ويحتمل غيرَ الطَّلاق.
فإذا قال: "أنتِ بتَّةٌ"، البتَّة يعني: المقطوعة، فقد يقصد بذلك أنَّها مقطوعة من الأولاد، أو مقطوعة من الوالدين، فلا والد لها ولا والدة، فيحتمل ذلك ويكونُ معنًى صحيحًا، ويُمكن أن يكون قد قصدَ به الطَّلاق، فقوله: "أنتِ بتَّةٌ" يعني: مبتوتةٌ منِّي، وليس بيني وبينكِ نكاحٌ؛ فيكونُ طلاقًا.
إذن هو يحتمل الطَّلاق ويحتمل غيره، فإذا كان يحتمل الطَّلاق ويحتمل غيره فهو لَفظ من ألفاظ الطَّلاق ولكنَّه مَشروطٌ.
وشرطه: أن تكون من المُتكلِّم نيَّةٌ، وشرطُ هذه النِّيَّة أن تكون مقارنة للقول، فإذا قال: "أنتِ بتَّةٌ" وقد استقرَّ في قلبه حينما نطق بهذه الكلمة أنَّه قصدَ مَقطوعة من النِّكاح، أو مبتوتة من النِّكاح؛ فهذا طلاقٌ.
أمَّا إذا لم ينوِه، أو نوى الطَّلاق بعدَما لَفِظَ به، فقال مثلًا: "أنتِ بتَّة"، ثم قال: قصدتُّ بها الطَّلاق الآن؛ فنقول: لا يصح الطَّلاق بلفظِ الكناية إلا أن يكون بنيَّة مُقترنةٌ به؛ لأنَّ اللفظ حينما وقع قد وقع بدونِ نيَّة؛ فإذن يحتمل الطَّلاق ويحتمل غيره، ولا تنفع النِّيَّة اللاحقة، بل لابدَّ أن تكون النِّيَّة مُقارِنَة للفظِ حينما لفظَ به فيكون طلاقًا.
ذكر بعض أهل العلم أنَّ الكناية ربَّما احتفَّت بغيرِ النِّيَّة وحُمِلَت على الطَّلاق، مثل حال الغلط.
فإذا قال رجل لزوجته: "الحقي بأهلك" وقال: ما نويتُ الطَّلاق، ولكنَّه حال غضب.
يقول العلماء: إنَّ حال الغضب قرينةٌ دالَّةٌ على أنَّه لم يُرد ذهابها إلى أهلها، وإنَّما أراد بذلك وقوع الطَّلاق.
وقرينة الغضب ممَّا قد يرد فيها الخلاف؛ لأنَّه قد يقول: "الحقي بأهلكِ" ويقصد بذلك أنَّها تذهب لأهلها حتى لا يكبر الإشكال بينهما ويعظُم الأمر، فإذا كان كذلك فقد نوى غيرَ الطَّلاق، فإذا كان قد نوى غير الطَّلاق فلا يقعُ بذلك، وهو مُديَّنٌ في هذا فيما بينه وبينَ الله تعالى.
وألفاظ الكناية لا تقع إلا أن يُقر بأنَّه الطَّلاق، فإذا قال: "أنتِ بتَّة أو بتلة"، أو لفظ بأي لفظٍ، ثم قالت المرأة: طَلَّقَني. فقال الزَّوج: ما طلَّقتُها. فقالت الزَّوجة: قال كذا...، وهذه من ألفاظ الكناية -والمرأة فقيهة تعرف ألفاظ كناية الطَّلاق وصريحه وهي تريد الخلاص منه- فقال الزَّوج: أنا ما نويت؛ فنَكِلُه إلى ذمَّتِهِ وأمانتِهِ، فيكون بينه وبينَ الله، فإذا قال: أنا نويتُ الطَّلاق فإنَّ الطَّلاق يقع، وإن قال: أنا لم أنوِ الطَّلاق؛ فنقول: لا يقع الطَّلاق ولا يلزمه طلاقٌ بذلك، ويحكم القاضي بعدم نفاذ الطَّلاق ما دام أنَّه لم يُقرَّ بنيَّةٍ مقارنةٍ لذلك.
{حتى ولو كان مقرونًا بالغضب؟}.
الغضب قرينةٌ على الطَّلاق، ولكن إذا جاءت عنده نيَّة وقال: أنا ما قصدتُّ ذلك، فيحتمل ألا تكون، وإن كان الحنابلة يُطلقونَ أنَّ الغضب يقع معه كناية الطَّلاق على الإطلاقِ، ولكن هو محتملٌ لِمَا ذكرنا.
قال: (فَلَوْ قِيْلَ لَهُ: أَلَكَ امْرَأَةٌ؟ قَالَ: لاَ، يَنْوِيْ اْلكَذِبَ، لَمْ تَطْلُقْ)؛ لأنَّه سُئِلَ فقال: "ليست لي امرأة"؛ لأنَّهم يقولون: إنَّ السُّؤالَ معادٌ في الجوابِ، فإذا قيل له: "ألكَ امرأة؟ فقال: لا"، فكأنه قال: ليس لي امرأة، وهذه اللفظة ليست صريحة في الطَّلاق، فليس فيها لفظ "طلاق" ولا ما تصرَّف منه.
إذن هي كناية في الطلاق، فإذا أراد الكذب لم تطلُق، أمَّا إذا أراد أنَّه لا زوجة له فكانَّه نوى تطليقها، فلأجل ذلك قال المؤلف: (فَلَوْ قِيْلَ لَهُ: أَلَكَ امْرَأَةٌ؟ قَالَ: لاَ، يَنْوِيْ اْلكَذِبَ)، يعني: لم ينوِ الطلاق. قال: (لَمْ تَطْلُقْ)، أمَّا لو نوى الطَّلاق فإنَّها تطلُق لِمَا قلنا من أنَّ هذه اللفظة لفظٌ من كنايات الطَّلاق، فتُحمَل على الطَّلاق إذا نوها.
وبناء على ذلك لو قيل له: "أطلَّقتَ امرأتك؟ فقال: نعم، وهو لم يُطلِّقها" فإنَّها تطلق؛ لأنَّ السُّؤال مُعاد في الجواب، كأنَّه قال: نعم طلَّقتُ امرأتي، فهذا لفظٌ صريحٌ في الطَّلاق، ولا معنى له إلا الطَّلاق، وبناء على ذلك يقع.
ثم قال المؤلف: (وَإِنْ قَالَ: طَلَّقْتُهَا، طَلُقَتْ وَإِنْ نَوَى اْلكَذِبَ)، مثلما قلنا: لو قيل له: "ألكَ امرأة؟ فقال: طلَّقتها"، أو قيل له: "أطلَّقت امرأتك؟ فقال: نعم"، فإنَّ هذا يكون كما لو صرَّحَ بالطَّلاق، فيقع الطَّلاق ولو لم يكن قد نواه.
{بعض الناس يقولها أشبه ما يكون بالمزح، فيقال له: هل طلَّقت امرأتك؟ فيقول: نعم. فهل يقع الطلاق}.
هذا ليس فيه مزح، فإذا قيل له: "أطلَّقت امرأتك؟ فقال: نعم"؛ فهذا كأنَّه قال: نعم طلَّقتُ امرأتي، ومَن لَفِظَ بالطَّلاق فقد وقع عليه.
فهذه أمور ليس محلًّا للعبِ ولا للهزلِ، وهي أمورٌ عظيمة يترتب عليها أشياء كبيرة، فلا ينبغي للإنسان أن يتساهل بذلك البتَّة، ويتجنَّب إيرادها إلا على وجهٍ مَقصودٍ صحيحٍ، وإلَّا فإنَّ هذا قد يُدخله في نفقٍ تلحق به تبعته في الدنيا والآخرة.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَ لاِمْرَأَتِهِ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ، أَوْ بَرِيَّةٌ، أَوْ بَائِنٌ، أَوْ بَتَّةٌ، أَوْ بَتْلَةٌ، يَنْوِيْ طَلاَقَهَا طَلُقَتْ ثَلاَثًا إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ دُوْنَهَا، وَمَا عَدَا هَذِهِ يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةً إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ ثَلاَثً)}.
هذا شروعٌ من المؤلف في ألفاظ كنايات الطَّلاق، وكأنَّه أشار -وإن لم يصرح بذلك تصريحًا ظاهرًا إلى أنَّ كناية الطَّلاقِ على قسمين:
- إمَّا أن تكون كناية صريحة.
- أو كناية خفيَّةٌ.
فبدأ المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- بالكناية الصَّريحة، كقوله: (أَنْتِ خَلِيَّةٌ، أَوْ بَرِيَّةٌ، أَوْ بَائِنٌ، أَوْ بَتَّةٌ، أَوْ بَتْلَةٌ)؛ فهذه ألفاظ دالَّة على انقطاع الزَّوجيَّة من كلِّ وجهٍ.
فقوله: "أنتِ خليَّةٌ" يعني: خاليةٌ من الأزواج، فلا زوجَ لكِ.
وقوله: "أنتِ بريَّةٌ" يعني: بريئةُ من الزَّوجيَّة، فليسَ ذمَّتكِ عقد زوجيَّة ولا تبعاتها.
وقوله: "أنتِ بائنٌ"، البينونة من الانقطاع التَّام.
وقوله: "أنتِ بتَّةٌ، أو بتلةٌ"، يعني: مقطوعة.
فكلُّ هذه ألفاظ كناية في الطَّلاق، وهي كناية مُغلَّظَة أو كناية صريحةٌ، وبناء على ذلك فإنَّها تحتمل الطَّلاق البائن الذي هو ثلاث تطليقات وذلك إذا نواه.
فإذا قال: نويتُ الطَّلاق. فنقول: تقع ثلاث طلقات.
وقول الحنابلة من كون ألفاظ الكناية يقع بها ثلاث تطليقات فيه إشكال، فقد يُقال: كيف أنَّ صريحَ الطَّلاق وهو اللفظ الذي وُضِعَ للطَّلاق أصالةً لا يقع به إلا واحدة؛ فيكف توقعون بالكناية التي تحتمل الطَّلاق وتحتمل غيره ثلاث تطليقات؟
والحقيقة أنَّ هذا مبني عندهم على أمرين:
أولًا: أنَّ جمعٌ من الصَّحابة حكمَ بذلك، فجاء ذلك عن ابن عمر وغيره.
فقالوا: لَمَّا حكم بذلك الصَّحابة ولم يُعرَف لهم مخالفٌ كان المصير إلى قولِ الصَّحابة؛ لأنَّه وإن لم يكن إجماعًا سكوتيًّا فإنَّه قول صحابي، وقول الصَّحابيِّ حُجَّة في المشهور عنهم.
