الدرس السابع

فضيلة الشيخ أ.د. علي بن عبدالعزيز الشبل

إحصائية السلسلة

7304 9
الدرس السابع

الأرجوزة المئية

{الحمد لله وصلى الله على نبيه ومصطفاه، وآله وصحبه الأطهار، تقلُّب الليل عن النهار، أهلا وسهلا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) يشرح فيه فضيلة الشيخ/ الدكتور علي الشبل، الأستاذ الدكتور في جامعة "المجمعة"، تخصص العقيدة والمذاهب المعاصرة، يشرح لنا فضيلة الشيخ منظومة (الأرجوزة الميئية) في حال أشرف البريّة، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أهلا وسهلا بكم فضيلة الشيخ}.
وأنا كذلك أجدد الترحيب بكم، وبإخواني وأخواتي من طلاب العلم ومن عموم المشاهدين من المسلمين، وأسأل الله -جل وعلا- أن يجمعنا وإياكم على محبوباته، وأن يباعدنا عن أسباب سخطه وعقوباته، والسيرة مائدة طربة لأهل الإيمان، تُغذي قلوبهم، وتُشنِّف مسامعهم، وتعمر أحوالهم بالإيمان، وبمحبة هذا الرسول الكريم .
{أحسن الله إليكم
قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (

وَقَيْنُقَاعُ غَزْوُهُمْ فِي الْإِثْرِ ... بَعْدَ ضُحَى يَوْمِ عِيدِ النَّحْرِ
)
}.

كانت السنة الثانية من الهجرة سنة عزٍّ للمسلمين، أعزهم الله -جل وعلا- فنصرهم على عدوهم في بدر، وكانت وقعة بدرٍ في السابع عشر من رمضان، في السنة الثانية من الهجرة، وهي يوم الفرقان العظيم، كما مضى التنويه بشيء منها.
وبعد رجوعه من هذه الغزوة، أظهر الله مكنون اليهود، في حقدهم وحنقهم على الإسلام، وعلى رسوله ، وعلى المسلمين، والمتأمل -كما سبق- أنَّ النبي لَمَّا جاء المدينة كان من أول ما بدأ به أن تعاهد مع اليهود، وكانوا ثلاث قبائل: "بنو قينقاع، وبنو قريظة، وبنو النضير"، ومِنْ كشف الله لهم أنَّ الله أظهر مكنوناتهم إثر الغزوات الثلاث، فبعد رجوعه من غزوة بدر مُظفّرًا منصورًا بنصرة الله له وللمؤمنين، ظهر حقد وغل بنو قينقاع، فنقضوا عهدهم معه ، فأجلاهم من المدينة قهراً وغصباً، فذهب أكثرهم إلى خيبر، وقليل منهم ذهبوا إلى "فَدَكْ"، وتسمى الآن: "الحائط، والحويط، والشويمس"، ومنهم من ذهب إلى تَيما، ومنهم من ذهب ومَدَّ إلى الشام.
ولهذا قال: (وَقَيْنُقَاعُ غَزْوُهُمْ فِي الْإِثْرِ) غزاهم لَمَّا نقضوا العهد في إثرِ انتصاره على المشركين في بدر.
(بَعْدَ ضُحَى يَوْمِ عِيدِ النَّحْرِ) كان هذا الشأن في ضحى يوم النحر في نهاية هذا العام، عام السنة الثانية من الهجرة، كانت فيه الغزوات الآتي بيانها.
وغدرت بنو النضير بعد أُحد، كما يأتي، وغدرت بنو قريظة بعد الأحزاب، ولهذا أجلاهم النبي من المدينة، وحارب من حارب منهم حتى كان حُكم الله الذي أجراه على لسان سعد بن معاذ الأشهلي الأوسي الأنصاري -رضي الله عنه وعنهم- في بني قريظة كما يأتي.
{أحسن الله إليكم
قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (

وَغَزْوَةُ السَّوِيقِ ثُمَّ قَرْقَرَةْ ... وَالْغَزْوُ فِي الثَّالِثَةِ الْمُشْتَهِرَةْ
)
}.

غزوة السويق كانت إِثْرَ بدر في شوّال، فإن أبا سفيان لَمَّا انكسر المشركون في بدر حلف الأيمان المغلظة أن يقارع خمرًا، أو يعاشر نساء حتى ينتصر لقتلاهم في بدر، فخرج في مئتي فارس، فجاءوا إلى المدينة من جهة العُريض في شرقيها، وكان يسكن في تلك الجهات اليهود، فَكَنَّ في جبل هناك، فجاء وحده ومعه قلةٌ من أصحابه، وطرق على حيي بن أخطب فلم يفتح له حصنة، ثم طرق على "سلام بن مشكم" اليهودي ففتح له وأقراه، أي: ضَيَّفَه وأشربه الخمر، وسأله عن أحوال النبي وأحوال أصحابه، فرجع وآتى ببقية من معه فحرقوا نخلاً في تلك الجهات وقتلوا رجلين، رجلاً من الأنصار ورجلاً من أحلافهم، وتزوّد السويق. ما معنى السويق؟
هو الشعير المحموس والمطحون، والذُّرَةِ إذا حُمسَتْ، ومثلُه كذلك البُرُّ، والحِنطَة إذا حُمِسَتْ سُمِّيَتْ سويقًا، ومثلُه الدُّخُن، فحَمَلُوهُ معَهُمْ، فعَلِمَ بِهِمُ النَّبِيُّ ، فأظهرَ وراءَهُمْ يطلُبُهُمْ كوكَبةً من أصحابهِ، فلمَّا سمِعُوا بِهِمْ، سمِع بِهِمْ أبو سُفيان أنهم يطلبونهم، رموا أكياس السويق تخففًا ولتستحث ركابهم المشي والسرعة فيه، فسميت تلك الغزوة بغزوة السويق.
(وَغَزْوَةُ السَّوِيقِ ثُمَّ قَرْقَرَةْ) تسمى بقرقرة الكدر، وكانت غزوة على بني سليم في شوّال من تلك السنة، وذلك أنهم لَمَّا انتصر النبي على قريش وأحلافها، وظهر شأنه، وبرز نجمه، اجتمعت سليم تريد المكيدة للمسلمين، فأرسل عليهم كتيبةً، وجعل اللواء في يد علي بن أبي طالب، وخرج النبي معه ، وَأَمَّرَ على المدينة ابن أم مكتوم، وهو رجل أعمى من أهل القرآن، هو الذي نَوَّه الله بشأنه في قوله سبحانه: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى﴾، وهو أكثر من كان يستخلفه النبي على المدينة.
فأتى بني سليم ومن معهم من أطراف غطفان -بني فزارة وغيرهم- على مائهم، فهربوا وغنِم منهم خمسمئة من الإبل، حتى إنه نفَّل كل واحد من المجاهدين معه من أصحابه بعيرين، وكانوا نحو مائتين، وهذه تُسمَّى بقرقرة الكُدر، نسبة إلى الجبل الذي تحته هذا الماء.
{أحسن الله إليكم
قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (

فِي غَطَفَانَ وَبَنِي سُلَيْمِ ... وَأُمُّ كُلْثُومَ ابْنَةُ الْكَرِيمِ
)
}.

الغزوة الثالثة المشتهرة؛ لأن الغزوات تكررت في غطفان وبني سليم في السنة الثالثة، أي: مستهل العام الثالث في محرّم، غزاهم غير مرّة، غطفان القبيلة العربية المشهورة، وسيادتها في بني فزارة، وكان زعيمهم "عيينة بن حصن الفزاري"، فهذه الغزوات لَمَّا أَعَزَّ الله -عز وجل- دينه وأظهر على المؤمنين مِنته، بأن نصرهم وبأن أقامهم وخافتهم الناس، وكانوا يريدون كيداً للإسلام فردَّ الله كيدهم في نحورهم.
(وَأُمُّ كُلْثُومَ ابْنَةُ الْكَرِيمِ) هي ابنةُ النبي ، وهي زوجةُ عثمان بن عفان، زَوَّجَ النبي أمّ كُلثوم في أول السنة الثالثة؛ لأن مرجع النبي من غزوة بدرٍ الكبرى، توفيت ابنته رُقية، وهي الزوجة الأولى لعثمان، فزوجه أختها أمّ كُلثوم في مبدأ العام الثالث، وبقيت مع عثمان إلى العام التاسع من الهجرة، نحو ست سنين وماتت، وفيها قول النبي : «لو كان لنا ثالثا لزوجناك يا عثمان»، وعثمان هو ابن عفان بن أميّة بن عبد شمس بن عبد مناف، في طبقة النبي في النسب، فآباؤهما أبناء عمومة، فسمّي ولُقِّبَ عثمان -رضي الله عنه- بعدها بذي النورين،  الأول: رقية، والثانية: أم كلثوم.
وقد سبق لنا أنّ بناته أربع، أكبرهنّ زينب زوجة أبي العاص ابن الربيع، ثم رُقية الزوجة الأولى لعثمان، ثم فاطمة، ثم أم كلثوم.
وفاطمة زوجة عليٍّ -رضي الله عنهم- وأم كلثوم زوجة عثمان، زَوَّجَهُ إياها بعد موت أختها، وفيه أنه لا يجوز أن يجمع الرجل بين الأختين في عقد واحدٍ، إلا إذا طلق واحدة فانتهت عدتها أو ماتت إحداهما، فيجوز أن ينكِح الثانية، وهكذا في زواج المرأة وخالتها، والمرأة وعمتها، نسباً أو رضاعة لا يصح أن يجتمعا، كما نهى عن ذلك النبي .
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (

زَوَّجَ عُثْمَانَ بِهَا وَخَصَّهْ ... ثُمَّ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ حَفْصَةْ
)
}.

(زَوَّجَ عُثْمَانَ بِهَا) أي بأم كلثوم، (وَخَصَّهْ) بهذا الفضل، فصار عثمان زوجاً لثنتين من بناته ، وأين ذلك ممن يُظهر بغض عثمان من الخوارج ومن الروافض، ويعدّون زواج علي -رضي الله عنه- من فاطمة -رضي الله عنها- منقبة، فإن كانت لعلي منقبة واحدة، فهي لعثمان -رضي الله عنه- منقبتان، في زواجه من رُقية أولاً، ثم من أم كُلثوم.
(زَوَّجَ عُثْمَانَ بِهَا وَخَصَّهْ ... ثُمَّ تَزَوَّجَ النَّبِيُّ حَفْصَةْ) هي حفصة بنت عمر بن خطاب -رضي الله عنهما-، وفي زواج النبي منها قصة نوردها على عجل، فقد جاء في الصِّحاح أنه لَمَّا مات زوجها "جُذامَة أو جُذَيْمَة" ماتَ -رضي الله عنه- في أول الأمر، وعرض عُمر حفصة على عُثمان بن عفان يُزوجه إياها، فقال عثمان: ليس لي حاجة في الزواج هذه الأيام، ثم عرض الزواج من حفصها على أبي بكر الصديق، فسكت أبو بكر ولم يرد لا بإيجاب ولا بنفي، فوجد عمر في نفسه. عثمان صرح واعتذر، وأما أبو بكر فلم يُجب، فما هي إلا أيام وخطبها رسول الله ثم تزوجها، وكان ذلك بعد شهرين ونيّف من دخول النبي على عائشة.
مرَّ بنا أنَّ أول زوجاته وأم أولاده وبناته هي خديجة، ثم نكح سودة بنت زمعة، ثم نكح عائشة، ثم بعد عائشة بشهرين ونيف تزوج من حفصة! لو فعلها رجل اليوم فيجعل بين زواجه الأول والثاني شهرين ونيف، تقوم عليه الحروب الشنعاء من النساء ومن أشباه النساء، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فقال أبو بكر -رضي الله عنه- لعمر -رضي الله عنه-: لعلك وجدت في نفسك أني لم أجبك؟ قال: بلى يا أبا بكر، قال: إني سمعت رسول الله يذكرها، ولهذا لم أجبك، فإن مضى بها الرسول وإلا قبلت في هذا ما عرضت، وهذا من رقيق مشاعر أبي بكر، ومن عُمق علمه، وصدق إيمانه، وتقواه -رضي الله عنه-، والذي يبلغ النبي في قلبه المبلغ العظيم، والمكان الرَّفيع، ولهذا لَمَّا سمع النبي يتحدث ويسأل عنها؛ عَرَفَ أن له بها شف في نكاحه منها، فكانت من أمهات المؤمنين، فأراد الله -عز وجل- بحفصة وبأبيها هذا الخير العظيم.
{أحسن الله إليكم
قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (

وَزَيْنَـبًا ثُمَّ غَزَا إِلَى أُحُدْ ... فِي شَهْرِ شَوَّالٍ وَحَمْراءِ الْأَسَدْ
)
}.

تزوج النبي بعد حفصة بأشهر قليلة زينب بنت خزيمة -رضي الله عنها.
(وَزَيْنَـبًا ثُمَّ غَزَا إِلَى أُحُدْ) المشركون أغاظهم جدًا وأحنقهم كثيرًا انكسارهم العظيم في غزوة بدر، فجاءوا عام أحد بجيش عرمرم، على ميمنته خالد بن الوليد، وعلى ميسرته عكرمة بن أبي جهل، وعلى القلب أبو سفيان، وقد تشاور النبي مع أصحابه أيخرجوا إليهم أم يقاتلونهم في المدينة؟ واختلف الرأي، فمن لم يحضر غزوة بدر سمت همتهم إلى الجهاد وإلى العزة، وإلى مواجهة ومقابلة عدوهم، فأشاروا على النبي بالخروج إليه في خارج المدينة.
ومن شهدوا بدراً وعقلاء الصحابة قالوا: نقاتلهم في المدينة إذا دخلوها في سككها وطرقها، اختلفوا فدخل النبي بيته من المسجد، فلبس لَأْمَةَ الحرب، فلما خرج قال أولئك الذين تحمَّسوا للجهاد: لعلَّنا أعجلنا برسول الله ، فقالوا يا رسول الله: إن شئت قاتلناهم ها هنا في المدينة، فقال قولته المشهورة: «ليس لنبيٍّ إذا لبِس لَأْمَتَه أن يضَعَها حتى يُقاتِلَ»[1]، ولأمته يعني: عدته، ويكون ظهره بين درعين، درع في صدره درع من جهة ظهره، ووضع المغفر على رأسه والبيضة، «ما كان لنبيٍّ لبس لأمة الحربِ أن ينزعها حتى يفصل الله بينه وبين عدوه»، فخرج إلى أحد، وهو الجبل الأحمر المُعترِض من شمال المدينة إلى شمالها الشرقي، وفي الطريق رجع المنافقون على رأسهم "عبد الله بن أبي" استعظاماً لأمرٍ يسير، لكن لِمَا في قلوبهم من النفاق والحقد والغل، حتى قال عبد الله بن أُبي: يأخذ برأي الشبيبة والصغار، ويترك رأيا الشيبة والكبار، فرجع بثلث الجيش نحو سبعمئة.
ومضى النبي بالخُلَّصِ إلى أُحد، فجمع الله -عز وجل- بينه وبين عدوه، فكانت الدولة في أول الأمر للمسلمين، وقد أمر الرماة وكانوا خمسين ألا ينزلوا من جبل الرماة، وهو جبيل صغير على ضفة وادي قناة، وبينه من الجهة الشمالية ساحة متسعة إلى الجبل، أَمرهم ألا ينزلوا من هذا الجبل ولو رأوا النصر، ولكن لَمَّا أَعْمَلَ المسلمون في المشركين، ودارت عليهم الدائرة واتبعوهم، طمعوا فيما يطمع فيه الناس من الغنائم فنزلوا، فالتف فخالد بن وليد بميمنة الجيش -جيش المشركين- من ورائهم، وأطبقوا على المسلمين، فكانت الدولة على المسلمين في آخر الأمر، وكان من جرائها ما كان، من إصابته ، فقد شُجَّ في رأسه، وانكسرت البيضة في رأسه، وانغرَست حلقات المغفر في وجنته، وكسرت رباعيته ، وعلاه الدم، كادوا أن يقتلوه، وقد حفر له المنافقون الحفر في الطريق في ساحة المعركة ليهلك فيها، وأشاع الشيطان أن محمدًا قد قُتل، لِيَبث الإرجاف في قلوب المؤمنين، فالإرجاف في المؤمنين قديمًا وحديثًا، وهي الشائعات الباطلة والدعاية المُغرِضة، هي طبيعة أهل النفاق وأهل الشر، الذي يريدون منها أن يفتوا في عضد المؤمنين، ويكسروا نفوسهم وقوتهم وحماستهم للحق، هذه بضاعتهم التي يُؤذون المسلمين بها، والله -جل وعلا- يحفظ المسلمين وينصر جنده وعبده سبحانه وتعالى.
{أحسن الله إليكم.
هل كل من رجع كانوا من المنافقين؟}.
نعم، في أثناء الطريق رجع عبد الله بن أبي، ومعه من معه من أهل النفاق، منهم من لم يبلغ الإيمان مبلغه، وكان جلهم من الخزرج، ولكن ممن غُمِصُوا في النفاق.
كانت هذه معركة أُحُد في شأنها، وقال فيها أبو سفيان -في توالي هذه المعركة-، قال: أُعلُ هبل، فقال النبي : من يجيبه؟ قالوا: ما نقول يا رسول الله؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل.
قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم! هم مشركون تعلقوا بهذه الأصنام ورموز أصحابها، فقال النبي : من يجيبه؟ قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم.
ثم قال أبو سفيان: يوم بيوم، يعني أحد بيوم بدر، فقال النبي : من يجيبه؟ قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا ليس قتلانا كقتلاكم، لأن قتلى المؤمنين في الجنة شهداء، وقتلى الكفار في النار حطبٌ لها، نستجير بالله من غضبه.
وكان في هذه المعركة -معركة أحد- وما جرى من جرائها من المؤمنين وعلى المؤمنين، ما ذكره الله -جل وعلا- في سورة آل عمران: ﴿إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ﴾، ولهذا سورة آل عمران في غزوة أحد، وسورة الأنفال في غزوة بدر.
في هذه الغزوة غاب ذلك اليهود، القبيلة الثاني وهم بنوا النضير، فنقضوا العهد مع النبي ، ووجدوها فرصة حتى يحصلوا مكامن حقدهم في نفوسهم، فأجلاهم النبي من المدينة إلى خيبر، وإلى تَيما، وهذا الإجلاء الثاني لليهود -يهود المدينة- في قبيلة بني النضير بعد غزوة أحد، وكانت في شهر ربيع الأول.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (

وَزَيْنَـبًا ثُمَّ غَزَا إِلَى أُحُدْ ... فِي شَهْرِ شَوَّالٍ وَحَمْراءِ الْأَسَدْ
)
}.

حمراء الأسد كانت إثر أُحد مباشرة، فإن المشركين لَمَّا أدبروا وقالوا: موعدكم العام القادم، يريدون معركةً فاصلة، قال : «اتبعوهم ولا يتبعهم إلا من حضر المعركة»، سمعوا لرسول الله وأطاعوا أمره على ما به من الجراحات، واللأواء، والتعب، والنصب، إثر أحد، مسافة قليلة يمتحنهم الله بطاعتهم إياه وطاعتهم رسوله حتى بلغوا حمراء الأسد.
وحمراء الأسد عن موضع أحد -أنا قستها بالسيارة، تقريباً 12 إلى 13 كيلو-، وهو الموضع المرتفع عن يمين واد العقيق، للمتجه جنوبا إلى مكة، الموضع المرتفع الأحمر يسمى: بحمراء الأسد، أرضه صخرية حمراء، ومن خلفه الجبل.
فَسَمِعَتْ قريشٌ -أبو سفيان ومن معه- أن النبي يتبعهم، فوافوا أُناساً في الطريق يُرِيدُون أن يمتاروا المدينة، أي: يشترون من تمرها، فقال: أخبروا محمدًا ومن معه لئن رجعنا إليه لنستأصلن شأفته، ويخوِّفون المؤمنين ويرهبونهم، وفيها أنزل الله قوله من آل عمران: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ﴾ ورضوان الله بطاعتهم لرسوله، وبإيمانهم بالله، وبأنهم نهضوا إلى العدو على ما بهم من اللأواء والجراحات والأذى، ﴿وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ـ فما خافوا؟!
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: «حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ، قالَهَا إبْرَاهِيمُ عليه السَّلَامُ حِينَ أُلْقِيَ في النَّارِ، وقالَهَا مُحَمَّدٌ حِينَ قالوا: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾».
وحمراء الأسد تعد معركة؛ لأن الله أرهب فيها المشركين، وقالوا: لو كان بهم ما بهم من النقص والضعف لَمَا تبعونا، فدل على قوة المؤمنين، وفيه أن من مقاصد الشرع العظيمة في الشرع الحنيف مكيدة المشركين، وفَتُّ عضدهم، وكان يستغل المناسبات لذلك، ومنها معركة حمراء الأسد، ومنها مشروعية الرمل في الطواف، فإنها لإغاظة الكفار والكيد لهم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمنا الله وإياه-: (

فَالْخَمْرُ حُرِّمَتْ يَقِينًا فَاسْمَعَنْ ... هَذَا وَفِيهَا وُلِدَ السِّبْطُ الْحَسَنْ
)
}.

(فَالْخَمْرُ حُرِّمَتْ يَقِينًا فَاسْمَعَنْ) أي في السنة الرابعة من الهجرة، وقد نزل في تحريم الخمر ثلاث مراحل، تدرج فيها تحريم الخمر، وذلك أنَّ هذه الخمر كانت فاشيةً منتشرةً عند الناس وعند العرب، وهذا من حِكَمِ الشريعة الغراء، أنَّ ما كان بهذه المثابة من جهة انتشاره وذيوعه، ينزل تحريمه تدريجاً، كالجهاد نزل حكمه تدريجاً، فَنُهُو عنه في مكة، ثم أُذن لمن قُتلوا أن يقتلوا، وأن يأخذوا حقوقهم التي أخذها واغتصبها منهم المشركون، ثم نزل الأمر بالجهاد بتةً، ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾ نزل القتال ثالثاً في قتال من يلين الكفار، ثم نزل الأمر بالجهاد لما قامت للمسلمين حوزة وعزة ومنعة في أمر هذا الجهاد.
الخمر نزل تدريجها على ثلاث مراحل:
الأول: تقبيحها في النفوس وتشنيعها عند المؤمنين، ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾.
ثم حصل من بعض الصحابة أن شرب الخمر فسكر، فقرأ في صلاته: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون، فصار في هذا كفر ولكنه لم يؤخذ به لأنه بغير عقل، فأنزل الله -جل وعلا- تضيق شربها. متى؟ في الليل فقط، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ﴾، فنزل تضييق شرب الخمر، الفجر وما بعدها إلا عمل، والظهر لا يستطيع شرب الخمر لأن العصر قريبة منها، والمغرب قريبة من العصر، والعشاء أقرب منهما إلى المغرب، فلا مجال لشربها إلا في الليل.
ثم نزل بتها البتَّ التام في آية سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ فاستجاب الصحابة -رضي الله عنهم- امتثالاً لأمر الله، وطواعية له، وطاعة لرسول الله ، فقالوا -رضي الله عنهم-: انتهينا، حتى إن الواحد القدح والكأس في يده، لَمَّا نزلت هذه الآية رموا به، وشقوا قِربَهم التي فيها الخمور، وكسروا أوعيتها حتى جرت سكك المدينة بالخمر، من كثرة ما عندهم ومن سرعة امتثالهم وطاعتهم لأمر ربهم سبحانه وتعالى.
كان ذلك أنها حرِّمت الخمر، (يَقِينًا فَاسْمَعَنْ).
هذا وفيها ولِد السبطُ الحسن، فإن حسنًا بن علي وفاطمة -رضي الله عنهم- ولد في آخر السنة الرابعة، كم عمره لَمَّا مات النبي ؟ أتمَّ السادسة ودخل في السابعة، ولهذا لَمَّا مات النبي وحسن صغير، في سبع سنين في أولها، أقبل أبو بكر ومعه علي، فرأى حسنًا يلعب مع الصبيان، فأخذه الصديق أبو بكر فحمله، ثم شمه وقبله فقال: بأبي شِبْهُ النبي لا شبيهًا بعلي، اللهم ارض عنه، وعليٍّ -رضي الله عنه- يضحك، يتبسم من هذا؛ لأن الحسن بن علي كان شبيهاً في خلقته برسول الله ، جذبته من؟ أمه فاطمة، ولهذا من حُبِّ أبي بكر لرسول الله أَخَذَ هذا الصغير ملاطفاً له، محباً له، قائلاً: "بأبي" أي: يُفديه بأبي، شِبْهُ النبي، شبيها بعلي، يُعرِّضُ بعليٍّ وهو يسمع، يمازحُه ويباسطُه بذلك، رضي الله عنهم وأرضاهم.
فأول أولاد فاطمة هو الحسن، ثم الحسين، ثم أمُّ كلْثُومِ -رضي الله عنهم-.
وأمُّ كلْثُومِ زوجَها أبوها عليٌّ لمن؟ زوجها لأمير المؤمنين، أبي حفص عمر -رضي الله عنهم- لَمَّا وَجَدَه كفأً لها، وأهلاً لها، مع أنها صغيرة وعمر أَسَنُّ من أبيها، ولكنهم رجال يعرفون الرجال في معادنهم، وفي أخلاقهم، وفي مقاماتهم! لم يقل هذا أكبر مني وأصغر مني، لَمَّا كان الزوج كفأً، وهي -رضي الله عنها- كفأً له، فهي من نسل هذا البيت الشريف، بيت النبوة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمنا الله وإياه-: (

وَكَانَ فِي الرَّابِعَةِ الْغَزْوُ إِلَى ... بَنِي النَّضِيرِ فِي رَبِيعٍ أوَّلا
)
}.

في السنة (الرَّابِعَةِ الْغَزْوُ إِلَى ... بَنِي النَّضِيرِ) بعد غزوة أحد، غزاهم النبي ، فقطع نخيلهم، وخَرَّبَ بيوتهم وأحرقهم، وقتل منهم من قتل، وأجلى بقيتهم إلى خيبر، وإلى تيما، وإلى بلاد الشام، بعد غزوة أحد، وكانت في ربيع الأول.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (

وبَعْدُ مَوْتُ زَيْنَبَ الْمُقَدَّمَةْ ... وَبَعْدَهُ نِكَاحُ أُمِّ سَلَمَةْ
)
}.

(زَيْنَبَ الْمُقَدَّمَةْ) هي زينب بنت خزيمة، وزينب المؤخرة هي: زينب بنت جحش -رضي الله عنهما- من أمهات المؤمنين، ماتت زينب (الْمُقَدَّمَةْ) أي: الأولى، التي نكحها النبي بعد حفصة كما مضى، ماتت ونكح النبي أم سلمة، فمن هي أم سلمة؟
هي هند بنت أبي أميّة، وهذه صحابية جليلة، هاجرَت مع زوجها أبي سلمة، وكان من خواص النبي ، وبينهما أخوة، وبينهما مودة، هاجرَت معه إلى أرض الحبشة، وفي مرجعهم من أرض الحبشة إلى المدينة، لَمَّا بلغ المدينة فرح النبي بمقدمهم، مات أبو سلمة، فلما انقضت عدة زوجته أم سلمة، وكان النبي قد عزاها، قال: «اصبري واحتسبي، فإن لله ما أخذ وله ما أعطى» وأمرها أن تقول: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي في مُصِيبَتِي، وأَخْلِفْ لي خَيْرًا مِنْها» تقول أم سلمة -رضي الله عنها-: فكنت أقول في نفسي: أيُّ المُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِن أبِي سَلَمَةَ؟ فأنكحها الله رسوله .
خطب النبي أم سلمه فاعتذرت بعذرين:
اعتذرت بأن لها صِبيَة، وأنها امرأة غيور، لا تُطيق الجِوار، كما هو في ظاهر هذا الاعتذار، فقال لها النبي : «أما صِبيَتكِ فهم صِبيَة لي، أولاد أخي، وأما غيرتكِ فأدعو الله عز وجل أن يخففها».
تزوجها وهي شابة، عمرها نحوًا من ثلاثين سنة، فصار صبيتها: "سلمة، وعمر، وأختهم" في كنف رسول الله ، وصاروا ربائب له، وفيها تأديبه وتعليمه وحنوه على هؤلاء الأيتام، حتى إن عمر بن أبي سلمة كانت تطيش يده في الصحفة، فقال له النبي معلمًا ومؤدبًا: «يا غُلَامُ، سَمِّ اللَّهَ، وكُلْ بيَمِينِكَ، وكُلْ ممَّا يَلِيكَ»[2].
كان هذا زواج النبي من أم سلمة، والتي حجت معه حجته الوحيدة، حجة الإسلام، حجة الوداع، وكان عمرها يومئذ سبع وثلاثون سنة، أي في عنفوان شبابها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمنا الله وإياه-: (

وَبِنْتِ جَحْشٍ ثُمَّ بَدْرِ الْمَوْعِدِ ... وَبَعْدَهَا الْأَحْزَابُ فَاسْمَعْ وَاعْدُدِ
)
}.

تزوج النبي بعد أم سلمة بزينب بنت جحش، وكانت تحت مولاه زيد بن حارثة، وهي المرأة الوحيدة التي جاء ذكر اسمها صراحةً في القرآن في اسم زيد، ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا﴾ الآية من سورة الأحزاب، وكانت زينب بنت جحش -رضي الله عنها- أم المؤمنين تفتخر على نساء النبي وتقول: ﴿زَوَّجَكُنَّ أهَالِيكُنَّ، وزَوَّجَنِي اللَّهُ تَعَالَى مِن فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ﴾[3] وذلك في قوله -جل وعلا-: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا﴾.
وزيد بن حارثة، أبو الصحابي أسامه بن زيد -رضي الله عنهما- كان في أول الأمر متبنًا للنبي ، فإن زيد بن حارثة كان مولى له، اشترته له خديجة في مكة إثر غزوات العرب التي يستأسرون ويستعبدون من يأسرونهم، جاء أبوه وعمه إلى النبي يطلبون ابنهم، فقال النبي : أمره إليه، إن شاء رجع معكم، وإن شاء بقي معي.
فخيره رسول الله أن يرجع مع أبيه وعمه إلى قومه، أو أن يبقى مع رسول الله، فاختار زيد بن حارثة -رضي الله عنه- رسول الله على أبيه وعلى عمه وعلى قومه، اللهم ارض عنهم وأرضهم.
فأعلن في مكة، فقال: اعلموا أن زيدا ابني، فكان يلقب وينادى زيد بن محمد، إلى أن هاجر النبي في المدينة، وبقي ما شاء الله فأبطل التبني، فزوج زيدًا زينب بنت جحش، فأخذت معه ما شاء الله ثم طلقها، فلما قضت عدتها زوجها الله رسوله، وأبطل ما كان من عادات الجاهلية بماذا؟ بالتبني.
ولهذا تكلّم من تكلّم من أهل النفاق وأهل الضلال، قالوا: كيف يتزوج ابنة متبناه؟!
قال الله -جل وعلا-: ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ﴾ يعني: لئلا يكون على المؤمنين حرج في زواجهم ممكن كانوا يتبنونهم من أبنائهم، وفي ذلك إبطال للتبني بأصله، وإمضاء للحكم الشرعي بأصله وفرعه.
كان هذا الزواج من زينب بنت جحش، ثم كان بدر الموعد؛ لأن أبا سفيان قال في غزوة أحد بعد انتهائها: الموعد بيننا وبينكم بدر، أي: في العام الذي يليه، وهذا من باب التحدي؛ لأنَّ بدرًا أظهر الله الدائرة على عدوه، فنصر رسوله والمؤمنين، وفي أُحد كان الأمر الأول للمؤمنين ثم أدار الله الدّائرة عليهم بسبب المعصية.
قال: الموعد يوم بدر، فمضى النبي إلى بدر في موعده بعد أُحُد بسنة، ولكنَّ المشركين تلكّأوا وجبنوا ولم يحضروا، وهذا المعنى في قوله: (ثُمَّ بَدْرِ الْمَوْعِدِ ... وَبَعْدَهَا الْأَحْزَابُ فَاسْمَعْ وَاعْدُدِ).
بعد بدر جاءت معركة الأحزاب في السنة الخامسة، (واعدد) أي أنَّ هذه بعد هذه بعد هذه؛ لأن الأحزاب معركة فاصلة، أبهر الله -جل وعلا- آياته وآلائه، وامتحن المؤمنين في صبرهم وإيمانهم، وهي غزوة الخندق التي أشار فيها سلمان الفارسي بأن يخندق على المدينة خندقا، يمنعهم عن المشركين، ويكون تُرابُ هذا الخندق مما يلي المؤمنين سُترةً لهم، وهو أمرٌ لم تعرفه العرب، لأنه إنما يقع في البلاد التي فيها أنهارٌ جارية يتخندقون بها صيانةً وحفظاً لهم من أعدائهم.
وفي غزوة الخندق أنزل الله سورة الأحزاب. إذن عندنا ثلاث سور في ثلاث غزوات، سورة الأمثال في غزوة بدر، وسورة آل عمران في غزوة أحد، وسورة الأحزاب في غزوة الأحزاب، وليس كل السورة، ولكن آياتٌ عديدة متعددة في هذه السور في هذه الغزوات.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمنا الله وإياه-: (

ثُمَّ بَنِي قُرَيْظَةٍ وَفِيهِمَا ... خُلْفٌ وَفِي ذَاتِ الرِّقَاعِ عُلِمَا
)
}.

(ثُمَّ بَنِي قُرَيْظَةٍ) أي: بعد الأحزاب، وما فرَّق الله شأنهم؛ لأن الأحزاب هم أربع جهات: قريش وأحلافها، وهوازن من الطائف، فيهم ثقيف ومن معهم، وغطفان على رأسهم عيينة بن حصن الفزاري الغطفاني، ويهود بني قريظة. هؤلاء الأربعة تحزبوا على رسول الله وعلى المؤمنين، لَمَّا أظهر الله فشل هؤلاء بالخدعة التي بدأ بها "نُعيم بن مسعود الثقفي رضي الله عنه" بإذن النبي له أن يفت عضدهم، بقوله: الحرب خدعة، وذلك أنه أتى اليهود، وأتى المشركين مُحرِّشاً بينهم، مظهرًا لهؤلاء غدر هذا ومظهراً لأولئك غدر هؤلاء، فقالت له يهود: ما تأمرنا؟ قال: اطلبوا من المشركين عشرة من أبنائهم رهائن عندهم، حتى لا يغدروا بكم ولا ينكفُّوا عنكم. وقال المشركين إن يهودا بدأ فيهم بادئ الغدر والخيانة، وسيطلبون منكم عشرة فلا تعطوهم. فمشى بين هؤلاء بليل، فأوضع بينهم بهذه الخديعة، وفيها قول النبي : «الْحَرْبَ خَدْعَةً»، وفيها إجازة الكذب الذي في الأصل أنه محرم في مواضع الحرب.
فَرَّقَ الله الأحزاب بعدما زلزل المؤمنون زلزالاً شديداً، وأَجرى الله عليهم ما أجرى من آياته وآلائه، ثم أعَزَّ رسوله، ووضع النبي السلاح فجاءه جبريل وقال: «أوضعتم السلاح فإنَّا لم نضعه. قال: إلى أين؟ قال: إلى بني قريظة»، فحثَّ النبي أصحابه الحث العظيم فقال: «ألا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلَّا في بَنِي قُرَيْظَةَ»[4]، وكانت بنو قريظة في جنوب المدينة، وهي جنوب مسجد قُبَاء، ما زال يُسمَّى ذلك الموضع وحرتها بحرة بني قريظة، ينطقها الناس في المدينة "حرة بني جريضة" فاستحثَّ الصحابة -رضي الله عنهم-، فمنهم من أدركتهم صلاة العصر فصلّوها في الطريق، وقالوا: إنما أراد بنا النبي الإسراع وحث المسير.
وآخرون قالوا: لا نصليها إلا في الموضع الذي أمرنا النبي ، فغربت الشمس عليهم في الطريق وصلّوا العصر بعد غروب الشمس، صحح النبي سلم هؤلاء وهؤلاء؛ لأن كلا الفريقين مجتهدان، ولكن من أصوبهما؟!
من صلّوها في الطريق نظروا إلى المقصد، وهو أن يستحثوا المسير وألا يتأخروا، فصَوَّبَ هَؤْلَاء وهؤلاء، وهذا أصلٌ شريفٌ عند أهل العلم في تسويغ الاجتهاد من أهله، فإذا وقع الاجتهاد من أهله فإنَّ صاحبه مأجورٌ على اجتهاده وإن أخطأ، ومأجورٌ الأجران إن اجتهد وأصاب.
وكان في بني قريظة ما ذكره الله لنا في سورة الحشر، أنهم لَمَّا حوصروا بلغ بهم الخوف مبلغه، فرضوا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ الأشهلي؛ لأن بني قريظة كانوا أحلافا له قبل الإسلام، وكان سعد -رضي الله عنه- أصابه سهم غرب في كاحله، فلم يبرأ جرحه، فأمر النبي بإحضار سعد بن معاذ، فجيء -رضي الله عنه- به محمولاً على حمار، فلما أقبل تعرَّضت له بنو قريظة، عرَّضوا نساءهم وشيبانهم وذراريهم وأطفالهم، لعلهم أن يسترقوا قلبه، وأن يسترحموا خاطره عليهم.
فلما أقبل قال النبي وقد جاء محمولا به على حمار: «قوموا إلى سيدكم» أي: فأعينوه بإنزاله، سعد لم يسمع ذلك من النبي ، وهو سيدهم لأنه سيد بني عبد الأشهل سيد الأوس.
قاموا فأنزلوه، وصار -رضي الله عنه- بجوار النبي ، فقال: إنَّ هؤلاء القوم أبوا حُكم الله، وأبوا حُكمي، ونزلوا على حُكمك، فاحكم فيهم يا سعد، أي: في بني النضير ما ترى؟
فنظر في وجوه الذين حضروا، ونظر في المسلمين، فقال: أحكم فيهم بأن تُقتل مُقاتلتهم، وأن تُسبى ذراريهم، وأن تُؤخذ أموالهم، وكان رجالهم نحوًا من سبعمائة -ما هو بقليلين- فاستنار وجه النبي واستهل. وقال: يا سعد وافقت فيهم حكم الله من فوق سبعة أرقعة، أي: السماوات السبع الطباق، في إشارة حسية حقيقية إلى علو الله على خلقه.
وافق حكم سعد حكم الله بما هدى الله إليه سعدًا، فما لبث سعد -رضي الله عنه- أن مات، ومن حب النبي له أَن أَمَرَ أن يُمرض عنده في المسجد، فضربت له خيمة، وفوجئوا ذلك اليوم والدم يسيل، فقال المسلمون: ما هذا الدم؟ قالوا: هذا سعد قد مات، أي انفتق عليه جرحه في كاحله فجرى الدم حتى مات، فحزن المؤمنون عليه، وبشّر النبي أنه اهتز لموت سعد عرش الرحمن، أي: فرحًا وطربًا بموته، وارتفاع روحه إلى السماء، وقال : «إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَمَّة وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ نَاجِيًا مِنْهَا نَجَا مِنْهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ»[5]، وه سعد بن معاذ الأشهلي من بني عبد الأشهل، الأوسي من الأوس، الأنصاري -رضي الله عنهم- وعن المهاجرين وعن المسلمين.
وفي سعد بن معاذ عِبرة، فقد عاش في الإسلام ست سنين، وكانت له هذه المكانة، وهذا الشأن في جهده وجهاده، وإيمانه وصلابة توحيده، وصدق عقيدته التي رفعته هذه المنازل العُلَى من الجنة.
اللهم ارض عن سعد، وارض عن الصحابة، وارض عن المؤمنين، واجمعنا بهم في دار الكرامة يا رب العالمين.
لعلنا نقف عند هذا الموقف، ونسأل الله -جل وعلا- لنا ولكم أن يسلك بنا وبكم صراطه المستقيم، وأن يخالفنا أصحاب الجحيم، وأن يجعلنا من المتبعين المحبين لرسول الله ولصحابته الغر الميامين، فيجمعنا بهم في دار كرامته، غير خزايا ولا ندامة، نسأل الله ذلك لنا ولكم، ولوالدينا ووالديكم، ومشايخنا، وولاتنا، وذرارينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
{الحمد لله رب العالمين. جزاكم الله خيرًا فضيلة الشيخ، والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين، على أمل اللقاء بكم في حلقة أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
--------------------------
[1] أخرجه البخاري معلقاً قبل حديث (7369) مختصراً، والنسائي في ﴿السنن الكبرى﴾ (7647)، وأحمد (14829).
[2] أخرجه البخاري (5376)، ومسلم (2022).
[3] أخرجه البخاري (7420)
[4] رواه البخاري (4119)، ومسلم (1770).
[5] رواه أحمد (6/55 ،98).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك