{بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين، نبينا محمدٍ وعلى
آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في درسٍ من دروس التوحيد للإمام المجدد محمد بن
عبد الوهاب رحمه الله.
ضيف هذا الدرس هو فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو
اللجنة الدائمة للإفتاء.
أهلًا ومرحبًا بالشيخ مع الإخوة والأخوات.}
حياكم الله وبارك فيكم.
{قال المؤلف رحمه الله تعالى: قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ
اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الكَافِرُونَ﴾ [النحل: 83]}
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الواجب ومن حقوق التوحيد ومكملات التوحيد الاعتراف بنعم الله عزَّ وجلَّ، وشكره
عليها، هذا من تمام التوحيد، ومن أعظم النعم التي أنعم الله بها على الخليقة عمومًا
وعلى هذه الأمة خصوصًا نعمة الإسلام والإيمان، ونعمة إرسال الرسل -عليهم الصلاة
والسلام، يُبيِّنون للناس دينهم، ويعلموهم ما يجب عليهم، ويحلون مشكلاتهم،
وخصوماتهم، بموجب العدل الإلهي الشرعي المنزَّل.
هذا من أكرم النعم التي يُشكر الله -جلَّ وعلَا- عليها، شكرُ النعم واجبٌ، وله
ثلاثة أركانٍ لا يصح إلا بها:
الركن الأول: التحدث بها ظاهرًا، ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى:
11].
الركن الثاني: الاعتراف بها باطنًا أنها من عند الله -سبحانه وتعالى، لا من عنده
غيره.
الركن الثالث: صرفها في طاعة الله -سبحانه وتعالى- ومرضاته.
وهذه أركان الشكر التي لا يتم إلا بها، وهو واجبٌ، ومن أعظم النعم إرسال الرسل، ولا
سيما خاتمهم وإمامهم محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
فإن بعثته من أعظم النعم، ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ
فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ
وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ
مُّبِينٍ﴾ [آل عمران: 164].
هذا من أكبر النعم، بعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة، فيجب شكر الله
جلَّ وعلَا على هذه النعمة العظيمة، لكنَّ المشركين والكفار يعترفون ببعثة الرسول
صلى الله عليه وسلم، يعترفون بها باطنًا، يعرفون أنه رسول الله حقًّا، ولكن يحملهم
الحمية الجاهلية ألا يتركوا دين آبائهم وأجدادهم، ويتبعوا هذا الرسول صلى الله عليه
وسلم.
هم يعرفون الله في قرارة أنفسهم، وينكرونها بأقوالهم وأفعالهم، قال الله جلَّ
وعلَا: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ
يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ [الأنعام:
33].
فهذا معنى قوله: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ﴾ [النحل: 83]، ونعمة الله هنا يراد
بها بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل عموم النعم، يعترفون أنها من الله، ومنها
بل أهمها وأعظمها بعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، ﴿ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾ وينسبون
النعم إلى أصنامهم، أو إلى أفعالهم وقوتهم وحولهم، ولا ينسبونها إلى الله، وأنها
منه سبحانه فيشكرونه عليها.
{قال مجاهد: ما معناه هو قول الرجل هذا مالي ورثته عن آبائي}
قال مجاهد بن جبر -تابعيٌّ جليلٌ، تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما- في تفسير قوله
تعالى: ﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا﴾ هو: قول الرجل هذا مالي
ورثته عن آبائي، ولا يعترف أنه من فضل الله عليه، وأن الله أنعم به عليه، بل يقول
هذا مالي، وأنا ورثته عن آبائي، يجحد أنه من الله سبحانه وتعالى، ويقول إنه ميراثٌ
عن آبائه، وأجداده، وما أشبه ذلك.
{وقال عون بن عبد الله: يقولون: لولا فلان لم يكن كذا}
عون بن عبد الله رضي الله عنه ورحمه يقول في تفسير الآية لولا فلان لم يكن كذا،
لولا فلان هو الذي أوجد هذه النعمة أو هذا الرزق ما حصل هذا الشيء، فينسبون وجود
النعم ووجود الأرزاق إلى المخلوقين.
وكلمة لولا حرف امتناعٍ لوجودٍ، امتناع أي لولا وجود فلان ما حصلت هذه النعمة،
فينسبون إلى المخلوقين ولا ينسبونها إلى الله، وهذا من كفر النعم والعياذ بالله.
{وقال ابن قتيبة: يقولون هذا بشفاعة آلهتنا}
وقال ابن قتيبة وهو إمامٌ جليلٌ من أئمة التفسير، ينسبون هذه النعم إلى قبور
الأولياء، ولأنهم يعتقدون في قبور الأولياء أنها مراقب الصالحين، وأن المقبورين
والمدفونين هم السبب في وجود هذه النعم، فلولا وجود هذا القبر في هذا البلد، ما
حصلت له الأرزاق وما أشبه ذلك، وكل مسجدٍ عندهم ليس فيه قبرٌ فليس به شيءٌ، وإنما
يعتبرون المساجد التي فيها القبور والأضرحة، وينسبون النعم إليها، ووجود القبر في
البلد أو في الإقليم عندهم هو الذي يجلب لهم النعم.
{وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد، الذي فيه « وأن الله -تعالى- قال: أصبح من
عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ}.
قال أبو العباس أي شيخ الإسلام ابن تيمية، هذه كنيته -رحمه الله- في قول النبي -صلى
الله عليه وسلم- « أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ » بعد نزول المطر عليهم بالليل.
{وهذا كثيرٌ في الكتاب والسنة يظن-سبحانه- من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به}.
نعم الحديث الذي ذكره أبو العباس، أنه لما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- هو
وأصحابه في الحديبية، قريبٌ من مكة على حدود الحرم من الجهة الغربية، وهو ما يسمى
الآن بالتنعيم، كانوا على حدود الحرم فنزل عليهم مطرٌ بالليل، قال النبي -صلى الله
عليه وسلم- بعد صلاة الصبح لأصحابه: «أتدرون ماذا قال ربكم؟» قالوا: الله ورسوله
أعلم، قال: «قال: أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ، فأما من قال مُطرنا لنوء كذا وكذا
فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب، وأما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمنٌ بي
كافرٌ بالكوكب»، فمن نسب النعم ومنها نزول المطر إلى الأنواء وإلى المناخات وما
أشبه ذلك، فهذا كافرٌ بالله، حيث نسب نعمته إلى غيره، إلى الكوكب، والكواكب ليس لها
تدبيرٌ، فمن نسب الحوادث الأرضية إلى الأحوال الفكلية، فهذا هو التنجيم الذي جاء
الكتاب والسنة بذمه وتضليل أهله، فالنعم تنسب إلى الله من المطر وغيرها، قال: «أصبح
من عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ، فأما من قال مُطرنا بنوْء كذا وكذا، هذا كافرٌ بي مؤمنٌ
بالكوكب، وأما من قال مُطرنا بفضل الله وبرحمته، فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب».
{قال بعض السلف: هو كقولهم كانت الريح طيبةً والملاح حاذقٌ ونحو ذلك}.
من ذلك نسبة النعم إلى غير الله، أن أهل المراكب في البحار إذا سَلِمُوا في رحلتهم،
فإنهم ينسبون هذه السلامة إلى الملاح قائد السفينة، فيقولون إنه كان حاذقًا في
قيادة السفينة، وعارفًا بذلك، ولا يقولون أن سلامتهم بفضل الله وبرحمته، وإنما قائد
السفينة السبب من الأسباب، إن شاء الله نفع به وإن شاء لم ينفع به، فكم غرقت من
سفينةٍ ومراكب فيها ملاحون ماهرون، ولم ينفعهم ذلك.
{شيخ صالح في بداية هذا الباب، ظهرت هذا مالي ورثته عن آبائي، ظاهر العبارة بأنه لا
شيء فيها، لماذا مجاهد منع ذلك؟}.
ما يقول هذا مالي بفضل الله، حصلتُ عليه بفضل الله وإنما حصلتُ عليه بالوراثة من
آبائي، فينسبه إلى آبائه ولا يذكر فضل الله عليه.
{قال المؤلف -رحمه الله تعالى- فيه مسائل، الأولى: تفسير معرفة النعم وإنكارها}.
تفسير معنى النعمة ومعنى إنكارها، النعمة عمومًا ما يمن الله به على عباده، وأعظم
ذلك بعثة الرسل ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ
رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ﴾ [آل عمران: 164] هذه أعظم
النعم، بعثة الرسل لهداية الخلق من الكفر والضلال وأعمال أهل النار، وإرشادهم إلى
التوحيد وإلى الأعمال الصالحة وأعمال أهل الجنة، بعثة الرسل -عليهم الصلاة والسلام-
ومنهم نبينا محمدٌ -صلى الله عليه وسلم-، فهم يعترفون أنه رسول الله بقرارة أنفسهم،
ولكنهم لا يتبعون ولا يقتدون به -صلى الله عليه وسلم- وإنما يبقون على كفرهم
وضلالهم من باب العناد والجحود -ولا حول ولا قوة إلا بالله- فهذا أعظم كفر النعم،
كفر الإيمان بالرسالة واتباع الرسل.
{المسألة الثانية: اجتماع الضدين في القلب}.
نعم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، الضدان هم المعرفة والإنكار، المعرفة والإثبات
والنفي، هذان يجتمعان في القلب، فهم في قلوبهم وقرارة أنفسهم يعرفون أنه رسول الله،
ثم ينكرونه بقلوبهم وألسنتهم وأعمالهم -لا حول ولا قوة إلا بالله-، وكان الواجب أن
يتبعوه ويؤمنون به، ما دام أنهم يعترفون أنه رسول الله، لماذا يبقون على كفرهم ولا
يتبعونه؟ لولا التعصب الجاهلي المذموم.
{شكر الله لكم فضيلة الشيخ وبارك الله فيكم، ونفع الله بعلمكم على ما بينتم وشرحتم
في هذا الدرس من دروس التوحيد.
شكرًا لكم أنتم أيها السادة، ويتجدد اللقاء في هذه الدروس مع فضيلة الشيخ العلامة
صالح بن فوازن آل فوزان، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.