ثانيًا: إنَّ هذه ألفاظ دالَّةٌ على الانقطاع التَّام الذي لا اتِّصال بعدَه أو لا رجعةَ فيه، فإذا نواها فقد نوى الطلاق الأشد، بخلاف لفظ الطَّلاق، فإنَّه يدلُّ على مُطلَق الانفصال، فقد يدل على الانفصال الذي يُمكن فيه الرَّجعَة، وقد يدل على ما هو أشد من ذلك، فلأجل ذلك حملوه على ثلاث تطليقات، والأصل عندهم أقوال الصحابة -رضوان الله عليهم وأرضاهم.
ثم قال: (يَنْوِيْ طَلاَقَهَا طَلُقَتْ ثَلاَثًا إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ دُوْنَهَ).
أمَّا إذا قال: أنا نويتها طلاق، ولكن نويت بقولي: "بتَّةٌ" أنَّها طالقٌ واحدة. فنقول: نعم.
لكن لو قال: أنا نويتُ الطَّلاق، وسكتَ وقد تلفظ بهذه الألفاظ، فنقول: هذه الألفاظ وقد حكمَ فيها الصَّحابة بثلاث تطليقات، فيقع عليكَ ما حكم به الصَّحابة -رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
ثم قال: (وَمَا عَدَا هَذِهِ يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةً)، يعني: ما عدا الألفاظ التي هي مغلَّظةٌ في الكناية أو صريحةٌ في كناية الطلاق.
أمَّا الكناية الخفيَّة فقد أشار إليها المؤلِّف إشارةً ولم يقف عندها ولم يسردها، وسبب ذلك أنَّها كثيرة، ولذلك عدَّ الحنابلة فيها عشرين لفظًا، منها: "أُخرُجي، أو تحجَّبي"؛ لأنَّه إذا قال: "تجَّبي" فكأنَّها محرَّمةٌ عليه، أو قال لها: "غطِّي شعركِ"، أو نحوًا من هذه الألفاظ.
وقالوا: إنها خفيَّة؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لإحدى زوجاته: «الْحَقِى بِأَهْلِكِ»، وهذا من ألفاظ الكنايةٌ في الطَّلاق، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يصدر منه تطليقات ثلاث، فعلمنا أنَّ الكنايات الخفية هي طلقةٌ واحدة كما في حديث الجونيَّة التي طلقها النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقوله: «الْحَقِى بِأَهْلِكِ»، لمَّا قالت له: (أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ. فَقَالَ لَهَا: «لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الْحَقِى بِأَهْلِكِ»)، فأخذوا من هذا أنَّها تطليقة واحدة، فألحقوا بذلك كل الكنايات الحفية.
ويقولون: إنَّ هذا هو الأصل، فإذا قال: إنه نوى الطَّلاق، فيقع الطَّلاق ونُجري عليه واحدة.
ولكن لو قال: أنا قصدتُّ بقولي: "تغطِّي أو تحجَّبي" ثلاث تطليقات؛ فنمضيها عليه؛ لأنَّه قصد الطلاق، واللفظ يحتمل التَّطليقة الواحدة ويحتمل الثلاث تطليقات، فنُمضي عليه ما نوى، لكن لو نوى الطَّلاق مُطلقًا ولم ينقدح في نفسه عددٌ معيَّنٌ فنقول: ما دام أنَّها كناية خفيَّة فإنها تقع طلقةٌ واحدة.
{مرَّ معنا سابقًا أنَّ جمع الثَّلاث طلقات في لفظ واحد من الطَّلاق البدعي، فهل ألفاظ الكناية هذه تُعد من الطلاق البدعي؟}
المقصود ببدعيَّة جمع الثلاث طلقات في لفظ واحدٍ أنه محرَّم -كما قلنا فيما مضى- وهذا مذهب جمهور أهل العلم، خلافًا للشافعيَّة، فجمع الثَّلاث طلقات محرَّمٌ سواء كان ذلك بلفظِ الطلاق كأن يقول: "أنتِ طالقٌ ثلاثًا"، أو بتكراره كأن يقول: "أنتِ طالق، طالق، طالق"، وقصد التَّأسيس لا التَّأكيد، أو قال: "أنت طالق وطالق وطالق"، أو قال: "أنتِ طالق، ثم طالق، ثم طالق"، أو كان ذلك بالكنايات ونوى بها التَّطليقات الثَّلاث، أو من الكنايات الظَّاهرة التي يقع بها تطليقات ثلاث؛ نقول: هي تقع ثلاث، وهو آثمٌ في كلِّ ما قلناه؛ لأنَّه فَعَلَ ما لا يجوز له فعْلُه، والله -جلَّ وعَلَا- قال: ﴿الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ﴾ [البقرة:229]، ثم قال: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ ، فلا يجوز إيقاع الطلاق مُتتابعًا.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، طَلُقَتْ وَاحِدَةً، وَإِنْ لَمْ تَخْتَرْ أَوِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، قَالَتْ عَائِشَةٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: قَدْ خَيَّرَناَ رَسُوْلُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَفَكَانَ طَلاَقًا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ إِلاَّ فِي الْمَجْلِسِ، إِلاَّ أَنْ يَجْعَلُهُ لَهَا فِيْمَا بَعْدَهُ، وَإِنْ قاَلَ لَهَا: أَمْرُكَ بِيَدِكِ، أَوْ طَلِّقِيْ نَفْسَكِ، فَهُوَ فِيْ يَدِهَا حَتَّى يَفْسَخَ أَوْ يَطَ)}.
هذه مسألةٌ لطيفةٌ جدًّا.
مسألة التَّخيير أن يجعل لها الاختيار فيقول: "اختاري"، فعندَ أهل العلم أنَّ هذا يحصل به الطَّلاق إذا اختارت، وإلَّا فلا شيء؛ لأنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيَّرَ زوجاته فاخترنَه، فلو كان مجرَّد التَّخيير طلاقًا لكنَّ قد طلُقنَ بمجرد التخيير لهنَّ، ولكن ما جاء في الحديث الذي في الصحيحين أنَّ النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خيَّرهنَّ فلم يُعتَبر ذلك طلاقًا.
قال: (وَإِنْ خَيَّرَ امْرَأَتَهُ، فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا، طَلُقَتْ وَاحِدَةً)، إذن التَّخيير ليس طلاقًا حتى ينضمَّ إليه شيء آخر وهو اختيارها، كأن تقول: "اخترتُ نفسي، اخترتُ الطلاق، اخترتُ فراقك"، فإذا قالت شيئًا من ذلك طَلقَت، فالتَّطليق لم يكن بمجرَّد التَّخيير، وإنَّما بالاختيار الذي وقع منها بعدَ جعل التَّخيير إليها.
ثم قال: (وَإِنْ لَمْ تَخْتَرْ أَوِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا، لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ)، إذن لو قال لها: اختاري؛ فسكَتَت. نقول: ليس بطلاق.
أو قالت: اخترتُ الزَّوجيَّة، أو اخترتُ بيتي، اخترتُ زوجي؛ فنقول: هذا لا يعتبر شيء، ولم يقع بذلك طلاق، ولا يلحقها شيء.
وكما قلنا: إنَّه قد جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنَّه خيَّرَ أزواجه فاخترنه -رضوان الله تعالى عليهنَّ وأرضاهنَّ.
النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا خيَّرَ أزواجه فكلهنَّ كنَّ يقلنَ: ما قالت عائشة؟ لأنَّهن يعرفنَ حب النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعائشة، والنبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما خيَّرَ عائشة فكأنه كان مُشفقًا أن تختار نفسها وهو يريدها، فقال لها: «فَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ»؛ لأنَّه يعرف أنَّ أبويها لن يأمرانها إِلا بالبقاء والمكث في الزَّوجيَّة.
ثم يقول المؤلف: (وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ إِلاَّ فِي الْمَجْلِسِ).
هذا قيدٌ مُهمٌّ، فإذا قال لها: "اختاري" فمناط الاختيار إنما هو الحال ما داما في المجلس، فإذا تفرَّقا انتهى هذا الخيار، فلو أنَّها اختارت بعدَ ذلك وقالت: اخترت، أو لَمَّا خرجت من المجلس اتصلت بأخيها أو بأختها أو بأحد فقال لها: اختاري نفسك؛ فنقول: لا، التخيير بمثابة العقد وليس بمثابة التَّوكيل، وبناء على ذلك إمَّا أن يحصل على الفور، وإلَّا فلا حُكمَ له، فما داموا في المجلس فهي على اختيارها، فإذا اختارت نفسها طلقت، ولكن إذا خرجت من المجلس انتهى التَّخيير، ولو اختارت نفسها ألف مرَّةٍ فلا ينفع ذلك؛ لأنَّ التَّخيير قد انتهى محلُّه وفات موضعه، إلا في حالٍ واحدة؛ وهي أن يجعل لها ذلك، وهذا إذا ما قال لها: اختاري، ولكِ ذلك مدَّة سنةٍ، أو شهرًا، أو متى ما شئتِ؛ فيبقى لها الاختيار حتى ينزعه منها؛ لأنَّ التخيير بمثابة العقد -كما قلنا- فكأنه قال: اشتريتُ منك، فإذا كانا في المجلس وقَبِلَ؛ تمَّ البيع، ولكن إذا تفرَّقا من المجلس انتهى الخيار.
قال المؤلف: (إِلاَّ أَنْ يَجْعَلُهُ لَهَا فِيْمَا بَعْدَهُ)، كأن يقول لها: شاوري نفسكِ أسبوعًا ولكِ الخيار، فهذا التَّخيير لها، ولهذا قال النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعائشة «فَلاَ عَلَيْكِ أَنْ لاَ تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ»، واستئمارها لأبويها سيحتاج إلى وقتٍ لأن تذهب إليهما وتشاورهما وترد في ذلك وتأتي.
إذن إذا جاء التَّخيير فالأصل فيه أن يكون على الفور، ولا يتجاوز المجلس، فإذا تجاوز المجلس فإنَّ التَّخيير انتهى، وإن اختارت نفسها فلا أثرَ لذلك ولا حكمَ له ولا تطليق، إلا في حالٍ واحدةٍ وهو أن يقول لها: اختاري ولكِ الخيار يومًا، أو لكِ أبدًا، أو متى ما اخترتِ نفسكِ فأنتِ كذلك، أو أن يقول: سنة، أو شهر، أو سنةً، أو وقتًا، أو أن يعلقه على شيء كأن يقول: إلى أن تشاوري أبويكِ، أو تراجعي نفسكِ أو نحو ذلك.
ثم قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى- تتميمًا للمعنى: (وَإِنْ قاَلَ لَهَا: أَمْرُكَ بِيَدِكِ، أَوْ طَلِّقِيْ نَفْسَكِ، فَهُوَ فِيْ يَدِهَا حَتَّى يَفْسَخَ أَوْ يَطَ).
قوله: (وَإِنْ قاَلَ لَهَا: أَمْرُكَ بِيَدِكِ، أَوْ طَلِّقِيْ نَفْسَكِ)، هذا ليس بابه باب التَّخيير، وإنَّما بابه باب التَّوكيل، وباب التَّوكيل مفتوح.
فإذا قال لها: أمركِ بيدك. فقالت: طلَّقتُ نفسي اليوم، أو غدًا، أو بعدَ أسبوعٍ، أو بعدَ شهرٍ.
أو قال: طلِّقي نفسك. فقالت: طلَّقت نفسي -في نفس الموضع- أو بعدما كبُرَ ولدها، أو بعد عشرُ سنوات؛ فهي كذلك، إلا أن يحصلَ منه ما يدلُّ على نقض التَّوكيل بأن يفسخه، فيقول: ما طلقتِ نفسكِ ولا اخترتِ فانتهى الأمر.
فنقول: هذه وكالةٌ قد فُسِخَت.
قال: (أَوْ يَطَ)؛ لأنَّ الوطء دليلٌ على إقباله عليها وعدم الرَّغبةِ عنها، فكأنَّه فَسخٌ فِعليٌ، وبناء على ذلك إذا وطئها فكأنه قال: لا تُطلِّقي نفسكِ وأنا أُريدكِ.
فكأن المؤلف يقول: إنَّ لفظَ التَّخيير هو كالعقد المقيَّد بالمجلس، إلا أن يجعل لها أكثر من ذلك، أمَّا لفظ التَّوكيل وما ماثله من قوله: "طلقي نفسك، أو أمرك بيدكِ، أو جعلتُ الطَّلاق إليكِ، أو وكَّلتُكِ في طلاق نفسكِ، أو نحوها من العبارات"؛ فهي مفتوحةٌ، فمتى ما طلَّقَت نفسها طلَقَت، إلا أن يفسخ ذلك فيقول: فسختُ وكَالتكِ، أو فسختُ تطليقكَ لنفسكِ، أو ليس لكِ على نفسكِ عصمَةٌ ولا تطليق؛ أو أن يحصل منه الفسخ بالفعل بأن يطأها. فلمَّا جمع المؤلف بينَ هذين اللفظين أرادَ أن يُبينَ الفرقَ بينهما.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (باَبُ تَعْلِيْقِ الطَّلاَقِ بِالشُّرُوْطِ.
يَصِحُّ تَعْلِيْقُ الطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ، بِشُرُوْطٍ بَعْدَ النِّكَاحِ وَالْمِلْكِ، وَلاَ يَصِحُّ قَبْلَهُ، فَلَوْ قَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلاَنَةً، فَهِيَ طَالِقٌ، أَوْ إِنْ مَلَكْتُهَا، فَهِيَ حُرَّة، فَتَزوَّجَهَا أوْ مَلَكَهَا؛ لَمْ تَطْلُقْ، وَلَمْ تَعْتِقْ)
}.
الفقهاء -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى- أطالوا في باب الطلاق، فذكروا تعليق الطَّلاق على أمرٍ حاضرٍ، أو أمرٍ مُستحيلٍ، أو أمرٍ يتكرَّرُ وقوعه، أو نحو ذلك.
هل كان هذا من الفقهاء -رَحَمَهُم اللهُ تَعَالَى- تكلفًا؟
لا، ولكن لَمَّا كانت أحوال النَّاس في التَّطليق مختلفةٌ جدًّا، وَتُعْرض للفقيه مسائل قد لا يكون قد أدركها أو عرفها، فلأجل ذلك اجتهد الفقهاء في أن يجمعوا أكثرَ ما يمكنُ من المسائل التي تزيد من مِرَان الطَّالب، وقوَّة ملكته الفقهيَّة، وإحصاء الوقائع التي حصلت في عهودهم أو قبلها، لأنَّها يُمكن أن تتكرَّر، فإيراد كثير من الألفاظ أن التَّفنُّن في ذلك، وحشو كتب الفقه بمزيد من ذلك ليس من باب التَّكلُّف كما يظن البعض، وإنَّما لَمَّا كانت أحوال النَّاس في التَّطليق متنوِّعَة ويأتيك من الأسئلة ما لم تحسب له حسبان؛ أراد الفقهاء أن يُهيِّؤا الطَّالب لأن يكون عنده من كلِّ الأبواب ما يُعرَف به.
تعليق الطَّلاق يكون بأداة التَّعليق "إنَّ، إذا"، وستأتي الإشارة إلى بعض هذه الأدوات التي هي أدوات الشَّرط.
كثير من الناس لا يعرف الفرق بين الحلف بالطَّلاق وتعليق الطلاق. فما الفرق بين تعليق الطلاق والحلف بالطَّلاق؟
تعليق الطلاق والحلف بالطلاق شيءٌ واحدٌ من جهة التَّركيب، فإذا قال: إذا طلعَ اليومُ فأنتِ طالق، أو إن قمتِ فأنتِ طالق.
فالأوَّل: تعليق للطَّلاق.
والثَّاني: حلف بالطَّلاق.
إذن تعليق الطَّلاق والحلف بالطَّلاق كلُّه مشتملٌ على ألفاظ الشَّرط وتعليق الشَّرط، ولكن الفرق بينهما شيءٌ واحد؛ فإذا كان الطَّلاق الذي عُلِّقَ على أمرٍ لا مدخلَ للمرأة فيه، كأن يعلقه على طلوع الشَّمس، فالمرأة لا تستطيع أن توقف الشمس، أو قال لها: إن ولدتِّ ذكرًا فأنتِ طالق؛ فهي لا تستطيع أن تغيِّر ما في بطنها؛ فهذا تعليق للطلاق.
أمّا إذا كان المُعلَّق عليه يحتمل تصديقًا أو تكذيبًا، أو أمرًا أو نهيًّا وزجرًا فهذا يُسمى حلف بالطلاق، كأن يقول: إن قمتِ فأنتِ طالق؛ فكأنه يقول لها: لا تقومي، فهو زجرٌ عن القيام، فهو ليس حلف؛ لأنَّ الحلف في الشَّرع يكون بأحرُف القسَم مقرونة بلفظ الجلالة "والله، تالله، بالله"، وألفاظ الطلاق ليس فيها حلف، فهي ليست حلفًا، وإنَّما سموه حلفًا بالطَّلاق على سبيل التَّجوُّز، وذلك لأنَّ فيها معنى الحلف، فكما أنَّ الإنسان إذا حلف ألا يأكل طعامًا أنَّ هذا زجرٌ له عن أكله، أو أنَّه يذهب إلى كذا، أنَّه حملٌ له على الذهاب، أو تصديق أو تكذيب في الأخبار ونحوها، فكذلك التَّعليق في مثل هذه الأحوال يُساوي الحلف من جِهةِ أنَّه أمرٌ أو نهيٌ أو تصديقٌ أو تكذيب.
بعض الناس يقول: إنَّ الطَّلاق حلفٌ بغير الله، لا؛ ليس حلف بغير الله.
فلْيُعلَم الفرق فقط: أنَّ التَّعليق في الطلاق والحلف بالطَّلاق متفقان من أنَّهما مشتملانِ على أحرفِ الطَّلاق وعلى أسماء الشَّرط، وغاية الفرق بينهما أنَّ هذا تعليق على أمرٍ لا مدخل للمرأة فيه ولا أثر لها فيه، وأمَّا الحلف ففيه حثٌّ، كأن يقول: "إن خرجتِ من الدَّار فأنتِ طالق"، فهذا حلف بالطَّلاق، أو قال: "إن خلعتِ حجابكِ فأنتِ طالق"، فهذا أيضًا حلف بالطَّلاق، أو قال: "إن ذهبتِ إلى كذا أو كذا فأنتِ طالق"، فهذا حلف بالطلاق؛ لأنَّه حثٌّ لها أو زجرٌ عن ذهابٍ ونحوه.
الحلف بالطلاق عند ابن تيمية: إن قصدَ به اليمين أو أجراه مجرى اليمين؛ فعليه كفارة يمين.
والمذهب عند الحنابلة وعند جمهور أهل العلم: أنَّ مَن حلف بالطَّلاق إذا وقع المعلَّق عليه أو المحلوف به من خروجها أو قيامها، أو كشفها لوجهها، أو غير ذلك من الأمور؛ فإنَّه يقع الطَّلاق لا محالة.
وهنا مسألةٌ مُهمَّة لأنَّ كثيرٌ من النَّاس يُخطئ فيها، وهي: أنَّ تعليق الطلاق سواء كان ذلك على سبيل التعليق المجرد أو كان على سبيل الحلف واليمين؛ فإنَّه لا رجوع فيه البتَّة، ولأجل ذلك ينبغي لكثيرٍ من النَّاس ألا يلفظَ به، بعض النَّاس يُريد أن يُؤدِّب زوجته فيقول: "إن خرجتِ إلى السُّوق فأنتِ طالق"، كيف تفعل ذلك؟! إن لم تخرج اليوم ذهبت غدًا، وإن لم تذهب غدًا ذهبت الشهر القادم، وإن لم تذهب الشهر القادمة ذهبت بعد سنة!
فنقول: إنَّ مَن لفظ بالتَّعليق لا يُمكن له أن يردَّه، فلا يقول لها: رجعتُ؛ لا؛ لأنَّ حقيقة التَّعليق أنَّه إيقاع، كأنَّها رصاصة رميتَ بها، فهي الآن خرجت، فقط متى تصيب الهدف، فكما أنَّ هذه الرصاصة إذا خرجت لن تستطع ردَّها فكذلك لفظ الطلاق المعلق إذا خرج منك لم تستطع ردَّه، فلأجل ذلك نوصِي وينبغي لطلبة العلم أن يوصوا الناس ألا يلجؤوا إلى ذلك، حتى ولو كان من المرأة مشاغبة في أمرٍ، أو إتعابٌ في شأنٍ أو نحوه، فإنَّ هذا يوشك أن يولجك مولجًا صعبًا، ويوردك موردًا فيه الحرج، فليتنبَّه النَّاس لذلك، وكم من النَّاس الذين يدعون على أنفسهم بالويل والثبور؛ لأنَّهم علقوا هذه الألفاظ، والأعجب في هذا أنَّ كثيرًا مِنَ النَّاس يلجأ إليه! وهذا جهلٌ منهم بالأحكام، واستخفاف بالطَّلاق، وقلَّةٌ في الرُّجولَة، وإلا فإنَّ الرَّجل يستطيع أن يحكم زوجه ويؤدِّبها، وأن يحملها على الخير، وأن يبعدها عن أشياء كثيرة بما دون الطَّلاق.
ومَن عَرَفَ الأثر المترتب عليه فإنَّه يوشك ألا يلجأ إلى ذلك البتَّة، وهذه من المور المهمَّة للغاية لكثرة وقوعها بينَ النَّاس.
قول المؤلف: (يَصِحُّ تَعْلِيْقُ الطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ)، أوردَ العَتَاق على سبيل التَّكميل والتَّسوية، فلو قال لعبده: إن ذهبتَ إلى المسجد فأنت حرٌّ، فعلَّقَ العتق بذهابه إلى المسجد، أو بإسلامه، فإن قال: إن أسلمت لله -جلَّ وعَلَا- فأنتَ حرٌّ، أو علَّق العتق على أسباب أخرى.
إذن عليق الطَّلاق والعَتَاق بشرطٍ صحيح، ويُعتبر حال كون الإنسان مالكًا له، فإن قال شخص لامرأة -وهي ليس زوجته: إن خرجتِ فأنت طالق؛ ثم تزوَّجها، فالطلاق لا يقع، لأنَّه حين علق الطلاق لم يكن يملك عليها طلاقًا.
ولو قال لامرأة في الشَّارع: أنتِ طالق؛ لم تطلق، فكذلك إذا علَّق طلاقها لم تطلق، فإذا كان الطلاق المنجَز لم يقع فكذلك الطَّلاق المعلَّق لم يقع ولم ينعقد.
وبناء عليه لو قال: إن تزوجتُ فلانة فهي طالق، أو قال لامرأة: إن خرجتِ فأنت طالق، ثم تزوَّجها؛ فنقول: لا طلق، لأنَّ الطَّلا فرعٌ عن النِّكاح، فلمَّا لم يكن منه نكاح فبناء على ذلك لم يكن منه طلاق.
ولو أنَّه تزوَّجها بعد ذلك فنقول: إنَّ حال التَّلفُّظ بالطَّلاق وإيقاعه لم يكن أهلًا لذلك، وبناء على ذلك لا يصح الطَّلاق.
وكذلك العِتَاق والمِلك، فلو قال: إن ذهبتَ إلى المسجد فأنت حرٌّ لوجه الله، أو إن أسلمت فأنت حرٌّ إلى وجه الله؛ ثمَّ اشترى العبد، فقال: أنا أُسلِمُ الآن. فنقول: مِلكُكَ باقٍ ولا يؤثر إعتاقك له قبل ملك له في شيء، وإن أردتَّ إعتاقه فلكَ أن تعتقه مرَّة ثانية.
فلأجل ذلك قال المؤلف: (يَصِحُّ تَعْلِيْقُ الطَّلاَقِ وَالْعِتَاقِ بِشُرُوْطٍ بَعْدَ النِّكَاحِ وَالْمِلْكِ، وَلاَ يَصِحُّ قَبْلَهُ، فَلَوْ قَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتُ فُلاَنَةً، فَهِيَ طَالِقٌ، أَوْ إِنْ مَلَكْتُهَا، فَهِيَ حُرَّة، فَتَزوَّجَهَا أوْ مَلَكَهَا؛ لَمْ تَطْلُقْ، وَلَمْ تَعْتِقْ).
إذن اللفظ الذي حصل من التَّعليق قبل النِّكاح فلا أثر له، ولو أن نكحها بعدَ ذلك ثم حصلَ المعلَّق عليه من طلوع الشَّمسِ أو من خروجٍ، أو من قيامٍ، أو من ذهابٍ إلى أهلها، أو غير ذلك من الشُّروطِ؛ فلا ينفذ طلاقه، لأنَّه طلَّقها حال كونه ليس مالكًا لذلك.
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَأَدَوَاتُ الشَّرْطِ سِتٌّ: إِنْ، وَإِذَا، وَأَيُّ، وَمَنْ، مَتَى، وَكُلَّمَا وَلَيْسَ فِيْهَا مَا يَقْتَضِيْ التِّكْرَارَ إِلاَّ "كُلَّمَا")}.
أي "كلَّمَا" ليست من أدوات الشَّرط.
وهذه الألفاظ التي ذكرها الفقهاء هي الأشهر، وإلَّا فإنَّ أدوات الشَّرطِ كثيرةٌ جدًّا، ويعدُّها أهل اللغة والنَّحو في موضعها من كتب النَّحو، ولكن لكثرة الحاجة إليها أشار المؤلف إلى ذلك.
فيقول: هذه أدوات الشَّرط التي يحصل بها تعليق الطلاق.
فإذا قال: "إذا خرجتِ فأنتِ طالق، إذا قمتِ فأنتِ طالق، أيُّ واحدةٍ منكنَّ ذهبت فهي طالقٌ، متى ما أكلتِ الخبزَ فانتِ طالقٌ، مَن دخلت دار جارتها فهي طالقٌ، أو كلَّما سبَبتِ زوجكَ فأنتِ طالق".
فهذه أدوات الشَّرط، وإذا علَّقها فهذا تعليق للطلاق، وهذه الألفاظ تعدُّ حَلفًا بالطَّلاق على ما قلنا من أنَّ فيها زجرٌ أو حثٌّ، سواء كانت على الحلف أو على مجرَّد التعليق الخارج عن إراد المرأة، كأن يقول لها: "إن جاء زيدٌ فأنتِ طالق"، فهي لا تستطيع أن تذهب وتجيء بزيد. أو قال لها "إذا طلعت الشَّمس فأنتِ طالق، أو إذا جاء المطر في هذا اليوم فأنت طالق"، فهذه أدوات الشَّرط التي يحصل بها التَّعليق، أو الحلف بالطلاق.
قال المؤلف: (وَلَيْسَ فِيْهَا مَا يَقْتَضِيْ التِّكْرَارَ إِلاَّ "كُلَّمَا")، يعني لو قال: "كلما قمتِ فأنتِ طالق"، فإذا قامت طلُقَت، فإذا قامت مرَّة ثانية تطلق الطَّلقة الثانية، وإذا قامت ثالثة طلُقَت الثلاث طلقات وبانت منه.
إذن الأصل أنَّه إذا علَّق الطَّلاق بأدوات الشَّرط كلها، فإذا وقع الشرط حصلت تطليقة، ثم تنحل اليمين، إذا إذا كان التَّعليق بــ "كلَّما" على ما ذكرنا من المثال الذي سمعتموه.
{قال المؤلف -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَكُلُّهَا إِذَا كَانَتْ مُثْبَتَةً، ثَبَتَ حُكْمُهَا، عِنْدَ وُجُوْدِ شَرْطِهَا فَإِذَا قَالَ: إِنْ قُمْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ، فَقَامَتْ، طَلُقَتْ، وَانْحَلَّ شَرْطُهُ)}.
قوله: (وَكُلُّهَا إِذَا كَانَتْ مُثْبَتَةً)، يعني: في حال الإثبات وليس في حال النَّفي.
مثال حال الإثبات، إن قال لها: "إن قمتِ فأنتِ طالق، أو إن تعرَّيتِ فأنتِ طالق، أو إن خرجتِ فأنت طالق"؛ فالأصل أنَّ الزَّوجية باقية، فإذا جرى منها المُعلَّق عليه -وهو خروجها إلى السُّوق، أو تعرِّيها- فيقع الطَّلاق، فإذا وقع الطَّلاق فالأصل أنَّه طلاق رجعي إن لم يكن طلَّقَها قبل ذلك، وبناءً على هذا فله أن يُراجعها، فإذا راجعها فخرجت إلى السُّوقِ مرَّةً ثانية أو تعرَّت فلا يقع عليها طلقة ثانية، لأنَّ هذا الشَّرط ينحلُّ بمرَّةٍ واحدة، لأنَّ األفاظ الشَّرط كلها سوى "كلَّما" لا تقتضي التَّكرار.
وحال النفي، كأن يقول لها: "إن لم تقومي فأنتِ طالق".
{قال -رَحَمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَإِنْ قَالَ: كُلَّمَا قُمْتِ، فَأَنْتِ طَالِقٌ، طَلُقَتْ كُلَّمَا قَامَتْ)}.
أمَّا "كلَّمَا" فهي بخصوصها التي تدلُّ على التَّكرار مثلما قلنا، فإذا قال لها: "كلَّما أكلتِ الثُّومَ فأنتِ طالق"، فإذا أكلت الثّوم طلُقَت، فإذا ردَّها أو لم يردَّها فأكلت الثوم مرَّةً ثانية حالَ العدَّة وقعت الطَّلقة الثَّانية، فإذا أكلته ثالثة حال العدَّة أيضًا وقعت الطَّلقة الثالثة.
ولعلَّنا نقف عند هذا، أسأل الله لي ولكم التَّوفيق والسَّداد، وأسأل الله أن يجزيكم خيرًا، وأن يرفعكم بالعلم، وأن يزيدكم منه، وأن يوفقكم لتحصيله، وأن يُعقبكم العمل به، وأن يجعلنا من أهل الهُدَى والتَّعليم، وأن يجزي الإخوة القائمين على هذه الأكاديمية خيرَ الجزاء على ما بذلوا، وعلى ما فعلوا، وعلى ما أحسنوا، وعلى ما نشروا من الخير، وأن يجعل هذا المنار باقيًا إلى يوم القيامة، منيرًا للنَّاسِ في العلم، ومُظهرًا للهُدَى، ومبقيًا لسنَّة المطصفى -عليه الصَّلاة والسَّلام- وصلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد.
{وفي الختامِ نشكركم فضيلة الشَّيخ على ما تقدِّمونَه، أسألُ الله أن يجعلَ ذلك في موازين حسناتِكم.
هذه تحيَّةٌ عطرةٌ من فريقِ البرنامج، ومنِّي أنا محدثِّكم عبد الرحمن بن أحمد العمر، إلى ذلكم الحين نستودعكم الله الذي لا تضيعُ ودائِعَه، والسَّلام عليكم ورحمةُ اللهِ وبركاته}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك