{بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين، نبينا محمدٍ وعلى
آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في درسٍ من دروس التوحيد، للإمام المجدد محمد بن
عبد الوهاب رحمه الله، ضيف هذا اللقاء هو فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، عضو
هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء.
أهلًا ومرحبًا بالشيخ صالح في هذا الدرس.}
حياكم الله وبارك فيكم.
{وقف بنا الحديث عند باب قول الله تبارك وتعالى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
﴿أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ
الخَاسِرُونَ﴾[الأعراف: 99]}
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
هذا الباب يقصد به الشيخ -رحمه الله- بيان أن الأمن من مكر الله، أي: من إمهاله
واستدراجه لعباده وهم على المعاصي، وهو ينعم عليهم، أن ذلك ليس إكرامًا لهم، وإنما
إذ هو استدراجٌ ليزدادوا إثمًا، كما قال -سبحانه وتعالى: ﴿فَذَرْنِي وَمَن
يُكَذِّبُ بِهَذَا الحَدِيثِ﴾ يعني: القرآن ﴿سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ
يَعْلَمُونَ﴾[القلم: 44].
والله -جلَّ وعلَا -أخبر أن الناس إذا لم يتنبهوا بالمواعظ، فإن الله يمهلهم
ويستدرجهم بالنعم حتى تكثر ذنوبهم ومعاصيهم، ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُم
بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَّ
يَشْعُرُونَ﴾[المؤمنون: 55، 56]، لا يدرون، هذا مكرٌ.
كما قال -سبحانه وتعالى- عن أهل القرى أنهم لما لم يتعظوا بما نزل من العقوبات، أن
الله أملى لهم، واستدرجهم بالنعم، فقال: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ
فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا
أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ﴾[الأنعام: 44].
فالله أولًا يُنذر عباده بالتخويف، وينزل عليهم ما ينبههم من العقوبات لعلهم
يتوبون، فإذا استمرأوا المعاصي ولم يتوبوا، فإن الله يستدرجهم بالنعم، ليأخذهم على
غرةٍ وهم غافلون، نعم.
{وقال تعالى: ﴿وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ﴾[الحجر:
56]}
هذا على المقابل، مقابل الأمن من مكر الله، فإنه أيضًا لا يقنط من -رحمة الله، بل
يكون بين الخوف والرجاء، وهذا شأن المؤمن، أنه يكون بين الخوف والرجاء، لا يأخذ
بالخوف فقط، هذه طريقة الخوارج، ولا يأخذ بطريقة الرجاء فقط ويأمن من العذاب، وهذه
طريقة المرجئة، وهما فئتان ضالتان، نعم.
{عن ابن عباسٍ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر، فقال:
«الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله».}
سئل صلى الله عليه وسلم عن الكبائر، يعني كبائر الذنوب، لأن الذنوب تنقسم إلى كبائر
وصغائر، والكبيرة هي ما خُتمت بلعنةٍ أو غضبٍ أو نارٍ، يعني إذا جاء التذكير والوعظ
والزجر وخُتم بلعنةٍ أو غضبٍ أو نارٍ فهذه كبائر، وأما ما نُهي عنه ولم يُختم
بخاتمة الكبيرة، فإنه من الذنوب الصغائر، والواجب على المسلم أن يتجنب الذنوب
الكبائر والذنوب الصغائر.
لكن الذنوب الكبائر لا تكفر إلا بالتوبة، وأما الصغائر فإنها قد يغفرها الله
للمؤمن، قال جلَّ وعلَا: ﴿إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ
نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء: 31]، يعني الذنوب والصغائر، نعم.
{«واليأس من روح الله»}
فهذا الأمن من مكر الله من كبائر الذنوب، وهو أن الإنسان لا يخاف من الله، لا يكون
عنده خوفٌ من الله، فهو فاقدٌ لنوعٍ من أنواع العبادة، لأن الخوف من أنواع العبادة،
الخوف من الله سبحانه وتعالى، وعلى العكس الأمن من مكر الله عزَّ وجلَّ،
والاستدراج، فالله جلَّ وعلَا يحذر عباده فإن تابوا وأنابوا ورجعوا عن الذنوب تاب
الله عليهم، وإن استمروا في ذنوبهم ولم يلتفتوا إلى النهي والزجر فإن الله قد
يأخذهم، ويعجل عقوبتهم، وقد يستدرجهم ليزدادوا إثمًا، ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لُهُمْ خَيْرٌ لأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ
لِيَزْدَادُوا إِثْماً﴾ [آل عمران: 178].
فالعبد لابد أن يكون بين هذين المقامين، بين الخوف والرجاء، فلا يخاف خوفًا معه
قنوطٌ من رحمة الله، وهذا كفرٌ، ولا يرجو رجاءً آمنًا من مكر الله، ومن عذاب الله،
وهذا طريق المرجئة الضلال.
{قال: سئل عن الكبائر، فقال: الشرك بالله، واليأس من روح الله}.
نعم، الشرك بالله أكبر هو أكبر الكبائر، وأعظم ما نهى الله عنه -سبحانه وتعالى-،
الشرك بالله، واليأس من روح الله، وهو القنوط من رحمة الله -عزَّ وجلَّ، فالله
-سبحانه وتعالى- يحب من عبده أن يكون بين الخوف والرجاء، لا يخاف خوفًا معه يأسٌ من
رحمة الله، وهذه طريقة الخوارج، ولا يرجو رجاءً معه أمنٌ من مكر الله، وهذه طريقة
المرجئة، والطريق الصحيح أن المسلم يكون بين الخوف والرجاء، لا يُغلِّب جانبًا على
الآخر، ولهذا يقولون: المؤمن كالطائر بين الخوف والرجاء، مثل جناحي الطائر، لا
يُغلب جانبًا على الآخر، مادام على قيد الحياة، أما في حالة نزول الموت، وكُربات
الموت، فإنه يُغلب جانب الرجاء، قال -صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو
يحسن الظن بالله»، الله -جلَّ وعلَا- يقول: «أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء».
{وعن ابن مسعود قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من
رحمة الله، واليأس من روح الله}.
كل هذه متضاداتٌ، الشرك بالله، الذي يُنجي منه التوحيد، وإخلاص العبادة لله -عزَّ
وجلَّ، والثاني الأمن من مكر الله، أنه لا يخاف من الله -عزَّ وجلَّ- يفقد الخوف،
فهو فاقدٌ لنوعٍ من أنواع العبادة عظيمٍ، وهذا معناه أنه والعياذ بالله أنه يستمرئ
المعاصي ويستلذ بها، ولا يخاف من العواقب.
وعلى النقيض كذلك يخاف، لكن لا يقنط من -رحمة الله، بل يخاف خوفًا معه رجاءٌ لرحمة
الله -سبحانه وتعالى، فلا يرجو فقط ويترك الخوف، ولا يخاف فقط ويترك الرجاء، بل
يكون بين الخوف والرجاء، هكذا طريقة المؤمنين ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ
يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيرْجُونَ
رَحْمَتَهُ وَيخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء: 57] ما قال: يرجون رحمته فقط، قال:
﴿وَيخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ [الإسراء: 57]، فيجمع بين الخوف والرجاء، هذا طريقة
المؤمن.
{واليأس من روح الله}.
واليأس من روح الله، القنوط من رحمة الله -عزَّ وجلَّ- في نفسه فلا يتوب من
المعصية، ويقول: إنه لا يغفر له، فقد جاء في الحديث أن رجلًا قتل تسعةً وتسعين
نفسًا، فألقى الله في قلبه التوبة، فسأل عن من يفتيه، هل له توبةٌ أم لا، فدُل على
عابدٍ، ما عنده علمٌ، لكنه متعبدٌ ومجتهدٌ، وسأله أنه قتل تسعةً وتسعين نفسًا، فهل
له من توبةٍ؟، فقال: لا، ليس لك توبةٌ، فقتله، وأكمل به المائة؛ لأن هذا العابد ما
عنده علمٌ، وأفتى بجهلٍ، كيف يسد باب التوبة على هذا العبد الذي جاء يريد التوبة؟
هذا قنوطٌ من رحمة الله -سبحانه وتعالى، ثم سأل عن عالمٍ يسأله، فدُل على عالمٍ،
فقال: إنه قتل مائة نفسٍ، فهل له من توبةٍ؟
قال: ومَن يحُل بينك وبين التوبة؟ فأفتاه بأن باب التوبة مفتوحٌ، وأن الله يقبل
توبته، ولو تعاظم ذنبه، ولو قتل مائة نفسٍ، قال: ولكنك بأرض سوءٍ، فاخرج إلى أرض
كذا، فإن فيها قومًا يعبدون الله، فاعبد الله معهم، فخرج يريد الأرض الطيبة، فقبضت
الملائكة روحه في الطريق، قبل أن يصل إلى البلدة الطيبة، فاختصمت فيه ملائكة
الرحمة، وملائكة العذاب، ملائكة الرحمة يقولون: إنه تاب، فيريدون أن يقبضوه،
وملائكة العذاب يقولون: إنه لم يعمل شيئًا، يريدون أن يقبضوه للعذاب، فأرسل الله
إليهم ملكًا، يحكم بينهم، وقال الملك: قيسوا ما بين البلدتين، فقاسوا فوجدوه إلى
البلدة الطيبة أقرب بشبرٍ، فقبضته ملائكة الرحمة، هذا يدل على أن المسلم لا يقنط من
رحمة الله، وإن تعاظمت ذنوبه، بل عليه التوبة إلى الله، والله يقبل التوبة من
عباده، والله حث على التوبة، وأمر بقبولها، فقال -سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنَا
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 160]، ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى
أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ
الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]،
﴿وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ﴾ [الزمر: 54] أنيبوا أي توبوا.
رواه عبد الرزاق، من هو عبد الرزاق؟
عبد الرزاق الصنعاني الذي كان طلاب العلم يرحلون إليه في وقته، ومنهم الإمام أحمد،
فقد رحل إلى اليمن، إلى صنعاء ليروي الحديث عن عبد الرزاق -رحمه الله- وهو من مشايخ
الإمام أحمد.
شكر الله لكم الشيخ الصالح، وبارك الله فيكم على ما شرحتم وبينتم وأفدتم في هذا
الدرس المبارك من دروس التوحيد، للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله.
شكر الله لكم، وجزاكم عن أمة الإسلام خير الجزاء، شكر لكم أيها السادة، نلتقي -إن
شاء الله- مع درسٍ قادمٍ من دروس التوحيد، شكرًا للزملاء، والسلام عليكم ورحمة الله
وبركاته.