الدرس الرابع
فضيلة الشيخ أ.د. علي بن عبدالعزيز الشبل
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله وكفى، وصلاة وسلاما عن النبي المجتبى، وعلى آله وصحبه أجمعين.
حياكم الله مشاهدينا الكرام، في حلقة جديدةٍ من برنامج (جادة المتعلم) نصطحبكم في هذه الحلقات في شرح "الأرجوزة الميئية في ذكر حال أشرف البرية"، للعلامة الشيخ/ علي ابن أبي العز الحنفي الدمشقي، وسيشرحه لنا -بإذن الله تعالى- في هذه الحلقات فضيلة الشيخ/ علي الشبل.
باسمي وباسمكم جميعاً نرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله فضيلة الشيخ}.
وأنا كذلك أجدد الترحيب بكم، وعبر الأثير بإخواني وأخواتي من طلاب العلم، محبي نبينا محمد ﷺ في هذا المجلس، والذي نرجو أن يكون من مجالس العلم والهدى والذكر، التي ينفعنا ويرفعنا الله -عز وجل- بها في الدنيا والآخرة، إنه سبحانه جواد كريم.
{أحسن الله إليكم. توقفنا شيخنا عند البيت الخامس والعشرين}.
نعم، استعن بالله.
{بسم الله الرحمن الرحيم.
قال المؤلف -رحمه الله-: (
ثُمَّ مَضَتْ عِشْرُونَ يَوْمًا كَامِلَةْ ... فَرَمَتِ الْجِنَّ نُجُومٌ هَائِلَةْ
ثُمَّ الْوُضُوءَ وَالصَّلاَةَ عَلَّمَهْ ... جِبْرِيلُ وَهْيَ رَكْعَتَانِ مُحْكَمَةْ
)}.
بعد الأمر بتوحيد الله، وتعليمه أمر التوحيد بقوله -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ وتأسيس هذا الأمر عليه، فإن دين الإسلام، بل دين الله -جل وعلا- كله الذي بَعَثَ به رسله -عليهم الصلاة والسلام- قام على أساس توحيد الله بإفراده بالعبادة وحده دون ما شريك، نزل بعدها فرض الصلاة، والصلاة لا تصح إلا بوضوء بإجماع المسلمين، وأساس الإجماع ومستنده، جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي ﷺ قال: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ»، وفي آية المائدة يقولُ الله -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ﴾ [المائدة:6].
(ثم الوضوء) أي: فعل الوضوء؛ لأنَّ الوُضوء هو الفعل، والوَضوء هو الماء المتوضئ به.
(والصلاة) أي: كيف يُصلي، (علَّمَه) من المُعلم، ومن المُعلم؟ المُعلم هو جبريل -ﷺ-، والمُعلم نبيُّنا ﷺ.
(وهي ركعتان مُحكَمَة)، أول ما فرض الصلاة ركعتان، كما جاء ذلك في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: «فَرَضَ اللَّهُ الصَّلَاةَ حِينَ فَرَضَهَا، رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، في الحَضَرِ والسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ، وزِيدَ في صَلَاةِ الحَضَرِ» . فأول ما فرضت الصلاة الرَّباعيَّة ركعتين، حتى استقرَّت الشريعة على أنَّ الظُّهرَ والعصرَ والعشاءَ أربع ركعات، والفجرَ ركعتان، والمغرب ثلاث ركعات.
قوله: (ثُمَّ مَضَتْ عِشْرُونَ يَوْمًا كَامِلَةْ) أي: بعد فرض الصلاة، وبعد ما كان من هذا التشريع العظيم، الذي أنار الله -عز وجل- به هذه البسيطة، فَزعت الجن؛ لأنَّ السماء مُلئت نجوماً وشُهُباً، وأُلقي بها على مُسترق السمع، وهذه من الإرهاصات في بعثته ﷺ، وإرهاص آخر على عظيم وحي الله الذي ألقاه إليه، ﴿مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا﴾، ما الشهاب؟
الشهاب في طبيعته نوعان، أعظمه وأكثره نُجُمٌ وشُهُبٌ يقذف الله -جل وعلا- بها مُسترق السمع من الجنِّ والشياطين، الذين يدلون إلى أوليائهم من الكُهان، وهم شياطين الإنس، كما جاء ذلك في الصحيح، أن النبي ﷺ أنه قال: إنّ مُسترق السَّمَع يسترقونه من السَّمَاء، بعضهم على بعضٍ كهكَذا إلى أن يبلغوا السَّمَاء، فيتصنَّتون بما أوحي -بما أنزل- فيُلقيها الجنِّي الأعلى على من تحته، وعلى من تحته، فربما أدركه الشهاب في السَّمَاء، وربما وصل وقرقرها هذا الجنيُّ إلى وليه من الكُهّان، فببعثته ﷺ ثم بتتابعِ إنزال الوحي عليه، كَثُرَ الرميُّ بالشُّهب، وَكَثُرَ الرميُّ بالنُّجوم، والشُّهب هي نُّجوم مشتعلة يُقدف بها هؤلاء الجن مُسترقي السمع، ﴿وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ﴾.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
ثُمَّ دَعَا فِي أَرْبَعِ الْأَعْوَامِ ... بِالْأَمْرِ جَهْرَةً إِلَى الْإِسْلاَمِ
)}.
اللهم صلِّ وسلِّم عليه، صلاةً وسلامًا أبدين دائمين إلى يوم الدين.
بعد إسراره بالدعوة أربع سنوات، وتُسمَّى بمرحلة الدعوة سرًّا في مكة، بدأت أول ما بدأت مع من آمن من أصحابه، وقد ذكرنا في المجالس السابقة أنَّ أول من آمن من الرجال أبو بكر، هو أول من آمن على الإطلاق، ويقال من النساء: خديجة، وأول من آمن من الصبيان: علي -رضي الله عنه-، ثم بدأوا يتتابعون، وقد أتى أبو بكر بجلة الصحابة، فأسلم على يديه: عثمان وغيره، حتى كان ابن مسعود خامس خمسة، وكان النبي ﷺ يختلي بهم سرًا.
ومضى معنى أنه اختلى بهم في غار في مِنَى، وأنزل الله -عز وجل- فيه عليه سورة المرسلات، ولَمَّا كثر عددهم وبقيه الدعوة سرًا فكانوا يجتمعون في دار الأرقم بن أبي الأرقم -رضي الله عنه- ويُلقي لهم الوحي ويعلمهم ﷺ، إلى أن عزَّ هذا الدين باثنين، وهما: الفاروق عمر بن الخطاب، وحمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنهما- فخرجا في صَفَّين: صفٌ عليه حمزة، والآخر عليه عمر، فجهر النبي ﷺ بدعوة الله، وأبان وأظهر دين الله في الصلاة والطواف بالبيت، استجابةً لأمره -سبحانه وتعالى- ((فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ)) [الحجر:94].
صدع بدعوته، فرقى ﷺ على جبل الصفا، وجبل الصفا جبيل أسود صغير في حُضن جبل أبي قبيس، وهو أقرب الجبال إلى الكعبة، إذن الكعبة هي المرتكس والمركز.
رقى على هذا الجبل فنادى قريشًا بطنًا بطنًا، يا بني فلان، يا بني فلان، ثم قال: يا بني هاشم اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئًا، ثم نادى أعمامه: يا عباس بن عبد المطلق، يا صفية عمَّةَ محمد، يا فاطمةَ بنتَ محمد، وهذا التعيين لأنَّ الله أمره أن يُنذِر عشرته الأقربين، وأمره أن يَصدع بدعوته وأن يُعرض عن المشركين، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً.
بل قال قبلها: لو أخبرتكم أن عيراً وراء هذا الجبل تريدُ أن تصبِّحكم أو تمسّيكم، أمصدقي أنتم؟ قالوا: ما عهدنا عليك كذباً؟ اللهم صلِّ وسلم عليه. قال: فأنا النذير العُريان، النذير الذي ينذر غيره، العريان لأنه يتخفّف من ملابسه ليركض، فيسرع في إبلاغ قومه النذارة، وما يحوط بهم من الخطر، أنا النذير العريان، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً. قُولُوا: لا إله إلا الله تُفلحوا، فقال عمُّه عبد العزَّى، من عبد العزَّى؟ إنه أبو لهب، قال: تبًّا لك ألهذا جمعتنا؟
وهذا كان من أشدّ ما يكون على النبي ﷺ في مُناوءة عمّه له، وعبد العزَّى شقيقٌ لأبيه عبد الله، وهو أبو لهب، كُنِّيَ بذلك؛ لأنّ وجهه مُشتدٌ في بياضه وحُمرته كأنّه لهبة ضوء، ولكن هذا الجمال وهذا البهاء كساه بظلمة الكفر والشرك، والعناد والتكذيب والتتبيب للنبي ﷺ، وأنزل الله فيه ما يحفظه المسلمون، هذه السورة فيه وفي زوجه أم جميل، أروى بنت حرب بن أمية بن عبد شمس، بن عبد مناف، وهي حمَّالة الحطبُ، أخت أبي سُفيان -رضي الله عنه- ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ﴾ [المسد:1-5].
استمرت الدعوةُ سرا أربع سنين أو نحوها، ثم أمرهُ الله بالصدع، ويا الله كيف امتثل أمر ربه بالإسرار أولاً، ثم امتثل أمر ربه بالجهر، والإعلان بالدعوة ثانياً؟! والله يحفظه في هذه وفي تلك، والله -عز وجل- حافظٌ دينه، وحافظٌ رسله، وحافظٌ أولياءه، والمؤمنون أولياء الله، ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحج:38].
والدعوة إلى دين الله سرًّا ليست خاصةٌ بنبينا في مكة، بل كلُّ ظرفٍ في الزمان والمكان يُشابه هذا الظرف، الذي بدأ به النبيُّ دعوته في صولة الباطل وشدته على الحق، فإنه يُسلَكُ معه هذا المسلَك؛ فتكون الدعوة سرًّا وخُفية، إلى أن يتيسَّر الإعلانُ بها.
ولهذا من تأمل في هذه السيرة العطرة، وهذا النَّهج النَّبوي في الدعوة، بدأ بالتحنُّث، ثم نزل عليه الوحيُّ، فبدأ بالدَعوة سرًا، ثم جهارًا، ثم كانت المرحلة الفاصلة التي غيرت وجه الدنيا بأمر الله لنبيه بالهجرة من مكة إلى المدينة. قبلها الهجرتان اللتان أمر بها أصحابه المُستضعَفين، الذين آذاهم مُشركوا قريش ومشركوا مكة، وتعنَّتوا عليهم أيما تعنُّت فأمرَهم بالهجرتين إلى الحبشة، حيث ملكٌ لا يُظلم عنده، وإن كان على غير دين الإسلام، لكنه أقرب إلى الإسلام من دين الوثنية والمشركين اللهم صلِّ وسلِّم عليه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
وَأْرَبَعٌ مِنَ النِّسَا وَاثْنَا عَشَرْ ... مِنَ الرِّجَالِ الصَّحْبِ كُلٌّ قَدْ هَجَرْ
)}.
هذه الهجرة الأولى، وكانت بعد مضي ست سنوات أو أقل بقليل من دعوته ﷺ.
عَظُمَ أذى المشركين على رسول الله ﷺ وعلى المؤمنين، حيث خالفوهم في دينهم، وزعموا أنهم سفهوا أحلام آبائهم، وشتموا آلهتهم، فلما عظم ذلك رأى ﷺ فيمن حواليهم وإن كانت المسافة بعيدة، أين يأمن هؤلاء على دينهم؟ فأمر هؤلاء الأولين في المهاجرين إلى الحبشة أن يهاجروا إليها، والحبشة اسم لبلاد أثيوبيا وما حواليها من أطراف السودان الجنوبية، وإريتريا وأطراف الصومال، كلها تُسمَّى بلاد الحبشة، وكانت تحت ملكٍ من كبار الملوك يُقال له: النَّجاشي، فكل من مَلَكَ على الحُبش يُسمى بالنَّجاشي. ومن ملك على القبط في مصر يُسمَّى بالمقوقس، ومن ملك على الفرس يُسمَّى بكسرى، ومن ملك على الروم يُسمى بقيصر، وأما أسماؤهم فبحسَبِها.
كسرى كان يسمى: أنو شروان، وهرقل، والنجاشي، أصحمَة، الذي آمنَ في آخرِ حياته، فنجَّاهُ الله -جلَّ وعلا- من الديانة المُحرفة المبدلة إلى التوحيد.
من هاجرُ؟ الذين هاجرُ اثنا عشر من الصحابة وأربع من النساء، هاجروا الهجرة الأولى إلى الحبشة، قال فيهم:
(وَأْرَبَعٌ مِنَ النِّسَا وَاثْنَا عَشَرْ ... مِنَ الرِّجَالِ الصَّحْبِ كُلٌّ قَدْ هَجَرْ)
أي هاجر إلى بلاد الحبش -إلى أرض الحبشة- وسبب ذلك أنه ملكٌ عادلٌ لا يُظلم عنده أحد.
وهكذا بكل زمان، إذا لم يستطع المؤمن أن يظهر إيمانه ويعبد ربه في بلده، يُهاجر إلى بلدٍ يستطيع فيها إظهار دينه. هجرة إلى بلد المسلمين هي الواجبة، وإن لم يتيسر فإلى غيرهم ممن يظهر فيها دينه. هجرته إلى بلاد المسلمين هي الواجبة، وإن لم يتيسر فإلى غيرهم ممكن يظهر فيها دينه، وهجرة غير المسلمين واجبة إلى بلدان المسلمين ليُظهروا الدين، وأما إذا أمكن للكافر الأصلي الذي آمن في بلده، أن يُظهر دينه في بلده، فهجرته مُستحبة متأكد استحبابها غير واجبة.
ومثله يُقال في المسلم، إذا كان في بلده لا يستطيع ظهار دينه، فإنه يُهاجر إلى أقرب بلد من المسلمين يُظهر فيها دينه، ومظهار الدين ومظاهره أعظمها في توحيد رب العالمين، وفي ترك والحذر من الشرك وطرائقه وأهله ومظاهره.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
إِلَى بِلاَدِ الْحُبْشِ فِي خَامِسِ عَامْ ... وَفِيهِ عَادُوا ثُمَّ عَادُوا لاَ مَلاَمْ
ثَلاَثَةٌ هُمْ وَثَمَانُونَ رَجُلْ ... وَمَعَهُمُ جَمَاعَةٌ حَتَّى كَمُلْ
)}.
الهجرة الأولى إلى بلاد الحبشة كانت في السنة الخامسة في أواخرها، وبقوا فيها ما شاء الله، ثم عاد منهم من عاد بغير ملامة، ومنهم من عاد لِمَا سمعوا من الدعاية أن قريشاً آمنت، وهذه الشائعات المغرِضة تفتُّ في الناس أيما فت، ولهذا عظم أثرها وعظم خطرها واشتد النكير فيها، ولهذا في حديث سمره بن جندب -رضي الله عنه- في الرؤية التي رآها النبي ﷺ، وهو في الصحيحين، قالَ: «فانْطَلَقْنا، فأتَيْنا علَى رَجُلٍ مُسْتَلْقٍ لِقَفاهُ، وإذا آخَرُ قائِمٌ عليه بكَلُّوبٍ مِن حَدِيدٍ، وإذا هو يَأْتي أحَدَ شِقَّيْ وجْهِهِ فيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إلى قَفاهُ، ومَنْخِرَهُ إلى قَفاهُ، وعَيْنَهُ إلى قَفاهُ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إلى الجانِبِ الآخَرِ فَيَفْعَلُ به مِثْلَ ما فَعَلَ بالجانِبِ الأوَّلِ، فَما يَفْرُغُ مِن ذلكَ الجانِبِ حتَّى يَصِحَّ ذلكَ الجانِبُ كما كانَ، ثُمَّ يَعُودُ عليه فَيَفْعَلُ مِثْلَ ما فَعَلَ المَرَّةَ الأُولَى قالَ: قُلتُ: سُبْحانَ اللَّهِ ما هذانِ؟»
قال: «فإنَّه الرَّجُلُ يَغْدُو مِن بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الكَذْبَةَ تَبْلُغُ الآفَاقَ» .
رجعَ بعضُ المُهاجرين إلى الحبشة الهجرة الأولى أو جلهم، وقد ظنُّوا أنَّ قريشًا آمنت، وتبينَ لهم أنَّهم لم يؤمنُوا، فمنهم من رجع، ومنهم من دخلَ مُستخفِيًا ونالَه ما نالَه من قومِهِ ومن رَهطِهِ ومن قرابته من الأذى.
ثم كانت الهجرة الثانية وعددها أضعاف ما في الهجرة الأولى، الهجرة الأولى اثنا عشر رجلا من الصحابة ومعهم أربع من النساء، ومجموعهم ستة عشر.
وأما في الثانية: ثمانون رجل وثلاث عشرة من النساء، رجعوا مرة ثانية إلى الحبشة، وكان رئيسهم في الهجرتين جميعاً جعفر بن عبد المطلب، وكان أشبه الناس بالنبي ﷺ خَلقاً وخُلقاً وقريباً من سِنِّة.
لو قال قائل: لماذا لم يهاجر رسول الله؟
رسول الله لم يهاجر لأمرين:
الأول: لأن الله لم يأذن له بذلك.
الثاني: لأن له حَمية، فعمه أبو طالب ورهطه بنو هاشم يحمونه أن ينال منه الكفار، ما أراد الكفار من النَّيل والكيد والأذى والقتل لنبينا ﷺ، في هاتين الهجرتين همَّ أبو بكر أن يُهاجر، بل رغب في ذلك، فأبدى همه ورغبته للنبي ﷺ أن يلحق بأصحابه الذين هاجروا إلى الحبشة، فأمره النبي ﷺ أن يتريث. وقال: اصبر يا أبا بكر فلعلَّنا أن نُؤمر بالهجرة جميعًا.
وفي هذا مكانة أبي بكر عند النبي ﷺ، وفي هذا أيضًا، أنَّ الصبر على البلاء أعظم، وفي هذا أيضًا أنَّ الله -جل وعلا- أراد الكرامة بأبي بكر وبرسول الله ﷺ، إذ كانت بعد ذلك هجرتُهما الهجرةُ الفاصلة الناقلة التي غيَّرت الدنيا ووجه الدنيا بهذه الدعوة.
المهاجرون للحبشة الهجرتين الأولى والثاني لهم منقبة، ولهذا يُذكرون -رضي الله عنهم- وكلهم من المُهاجرين، يُذكرون فيُشاد بهم أنهم من أصحاب الهجرتين إلى الحبشة. وعادوا بعد ذلك تباعًا.
الهجرة الأولى عاد منها من عاد لَمَّا سمعوا الدعاية، والثانية عادوا على فترات، ومنهم من عاد بعد مهاجر النبي ﷺ إلى المدينة، حتى كان آخر من قَدِمَ عليه، فلم يبقى في الحبشة أحد من هؤلاء المهاجرين، قدموا على النبي ﷺ صُحبة جعفر بن أبي طالب، مرجع نبيِّنا ﷺ من غزوة خيبر، وذلك في السَّنة السَّابعة من الهجرة، وفيها قوله ﷺ: والله ما أدري بأيِّهما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ومن معه؟ من حبه لأصحابه الذين غادروه أكثر من عشر سنين، بل ربما ثنتا أو ثلاث عشرة سنة.
وهؤلاء -رضي الله عنهم- نالهم من الفضل ما نالهم، وكان في الحبشة محاولاتٌ لقريش في ردهم، حتى بَعَثوا ممن بَعَثوا عمرو بن العاص، ومعه أبو البُختري أو عبد الله بن أميّة -شك منّي الآن- معهم الهدايا إلى القساوسة، وإلى قوّاد جيش النجاشي وإلى أعوانه، حتى يُلينوا بهذه الرشاوى قلوبهم؛ ليُميلوا قلب النجاشي لتحقيقهم طلبتهم في إرجاع هؤلاء الذين هاجروا إليهم من سفهائم كما زعموا، تركوا دينهم وفارقوا قومهم إلى آخر ما ذكروا.
وفي تلك العدالة التي أظهرها الله لهذا الملك -النجاشي أصحَمة- أنه سمع من الطالبين من عبد الله بن أمية وعمرو بن عاص، ثم أحضر هؤلاء الذين هاجروا إلى بلده، وكان المتحدث فيهم هو جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- فقرأ على النجاشي لَمَّا قال ما عندكم؟ ما شأنكم؟ وقد ادّعى أُولئكَ عليهم بالدّعاوى أنّهم فارقوا دينهم، وأنّهم سفّهوا أحلامهم، إلى شنشنة المشركين في دعاياتهم الباطلة والمُغرِضة.
فقرأ عليه صدراً من سورة مريم ﴿كهيعص﴾، وهذا من فقه جعفر، ومن حمله للعلم، وهكذا الذي يتكلم في المشاهد وفي مفاصل الأمور وأيضًا عند انعقادها، هم أهل العلم، فمن فقهه أنه قرأ السورة التي فيها ذكر عيسى وأمه -عليهما الصلاة والسلام-؛ لأن الملك على دين عيسى، نعم طرأ على دين عيسى عند الأرثوذكس والذين منهم الأحباش -منهم قوم الحبشة- طرأ عليها التبديل والتحريف، ومنها اعتقادهم أن عيسى ابن لله، وأنه صلب، وأن أمه إلهة، ولهذا يدعونها ويستغيثون بها ويسألونها، فقرأ عليه هذه السورة وبكى. بكى من؟ النجاشي هو من بكى! فلما انتهى كان معه عُود، قال: والله ما زدت على ما كان في عيسى مقدار هذا.
تناخر عنده البطارقة والشمامسة، وردَّ مندوبي قريش خاسرين باطلين لم يحصلا مما جاءا به شيء، وأسكت وزراءه ودهاقنته، وقال لجعفر ومن معه: اذهبوا فأنتم سيومٌ في أرضي، أي آمنون مطمئنون لا يؤذيكم أحد.
كان أحد هؤلاء وهو زوج الصحابية الجليلة أم المؤمنين، رملة بنت أبي سفيان، كان زوجها عبيد الله بن جحش، قد ترك الإسلام ودخل في دين النصرانية، ومات على دينهم، وفيها زَوَّجَ النجاشي أم حبيبة رمله بنت أبي سفيان رسول الله ﷺ بعد هجرته من مكة إلى المدينة، وأمهرها من عنده مهرًا عن رسول الله ﷺ، مما يدل على طمأنينة قلبه بالإيمان وبالحق، التي توّجها -رحمه الله- بعد ذلك بإيمانه إلى أن مات النجاشي في السنة التاسعة من الهجرة، فنعى النبي ﷺ النجاشي، أي: أخبرهم بموته، وخرج بأصحابه إلى المصلى، فكبر عليه أربعًا صلاة الغائب، على هذا الملك العادل، الذي أمن المؤمنون عنده في هجرتَيهم الثنتين إلى الحبشة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
وَهُنَّ عَشْرٌ وَثَمَانٍ ثُمَّ قَدْ ... أَسْلَمَ فِي السَّادِسِ حَمْزَةُ الْأَسَدْ
)}.
(وَهُنَّ عَشْرٌ وَثَمَانٍ ثُمَّ قَدْ) يعني: الهجرة في شأنها والمؤمنون في تتابعهم وإسلامهم، أسلم في السادس (حمزة الأسد)، أي: في السادس من بعثته ﷺ، وكانوا يؤرخون بالبعثة، ثم استقرَّ تأريخ الصحابة بالهجرة، فكان التأريخ بما استقر عليه عمل الصحابة، وأجمعوا عليه بمهاجر النبي ﷺ.
(عشر وثمان)، أي: ثماني عشرة، في شأن المهاجرات إلى الحبشة، أسلم حمزة، وفي قصة إسلامه على اختصار، أنَّ حمزة شجاعٌ وفارسٌ، وكثير ما يذهب من مكة إلى الصيد، تعدَّى أبو جهل -عمرو بن الحكم- على النبي ﷺ وآذاه، وتحدَّث الناس بهذا الأذى بما أسمع أبو جهل رسول الله من الكلام الفاحش، تناقل الناس ذلك، وجاء حمزة متوشحاً نبله ومعه سلاحه، فلقيَّته امرأة، فقالت: أما بلغك ما صنع عمرو بالحكم بابن أخيك؟
قال: وما صنع؟ فذكرت أنه تجاوز على النبي ﷺ وسبَّه واعتدى عليه، فغاظ ذلك حمزة وأثار الحمية فيه، فلم يذهب إلى بيته ولا إلى أهله، وكان حمزة رضيع النبي ﷺ، هو أسن من النبي بمديدة يسيرة، ولهذا هم أخوين من الرضاعة، بل ذهب إلى مجلس زعماء قريش وصناديد الكفر بدار الندوة، فدخل متوشحاً قوسه، فتوجَّه إلى أبي جهل، قال: أتسبُّ محمدًا وأنا على دينه، فأخذ قوسه ولطم بها رأس أبي جهل فأدماه، فتواثب الناس، تواثبوا ليمنعوا حمزة من ذلك، فقال أبو جهل -وهذا من عقل الكافر ومن مروءته-: دعوا حمزة! فإني نلت من ابن أخيه وأكثرت.
وهذه بالمناسبة شيمة عند العرب، حتى في الحرب، في العداوة عندهم قدرٌ من الشيمة وإن لم تنفع صاحبها في الآخرة. انظر إلى شيمة الشاعر الجاهلي عنترة بن شداد، وهو يقول:
وَأَغَضُّ طَرفي ما بَدَت لي جارَتي ... حَتّى يُواري جارَتي مَأواها
يعني: يأنَف أن ينظر إلى جارته ويكشف عورتها وهي جارته وهو على الكفر، ولكن حمله على ذلك الشيمة والحمية.
أسلم حمزة بسبب ذلك، وإلا أصلها حمية، ثم أعلنها إسلامًا بعد ذلك، وكان في هذا عزًا للإسلام.
نبيُّنا ﷺ لا يعلم الغيب، وكان يدعو الله أن يعزَّ الإسلام، يعزَّ دينه بأحبِّ العمرين إليه، من العمران؟ عمرو بن الحكم -أبو جهل- لقوته وشكامته وزعامته، وعمر بن الخطاب، وفيه قوةٌ وشكيمة وزعامة -رضي الله عنه- فكان أحبَّ العُمرَين إلى الله: عُمرُ بن الخطاب ببركة دعوة النبي ﷺ، وبإسلام عُمر ظهرت الدعوة من حال السرِّية بمكَّة إلى العلنية والإجهار بها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
وَبَعْدَ تِسْعٍ مِنْ سِنِي رِسَالَتِهْ ... مَاتَ أَبُو طَالِب ذُو كَفَالَتِهْ
)}.
إسلام عُمر له قصة نمر عليها على عجالة، وهو أنه أقبل عمر يريد أن يفتك برسول الله لما سمع أنهم في دار الندوة، فلقيه من لقيه، قال: أين تريد؟ قال: أريد هذا الذي فرق كلمة قريش، وسبَّ آلهتهم، وسفّه أحلامهم، فقال: وما شأنك به فدونك أختك وزوجها فهم على دينه، فاستشاط غضبًا؛ لأن أخته فاطمة وزوجها ابن عمه، سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل، فأقبل إلى بيته، فسمع القرآن، وكان عندهم من يعلمهم القرآن، فلما قرع الباب مزمجراً بصوته ارتعدوا، فأدخلوا من يعلمهم القرآن من الصحابة وأخفوه عن عمر، وواجهته أخته وزوجها، فتحا له الباب وهو مغضب، فقال: أصبأتم عن دينكم واتبعتم دِين محمد، فوقفت له أخته وقفة عِزَّةِ الإيمان وقوة التوحيد، قالت: آمَنَّا بالله وتركنا مع عليه المشركون فلطمها على وجهها لطمة، قيل: إنه أَدْمَى منها وجهها، هذه اللطمة مرحلةٌ فاصلة في حياة عمر، ندم من أن يلطم أخته، وأن يلطم امرأة، واشتدَّت هي -رضي الله عنها- في الحق.
جلس عمر لَمَّا أراد الله -عز وجل- له خيرًا، وأراد لقلبه إيمانًا وهدى، وندم فقال: ما كنتم تقرأون قبل أن أقدم عليكم؟ قالت: كنا نقرأ القرآن، قال: أرينيه، قالت: أنت رجل نجس، القوة في هذا المقام تنفع، قوة في الحق، وعدم ممايهة ومجاملة في إظهاره، وهذا الواجب على أهل الإيمان، أن توحيدهم لله، وإفرادهم له بالعبودية، وحذرهم وتحاذرهم من الكفر والشرك لا يقبل المزايدة ولا المجاملة، قياماً لله -عز وجل- بحقه، بل بأعظم حقه بالتوحيد، وأعظم ما نهى عنه هو الشرك.
ثمَّ إنَّ زوجَها قرأَ عليه من القرآن، ففتح الله بذلك قلبَ عمر، ورغبَ في هذا الدِّين وآمن، وقال: أين رسولُ الله؟ وخرجَ من بيت أخته، وقد أمرَته أن يتطهر، وأن ينزع عنه ثيابه ويلبس ثياباً جديدة ويغتسل، وذهب هو وابن عمّه إلى رسول الله ﷺ في بيت الأرقم بن أبي الأرقم.
قوله: (وَبَعْدَ تِسْعٍ مِنْ سِنِي رِسَالَتِهْ) أي: بعد البعثة بتسع سنوات، بين التاسعة والعاشرة، مات أبو طالب ذو كفالته؛ لأن أبا طالب وهو عم رسول الله ﷺ وأكبر أولاد عبد المطلب، كان حفيًّا برسول الله كافلا له بعد عبد المطلب، فإن عبد المطلب مات ولنبينا ﷺ ثمان سنين، وأوصاه أن يَكفل محمدًا، فقام أبو طالب بهذه الكفالة على وجهها، حمية على وصية أبيه عبد المطلب، ولأن ابن أخيه في هذه الحال من حالات اليتم، واليتيم في شرعنا، بل وفي لغة العرب من فقد أباه، ومن باب أولى إذا فقد أباه وفقد أمة، حَدَبَ أبو طالب ظهره على النبي ﷺ ثلاثًا وأربعين سنة، فمات أبو طالب ولنبينا ﷺ نحو خمسين سنة، رجح المصنف أنها في السنة التاسعة، والأكثر على أنها في آخرها، أي: في أول السنة العاشرة من بعثته ﷺ.
مات أبو طالب وبعده بثلاثة أيام ماتت خديجة، فأثر ذلك تأثيراً عظيمًا بالغًا على نبينا ﷺ، فأبو طالب ظهره بخارج بيته مع الناس، وخديجة هي أُنسه في بيته، ومسلَى همِّهِ مِمَّا يُلاقيهِ من الناس في دعوته للهِ -عز وجل-.
أبو طالب كانت له المواقف العجيبة في تأييد النبي ﷺ، حاول المشركون مراتٍ وكراتٍ أن يُوهِنوا هذا الركن الشديد، وأن يُضعِفوا هذا الظَّهَر الذي حدَب على النبي ﷺ، مرةً بذكر دين عبد المطلب ودين آبائه، ومرةً بذكر آلهتهم، وهو سيد الحرم، وفي كلٍ لم ينقصوا أبا طالب من شرف السيادة، حتى في حصارهم لبني هاشم وبني المطلب في الشعب -شعب أبي طالب ثلاث سنين- المحاصرة الاقتصادية والاجتماعية، فلا يُبايعُوا ولا يُهَبُوا ولا يُناكَحُوا حتى يُسلمُوا رسول الله ﷺ، وهو ما ردَّ الله به كيد المشركين.
ثبتَ نبيُّنا على ذلك، وثبتَ أبو طالب حمية لابن أخيه، وإن كان أبو طالب نفسه يعلمُ صدقَ نبيِّنا ﷺ، وصحَّة دينه، وأنه خيرُ دين، كيف وهو القائلُ؟
وَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينا
لَولا الْمَلَامَةُ أوْ حِذَارُ مَسَبـَّةٍ ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينًا
فَاصْدَعْ بِأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةً ... وَأَبْشِرُ وَقَرَّ بِذَاكَ مِنَّ عُيُونا
ولهذا ما الذي منع أبا طالب أن يؤمن، وقد علم أن محمد ودين ابن أخيه خير دين؟
لولا الملامة، يعني: أن تلحقه ملامة أحدٍ أنه خالف دين آبائه وأجداده، أو -هذا العُذر الثاني- حِذار مسبَّةٍ، أي: أن يجلب المسبَّة على من؟ على آبائه وأسلافه وعلى قومه وعلى آلهته، وهو القائل في قصيدته اللامية المشهورة التي حق أن تكون من المعلقات، وقالها بعدما بلغ حصار كفّار قريش لبني هاشم وبني المطّلب في الشِّعب، حتى يسلموا محمدًا ﷺ، والتي قال فيها:
لقَدْ عَلِمُوا أنَّ ابْنَنا لا مُكذَّبٌ ... لَدَيْنا ولا يُعْنى بِقَوْلِ الأباطِلِ
حَليمٌ رَشيدٌ عادِلٌ غُيْرُ طائِش ... يُوالي إلهاً ليسَ عَنْهُ بِغافِلِ
فَوَاللَهِ لَولا أَن أَجيءَ بِسُبَّةٍ ... تَجُرُّ عَلى أَشياخِنا في المَحافِلِ
يُقال بِسُبَّةٍ، ويُقال: بِسِبَّةٍ.
لَكُنّا اتّبَعناهُ عَلى كُلِّ حالَةٍ ... مِنَ الدَهرِ طُرًّا غَيرَ قَولِ التَخازُلِ
وفيها يُعرضُ بقومه، ويذكر مشاعر الحجيج.
جَزى اللَهُ عَنّا عَبدَ شَمسٍ وَنَوفَلاً ... عُقوبَةَ شَرٍّ عاجِلاً غَيرَ آجِلِ
لأنَّ عبدَ شمس بن عبدِ مناف، ونوفل بن عبدِ مناف، خذلُوا من؟ خذلوا بني هاشم بن عبدِ مناف، والمطلب بن عبدِ مناف، ولهذا قال ﷺ: «إنَّما بَنُو المُطَّلِبِ وبَنُو هَاشِمٍ شَيءٌ واحِدٌ» ، لما كان من هذا الشعب.
{أحسن الله إليكم شيخنا، هلا ذكرتم لنا قصة وفاة أبي طالب}.
في قول الناظم: (وَبَعْدَ تِسْعٍ مِنْ سِنِي رِسَالَتِهْ ... مَاتَ أَبُو طَالِب ذُو كَفَالَتِهْ)
أبو طالب شيخ كبير، أدركه الهرم، وأدركه الموت، وهو ما زال في شِعبه إثر انفكاك الحصار بمديدة، سمع النبيُّ ﷺ باحتضار عمّه، فجاء مسرعًا يجرُّ إزاره، وعنده ثلاثةٌ من المشركين، أبو جهلٍ، وعبدُ الله بن أميّة، وأبو سُفيان قبل أن يُسلم، فجلس عند رأسه وقال: «يا عمّاه قل كلمةً أحاج لك بها عند الله، قل: لا إله إلا الله» فقال أبو جهل: يا أبا طالب أترغب عن دين عبد المطلب؟! دغدغ مشاعر حميته على آبائه وأحلامهم، والتي كانت سببًا لمنع هدايته!
لَولا الْمَلَامَةُ أوْ حِذَارُ مَسَبَّةٍ ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحًا بِذَاكَ مُبِينًا
فكان آخر ما قال أبو طالب: لا، هو على دين عبد المطلب، وفاضت روحه بذلك، فأثر ذلك أثرًا عظيمًا على نبينا ﷺ وبكى، كيف يفوته عمُّه ولا يهتدي بدعوته وقد اهتدى بها الأبعدون؟ فقال: «لا أزال أستغفر لك ما لم أُنهَ عنك»، فأنزل الله -عز وجل- تأنيباً لنبيه ولأتباع نبيه، ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص:56]، فهداية التوفيق وهداية الإلهام لله وحده دون ما شريك.
وأما هداية البيان والدلال والإرشاد فهي للرسل -عليهم الصلاة والسلام- وهي لأتباعهم من العلماء والدعاة إلى الله على حقٍ وبصيره، ولا يلزم من حصول الدعوة في دلالتها وبيانها وإرشادها حصول الهداية في الإلهام والتوفيق؛ لأن من لم يهديه ربه فلن يهتدي، ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ الآية في سورة الأنعام، ولقد سأل عمه العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- قال: يا رسول الله أبو طالب فعل وفعل، يُذَكِّرهُ بحدب ظهره عليه، وحميته وحنوه على رسول الله قبل بِعثته وبعد رسالته، فهلا نفعته بشيء؟
قال ﷺ: «نَعَمْ، هو في ضَحْضَاحٍ مِن نَارٍ»، وقال: «له نَعْلانِ وشِراكانِ مِن نارٍ، يَغْلِي منهما دِماغُهُ كما يَغْلِ المِرْجَلُ، ما يَرَى أنَّ أحَدًا أشَدُّ منه عَذابًا وإنَّه لأَهْوَنُهُمْ عَذابًا» يعني: أبو طالب يرى نفسه أشد الناس عذابًا. وقال: «لَوْلَا أنَا لَكانَ في الدَّرَكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ»، وهذه شفاعة خاصة لأبي طالب لكن لا تنفعه، فوافقت عموم قول الله -جل وعلا-: ﴿فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ﴾ [المدثر:٤٨]، نعم. خُفِف عنه العذاب، ولكنه يرى في نفسه أنه أشدُّ الناس عذابًا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
وَبَعْدَه خَدِيـجَةٌ تُوُفِّيَتْ ... مِنْ بَعْدِ أَيَّامٍ ثَلاَثَةٍ مَضَتْ
)}.
(وبعده) أي: بعد وفاة عمه أبي طالب بثلاثة أيام توفِّيت خديجة أم المؤمنين، الزكية النقية السيدة العاقلة الموفَّقة، التي بشرها ربي بواسطة جبرائيل ببيتٍ في الجنة من قصبٍ، لا نصب فيه ولا وصب ، درَّة مُجوَّفة، هي بيت خديجة وقصرها في الجنة.
(بعده) أي: بعد أبي طالبٍ خديجةٌ توفِّيت.
(مِنْ بَعْدِ أَيَّامٍ ثَلاَثَةٍ مَضَتْ) ويالله كيف صار الأمر على النبي ﷺ؟ يموت عمه، ثم تموت خديجة، لَمَّا مات أبو طالب، جاءه علي -رضي الله عنه- وقال: يا رسول الله هلك الشيخ، أي: مات، يعني: أباه، فما أصنع به؟ قال: «اذهب فواره»، أي: ادفنه، فلم يذكر تغسيلاً ولا تشيعاً، ولا صلاة عليه؛ لأنه على غير ملة الإسلام، خلافًا لمن زعم أنَّ أبا طالب مؤمن، حميةً لعلي أن يكون أبوه غير مؤمن، لكن الجهل يجرُّ جهلًا، والظلمة تدرك ظلمات كثيرة.
بموت أبي طالب وموت خديجة، ضاقت الأمور واشتدت على النبي ﷺ، وبسببها خرج إلى الطائف، وهذه عبرة لنا أتباع نبينا ﷺ، أنَّ الشدائد مهما عظمت، وأن الكروب مهما اقتربت، وأن المحن مهما تكاثرت، إلا والفجر بعدها أبلج، وإلا فاليسر بعدها مُقبل، ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، وهذه سنة الله المضطردة في أوليائه، أنه لا يَعقب الشدة إلا فرجا، ولا يعقب العسر إلا يسر، ولا يعقب المحن إلا انبلاج، فما هي إلا لحظات ومدد يسيرة، إن صبر في هذه الشدائد والمحن ظفر في الدنيا قبل الآخرة. اللهم صلِّ وسلِّم على رسول الله.
{أحسن الله إليكم.
قالَ -رحمه الله-: (
وَبَعْدَ خَمْسِينَ وَرُبْعٍ أَسْلَمَا ... جِنُّ نَصِيبِينَ وعَادُوا فَاعْلَمَا
)}.
(وَبَعْدَ خَمْسِينَ) من سن النبي ﷺ، يعني بعد البعثة بعشر سنين، أسلم جنُّ نصيبين، ونصيبين موضع في أطراف بلاد الشام مع بلاد تركيا، الآن قريبة من الحدود الجنوبية لتركيا، وهي داخل بلاد الترك في ديار بكر، كان فيها جنًّا هاجروا أو سافروا، فلقوا النبي ﷺ في وادي نخلة، وهو بين الزيمة وبين قرن الثعالب، واستمعوا لقراءته القرآن، وكانوا على الأشهر تسعة، وقيل: سبعة، وأنزل الله فيهم الآيات من سورة الأحقاف، ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ﴾، وأنزل فيه هذه السورة، ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾.
وهؤلاء الجن مسافرون، قالوا: أرادوا اليمن، فلما مروا وسمعوا قراءة النبي ﷺ للقرآن، وقفوا وتأثروا وأمنوا، وكان من إيمانهم أنهم ولَّوا إلى قومهم منذرين، رب ﴿إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى﴾ أي: بعد التوراة والإنجيل، وكانوا على هذه الحال فاعلَمَ أنهم آمنوا، ورجعوا إلى قومهم منذرين، دعاةً إلى توحيد الله، حتى ذكرَ بعض المؤرِّخين أن آخر من توفِّي منهم بعد مئين من السنين من موت النبي ﷺ، إن صحَّ ذلك.
وفيه عموم بِعثة نبينا إلى الإنس والجن، إلى عموم المكلَّفين، كما قال -جل وعلا-: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ وليقول الله -جل وعلا-: ﴿لِأُنْذِرَكم بِهِ ومَن بَلَغَ﴾ أي: من بلغه نذارة القرآن، وهذا فيه خصوصية نبينا بعموم بعثته، ليس إلى البشر خاصة، بل إلى الإنس والجن المكلَّفين.
والصحيح من كلام العلم أنَّ الجنَّ ليس فيهم رسل، وإنما منهم نُذُر، خلافاً لِمَا ذهب إليه الضحاق بن مزاحم -رحمه الله تعالى-.
{أحسن الله إليكم شيخنا}.
لعلنا نقف عند هذا البيت، ونكمل بإذن الله في الحلقة القادمة}.
إن شاء الله، نسأل الله التوفيق، وأن يسلك بنا وبكم صراطه المستقيم، ويرزقنا حسن الاقتداء، وحسن التأسي بنبينا محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه، والحمد لله رب العالمين.
{أحسن الله لكم فضيلة الشيخ، وكتب الله أجركم.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على حسن استماعكم، ونراكم -بإذن الله- في حلقات أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
9168 9
-
20932 9