الدرس السادس

معالي الشيخ د. صالح بن فوزان الفوزان

إحصائية السلسلة

17205 11
الدرس السادس

كتاب التوحيد (1)

{بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على قائد الغر المحجلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.
مرحبًا بكم أيها الإخوة والأخوات في درسٍ من دروس التوحيد للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله.
ضيف هذا الدرس هو فضيلة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء.
أهلًا ومرحبًا بالشيخ صالح في هذا الدرس.}
حياكم الله وبارك فيكم.

{قال المؤلف رحمه الله تعالى:
باب قول الله تبارك وتعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً﴾ [النساء: 60]}
بسم الله الرحمن الرحيم..
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال الشيخ رحمه الله تعالى: باب قول الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النساء: 60].
سبب نزول الآية أنه كان بين منافقٍ ويهوديٍّ خصومةٌ، فقال اليهودي: نختصم إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وذلك لِعِلمِه أنَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- لا يأخذ الرشوة، اليهودي علم أنَّ محمدًا لا يقبل الرشوة، فلهذا طلب التحاكم عليه.
وأمَّا المنافق الذي يزعم أنه مؤمنٌ وأنه من المسلمين، فقال: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف زعيم اليهود؛ لأنه يعلم أنَّه يأخذ الرشوة، فالله -جلَّ وعلَا- فضحه بهذه الآية، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ﴾ يعني: ما هو بحقيقة، وإنما هم يزعمون، أنهم ﴿آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ من: القرآن ﴿وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ﴾ أي: من الكتب، ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾ فالتحاكم إلى الطاغوت الذي يحكم بغير ما أنزل الله، هو من هذا القبيل، إنَّ الله ينكره أشد الإنكار.
والطاغوت مُشتقٌ مِنَ الطُّغيان، والمراد به كما قال ابن القيم: ما جاوز به العبد حده من معبودٍ أو متبوعٍ أو مُطاعٍ في غير طاعة الله، فهذا هو الطاغوت.
فالذي يتحاكم إلى غير الله، يتحاكم إلى الطاغوت، يعني: إلى الباطل، وإلى غير ما أنزل الله -سبحانه وتعالى، ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا﴾ أَمَرَهُم الله أن يكفروا بالطاغوت، قال -جلَّ وعلَا: ﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا﴾ [البقرة: 256]، وهذا الرجل الذي يَدَّعِي أنه مُؤمنٌ لا يكفر بالطاغوت، ويريد أن يتحاكم إليه، نسأل الله العافية.
﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا﴾ يريدون في قلوبهم، فكيف إذا نفذوا، الأمر أشد، ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾ يعني: إلى غير الله -سبحانه وتعالى، وإلى غير ما أنزل الله، وقد أمروا أن يكفروا بالطاغوت، وفهموا ذلك، لكن ليس عندهم إيمانٌ حقيقيٌّ، وإنما هو مخادعةٌ لله ولرسوله؛ ليتظاهروا بمظهر المؤمن وهم غير مؤمنين، ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ﴾، فلا يجوز التَّحاكم إلى غيرِ ما أنزل الله، وإلى غير من يَحكُمُ بالشَّريعَةِ، من تحاكمٍ إلى القوانين الوضعية، أو تحاكمٍ إلى الرجال، وترك القرآن فهذا تحاكمٌ إلى الطاغوت.

{﴿وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً﴾ [النساء: 60] }
إي: نعم هذا هو السبب، أنَّ الشيطان -لعنه الله- يريد أن يضل هؤلاء المنافقين، ضلالًا بعيدًا عن الإسلام، مع أنهم يدعون الإسلام والإيمان بمحمدٍ -صلى الله عليه وسلم، لكن ينكشف عوارهم عند أدنى حادثةٍ من الحوادث.

{وقال تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ [البقرة: 11]}
كما ذكر الله في أول سورة البقرة من صفات المنافقين: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البقرة: 8، 9]، ثم ذكر ممارساتهم وتصرفاتهم المخالفة والباطلة مع أنهم يدعون الإيمان، ومن ذلك : ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ [البقرة: 13]، يريدون المسلمين، مع أنهم يدعون الإسلام، لكن أظهر الله ما في قلوبهم وفضحهم.
﴿أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ﴾ قال الله -جلَّ وعلَا: ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ﴾، حصر الله السفاهة فيهم لا في المسلمين، وإنما السفاهة في المنافقين، مع أنهم يدعون الكمال والعقلية وما أشبه ذلك، ﴿أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 13].

{قال تعالى: ﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا﴾ [الأعراف: 56]}
﴿وَلاَ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا﴾، الله -جلَّ وعلَا- أصلح الأرض بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وبذلك بطلت عبادة المشركين، وعبادة الأصنام، وبطلت أمور الجاهلية كلها، بظهور الإسلام ولله الحمد.
فالله أصلح الأرض بذلك، صلاح الأرض هو بتحكيم الشريعة، هذا صلاح الأرض، صلاحها بالإيمان بالله عزَّ وجلَّ، هذا صلاح الأرض، وفساد الأرض تحكيم غير الشريعة، بأن تحكم القوانين الوضعية، وأحكم الطاغوت، وغير ذلك من المعاصي والمخالفات كلها من الفساد في الأرض، كما قال سبحانه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41]، فهذا فسادٌ والعياذ بالله، لا يصلح الأرض إلا العمل بالكتاب والسنة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتحكيم الشريعة الإسلامية، هذا الذي يصلح الأرض ويعمر الأرض.

{وقال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾ [المائدة: 50]}.
يقول تعالى مستفهمًا استفهام إنكار: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ﴾ الذين يريدون أن يتحاكموا إلى غير الشريعة ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾، والجاهلية ما كان قبل الإسلام، فلما جاء الإسلام أبطل الله حكم الجاهلية، وأمر بتحكيم الشريعة الإسلامية، تحكيم الكتاب والسنة، هناك ناسٌ لا يريدون هذا، يريدون أن يبقوا على حكم الجاهلية، ويحبون حكم الجاهلية، وانظر كيف قال: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ﴾، مجرد إرادة هذا ولو لم يمارسه فإنه يدخل في عموم هذه الآية، أنه يبتغي حكم الجاهلية، ومن ابتغى حكم الجاهلية، وأبغض حكم الإسلام، فإنه كافرٌ، ومن ذلك الذين يدعون إلى تحكيم القوانين الوضعية، وإدخالها في المحاكم، ويستبدلون بذلك الشريعة الإسلامية، يدخلون في هذا الوعيد الشديد، فعليهم أن يتقوا الله سبحانه وتعالى في أنفسهم.

{وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئتُ به»}.
«لا يؤمن أحدكم » الإيمان الكامل « حتى يكون هواه » يعني رغبته، تبعًا لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم.

{قال النووي: هذا حديثٌ صحيحٌ، رويناه في كتاب الحجة، بإسنادٍ صحيحٍ}.
نعم، صححه الإمام النووي، وهو من كبار المحدثين، وذكر أنه موجودٌ في كتاب الحجة على تارك المحجة، وهو كتابٌ مشهورٌ.

{قال الشعبي: كان بين رجلٍ من المنافقين، ورجلٍ من اليهود خصومةٌ، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمدٍ؛ لأنه عرف أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى اليهود؛ لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فاتفقا على أن يأتيا كاهنًا في جهينة، فيتحاكما إليه، فنزلت ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ﴾ [النساء: 60]}.
هذه سبب نزول الآية الكريمة، أنه كان بين منافقٍ يدعي الإيمان والإسلام، وبين يهوديٍّ خصومةٌ، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمدٍ؛ لعلمه أنه لا يأخذ الرشوة، وقال المنافق: نتحاكم إلى كعب بن الأشرف، أو إلى اليهود؛ لعلمه أنهم يأخذون الرشوة، فأنزل الله هذه الآية: ﴿ أَلَمْ تَرَ﴾ أي: تعلم يا محمد، أي: قد رأيت هذا، لما أخبرك الله بذلك، ﴿إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ﴾ [النساء: 60]، هذا من باب الإنكار عليهم ﴿وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النساء: 60]، ثم بين السبب، وهو أن الشيطان يريد أن يضلهم عن الحق ضلالًا بعيدًا، فاتفق رأيهم على أن يذهبوا إلى كاهنٍ من الكهنة، والكاهن هو الذي يَدَّعِي علم الغيب، وكان الكهنة يحكمون في أهل الجاهلية، يتخذهم أهل الجاهلية حُكامًا يحكمون بينهم، تتنزل عليهم الشياطين، هم يأخذون عن الشياطين، ويتخذهم أهل الجاهلية حكامًا بينهم، لزعمهم أنهم عندهم علمٌ، يعرفون به الحق من الباطل، أو يتعمدون هذا، الله أعلم، لكن لما كان هذا واقعًا في هؤلاء، الله أنكر عليهم، ﴿يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ﴾ [النساء: 60].

{وقيل نزلت في رجلين اختصما، فقال أحدهما: نترافع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: إلى كعب بن الأشرف، ثم ترافعا إلى عمر، فذكر له أحدهما القصة، فقال للذي لم يرض برسول الله -صلى الله عليه وسلم: أكذلك؟ قال: نعم، فضربه بالسيف، فقتله}.

هذه القصة عجيبةٌ، وعظيمةٌ، أنه كان بين يهوديٍّ وبين منافقٍّ من المنافقين خصومةٌ، فقال اليهودي: نتحاكم إلى محمدٍ؛ لعلمه أنه لا يأخذ الرشوة.
وقال المنافق: نتحاكم إلى عمر بن الخطاب، فذهبا إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه، فذكرا له القصة، فقال للذي قال: نتحاكم إلى عمر: أهكذا؟ يعني، نترك حكم الرسول -صلى الله عليه وسلم، ونذهب إلى عمر؟
قال: نعم، فأخذ السيف، وضرب عنقه، وقتله؛ لأنه كافرٌ، وهذا من عمر -رضي الله عنه- إنكارٌ للمنكر، وعمر -رضي الله عنه- هو ثاني الخلفاء الراشدين، وهو الذي لا تأخذه في الله لومة لائمٍ.
فقتله، فَدَلَّ على أنَّ مَن يُريد أن يُحَكِّم القانون، ويُلغي الشريعة، أنه كافرٌ، يستحق القتل.

{شكر الله لكم، شيخ صالح الفوزان، وبارك الله فيكم، وفي علمكم، على ما شرحتم، وأفضتم في هذه الدروس الطيبة المباركة، من دروس التوحيد، للإمام المجدد، محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله.
شكرًا لكم أنتم، أيها السادة، على متابعتكم لهذه الدروس، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك