الدرس التاسع

فضيلة الشيخ أ.د. علي بن عبدالعزيز الشبل

إحصائية السلسلة

9167 9
الدرس التاسع

الأرجوزة المئية

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله وصلّي أبدًا، على النبي الهاشمي أحمد، وآله وصحبه مقدارًا، غيثٍ تأتّى من سحابٍ سارا، أهلا وسهلا بكم أعزاءنا المشاهدين في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) يشرح لنا فيه فضيلة الشيخ الدكتور/ علي بن عبد العزيز الشبل متن (الأرجوزة الميئية) في ذكر حال أشرف البرية، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم. نرحب وإياكم بفضيلة الشيخ.
أهلا وسهلا بكم فضيلة الشيخ}.
حياكم الله وبياكم أنتم وجميع أخواني وأخواتي من المسلمين المسلمات، وجعله لقاء طيباً مُباركاً ينفعنا ويرفعنا الله به في الدنيا والآخرة.
{أحسن الله إليكم.
قال المؤلف -رحمنا الله وإياه-: (
ثُمَّ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ عَقَدْ ... وَمَهْرَهَا عَنْهُ النَّجَاشِيُّ نَقَدْ
وَسُمَّ فِي شَاةٍ بِهَا هَدِيَّةْ ... ثُمَّ اصْطَفَى صَفِيَّةً صَفِيَّةْ)
}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، هذا البيت ليس موجوداً في بعض نسخ الميئية في ذكر حال أشرف البريّة
(وَسُمَّ فِي شَاةٍ بِهَا هَدِيَّةْ ... ثُمَّ اصْطَفَى صَفِيَّةً صَفِيَّةْ)، (بها هدية) يعني: أهديت للنبي تلك السنة شاة مسمومة من امرأةٍ من أهل خيبر، غاظها وأغاظها وحَنَقَهَا ما كان من مقتل من قتل فيها، واستحلال بلادها، ومُلك النبي لها.
نهس النبي نهسةً من ذراع الشاة، ثم تكلَّم هذا الذراع بأنه مسموم فتركه، وقد أكل من هذه الشاة بعض المسلمين فماتوا، فكان هذا السمُّ لم يزل له أثر حتى كان أوان انقطاع الأبهر منه لَمَّا مات في السنة العاشرة.
(وَسُمَّ فِي شَاةٍ بِهَا هَدِيَّةْ ... ثُمَّ اصْطَفَى صَفِيَّةً صَفِيَّةْ)، اصطفى صفية بنت حيي بن أخطب، وكانت مع السبي في نوبة أحد الأنصار، فقال له النبي : دعها وخذ واحدةً بدلها، وصارت هي في صفيِّ رسول الله وهو الخمس، فاختلف الناس هل هي زوجة أو أنها سُرِّية، فلما سترها برداء علموا أنها زوجة، فنكحها بعد خيبر، وهي أم المؤمنين من أجمل نسائه -رضي الله عنها وعنهن، وعن جميع الصحابة والقرابة-.
{قال -رحمه الله وإياه-:
(وَقَبْلُ إِسْلاَمُ أَبِي هُرَيْرَةْ ... وَبَعْدُ عُمْرةُ الْقَضَا الشَّهِيرَةْ
ثُمَّ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ عَقَدْ ... وَمَهْرَهَا عَنْهُ النَّجَاشِيُّ نَقَدْ)
}.
(ثم أتت)، يعني: أمُّ حبيبه، (ومن بقي مُهاجِرًا ... وَعَقْدُ مَيْمُونَةَ كَانَ الآخِرَا) أتَى من الحبشة جعفر بن أبي طالب بمن بقي من المسلمين، وقبل نزولهم من البحر وافوا الأشعريين، فقدموا جميعاً على النبي مرجعهم من خيبر، فضرب لهم فيها من سهامها، وقال: ما أدري بما أفرح، بفتح خيبر أم بقدوم جعفر ومن معه؟ وكانت أم حبيب ممن قدمن مع جعفر، وكان آخر عقد عقده النبي عن نسائه هي: ميمونة بنت الحارث الهلالية العامرية، وهي أخت أم الفضل "لبابة بنت الحارث"، زوجة عمه العباس، وأم عبد الله وإخوانه -رضي الله عنهم-، وهي خالة خالد بن الوليد.
عقد عليها النبي بعد عمرة القضاء الآتي بيانها، وكان الرسول بينهما ابن أبي أوفى، وقد عقد عليها النبي وهي حلال، وما قاله ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي عقد عليها وهو حرام، وحمله ومن حمله على خصوصية هذا، هو قول مرجوح، وابن عباس كان صغيراً وقتها، عشر سنين، وَمَيْمُونَة تَقُول: «عَقَدَ عَلَيَّ النَّبِيُّ وَأَنَا حَلَالٌ».
وقبل إسلام أبي هريرة أسلم في السنة السابعة، وبعد عمرة القضية الشهيرة -عمرة القضية هي عمرة القضاء والمقاضاة، وكانت في ذي القعدة من السنة السابعة، أي: بعد خيبر؛ لأنه تعاهد مع أهل مكة أن يأتي معتمرًا من العام القابل، ومعه السيوف في جُربها.
وتأمل أن عُمَرَهُ كلها في ذي القعدة، في أشهر الحج، عمرة الحديبية، ثم القضاء، ثم عمرة الجعرانة، كما يأتي ثم عمرته مع حجة الوداع، وهذا في فضل العمرة في أشهر الحج على غيرها.
ولَمَّا قَدِم النبي معتمراً في السنة الثامنة قالت قريش: يأتيكم محمد ومن معه وقد أوهنتهم، أي أضعفتهم وأمرضتهم حمى يثرب، بلغ ذلك النبي فأمر أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة الأولى. ما الرمل؟ هو الإسراع بالمشي مع مقاربة الخطى، وليس الرمل هو هز الأكتاف، كما نراه من بعض الأعاجم وبعض الناس.
وكانوا إذا أتوا بين الركن اليماني والحجر الأسود مشوا؛ لأنهم بعيدين عن نظر أهل مكة في دار الندوة، فلمَّا رأوهم يرملون قالوا: أين هؤلاء الذين أهلكتهم حمى يثرب؟ إنهم كأنهم الظباء، أي في طوافهم -وفي هذا كما سبق نظيره- مُكايدة العدو المشرك وإغاظتهم، كما حصل في معركة أحد، وكما حصل في هذا الموضع.
{حسناً يا شيخ. إذا كان الرمل لمكايدة العدو، هل تبقى مشروعيته؟}
نعم تبقى مشروعيته؛ لأن أصل السعي أيضاً من فعل سارة، وبقيت مشروعيته بإقرار الشريعة له، يبقى الرمل مستحباً في كل طواف قدوم، أو طواف عمرة، وليس في جميعها.
{قال -رحمه الله-:
(وَالرُّسْلَ فِي مُحَرَّمِ الْمُحَرَّمِ ... أَرْسَلَهُمْ إِلَى الْمُلُوكِ فَاعْلَمِ)}.
لَمَّا تعاهد مع المُشركين أرسل الرُّسل في شهر الله المُحرَّم، وكان عقد الحُديبية في ذي القعدة من السنة السادسة، وفي السنة السابعة راسل النبي المُلوك، أرسل إلى النجاشي ملك الحبشة، وكل من ملك على الحبشة سمى "نجاشي"، وأرسل إلى المُقوقس صاحب مصر، وكانت عاصمتهم في الإسكندرية، وكان زعيم القبط، وأرسل إلى المنذر بن ساوي ملك البحرين، وأرسل إلى كسرى يزدجرد ملك الفرس، ومزق كتاب النبي ، فدعا النبي عليه أن يمزق الله مُلكه؛ لأنه فعل ذلك كبراً وعناداً.
وأرسل كتابه مع دحية الكلب إلى هرقل، فدفعه إلى صاحب إيليا، الذي أوصله إلى صاحبه هرقل في دمشق.
(وَالرُّسْلَ فِي مُحَرَّمِ الْمُحَرَّمِ ... أَرْسَلَهُمْ إِلَى الْمُلُوكِ فَاعْلَمِ) وفيه أن شهر الله المحرم شهر حرام، والنبي خص فيه إرسال الرسل؛ لأنَّ هذا الشهر من تعظيم الله فيه توحيده، والدعوة إليه.
{قال -رحمنا الله وإياه-: (وَأُهْدِيَتْ مَارِيَةُ الْقِبْطِيَّةْ ... فِيهِ وَفِي الثَّامِنَةِ السَّرِيَّةْ)}.
أُرسلت له مارية القبطية، أرسلها صاحب مصر المقوقس، فإنه بعث إلى النبي بثلاث جواري، وقيل: بجاريتين وببغلتين وبكسوة، فتسرّى النبي بماريّة القبطية، وأعطى حسان بن ثابت أختها التي معها، وأنجب من ماريّة القبطية ابنه إبراهيم.
وبغلته التي استفادها من المقوقس تُسمى: "دُلدُل"، بقيت عنده حتى مات.
(وَفِي الثَّامِنَةِ السَّرِيَّةْ) التي بعثها إلى مؤته لتأديب الروم ومن بجهاتهم من بلقاء الأردن من الغساسنة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (
لِمُؤْتَةٍ سَارَتْ وَفِي الصِّيَامِ ... قَدْ كَانَ فَتْحُ الْبَلَدِ الْحَرَامِ)
}.
وفي الثامنة السرية لمؤتة، ومؤتة اسم موضع في بلد الأردن الآن، (سارت) أي: هذه السرية، وأَمَّرَ عليهم جعفر بن أبي طالب. قال: فإن مات فزيد بن حارثة -حبه-، قال: فإن مات فعبد الله بن رواحة، وفيه أن جعفر قطع الكفار يده اليمنى فأخذ الراية باليسرى، ثم قطع يده اليسرى فضمها إلى صدره، فقيل جعفر الطيار؛ لأن الله أخبر نبيه أنه أبدله بيديه المقطوعتين في سبيله جناحين يطير بهما في الجنة.
وفيها نعاه ، قال: أخذ الراية جعفر بن أبي طالب فقُتل، ثم أخذها زيد بن حارثة فقُتل، ثم أخذها عبد الله بن رواحة فقُتل، ثم أخذها خالد بن الوليد، فأنجى الله على يديه المسلمين، وبكى على فقده، وأمر أهله أن يصنعوا لآل جعفر طعامًا. لمن؟ لزوجته أسماء بنت عميس، وابنه عبدالله بن جعفر وبنتيه -رضي الله عنهم-، «اصنَعوا لأهْلِ جعفرٍ طعامًا، فإنَّهُ قد جاءَهُم ما يشغلُهُمْ» ، وليس فيه أنه دعا الناس إلى الطعام عند آل جعفر، ما قال ذلك؟ وإنما خصّهم بالإطعام لكونه أتاهم ما يشغلهم.
وكان فيه الصيام في شهر الصيام في رمضان من السنة الثامنة فتح مكة، حيث سار النبي في رمضان، فصام أكثر الطريق حتى بلغ موضع يسمى "كُراع الغَميم" بين عِسفان وبين الجموم، أَفْطَرَ لما بلغ هذا الموضع، إذن أكثر من ثلثي الطريق أو ثلاثة أرباع الطريق وهو صائم، ثم أفطر وأفطر من معه، ليكون فطرهم أقوى لهم على الجهاد.
فتح الله -عز وجل- عليه مكة في السنة الثامنة من الهجرة في رمضان، في العشر الأواخر منه، تحديداً في الثاني والعشرين من رمضان.
دخل مكة والمغفر على رأسه، وقد طأطأ رأسه وهو جاء فاتحاً، طأطأ رأسه حتى إن المغفر ليصيب مورك رحله، وهو خاضعٌ خاشعٌ لله، وكان حول البيت ثلاثمائةٍ وستون صنماً، ومر عليها ومعه عود ينكزها بين عينيها، ويقرأ: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾.
وكان سبب فتح مكة أنَّ قريشًا نقضت عهدها، فإنَّ خزاعة كانت حِلفًا للنبي ، وكانت بَكرا حلفًا لقريش، فقتل رجل من بكرٍ آخر من خُزاعة، وتمالأت معه قريش، فجاء سيد خزاعة إلى النبي يستميله، وجاء أبو سفيان مُعتذراً ولم يقبل النبي عذره، وسار بعشرة ألاف من أصحابه، وأمرهم لَمَّا قدموا على مر الظهران أن يُوقِد كل واحد منهم ناراً، وهذه من الدعاية الُمِفَّتة لعضد المشركين، فامتلأ الأفق بالنيران، فقال أبو سفيان: والله ما لنا بهؤلاء طاقه، وأمر النبي عمه العباس لَمَّا أن أحسَّ من أبي سفيان إيمانا وقبولا أن يُوقفه، وأن تعرض عليه كتائب الإسلام، وتمر عليه الرايات -رايات القبائل والكتائب- فقال: ما لي ببني فلان وآل فلان، حتى مرَّ عليهم أقوام لبسوا الحديد لم يُر منهم إلا حدق العيون، قال: والله ما لهؤلاء من مدفع.
وفيه أنَّ النبي رَغِبَ في إسلام أبي سفيان، حتى إنَّ عمه العباس وكان قد أسلم قال: هلا نفحت أبا سفيان بشيء، فإنه يحب الفخر، فقال مناديًا في أهل مكة: «من دخل داره فأغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن» ولم يلقَّ إلا جيوباً من المقاومة استأصلها بمن معه من المؤمنين، وفتح الله عليه هذا البلد، وخطب الناس وقال: إنَّ هذا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ يَومَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ، فَهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ، وإنَّه لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فيه لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لي إلَّا سَاعَةً مِن نَهَارٍ، فَهو حَرَامٌ بحُرْمَةِ اللهِ إلى يَومِ القِيَامَةِ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقِطُ إلَّا مَن عَرَّفَهَا، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا، فَقالَ العَبَّاسُ: يا رَسولَ اللهِ، إلَّا الإذْخِرَ»، الإذخر النبتة المعروفة التي يسميها الناس اليوم بـ الساف، وهي إذا يبُسَت اتُخذت وِلعَة، لأنها طيبة الرائحة، سريعة الاشتعال «فإنَّه لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ، فإنَّه لِقَيْنِهِمْ ولِبُيُوتِهِمْ، فَقالَ: إلَّا الإذْخِرَ» .
{أحسن الله إليكم
قال -رحمه الله: (
وَبَعْدَهُ قَدْ أَوْرَدُوا مَا كَانَ فِي ... يَوْمِ حُنَيْنٍ ثُمَّ يَوْمِ الطَّائِفِ)
}.
بعد فتح مكة بأسبوعين أو ثلاثة خرج إلى حُنين، ومعه المسلمون ومن هم قريبو عهد بإسلام. أين حُنين التي خرج إليها النبي ؟ هي الشرائع -شرائع النخل- القريبة من مكة من الجهة الشرقية، خرج النبي إليها، يقول أبو واقد الليثي -رضي الله عنه-: خرجنا مع رسولِ اللهِ إلى حُنينٍ ونحن حُدثاءُ عهدٍ بكفرٍ، وللمشركين سدرةٌ يعكفون عندَها -يعني: يرجون منها البركة- وينُوطون بها أسلحتَهم، يُقالُ لها: ذاتُ أنواطٍ، فمررنا بسدرةٍ فقلنا: يا رسولَ اللهِ اجعلْ لنا ذاتَ أنواطٍ كما لهم ذاتُ أنواطٍ، فقال : «اللهُ أكبرُ إنها السننُ، قلتم والذي نفسِي بيدِه كما قالت بنو إسرائيلَ لموسَى: اجعلْ لنا إلهًا كما لهم آلهةٌ» .
وذلك أنَّ ثقيفاً ومن معها من أحلافها وهوازن وغيرهم وعامر بن صعصعة تجمعوا لقتال النبي في حُنين، وجاءوا بأولادهم ونسائهم وذراريهم، وجاءوا بأنعامهم، فكانت الدائرة في أول الأمر على رسول الله وعلى المؤمنين لَمَّا أعجبتهم كثرتهم، كما قال -جل وعلا- ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا﴾؛ لأنَّ العبرة ليس بالسبب يُعوَّل عليه، وإنما يُعتمد على مسبب الأسباب -سبحانه وتعالى-.
اتخاذ الأسباب سبب، وأمَّا حصول المسبب بالنصر والتوفيق فمن الله سبحانه.
أدار الله الدائرة على أهل حنين في أوطاس، وعلى ثقيف، وعلى مالك بن كعب بن زعيمهم فاضطردهم المسلمون، منحوا رقابهم يقتلون منهم ويأسرون، وكان عدد الأسارى والذراري والسبايا ستة آلاف، وكان عدد الإبل المغنومة عشرة آلاف، والغنم ثلاثون ألف غير الذهب والفضة.
هذه غزوة حنين التي كانت مباشرة في شوّال من السنة الثامنة من الهجرة بعد فتح مكة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (وَبَعْدُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ اعْتِمَارُهْ ... مِنَ الْجِعِرَّانَةِ وَاسْتِقْرَارُهْ)}
بعد حنين كانت غزوة الطائف، سارع حتى حاصرها ؛ لأنها مقر ثقيف وهوازن ومن لفّ لفّهم، ورماها بالمنجنيق، وتدلَّى منها الصحابي الجليل نُفيع بن الحارث الثقفي، الملقَّب بأبي بكرة؛ لأنه تدلَّى ببكرة من الحصن فلحق بالنبي ، ولم يفتحها حتى جاءت ثقيف وجاءت هوازٍن بعد ذلك مؤمنة ومسلمة.
(وَبَعْدُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ اعْتِمَارُهْ ... مِنَ الْجِعِرَّانَةِ وَاسْتِقْرَارُهْ) بعد حُنَين وتقسيم غنائمها -غنائم أوطاس- وانتظر مُدَّةً لعَلَّهم أن يأتوا فيسلموا فيرد عليهم أموالهم، ويرد عليهم سبيهم، اعتمر في الجِعرانة، وفي ذلك التقسيم اعترض عليه ذلك الجِلفُ الأعرابي الجافي "عبدالله ذو الخويصرة"، فقال: يا رَسولَ اللَّهِ، اعْدِلْ، فَقالَ: «ويْلَكَ! ومَن يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ؟! قدْ خِبْتَ وخَسِرْتَ إنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ. ألَا تَأْمَنُونِي وأَنَا أمِينُ مَن في السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحًا ومَسَاءً»، واستأذن خالد رَسولَ اللَّهِ، أن يضْرِبَ عُنُقَهُ؟ فَقالَ: دَعْهُ، فإنَّ له أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مع صَلَاتِهِمْ، وصِيَامَهُ مع صِيَامِهِمْ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد، هم كلاب النار، هم شر قتلة تحت أديم السماء» ، وهذا في حديث الخوارج، رواه مسلم من عشرة أوجه، عن أبي سعيد الخدري، وعن أبي أمامة الباهلي وغيرهم، وعن علي، وروى منه البخاري وجهًا واحدًا.
اعتمر من الجِعرَّانة ، ويقال لها: الجِعْرَانة، ويقال: الجِعِرَّانة، وهي حد الحرم من جهة الشرق، تبعد عن الكعبة ستة عشر كيلاً، وكانت في ذي القعدة عمرته (مِنَ الْجِعِرَّانَةِ وَاسْتِقْرَارُهْ) بمكة تلك الأيام، حتى رجع منها إلى المدينة .
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (
وَبِنْتُهُ زَيْنَبُ مَاتَتْ ثُمَّا ... مَوْلِدُ إِبْرَاهِيمَ فِيهَا حَتْمَا)
}.
(وَبِنْتُهُ زَيْنَبُ مَاتَتْ ثُمَّا) أي: في تلك السنة ماتت زينب زوجة أبي العاص بن الربيع -رضي الله عنهم- ماتت في المدينة، ثم بعدها (مَوْلِدُ إِبْرَاهِيمَ) وقوله: (حَتْمَا) أي: قولا ً راجحاً حتَّمه المُصنف في قوله.
وقد ولد إبراهيم في السنة التاسعة -في أولها- جاءت به مارية القبطية، ومات إبراهيم في السنة العاشرة مرجع النبي من الحج، وقيل: إنه ولد قبل ذلك بقليل، فلما مات كان عمره قد ناهز السنتين إلا أشهر، وهو الابن الوحيد الذي وُلِد للنبي من غير خديجة، وهو المولود الوحيد لرسول الله بعد الهجرة -إبراهيم-.
وسمَّاه باسم أبيه إبراهيم، وجاء في صحيح مسلم، أن النبي قال: «وُلِدَ لي اللَّيلةَ غلامٌ فسمَّيتُهُ باسمِ أبي إبراهيمَ» ، وفيه استحبابُ أن يُسمي المؤمن باسم أبائه، وكذلك التسمية بأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
{أحسن الله إليكم..
قال -رحمه الله: (
وَوَهَبَتْ نَوْبَتَهَا لِعَائِشَةْ ... سَوْدَةُ مَا دَامَتْ زَمَانًا عَائِشَةْ)
}.
بعد مرجع النبي من فتح مكة وولادة إبراهيم، ظنَّت سودة بنت زمعة المخزومية أنَّ النبي سيطلقها؛ لأنها امرأة كبيرة، ولا حاجة للنبي بها، فوهبت ليلتها لعائشة لِمَا تعلمه من حب النبي لعائشة، فكان لعائشة من نصيب الليالي ليلتان، ليلتها الأصلية، والليلة التي وهبتها لها سودة بنت زمعة.
وتنازلت سودة عن ليلتها، وفيها مشروعية تنازل المرأة عن بعض حقوقها في النكاح كالليلة، والمهر، والسكن.
وفيه فضل عائشة، ومعرفة الصحابة وأمهات المؤمنين لمكانتها من النبي ، ولحبه لها، وفيها فضل سودة أنها تبقى زوجة وليس لها بعض الحقوق التي لبقية الزوجات، وذلك بتنازلها عن بعض حقها وهو المبيت في ليلتها، وهي -كما سبق- ثاني زوجة تزوجها النبي .
وإهداؤها ليلتها لعائشة (مَا دَامَتْ زَمَانًا عَائِشَةْ)، يعني: لأنه بموت سودة تنتهي هذه العطية
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (
وَعُمِلَ الْمِنْبَرُ غَيْرَ مُخْتَفِ ... وَحَجَّ عَتَّابٌ بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ)
}.
(وَعُمِلَ الْمِنْبَرُ غَيْرَ مُخْتَفِ)، تكاثر الناس، ووسع النبي المسجد بعد خيبر، حتى كان ضعف مساحته قبل خيبر، فصار مائتي ذراع في مائتي ذراع، أمر امرأة من بني النجار لها رقيق يعملون عندها نجارين أن يعملوا له أعواد المنبر، فبُني له ووضع وهو غير مختف، وكان ظاهرًا عن يمين المحراب، فلمَّا رقى عليه النبي يخطب؛ سمع للجذع الذي كان يتكئ عليه عند الخطبة -جذع نخلة بال، سمع له بكاء وأنينا كأنين المرجل، وأنين العشار، فنزل من على مِنبره فأقبل على الجذع اليابس البالي فضمه، فما زال يسكن حتى خفت صوته.
وفيها عبرةٍ وأي عبرة أيها المسلمون؟ هذا جذعٌ بالٍ، جذع نخلةٍ يابس يحنُّ شوقًا إلى رسول الله ، أفلا يليق بنا أهل الإسلام أن نكون أعظم اشتياقًا إليه، وتعظيمًا لهديه، واستمساكًا بسنته، ومعرفةً بدلِّه وسيرته ، لِمَا لأبنائنا من عندهم خبرةٌ بأنواع السيارات واللاعبين والأموال في جلبها ولا بعضه في سيرته .
وكان هذا المنبر غير مختف؛ لأنه كان من ثلاث عتبات، يقوم على ثنتين ويجلس على الثالث ليراه الناس ويستفيدوا ويتعلموا منه العلم في خطبه ومواعظه وتعليمه ، وقد كان يجلس على المنبر ويخطب عليه ويسجد عليه أيضاً إذا علمهم القرآن.
وفي تلك السنة (حَجَّ عَتَّابٌ بِأَهْلِ الْمَوْقِفِ) وهو عتاب بن أسيد، من أهل مكة، من أشرافها، أَمَّرَهُ النبي عليهم، وحج بالناس تلك السنة، في السنة الثامنة، وفي التاسعة حج بالناس أبو بكر، وفي العاشرة حج النبي بالناس.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (ثُمَّ تَبُوكَ قَدْ غَزَا فِي التَّاسِعَةْ ... وَهَدَّ مَسْجِدَ الضِّرَارِ رَافِعَهْ)}.
في السنة التاسعة، جيَّش جيشًا لغزو الروم، وهي الغزوة المعروفة عند أهل العلم بغزوة تبوك، وهي آخر غزواته التي غزاها بنفسه، وكانت في وقت شديد الحر كهذه الأيام، طابت فيه الثمار، وعظم فيه الحر، والعدو بعيد، والمسافة طويلة، والعدو خطير، وهي الغزوة الوحيدة التي أبان النبي فيها بجهته، فإنه كان قبل ذلك إذا غزا جهةً ورّى بغيرها، فإذا أراد الشرق ورّى أنه يذهب للغرب، وإذا أراد الشمال ورّى أنه يذهب للجنوب، والتورية مندوحة عن الكذب، مع جواز الكذب في حال الحروب.
إلا في تبوك فإنه أخبر عن العدو، وأخبر عن بعد المسافة، وكانت في وقت اشتد فيه الحر – القيظ- وطابت فيه الثمار؛ ليأخذ الناس لذلك أُهبة، ويستعد لهذا الأمر عدته.
سار إلى تبوك ذلك المسير المبارك، ففضح الله فيه المنافقين في المسير، وفي عقبة تبوك بعد ذلك، فإنه روى عوف بن مالك الأشجعي -رضي الله عنه- قال: بينما نحن نسير إلى تبوك إذ قال قائل من المنافقين: "مَا لِقُرَّائِنَا هَؤُلَاءِ" -يعرض برسول الله وبالصحابة- "أَرْغَبُنَا بُطُونًا، وَأَكْذَبُنَا أَلْسِنَةً، وَأَجْبَنُنَا عِنْدَ اللِّقَاءِ". فثارت غيرة عوف لله ولرسوله وعلى دينه. قال: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ مُنَافِقٌ لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ . قال عوفٌ: فحرّكت ورسول الله يمشي في أول القوم، فما بلغت رسول الله إلا والخبر من السماء يأتي بماذا؟ يكشف أمر المنافقين، أنزل الله فيهم قرآنًا يُتلى.
يقول عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- والله لكأني أنظر إليه -أي: قائل هذه المقالة- متعلقا بِنِسْعَةِ ناقة النبي ، تَنْكُبُهُ الْحِجَارَةُ، أي: من شدة تعلقه بنسعة، أي: ببطان الناقة، وأذاه من الحجارة، يعتذر إلى الرسول، يقول: "إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ"، نمزح ولا نقصد.
قال ابن عمر: والنبي لا يلتفت إليه، وإنما لا يزيد إلا أن يقرأ عليه الآية ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً﴾.
تاب هذا الرجل ووافى النبي في تبوك، وقال: يا رسول الله قعد باسمي واسم أبي، كان اسمه مخشي بن حمير، فهل لي من توبة؟ تاب صدقاً من النفاق. فقال: «نعم لك توبة»، فدعا الله أن يميته في مكان لا يُعثَر فيه على جسده بعد ذلك" فمات -رضي الله عنه- في حروب الردة.
إذن حتى المنافق تقبل توبته إذا تاب وَصَدَقَ في التوبة، ولكن كثيراً من المنافقين وتبعهم من تبعهم من أهل البدع لا تُقبل توبتهم؛ لأنهم لا يتوبون حقاً، لِمَا في قلوبهم من الغيظ العظيم على الدين وأهله، والبغض للإسلام وشعائره ونبيه ، هذا من جهة، ولقناعة أهل البدع بما هم فيه من البدع والمحدثات فلا يتوبوا.
وكانت غزوة تبوك في السنة التاسعة، وقبل خروج النبي إليها، أتى إليه من بنوا مسجد الضرار، قريب من قباء، يضارون بذلك أهل قباء. قالوا: بنينا مسجدا يا رسول الله لنصلي فيه ونقرأ فيه القرآن وينزل فيه الضيف، ونريد أن تصلي فيه، فواعدهم النبي خيرا إذا رجع من تبوك.
في غزوه إلى تبوك أمر الناس أن يتهيئوا، وكان في شأنها قصة الثلاثة الذين تخلفوا. من هم؟ كعب بن مالك الأنصاري، ومرارة بن الربيع الضمري، وهلال بن أميّة العامري، الذين قال الله فيهم: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ يقول كعب في قصته المشهورة -نختزلها في هذا المقام-: كنت أتهيأ كل يوم، أهيئ نفسي، وأقول: أنا غني، حتى لم يبق على الغزو إلا أياماً، والناس تهيأوا وأنا لم أفعل، حتى خرج النبي وأنا أسوّف وأمنّي نفسي. قلت: ألحقهم غداً، ومضى اليوم واليومان حتى بلغ النبي تبوكاً وأنا لم أتحرك.
في تبوك قال النبي : «ما فعل كعب بن مالك؟» فقال رجل: إنَّ قلبه وميله إلى المنافقين. فقال آخر: بئس ما قلت، والله ما علمنا عليه إلا خيرا. قال: فتبسّم النبي وسكت.
ولَمَّا رجع ضاقت الوسيعة بكعب بن مالك وصاحبيه، بماذا يعتذرون؟ يقول كعب بن مالك -رضي الله عنه-: وكنت أخرج إلى السوق فلا أرى فيه إلا مَعذوراً عن الجهاد أو من هو مغموص في النفاق، فاشتدت عليه المصيبة، وعظم عليه الأمر، وضاقت عليه الدنيا بما رحبت كما ذكر الله -جل وعلا-.
لَمَّا رجع أنزل الله عليه قوله لما قدم يريد المدينة: ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾ أي: مسجد الضرار، وسمي بالضرار؛ لأنهم فعلوه مضارةً للمؤمنين، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله، ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾، وأول الآيات: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ﴾، ثم قال: ﴿لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا﴾، فنهاه الله أن يصلي فيه وقد وَعَدَ، ولهذا أمر "ابن الدُّغِنَّة ومن معه من الأنصار بحرقه، ومن جماعتهم رهط ذلك المسجد.
أقبل على المدينة فقال: «هذِه طَابَةُ، وَهذا أُحُدٌ، وَهو جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» ، وكان إذا قدم أول ما يقدم على المسجد فيصلي فيه ويستقبل الناس، وجاءه المعذرون من الأعراب -وكانوا بضعًا وثمانين- يعتذرون، أي: يقدمون المعاذير والأعذار، فَقَبِلَ النبي منهم على نيتهم وأوكل سرائرهم وقلوبهم ومقاصدهم إلى الله -جل وعلا-.
يقول كعبًا: فجئت إليه معتذرا، فنظر فيّ النبي ووجهه متغضب، وهذا من تأديبه بالفعل لأصحابه.
المنافقون قَبِلَ منهم العلانية، وأوكل سرائرهم ومقاصدهم إلى الله، وأما كعب بن مالك وصاحباه فلم يقبل منهم، وكان مراحل هجرهم بترك السلام عليهم، وبأمر مغادرة أهلهم لهم، حتى تم لهم خمسين ليلة، فجاء الفرج بعد ذلك من الله لهم، كما قصه الله علينا في آخر سورة براءة؛ ولأنهم صدقوا الله امتحنهم ربي فكان في ضمن هذه الامتحان وهذه البلية عظيم المنايا، وعظيم المنن منه سبحانه وتعالى.
وفي تمامها قوله -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ من الصادقين؟ كعب بن مالك الأنصاري، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أميّة -رضي الله عنهم وأرضاهم-.
وفي قصة كعب بن مالك وصاحبيه عبرةٌ وأي عبرة، أحثُّ أخواني على قرآتها ومراجعتها لِمَا فيها من عظيم البلاء النفسي في دين الله -جل وعلا- مع البلاء العملي والبدني.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ وَثُمْ ... تَلا بَرَاءَةً عَلِيٌّ وَحَتَمْ)
}.
حجَّ بالناس في السنة التاسعة حيث نزل فرضها، قيل: نزل فرضها في أولها، وقيل: في أثنائها، وأمَّا أول من وفد على النبي كوفد عبد القيس، فإن فرض الحج لم ينزل بعده، ولهذا لَمَّا وَفَدَ وَفْدُ عبد القيس كما في الصحيحين، قالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحي من مُضَر، يعني: تميماً، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الأشهر الحرم، فمُرنا بأمر فصلٍ نعمل به ونخبر به مَن وراءنا.
قالَ: «آمُرُكُمْ بأَرْبَعٍ، وأَنْهَاكُمْ عن أرْبَعٍ: آمُرُكُم بالإيمَانِ باللَّهِ وحده»، قالَ: «أتَدْرُونَ ما الإيمانُ باللَّهِ وحْدَهُ؟» قالوا: اللَّهُ ورَسولُهُ أعْلَمُ، قالَ: «شَهادَةُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وأَنْ تُؤَدُّوا إلى اللَّهِ خُمْسَ ما غَنِمْتُمْ، وأَنْهَاكُمْ عَنِ الدُّبَّاءِ، والحَنْتَمِ والنَّقِيرِ، والمُزَفَّتِ» ، ولم يفرض عليهم حجًا لأنّه لم يُفرض بعد.
فُرِضَ الحج في العام التاسع الذي سمّي عند المؤرخين وأهل السيرة بعام الوفود، لتتابع وُفُودِ الوفود على النبي يبايّعونه من قبائل العرب.
فرض الحج في العام التاسع، وفرضه في قول الله -جل وعلا-: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْت مِنْ اِسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ قام خطيبًا، «أَيُّها النَّاس إنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَليكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا» قالَ أبو هريرة: فقام رجلٌ يُقَالُ له الأقرع بن حابس التميمي -رضي الله عنه- فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فسكت النبي، فكررها مرتين أو ثلاثة، ثم قال : «ذَروني ما ترَكْتُكُم، الحج مرة فما زاد فهو تطوع، ولو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم».
من حج بالناس؟ أقام النبي أبا بكر عبد الله بن أبي قحافة الصديق يحج بالناس. لماذا؟ لأنه الأكفأ لهذه المهمة، في إمرة وفي علم مناسك الحج.
(وَحَجَّ بِالنَّاسِ أَبُو بَكْرٍ وَثُمْ ... تَلا بَرَاءَةً عَلِيٌّ وَحَتَمْ) أرسل إثر أبي بكر عليًا إلى أهل الموسم، قَدِمَ عليٌّ على أبي بكر، فقال: أمير أم مأمور؟ قال: مأمور مبلغ رسالة رسول الله، وأخبره أنه أنزل عليه براءة -هذه السورة- وفيها:
- إمهال المشركين أربعة أشهر بعدها لا يحجون.
- وفيها ألا يحجب بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.
فقام بها علي يُعلم بها في الموسم، وأقام معه أبو بكر أبا هرير -رضي الله عنهم- يناديان في الموسم ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ويقرأون عليهم سورة براءة.
هذا ما كان من هذه السورة في نزولها، وما كان في شأن الحج في إمرة الصديق له.
ولم يحج النبي تلك السنة فلمَ يا ترى مع أن الحج على الصحيح واجب على الفور؟! لماذا لم يحج تلك السنة لَمَّا فُرِض؟ لِمَا بقي من مظاهر المشركين في حجهم، وقدومهم على البيت في عوائدهم المحدثة الشركية الباطلة، ومنها: أن يطوف الطائف بالبيت عريان إذا لم يكن له ثوب لم يعص الله فيها، أو يعطيه أحد من أهل مكة من ثيابه، رجلاً كان أو امرأة، حتى إنَّ المرأة تطوف بالليل لئلا تنكشف عورتها إذا لم يعطها أحد من أهل مكة ثوبًا تطوف به، وسمع من المرأة تقول: "اليوم يبدو بعضه أو كله، وما بدا منه فلا أحله"، أبطل الإسلام ونبي الإسلام هذه البدعة الجاهلية، لا يطوفن بالبيت عريان، ولا يحُجَّ بعد هذا العام مشرك؛ لأنَّ حجَّ المشركين قام على الشرك، بدءًا من تلبياتهم إلى مظاهر ومناسك حجِّهم، فمن تلبياتهم لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك إلا شريكٌ هو لك، تملكه وما ملك.
(وعليٌّ حَتَم) ألا يحُجَّ مشركٌ بعد ولا يطوف عرياناً بأمرٍ فُعِلَ، أي بما فَعَلَ بنفسه من ألا يطوف بالبيت بثيابٍ عصى الله فيها.
أبطلوا هذه البدعة والعجيب أن المشركين يهتمون ببدع ويتركون أصل الدين مشركا، يعظمون الحرم والمناسك ويخافون الله ويحجون ويعتمرون ولكنهم يشركون بالله -جل وعلا-، اهتموا بالرسوم وغابوا عن الحقيقة والجوهر، والأصل الأصيل وهو إفراد الله -جل وعلا- بالعبادة وحده دون ما شريك. اللهم صلي وسلم على رسول الله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
وَجَاءَتِ الْوُفُودُ فِيهَا تَتْرَى ... هَذَا وَمِنْ نِسَاهُ آلَى شَهْرَا)
}.
(وَجَاءَتِ الْوُفُودُ فِيهَا تَتْرَى) الوفود هي وفود العرب، وفود قبائلهم، جاءوا من الشمال والشرق والجنوب، من كل قبيلة وفد يبايعونه ويعاهدونه على الإسلام والقيام بأركانه والسمع والطاعة، وكان من سنته أنه يُجيز الوفد أن يعطيهم هديتهم.
وفدت عليهم القبائل تبايعه، وممن وفد عليهم: بنو سعد بن زيد مناة من تميم، فكان معهم شيخهم "قيس بن عاصم المنكري"، وفي هذا إلماعة إلى كريمة من كرائم الخلق، أُشير إليها في هذا الوفد الذين وفدوا عليه.
لَمَّا عَرّفوا بأنفسهم وكانوا يعرّفون من أنتم؟ فيعرّفون بأنفسهم، وهذا سنة أن يعرّف الإنسان بنفسه عند مَنْ يَقْدِمَ عليه، فقالوا: بنو سعد من تميم. قال : «أفيكم قيس بن عاصم؟» قالوا: هو ذاك الشيخ يا رسول الله، وكان معهم في عُمرٍ قد جاوز الثمانين، فقال : «ذلك سيد الوبر» سيد أهل البادية؛ لأنه ودى من ماله عشرة آلاف بعير لقتلى عَبسٍ وذُبيان ليصلح بينهم، فجعل له النبي في هذا الفعل السيادة على الوبر، فالسيادة والشرف ليس بمحض النسب والمنصب، إنما هي بطيب الفاعل ومآثرها التي ترفع من شأن صاحبها، فإن كانت لله فيا حظه، وإن كانت لأجل الدنيا فله فيها ما نال وما قصد.
وأول من وفد على النبي وفد عبد القيس -أهل البحرين- في هَجَرَ المسماة الآن بالأحساء، وقد مضى إشارة إلى حديثهم المخرَّج في الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ وفد بني عبد القيس لَمَّا وفدوا عن النبي ، قالوا: يا رسول الله إن بيننا وبينك هذا الحي من مُضر، لا نستطيع أن نأتيك كل ما أردنا، وإنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الأشهر الحرم؛ لأن العرب تعظم الأشر الحرم، فتضع فيها القتال والاعتراض والسلب والنهب وما يتعلق بها، وهي ثلاثة أشهر متوالية: "ذو القعدة، وذو الحجة، وشهر الله المحرم"، والرابع: "رجب مُضَر"، الفرد بين جمادى وشعبان، سمي رجباً من الترجيب والتعظيم، ونُسب إلى مُضَر لأنها أشد القبائل العربية وأكثرها تعظيماً له، ففيه وفودهم على النبي من أول من وفد؛ لأنه لم يفرض لهم فرض الحج، حيث لم ينزل فرضه بعد.
وفي تلك السنة في عام الوفود آلَى من نسائه شهرا، أي: حلف بالله أن لا يطأهن شهراً، وأن لا يدخل عليهن شهرا، وذلك أنهن أكثرن عليه يطلبن زيادة النفقة، أكثرن ذلك عليه فغضب منهن وحلف ألا يطأهن شهرًا، وانعزل في مشربة له خارج حجراته ، وشاع عند الناس أن النبي طلق نساءه، فجاء عمر فَزِعًا خائفًا على رسول الله لا على ابنته -رضي الله عنه-.
قال: أطلقت نساءك يا رسول الله؟ قال: لا. فحمد الله عمر وأثنى عليه أنه لم يُطلق نساءه، طالبنه بزيادة النفقة فأغضبنه فحلف ألا يطأهن شهرًا ، وأتم حلفه ويمينه فانعزل في مشربة له، حتى إنه ينام على سرير من ليف خشن، وقد أَثَّر في جنب النبي ورأه عمر فبكى، فقال له النبي : «ما يبكيك يا ابن الخطاب؟» قال: يا رسول الله أنت على هذا السرير من ليف وقد أثر على جنبك، وكسرى وقيصر فيما هم فيه من المياثر والمآثر!
قال: «أفي شك يا ابن الخطاب؟ هذه لهم الدنيا ولنا الآخرة».
لَمَّا أتم تسعة وعشرين يوماً دخل على نسائه، فقال له بعضهن: يا رسول الله آليت علينا شهراً، والآن دخلت علينا قبل أن تتمه. قال: «الشهر تسع وعشرون، والشهر ثلاثون»، وفي الصحيحين يقول : «إنَّا أمة أُمية، الشهر هكذا وهكذا وهكذا»، فعدَّ ثلاثين، «والشهر هكذا وهكذا وهكذا» فعدَّ تسعًا وعشرين.
هذا كان الإيلاء في السنة التاسعة من الهجرة في عام الوفود.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
ثُمَّ النَّجَاشِيَّ نَعَى وَصَلَّى ... عَلَيْهِ مِنْ طَيْبَةَ نَالَ الْفَضْلاَ)
}
(ثُمَّ النَّجَاشِيَّ نَعَى) النجاشي مفعول، والناعي له هو رسول الله .
(وَصَلَّى ... عَلَيْهِ مِنْ طَيْبَةَ نَالَ الْفَضْلاَ) نعى النجاشي بالوحي الذي أخبره الله به بموت النجاشي، وكان ملكاً صالحاً مسلماً، وهو: أصحمه، فنعاه النبي، أي: أخبر بموته، وخرج بالناس إلى المصلَّى فكبر عليه أربعاً وصلى الغائب، ففيه فضل النجاشي، وفيه أنه نال الفضل بأن نعاه النبي أولاً، وصلِّى عليه ثانياً صلاة الغائب.
وفيه أنَّ صلاة الغائبِ صلاةٌ مشروعةٌ بأمر الإمام الأعظم لمن يستحق أن يُصلّى عليه، في عدة روايات في المسألة في مذهب الإمام أحمد، وإن كان بعض أهل العلم يرى أن صلاة الغائب منسوخة بالكُلية، ومنهم من يرى أنها مخصوصة بالكِبار، وأرجح الأقوال فيها أنها لمن يأمر به الإمام الأعظم أو نوابه، وهو له شأن في الإسلام.
ولم يُصلِّ النبيُّ على غيره صلاة الغائب، وليس معنى ذلك أنه لم يُصلِّ عليه هناك في بلده، لا نعلم بذلك، لا سيما وأنَّ الحبشة بقي فيها من المسلمين من بقي، وتأثر من تأثر من الأحباش بدين المسلمين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (
وَمَاتَ إِبْرَاهِيمُ فِي الْعَامِ الْأَخِيرْ ... وَالْبَجَلِيْ أَسْلَمَ وَاسْمُهُ جَرِيرْ)
}.
في العام الأخير -هو العام العاشر- مرجع النبي من حجته الوحيدة الفريدة، وهي حجة الوداع؛ وسميت بذلك؛ لأنه وادع فيها الناس، في الصحيحين واللفظ للمسلم من حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- قال: رأيت النبي واقفا بعدما رمى الجمرة وهو يقول: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فإنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتي هذِه».
مات إبراهيم وعمره سنة وأشهر، وحزن على موته النبي حتى جرى الدمع من عينيه، وقيل له: يا رسول الله أتبكي؟ قال: «إنَّ العَيْنَ تَدْمَعُ، والقَلْبَ يَحْزَنُ، ولَا نَقُولُ إلَّا ما يَرْضَى رَبُّنَا، وإنَّا بفِرَاقِكَ يا إبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ» ، وهو ابنه من مارية القبطية، ولله حكمة فلو بقي ابنه إبراهيم لكان ربما يقع فيه الغلط والغلو، أو دعوى النبوة وقد ادُّعيت في ابن عمه "عليِّ" من الروافض وغيرهم.
وفيه أصل أن الأنبياء لا يُورثون، لا يرث النبيّ إلا نبيّ مثله، ولهذا بنوا إسرائيل أنبياؤهم يتوارثونها توارث الأبناء عن الأباء، فلما سئل النبي عن يوسف، قال: «هو الصديق، ابن الصديق، ابن الصديق» يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
وفي هذا العام البجلي أسلم، واسمه: جرير بن عبد الله البجلي، من: "بجيلة"، من: "خثعم"، وقد أسلم -رضي الله عنه- وحسن إسلامه وروى عن النبي الأحاديث الكثيرة.
قال بايعت رسول الله على أن لا أشرك بالله شيئًا، ولا أسرق، ولا أزني، ولا آتي ببهتان أفتريه. قال: وبايعت عن النصح لكل مسلم. أخرجاه في الصحيحين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (
وَحَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ قَارِنَا ... وَوَقَفَ الْجُمْعَةَ فِيهَا آمِنَا)
}.
حجَّ في آخر ذي القعدة حجة الوداع، فإن الناس تسامعوا أن النبي سيحج فأمَّ المدينة خلق كثير، حزرهم بعض أهل السير والكتاب في السيرة والتواريخ بثلاثين ألفًا، خرج من المدينة لست بقين من ذي القعدة، يعني: في الرابع والعشرين من ذي القعدة، وبلغ مكة في الرابع من ذي الحجة، حاجًّا حجته الوحيدة الذي سميت بحجة الوداع؛ لأنه وادع الناس فيها، «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فإنِّي لا أَدْرِي لَعَلِّي لا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتي هذِه»، وقال: «ليبلِّغِ الشَّاهدُ الغائبَ فإنَّهُ رُبَّ مبلَّغٍ يبلغُهُ أوعَى لهُ من سامعٍ».
حج بنسك القرآن؛ لأنه ساق الهدي جامعًا بين الحج والعمرة في إحرام واحد، والأنساك ثلاثة:
تمتع يحرم بالعمرة، ثم من عامه ذلك يحم بالحج وهو في مكة لا يسافر عنها.
وقرآن: وهو أن يحرم بالحج والعمرة في إحرام واحد.
والتمتع والقرآن، كلاهما يطلق عليه التمتع؛ لأنه جمع نسكين في سفرة واحدة، قال الله -جل وعلا-: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾.
والنسك الثالث: الإفراد، وهو أن يُفرد الحج وحده بالنسك.
(وَحَجَّ حَجَّةَ الْوَدَاعِ قَارِنَا ... وَوَقَفَ الْجُمْعَةَ فِيهَا) أي في عرفة (آمِنَا)، فكان يوم وقوفه هو يوم الجمعة، خير أيام الله، وفيه قول الله -جل وعلا-: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾، وكان هذا اليوم يوم جمعة، وفَّق الله -عز وجل- إليه رسوله والمؤمنين.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (وَأُنْزِلَتْ فِي الْيَوْمِ بُشْرَى لَكُمُ ... ﴿اَلْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمُ﴾)}.
هذه الآية نزلت على النبي وهو واقف بعرفة، وقد جاء في الحديث أن رجلا أتى أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين، آيةٌ أنزلت عليكم معشر المسلمين، لو أنزلت علينا معشر يهود لاتخذنا ذلك اليوم عيداً! قال عمر: وأي آية؟ قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ قال عمر: والله إني لأعلم متى نزلت وعلى من أنزلت، أُنزلت على رسول الله وهو واقف بعرفة.
﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ اليوم يعني: يوم عرفة، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ فأعظم النعم نعمة الإيمان، وهو الدين الذي ارتضاه الله لنا فلا يقبل منا دينا غيره، فعمر لم يتخذ ذلك اليوم عيداً في بدعة هذا اليهودي، فلم يزد في الشريعة ما ليس منها، وإنما قال: أعرف متى نزلت وعلى من أنزلت. ويبقى هذا اليوم -يوم عرفة- يوم معظم عند المسلمين بما عظمه الله به، وعظمه به رسوله ، ومن ذلك ما جاء في صحيح مسلم وفي السنن، من حديث عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: قال النبي : «ما مِن يَومٍ أَكْثَرَ مِن أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فيه عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِن يَومِ عَرَفَةَ، وإنَّه لَيَدْنُو، ثُمَّ يُبَاهِي بهِمُ المَلَائِكَةَ، فيَقولُ: انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي أَتَوْنِي شُعْثًا غُبْرًا ضَاحِينَ»، وقال: «مَا يُرِيدون؟» هو سبحانه يعلم، ولكنه يستنطق الملائكة، فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، انصرفوا مغفورا لكم».
ولهذا ما رؤي الشيطان في يوم أصغر ولا أحقر ولا أدحر ما رؤي في يوم عرفة، إلا ما كان من يوم بدر. لماذا؟ من كثرة تنزل رحمات الله سبحانه وتعالى، وإحسانه وعطفه على عباده المؤمنين، أمرهم فأطاعوه، أمرهم بالسجود فامتثلوا، وهو يتذكر عناده وكبره وعصيانه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (
وَمَوْتُ رَيْحَانَةَ بَعْدَ عَوْدِهْ ... وَالتِّسْعُ عِشْنَ مُدَّةً مِنْ بَعْدِهْ)
}.
بعد رجوع النبي من حجة الوداع ماتت ريحانة بنت زيد -النضرية اليهودية-، وقد اختلف الناس هل هي زوجة أو سُرية، في قولين سابقين أشرنا إليهما، والأظهر أنها سُرية لا أنها من نسائه، وهذا ما رجحه الماتن ها هنا.
وَمَوْتُ رَيْحَانَةَ بَعْدَ عَوْدِهْ ... وَالتِّسْعُ) أي: تسع نسائه (عِشْنَ مُدَّةً مِنْ بَعْدِهْ)، من سودة إلى آخر نسائه منهن: ميمونة بنت الحارث الهلاليّة العامرية، أخت أمّ الفضل بنت الحارث -لبابة- وخالة عبد الله بن عباس -رضي الله عن الجميع- هؤلاء عاشوا بعده ، وقد قال: «أسرَعُكُنَّ لُحوقًا بي أطوَلُكُنَّ يدًا» ، فتطاولن أيديهن -رضي الله عنهن- وكان أول من مات من أمهات المؤمنين بعد النبي هي: "زينب بنت جحش"، وكانت أطول يدًا، يعني: بالنفقة والبذل رضي الله عن الجميع.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (
وَيَوْمَ الاِثْنَيْنِ قَضَى يَقِينَا ... إِذْ أَكْمَلَ الثَّلاَثَ وَالسِّتِّينَا)
}
مات نبينا مرجعه من حجته حجة الوداع، لَبِثَ في المدينة بقيت ذي الحجة في أيام قلائل، تقريباً في اليوم الخامس والعشرين قدومه إلى المدينة أو في اليوم الرابع والعشرين، ولبث فيها المحرم وصفر، وبُدِئَ به المرض، فمات في يوم الاثنين قيل: منتصف ربيع الأول، وقيل: في الثاني عشر منه.
مات بعدما اشتد عليه المرض بضع عشرة ليلة.
(وَيَوْمَ الاِثْنَيْنِ قَضَى يَقِينَا) أي من غير شكٍ ولا ريبة، وقضى أي: مات؛ لأن الله قال في حقه: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾ وقال جل وعلا: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾.
وفي موته (أَكْمَلَ الثَّلاَثَ وَالسِّتِّينَا) أي في ثلاثة وستين سنة من عمره. بُعِثَ إليه وعمره أربعون سنة، فأخذ في الدعوة إلى الله وإبلاغ دين الله جل وعلى الناس ثلاثًا وعشرين سنة مقسمة بين العهدين المكّي في ثلاث عشرة سنة، والعهد المدني في عشر سنوات وأشهر.
لحق بالرفيق الأعلى بعدما خيره ربي بين أن يُخلَّد في الدنيا ثم يلحق بالرفيق الأعلى، أو يلحق بالرفيق الأعلى الآن، فاختار الثاني ، حيث سُمِع منه وهو يدعو يقول في حال احتِضاره: اللهم الرفيق الأعلى. اللهم صلِّ وسلِّم عليه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
وَالدَّفْنُ فِي بَيْتِ ابْنَةِ الصِّدِّيقِ ... فِي مَوْضِعِ الْوَفَاةِ عَنْ تَحْقِيقِ
وَمُدّةُ التَّمْرِيضِ خُمْسَا شَهْرِ ... وَقِيلَ بَلْ ثُلْثٌ وَخُمْسٌ فَادْرِ)
}.
(وَمُدّةُ التَّمْرِيضِ خُمْسَا شَهْرِ) كم الخمس؟ عشرة أيام، وقيل: ستة أيام، لأن الشهر ثلاثين يومًا، فيكون الخمس الواحد = ستة أيام، والخمسان = اثنا عشر يومًا.
(وَقِيلَ بَلْ ثُلْثٌ وَخُمْسٌ فَادْرِ) الثلث عشرة أيام، والخمس ستة أيام، فيكون ستة عشر ليلة.
بُدئ به فكان يرى سكرات الموت، وربما طرح الخميص على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها، قال وهو كذلك: «لَعَنَ اللَّهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا الْقُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ» ، حتى فاضت نفسه الشريفة إلى الله -جل وعلا- والتحق بالرفيق الأعلى.
وفي موته اختلف الناس أين يدفنونه؟ فمن قائل: ندفنه في المسجد، ومن قائل: ندفنه عند مِنبره، ومن قائل: ندفنه مع المسلمين في البقيع، فجاء الصديق -رضي الله عنه- على فرس له، وعمر يحلف في المسجد أن رسول لم يمت وسيرجع ويقتل أقواماً، ودخل الصديق على النبي وكشف الكساء عن وجهه -الغطاء-، وقَبَّلَ ما بين عينيه، وقال: طبت يا رسول الله، بأبي أنت وأمي طبت حيًا وميتًا.
اختلفوا أين يدفنونه؟ قال الصديق: إني سمعت رسول الله يقول: «لا يدفن النبي إلا حيث يموت»، فرفعوا سريره وحفروا تحته قبرًا له في بيت الصديقة عائشة.
تقول -رضي الله عنها-: ولو لا ذلك لأبرز قبره غير أنه خشي أن يُتخذ مسجداً، وليس دفنه في مسجده بل في حجرة عائشة ضمن نطاق حجراته التسع، وغَلِطَ الوليد بن عبد الملك فأدخل الحجرات في مجموع بناء المسجد، وهذا غلط منه، وفعلٌ لم يوافقه عليه الصحابة، بل أنكروه عليه رضي الله عنهم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله: (
وَتَمَّتِ الْأُرْجُوزَةُ الْمِيئِيَّةْ ... فِي ذِكْرِ حَالِ أَشْرَفِ الْبَرِيَّةْ
صَلَّى عَلَيْهِ اللهُ رَبِّي وَعَلَى ... أصحَابِهِ وآلِهِ وَمَنْ تَلاَ)
}.
(وَتَمَّتِ) بموته وَلُحُوقِهِ بِالْمَلَأِ الْأَعْلَى هذه السِّيرة، وإن كان العلماء يضمون إليها أطرافاً من خلافة الصديق، ثم خلافة عمر، ثم خلافة عثمان، ثم خلافة علي -رضي الله عنهم-، وما جرى فيها من الحروب والأمور العظيمة.
ولكن هذه الأرجوزة لَمَّا كانت مختصرة ميئية، تمت بموته ولحوقه بالرفيق الأعلى.
(وَتَمَّتِ الْأُرْجُوزَةُ) والأرجوزة من الرجز، وهو كما قالوا: أيسر بحور الشعر -بحر الرجز- والميئية؛ لأنها في مئة بيت.
(فِي ذِكْرِ حَالِ أَشْرَفِ الْبَرِيَّةْ) في ذكر أحوال سيرته وسنته وعيشه في حياته.
(صَلَّى عَلَيْهِ اللهُ رَبِّي وَعَلَى ... أصحابه وآلِهِ وَمَنْ تَلاَ) صلاة الله على عبده ثناؤه عليه، ومدحه له في الملأ الأعلى، وصلاة الملائكة كصلاة المؤمنين إلى الله، دعاؤها ربها أن يُثني على هذا في ملأ الملأ الأعلى.
(وعلى أصحابه)؛ لأن حب الصحابة من حب رسول الله، وبرهم من بره، وبغضهم من بغضه، ألم يقل كما جاء في الصحيح: «آيَةُ الإيمَانِ حُبُّ الأنْصَارِ، وآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأنْصَارِ» .
وقال: «فمَن أحَبَّهم فبِحُبِّي أحَبَّهم» أي: الصحابة، «ومَن أبغَضهم فبِبُغْضي أبغَضهم» .
(وأصحابه وأله)، وسبق أن الآل أولاً: زوجاته -أمهات المؤمنين- ثم أولاده ذكوراً وإناثاً، ثم بنو عمومته، ثم الموالي.
(وَمَنْ تَلاَ) أي: من مضى على طريقهم من التابعين، وتابعيهم إلى أن تقوم الساعة، له من الله الدعاء بالصلاة والسلام، صلى الله عليهم وسلم.
وفيه أنَّ الصلاة والسلام هي شعار خاص بالأنبياء، ولكن يجوز أن تدعو فيها للمؤمنين، فتقول: اللهم صلِّ على فلان، اللهم سلِّم على فلان، ولهذا من دعاء بعضنا بعضا: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، وقد قال : «اللَّهُمَّ صَلِّ علَى آلِ أبِي أوْفَى» ، ففي باب الدعاء جائزة، وأما الشعار فهي خاصة بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
ويوم الجمعة وليلتها يستحب الإكثار من الصلاة والسلام على نبينا محمد بن عبد الله.
وكذلك الترضي -رضي الله عنه- شعارٌ للصحابة، ولكن يجوز أن تدعو لنفسك ولغيرك بالرضا، فتقول: اللهم ارض عني، اللهم ارض عنا. فالدعاء بالرضا جائز.
وبه تمَّ الكلام على هذه الأرجوزة الميئية في ذكر حالي أشرف البرية، على جهة الاختصار وما يناسب المقام من الإشارات والتنبيهات، فالحمد لله الذي بنعمة تتم الصالحات، وجعله الله علماً نافعاً لنا، حُجّةً لنا إلى ربنا لا حُجّةً علينا، وأورثَنا به المنازل العلى من الجنة، نسأل الله بوجهه الكريم، وباسمه الأعظم فردوسه الأعلى من الجنة، وأن ندخلها بغير حساب ولا عذاب، وأن يُحل علينا رضوانه فلا يسخط علينا أبدا.
نسأل الله ذلك لنا ولكم ولوالدينا ووالديكم، ومشايخنا وذرارينا، ولجميع المسلمين والمسلمات، والحمد لله رب العالمين، وصل الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، وجزاكم الله عنا خير الجزاء، والشكر موصول لكم أعزاءنا المشاهدين، على أمل اللقاء بكم في برامج أخر، والسلام عليكم ورحمة الله}.

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك