الدرس السادس
فضيلة الشيخ أ.د. علي بن عبدالعزيز الشبل
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعل الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نُرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) والذين نتدارس فيه نظم الأرجوزة الميئية، في ذكر حال أشرف البريّة، للعلامة ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله تبارك وتعالى- يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ علي بن عبد العزيز الشبل، باسمي وباسمكم جميعاً نرحب بشيخنا المبارك.
حياك الله فضيلة الشيخ}.
أهلا وسهلا بك وبإخواني أينما بلغ إليه هذا الأثير، أسأل الله -جل وعلا- أن يجعله من مجالس العلم، ومجالس الذكر ومجالس الخير التي ينفعنا ويرفعنا الله بها في الدنيا والآخرة، وأن يهب لنا من لدنه رحمة، إنه سبحانه هو الوهاب.
{أحسن الله إليكم، ورضي عنكم.
نستأذنكم شيخنا في البدء}.
نعم، استعن بالله.
{بسم الله.
قال المؤلف -رحمه الله-: (
ثُمَّ بَنَى الْمَسْجِدَ فِي قُبَاءِ ... وَمَسْجِدَ الْمَدِينَةِ الْغَرَّاءِ
)}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلِّم على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين، وعلى آله وأصحابه ومن سَلَفَ من إخوانه من المرسلين، وسار على نهجهم، واقتفى أثرهم، وأحبهم وذب عنهم إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، فعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وعملاً صالحين رضيين مقبولين يا عفو يا كريم.
ما زالت المذاكرة والمدارسة في هذه الأرجوزة الميئية في ذكر حالي أشرف البريّة ﷺ، من نظم ورجز العلامة علي بن علي بن أبي العز الحنفي الدمشقي -رحمه الله-.
وفي قوله: (ثُمَّ بَنَى الْمَسْجِدَ فِي قُبَاءِ ... وَمَسْجِدَ الْمَدِينَةِ الْغَرَّاءِ) أي في أول ما فعله في مقدمه في الهجرة، نزل بضع عشرة ليلة، قيل: إحدى عشر، وقيل: ثلاثة عشر، في قباء في جنوبي المدينة، وابتنى فيها مسجدها -مسجد قباء-، وهو المنوّه عنه في قول الله -جل وعلا- في سورة براءة: ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾، وقيل: إن هذه الآية في مسجد النبي ﷺ، وكلاهما يصدق عليه عموم أنهما أول مسجد أُقيم في الإسلام.
وقباء، أي: هذا الموضع الذي يسكنه بنو سالم بن عوف وأبناء عمومتهم، هم أول ما يواجهه في مقدمه ﷺ من مكة، ابتنى فيه المسجد، ومكث عندهم حتى كان يوم جمعة فخرج منهم متجهًا إلى المدينة. وقد وافته صلاة الجمعة في الطريق، وصلّاها حيث أضحى مُقيمًا بعدما كان مُسافرا، والموضع الذي أقام فيه الجمعة هو الذي يسمى مسجد الجمعة في الرانونة بين قباء والمدينة، وهو إلى قباء أقرب.
ركب ﷺ فما مرَّ على حي من أحياء الأنصار من أوسهم أو خزرجهم إلا وقفوا مُستقبلين مُستبشرين به، يقولون: هلمَّ يا رسول الله إلينا، انزل بيننا، هلمَّ إلى النصر والمنعة، ومن حرصهم مع كمال هيبتهم يأخذون بخطام ناقته، وهو يقول لهم ﷺ: دعوها فإنها مأمورة، فما زالت تمشي -وهذه الناقة هي العضباء- سمّيت بالعضباء وهي ناقة حمراء لِشَقٍ في أذنها، وهي التي اشتراها له أبو بكر -رضي الله عنه-، حتى أتت موضع مسجده الآن، وكانت منازله لبني النجار، أخوال أبيه من الخزرج من الأنصار -رضي الله عنهم.
فبركت الناقة، ولم يستعجل ﷺ بالنزول منها، وإنما قامت مرة ثانية، ثم تقدمت والتفتت، ثم رجعت إلى مكانها فبركت، فنزل النبي ﷺ، وفطن لهذا أبو أيوب الأنصاري النَّجاري، إذ سيتنافس فيه الآن بنوا النجار عند من ينزل منهم؛ لأنه ليس له مكان، فأخذ أبو أيوب -رضي الله عنه- رَحْلَ النبي ﷺ، والرحل هو الشداد الذي يوضع على ظهر الناقة وما يكون معه من خرج، ومن حوائج صاحبه، فأدخل هذا الرَّحْلَ بيته، فتنافس في نبينا ﷺ بنو النَّجار، فقال ﷺ قولاً ذَهَبَ مَثَلاً، قال: "المرء مع رحله"، فنزل في أسفل البيت، ونزل أبو أيوب وأهله في أعلاه، ثم إنَّ أبا أيوب -رضي الله عنه- وأهله في أعلاه، رأى أنه لا يكون فوق النبي ﷺ إجلالا واحترامًا لِمَا في قلبه من هذه المحبة الصادقة لا المدعاة، فأنزل النبي في أعلاه.
في هذه المدة والمديدة رأى أرض المسجد ﷺ وكانت لغلامين يتيمين من بني النجار، فقال لأوليائهم: ثامنوني بأرضكم هذه. قالوا: لا نبتغي لها ثمنًا، فأبى لأنها مال اليتيمين، ودفع ذلك من ماله أبو بكر -رضي الله عنه- وكان فيها قبور ونخل قديمة، فأما القبور فأمر ﷺ بها فنُبشت، إذ لا يصح ولا يجوز أن يُقام مسجدٌ على قبر.
وأَمَرَ بالنخل القديم فجُثَّ وكُوِّم أجزاعه حول الأرض؛ لأنه سيستخدمها في بنائه، وابتنى هذا المسجد -مسجده ﷺ- وكان في أول بنائه: خمسون ذراع في خمسين ذراع، يعني تقريباً: خمسة وعشرين متر في مثلها، وابتنى الحجرات في جانبه الشرقي، وكانت حجرات قليلة؛ لأن معه زوجته سودة وعائشة، وبعدها بشهرين سيتزوج حفصة أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب -رضي الله عن الجميع- بنى المسجد من طينٍ ولبن، وجعل أساسه من الحجر، وجعل أعمدته وجذوعه من النخل، وأسقفه من الجريد، وكان يشارك معهم في البناء، ويعجبه بناء طلق بن علي اليمامي؛ لأنهم أهل مدر -أهل بناء الطين- فقال: افعلوا مثل ما يفعله هذا اليمامي، فابتنى مسجده ﷺ، هذا أول ما فعله في المدينة، ابتنى المسجدين قباء، ومسجده الذي هو مسجد النبي ﷺ، وهو المعهد وهو المدرسة، وهو المنطلق لهذه الدولة، ومجلس القضاء، ومجلس العلم، ومجمع المؤمنين في هذه المدينة، ومسجد قُباء له ميزة أنَّ «من تطَهَّرَ في بيتِهِ ثمَّ أتى مسجدَ قباءٍ، فصلَّى فيهِ صلاةً، كانَ لَهُ كأجرِ عمرةٍ تامة تامة تامة» .
ومسجده ﷺ يَلي المسجد الحرام في الفضل، من جهة مضاعفة الصلاة فيه، ومن جهة أن ما بين منبره وبيته روضة من رياض الجنة.
{قال -رحمه الله-: (
ثُمَّ بَنَى مِنْ حَوْلِهِ مَسَاكِنَهْ ... ثُمَّ أَتَى مِنْ بَعْدُ فِي هَذِي السَّنَةْ
أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الَّذِينَ سَافَرُوا ... إِلَى بِلاَدِ الْحُبْشِ حِينَ هَاجَرُوا
)}.
بعد فراغه ﷺ من بناء مسجده، بنى من حوله مساكنه، وهذا من الناظم توسعٌ في التعبير، وإلا فإن حجراته بناها في الجهة الشرقية من مسجده، ومثلها بيتُ عليٍّ وفاطمة في الشمال من حجراته، و (مساكنه) المراد بها حجراته، وابتنى أبو بكر بيته في غربي المسجد، وكان بابه يدخل من الجهة الغربية إلى المسجد، وهي المسمات اليوم بخوخة أبي بكر.
(ثُمَّ أَتَى مِنْ بَعْدُ فِي هَذِي السَّنَةْ) أي: في السنة الأولى من الهجرة، (أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الَّذِينَ سَافَرُوا) ما جاء كلهم، بل جاء أقل من نصفهم، وكانوا يأتون تباعاً، فلما سمعوا بمهاجر نبينا إلى المدينة ﷺ ورضي الله عنهم، قدموا من الحبشة إلى المدينة، حيث صار للمسلمين عُزوة ومنعة (أَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الَّذِينَ سَافَرُوا)، أي: هاجروا إلى بلاد الحبش حين هاجروا، جاء أقلهم، وجاء بقيتهم مع جعفر بن أبي طالب في مرجع النبي ﷺ من فتح خيبر في السنة السابعة من الهجرة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
وَفِيهِ آخَى أَشْرَفُ الْأَخْيَارِ ... بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ
)}
(وَفِيهِ) أي: في هذا العام، في السنة الأولى، في أول مقدمه، (آخَى أَشْرَفُ الْأَخْيَارِ) وهو النبي محمد ﷺ، فإنَّ من عباد الله من هم أخيارٌ وأشرار، كما قال -جل وعلا-: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾ [ص:28]، فإذا كان فيهم أخيارٌ وفجار، فإن نبينا ﷺ من الأخيار بل هو أشرفهم، ولهذا له السيادة والشرف والفضل على الأنبياء كلهم، بل حتى على ملائكة الله، فإنَّ أرجح أقوال العلماء في التفضيل بين صالحي البشر وملائكة الله، أنَّ الملائكة أفضل باعتبار البدايات، وأنَّ صالحي البشر أفضل باعتبار النهايات.
(وَفِيهِ آخَى أَشْرَفُ الْأَخْيَارِ) وآخى من المؤاخاة، حيث الأنصار أهل الدار ﴿الذين تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ﴾ [الحشر:9] كما وصفهم ربي.
والمهاجرون ضعفة أبناء سبيل، خرجوا من بلدانهم ليس معهم شيء، قلة من حمل المال معه، وأكثرهم سويموا على ذلك، أو خرجوا خفيةً وعلى حين إسرار.
آخى النبي بين كل من جاء مهاجرًا وبين رجل من الأنصار، ومقتضى المؤاخاة كانت أشد من أخوة النسب، وقد أبلى فيها الأنصار البلاء الحسن، الذي رفعهم الله به في الدنيا والآخرة، حتى إن الواحد منهم أعظم هذه المؤاخاة؛ لأنها من النبي ﷺ، وواسى أخاه المهاجر بنفسه وماله وأهله، ومن له زوجتان يهم بطلاق واحدة حتى ينكحها أخوه، هذه أخوة فوق أخوة النسب؛ لأنها أخوة الدين، أخوة الإيمان، أخوة التوحيد والعقيدة بين المُهاجِرين والأنصار.
وها هنا تنبيه: فإنَّ وصف المُهاجرين ووصف الأنصار وصف رباني، ذكره الله في القرآن، ففي آية براءة في أواخرها: ﴿وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ [التوبة:100]، فالله الذي وصفهم بذلك، والمُهاجر من هاجر من بلده إلى المدينة، من مكة أو من غيرها، جاء من الطائف، جاء من غفار كأبي ذر.
والأنصار من ﴿تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ﴾، جلّ المهاجرين جاءوا من مكّة، والمهاجرين والأنصار فيهم سابقه وفيهم لاحقه -رضي الله عنهم- وهذه المؤاخاة استمرّت حتى أوقفها النبي ﷺ بإبقاء إخوة الدين، لا تلك المؤاخاة التي كان في أول أمرها مُقتضاها التوارث ومقتضاها أشدّ من إخوة النسب.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
ثُمَّ بَنَى بِابْنَةِ خَيْرِ صَحْبِهِ ... وَشُرِعَ الْأَذَانَ فَاقْتَدِ بِهِ
)}.
(ثُمَّ بَنَى) بعد قدومه المدينة في السنة الأولى، وقيل: في أول الثانية، و (بَنَى) أي: دخل (بِابْنَةِ خَيْرِ صَحْبِهِ) وهي عائشة الصديقة وبنت الصديق، و(بَنَى) بها يعني: دخل الدخول الشرعي للزوج على زوجته، وكان قد ملَّك عليها وعقد عليها في شوّال، قبل الهجرة بثلاث سنين، (بَنَى) بها ﷺ وكانت بنت تسع سنين. كم كان عمر النبي وقتها ﷺ؟ ثلاثا وخمسين سنة لَمَّا بنى بها.
(ثُمَّ بَنَى بِابْنَةِ خَيْرِ صَحْبِهِ) فإن أبا بكر بإجماع المسلمين هو أفضل الصحابة، وهو أكملهم، وهو أولاهم برسول الله ﷺ، «هلْ أنتُمْ تَارِكُونَ لي صَاحِبِي؟» يقولها ﷺ، ويقول: «إنَّ مِن أمَنِّ النَّاسِ عَلَيَّ في صُحْبَتِهِ ومالِهِ أبا بَكْرٍ» ، هو أمنُّ الناس عليَّ في نفسه وفي ماله، صدَّقني حينَ كدَّبني الناس «ووَاسَانِي بنَفْسِهِ ومَالِهِ، فَهلْ أنتُمْ تَارِكُوا لي صَاحِبِي؟».
في تلك السنة، قِيلَ: في آخر الأولى، وقِيلَ: في أول الثانية، شُرِعَ الأذانُ فاقتُدي به، شُرِعَ الأذان لأنَّهم كانوا يحبون أن يجتمعوا للصلاة، والصلاة فرضت خمس، فكيف كانوا يجتمعون؟ منهم من تمنى أن يتخذ ناقوساً كناقوس النصارى، أو ناراً كنار غيرهم، فشرع الله الأذان لهم بتدريج إلهي عجيب، بمنام رآه عمر، ورآه عبد الله بن زيد الأنصاري -رضي الله عنه- وعبد الله بن زيد اثنان، أحدهما راوي حديث الوضوء، والثاني راوي حديث الأذان، فراوي حديث الأذان عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وذاك راوي حديث الوضوء عبد الله بن زيد بن عاصم.
فرأى في المنام ناقوساً للنصارى، قال: هل تبيعه؟ يريد أن يتخذه إعلاناً للأذان، حتى أُرشد إلى الأذان، فأُخبر به النبي ﷺ لَمَّا أصبح، وتواطأت رؤياه مع رؤيا عمر، فكان هو الأذان المعتبر في هذا الدين، من ذلك الوقت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فاقتدي به فصار هو شعار المسلمين في الدعاية والدعوة إلى أداء فريضة الأذان، أذانٌ ثم بعده إقامة.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
وَغَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ بَعْدُ فِي صَفَرْ ... هَذَا وَفِي الثَّانِيَةِ الْغَزْوُ اشْتَهَرْ
)}
غزوة الأبواء هي أول الغزوات، وقد خرج ﷺ فيها في نفر قليلٍ، جُلُّهم من المهاجرين يعترضون عيراً لقريش، ليعوضوا ما أخذت قريش من أموال أصحابه المهاجرين، وسميت بالأبواء لأنها في موضع الأبواء، قريب من الجحفة جهة ساحل البحر، ولم يصيبوا من عدوهم شيئًا.
(هَذَا وَفِي الثَّانِيَةِ الْغَزْوُ اشْتَهَرْ) لأنَّ الأبواء غزوتين: الأبواء الأولى، والأبواء الثانية، والمشتهر هي الثانية التي لقي فيها قتالاً، لكنه ليس كقتالهم في معركة بدرٍ الفاصلة، وهي يوم الفرقان الذي فرق الله به بين الإيمان والكفر. اللهم صلِّ وسلِّم عليه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
إِلَى بُوَاطَ ثُمَّ بَدْرٍ وَوَجَبْ ... تَحَوُّلُ الْقِبْلَةِ فِي نِصْفِ رَجَبْ
)}.
الغزوة الثانية المشتهرة (إِلَى بُوَاطَ) وفيها لقي النبي من عدوه قتالاً، وقيل: إنه انتصر، وقيل: تراجع الفريقان، وكان قلة.
(ثُمَّ بَدْرٍ) وهي المعركة الفاصلة التي أعزَّ الله بها رسوله، ونصر جنده، وأعزَّ أولياءه، وهزم المشركين فيها وحده، وكانت معركةُ بدر في رجب من السنة الثانية من الهجرة، وهذه المعركة قيل: إنها في رجب، وقيل: إنها في رمضان كما هو الأشهر أنها في السابع عشر من رمضان.
وذلك أنه ﷺ خرج من المدينة لَمَّا سَمِعَ بعيرِ قريشٍ قدمت من الشام معها الأموال، ومعها البضائع، ومعها العَرَض، وكان على قافلة أهل مكة أبو سفيان، فاستنفرَّ ﷺ أصحابه؛ فخرجوا في ثلاثمائة وبضعة عشر، قيل: ثمانية عشر وقيل غير ذلك، كُلُّهُم من المُهاجِرين والأُنصار، ليس معهم إلا فَرَسَان، ومعهم من الرَّحل شيءٌ كثير، والباقي على أرجلهم.
سمع بخروجهم واعتراضهم أبو سفيان، فمال في طريقه إلى سيف البحر وجاوزهم، وأرسل قبل ذلك إلى قريشٍ يعلمهم بخروج النبي وأصحابه ليعترضوا تجارتهم، فخرجوا يحدوهم في ذلك الغيظ والحقد والشنآن لدين الله ولرسول الله ﷺ، فخرجوا في ألف من العدد معهم أحباشهم ومواليهم وجنودهم، والمؤمنون أقل من ثلثهم، حتى جمع الله بينهم وبين هؤلاء العدو في بدرٍ.
ولَمَّا جاوز أبو سفيان أرسل إلى أهل مكة أني نجوتُ منهم وارجعوا، فحلف أبو جهل أن لا يرجعوا، لَمَّا أراد الله حتفة وإبطال كفره وعتوه وجبروته، وقال: "حتى نأتي بدراً وننحر الإبل فيها ثلاثًا، ونشرب الخمر ونستمع القينات، فجور في فجور، فمع الكفر والشرك فجور المعاصي، وهكذا الكبر والعتو، وهكذا الشرُّ إذا استحكم على النفوس يستتبع الظلمات بعضها فوق بعض، قال: حتى تتسامع العرب بنا وتهابنا.
وجمع الله بينهم وبين عدوهم، النبي ﷺ قَدِمَ بدرًا قبلهم، فَنَزَل في أول بدرٍ، فقال له الحُباب بن المنذر أو غيره: يا رسول الله، أهذا المنزل أنزلك الله إيَّاه أو أن نزلته بالرأي والمكيدة؟!
قال: بل هو الرأي والمكيدة، قال: ما هذا بالمنزل يا رسول الله! بل ننزل عند أقصى الماء، فنشرب ولا يشربون، فاستحسن النبي ذلك منه، وبُني له العريش على ربوة بدر على كثبان رملها، وجاءت قريش وكان من شأنها المُبارزة، ثم حَمِيَ الوطيس، فإنه بَرَزَ ثلاثة من هؤلاء الكفار، منهم عُتبه وشيبه ابنا ربيعة، وندب لهم النبي ﷺ عمه حمزة وعليًا -رضي الله عنهما- وقتلا هذين الرَّجُلَين، وكبَّر المؤمنون تكبيرًا هزَّ قلوبَ المشركين، وكانت هذه بوادر النصر، وأعانَ عليٌ وحمزة الزُّبير ابن عمِّه على عدوه.
حمّي الوطيس، ورتَّب النبي ﷺ قبل ذلك الميمنة والميسرة، وجعل فيها الزبير بن العوام، وجعل فيها من أصحابه، فكان أن قامت المعركة، والنبي ﷺ في عريشه رافعًا يديه يدعو ربه، فما أزال يرفع يديه ويلح على الله، «اللَّهمَّ أينَ ما وَعَدْتَني؟ اللَّهمَّ أَنْجِزْ لي ما وَعَدْتَني، اللَّهمَّ إنَّكَ إنْ تُهلِكْ هذهِ العِصابةَ مِن أهلِ الإسلامِ» ويشير إلى أصحابه من المهاجرين والأنصار «فلا تُعْبَدُ في الأرضِ أبدًا» ، حتى سقط رداؤه من على منكبيه ﷺ.
فجاء أبو بكر -رضي الله عنه- فأخذ بردائه واحتضنه، وقال: يا رسول الله حسبك مناشدتك ربك، فإنَّ الله منجز لك ما وعدك، هذا كمال الثقة وحسن الظن، وكمال اليقين بالله سبحانه وتعالى، ونبينا عنده هذا اليقين، ولكن هذا محفزٌ ومُعينٌ من أبي بكر -رضي الله عنه- فنصر الله رسوله ﷺ في يوم الفرقان -يوم بدر- وتسامع العرب بذلك، فصارت هذه عزة للإسلام والمسلمين، فالله الذي نصر عبده، وأعزَّ أولياءه وجنده، وهزم المشركين وحده.
وفي تلك السنة في رجب تحوّلت القبلة، بعد الهجرة بخمسة عشر شهراً، وقيل: بسبعة عشر شهراً، أي سنة ونصف تقريباً، تحوّلت القبلة من أين؟ من بيت المقدس شمالاً إلى الكعبة جنوبًا، فإن نبيّنا ﷺ كان يتمنى ذلك ويتطلع إليه، ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة"144].
نزل الأمر من الله لنبيه بتحويل القبلة، فتحولت مائة وثمانين درجة من الشمال إلى الجنوب، وبعث ﷺ أصحابه إلى مسجدِ بني سلمة، المسمى الآن "قبلتين"، وإلى مسجد "قباء"، فجاءهم هذا في صلاة العصر، وذاك في صلاة الصبح، مخبرين لهم بتحول القبلة، فتحولوا وهم يصلون من الشمال إلى الجنوب، يعني: الإمام يتحرك أم لا؟ يتحرك ولكنها حركة معفو عنها؛ لأنها من جنس الصلاة.
وكذلك المأمومون يتحركون مع إمامهم في استقبال القبلة الجديدة، فلمَّا تحولت القبلة؛ قال الله -جل وعلا-: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [البقرة:142]، من هؤلاء السفهاء من الناس؟
هم ثلاثة أصناف، الصنف الأول: المشركون، قالوا: تَحَوَّلَ إلى قبلتنا فلا يُبعد أن يرجع إلى ديننا، هذا ظنهم الفاسد، وهذا اعتقادهم الباطل.
ثانيًا: اليهود، قالوا: ما تحول عن قبلة الأنبياء إلا دلالة على فساد دينه، وأن دينه دين باطل، فهذا من كلام السفهاء.
الصنف الثالث: المنافقون، حيث جعلوا هذا التحول اضطراب وتناقض، وجعلوه من جنس العبث؛ لأنَّ قلوبهم شارقة بالحق، منطوية على النفاق والباطل، يبطنون ما لا يظهرون، ويظهرون خلاف ما يبطنون.
فكان من تحويل القبلة وهو حدث عظيم في بعد الهجرة، أنَّ من الصحابة من قالوا: ما شأن إخواننا الذين ماتوا ولم يستقبلوا بيت المقدس، كعثمان بن مظعون، وهو بالمناسبة أول مهاجري يُدفن في البقيع، دفنه النبي ﷺ وبكى، ووضع عند قبره حَجَراً! قالوا: لم يا رسول الله؟ قال: أعرفه لأزوره، وأدفن إليه أهله.
قالوا: ما شأنُ إخواننا الذين صلَّوا إلى بيت المقدس ولم يُصلُّوا إلى الكعبة، فأنزل الله في تمام الآية ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرْؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ ففيها تسمية الصلاة إيماناً؛ لأن الصلاة عنوان الإيمان، وهي من الإيمان، فهي "قول، وعمل، واعتقاد".
وفيها ردٌ على المرجئة الذين أخرجوا العمل عن الإيمان، أخرجوه بجنسه فتفلسفوا، أو أخرجوه بأفراده فتناقضوا.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
مِنْ بَعْدِ ذَا الْعُشَيْرُ يَا إِخْوَانِي ... وَفَرْضُ شَهْرِ الصَّوْمِ فِي شَعْبَانِ
)}.
(مِنْ بَعْدِ ذَا) أي: بعد غزوة الأبواء الأولى والثانية، وبواط، وغزوة بدر، وتحويل القبلة، من بعد ذا نزل فرض الزكاة.
(مِنْ بَعْدِ ذَا الْعُشَيْرُ يَا إِخْوَانِي) العشير اسم للزكاة؛ لأنَّ الزكاة تسمى بالمُعَشَّرات. لماذا سميت الزكاة بالمعشرات؟ لأنَّ أعلى نسبة من الزكاة هي العُشر، وغالِبُهَا رُبعُ العشر، وأحيانًا أقل من ربع العشر، كيف ذلك؟
العشر فيما سقت السماء، يسمى: بالعَثَرِ، يسمى: بالبعل، أو سقت العيون والأنهار الجارية من غير كُلفة ولا تعب، فزكاتها العشر وتسعين بالمئة لأهلها الذين زرعوها، فإن زُرعت بِالنَّواضح والمكاين والكُلفة والمؤونة، فزكاتها نصف العشر إذا بلغت النصاب، والنصاب في الحبوب خمسة أوسق، وفي الثمار -التمر وأمثاله- خمسة أوسق، وفي الصحيحين يقول النبي ﷺ: «ليسَ فِيما دُونَ خَمْسِ أواقٍ صَدَقَةٌ، وليسَ فِيما دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ» والخمسة أوسق ثلاثمائة صاع؛ لأن الوِسْقَ ستون صاعًا بصاع النبي ﷺ.
أكثر الزكاة ربع العشر، وقد تكون الزكاة أقل من ذلك، مثلاً الغنم، أربعون فيها واحدة، أي: ربع العشر.
ومئة وعشرون فيها واحدة، ومئة وواحد وعشرون فيها ثنتين، إذن أقل من الربع.
طيب من عنده ألف رأس من الغنم وتسوم الأرض كم زكاتها؟ إن قلنا: ربع العشر، خمسة وعشرين، وهي في الحقيقة عشر، في كل مئة واحدة.
إذن الزكاة متفاوتة، أعلاها العشر، وأحيانا أقل من ربع العشر بكثير، ربما ثمن العشر وربما أقل.
(مِنْ بَعْدِ ذَا الْعُشَيْرُ يَا إِخْوَانِي) أي: فرض الزكاة، (وَفَرْضُ شَهْرِ الصَّوْمِ فِي شَعْبَانِ)، الشهر شهر رمضان، فإنَّ النبي ﷺ لَمَّا قَدِمَ المدينة، وكان قدومه على المشهور في يوم اثنين في ربيع الأول، دارت السنة وإذا اليهود يصومون يوم العاشر، وهم أهل حساب، والعرب يُنسؤون بهذه البدعة الجاهلية، ينسؤون المحرم إلى صفر، كل سنة المحرم إلى صفر، فوجد اليهود يصومون يوم السبت -يوم عاشوراء- فقال ﷺ كما جاء في الصحيحين عنه: ما هذا اليوم؟ قالوا: هذا يومٌ فضيل، نجى الله فيه موسى وقومه، وأهلك فيه فرعون وملأه -أهلكهم بالغرق- فصامه موسى لله شكراً فنحن نصومه كذلك، فقال ﷺ: «فأنَا أحَقُّ بمُوسَى مِنكُمْ» ، لرابطِ إخوة الإيمان والنبوة، والبعثة، والدين الواحد وهو التوحيد، فصامه وأمر الناس بصيامه.
فكان الصوم في أوله واجبًا، وبعدها بأشهرٍ في شعبان نَزَلَ فرض الله بصوم رمضان، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ﴾ [البقرة:183-184] إلى آخر الآيات.
فتخفف صيام عاشوراء من الوجوب إلى الاستحباب، فبقي متأكداً في استحبابه، متى صام رمضان؟ في السنة الثانية من الهجرة، ولهذا صام ﷺ تسع رمضانات.
إذن نزلت فرائض الدين كالتالي: أولها التوحيد، وبعد عشر سنين نزل فرض الصلاة في الحادي عشر من البعثة، ثم فرضت الزكاة في السنة الثانية، ثم نزل فرض الصيام -صيام رمضان- وأمَّا الحج فلم ينزل فرضه إلا في السنة التاسعة من الهجرة، كما سيأتي إن شاء الله.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
وَالْغَزْوَة الْكُبْرَى الَّتِي بِبَدْرِ ... فِي الصَّوْمِ فِي سَابِعِ عَشْرِ الشَّهْرِ
)}.
(وَالْغَزْوَة الْكُبْرَى) لأنَّ هناك بدر الصغرى قبلها، وهي لم يلقَ من عدوه شيئاً كما قلنا في غزوة الأبواء الأولى، (وَالْغَزْوَة الْكُبْرَى) قد نوهنا عنها ببعض التفاصيل، وإلا فالمقام لا يستوعب، وأقولها مرة أخرى، فأنا لست كفئًا لذكر ما في هذه الغزوة، وفي كل السيرة من المعالم العظيمة.
(وَالْغَزْوَة الْكُبْرَى الَّتِي بِبَدْرِ فِي الصَّوْمِ) أي: في شهر الصوم في رمضان، (فِي سَابِعِ عَشْرِ الشَّهْرِ) أي: في اليوم السابع عشر من رمضان، والنبي ﷺ لم يكن الصوم قد فُرِض بعد، وقيل: فُرِض، وأفطروا لأجله، والأظهر الأول؛ لأن بعدها نزل الصوم في السنة الثانية من الهجرة، وغزوة بدر في أولها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
وَوَجَبَتْ فِيهِ زَكَاةُ الْفِطْرِ ... مِنْ بَعْدِ بَدْرٍ بِلَيَالٍ عَشْرِ
)}.
(وَوَجَبَتْ فِيهِ) أي في رمضان (زَكَاةُ الْفِطْرِ) وهذا وجه من قال: إن غزوة بدر كانت في فرض صيام شهر رمضان، نزلت فيه بعد أيام (زَكَاةُ الْفِطْرِ)، وزكاة الفطر هي صدقة الفطر، وجماع ما ورد فيها أحاديث ثلاثة صحيحة ثابتة عن النبي ﷺ، فحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: «فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، عَلَى الْعَبْدِ وَالْحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وأَمَرَ بهَا أنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلى الصَّلَاةِ» ، ويقول ابن عمر: "وكانوا يخرجونها قبل العيد بيوم أو يومين"، وجاء هذا في الصحيحين.
وجاء في الصحيحين أيضًا من حديث أبي سعيد الخُدري، سعد بن مالك بن سنان بن خُدرة، من الأنصار -رضي الله عنهم- قال: «فرض النبي ﷺ صدقة الفطر صاعًا من تمر، وصاعًا من شعيرٍ، وصاعًا من زبيبٍ، وصاعًا من أَقِطٍ، وصاعًا من طعام، وكنا نخرجها على عهد النبي ﷺ صاعًا من طعام فلما جاءت سمراءِ الشَّامِ أي: الحنطة، قال بعضهم بنصف صاع، أمَّا أنا فلا أزال أخرجها كما كنت أخرجها على عهد النبي ﷺ صاعًا من طعام.
وجاء فيها حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما «فَرَضَ رسولُ اللهِ ﷺ صدقةَ الفطرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ والرَّفثِ، طُعْمَةً لِلْمَساكِينِ، فمَنْ أَدَّاها قبلَ الصَّلاةِ؛ فهيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، ومَنْ أَدَّاها بعدَ الصَّلاةِ؛ فهيَ صدقةٌ مِنَ الصدقةِ» .
وكان هذا الشأن في زكاة الفطر بعد (بَدْرٍ بِلَيَالٍ عَشْرِ)؛ لأنَّ بدر في اليوم السابع عشر على أن انتهوا من المعركة في يوم العشرين، هي العشر قبل عيد الفطر في فرضها، ولهذا تجب زكاة الفطر على من أدرك آخر ليلة من رمضان.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
وَفِي زَكَاةِ الْمَالِ خُلْفٌ فَادْرِ ... وَمَاتَتِ ابْنَةُ النَّبِيِّ الْبَرِّ
)}.
(وَفِي زَكَاةِ الْمَالِ خُلْفٌ فَادْرِ) لا تظن أنَّ الزكاة غرامة أو ضريبة أو مكس، إنما هو مالٌ مخلوف؛ لقوله ﷺ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» بل تزده، وقال الله -جل وعلا- في آية التوبة -سورة براءة- ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾.
(وَفِي زَكَاةِ الْمَالِ خُلْفٌ) أي مالُها مخلوف، زكاة لك ولقلبك، وخلفٌ في مالك ونماء له.
(وَمَاتَتِ ابْنَةُ النَّبِيِّ الْبَرِّ) أي: ماتت رقية، ورقية هي الثانية من بناته، فالأولى كما سبق هي: زينب، ثم رقية، ثم فاطمة، ثم أم كلثوم -رضي الله عنهن، وعن أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة والقرابة يا رب العالمين-.
وكانت رقية مريضة، وهي زوجة عثمان بن عفان بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فهو ابن عم النبي ﷺ في ثالث، وهذا الذي منع عثمان أن يحضرَ غزوةَ بدرٍ الكبرى، كان يمرِّض زوجته، ولهذا ضرب له النبيُّ معهم بسهم.
ماتت رُقيَّة ابنةُ النبي ﷺ، ابنةُ النبيِّ البرِّ؛ لأنه بَرٌّ بأمته، وبرٌّ بعبوديَّته ربَّه -جل وعلا- وتوحيده.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
رُقَيَّةٌ قَبْلَ رُجُوعِ السَّفْرِ ... زَوْجَةُ عُثْمَانَ وعُرْسُ الطُّهْرِ
)}.
ماتت ابنةُ النَّبيِّ البرِّ (رُقَيَّةٌ قَبْلَ رُجُوعِ السَّفْرِ) أي: قبل رُجوعِهم من السَّفَر، من أين؟ من غزوةِ بدرٍ؛ لأنَّ عُثمان مُنشغلٌ بها، بيَّنَها من هي رُقية؟ زوجةُ عُثمان، وغرس الطهر أنها من بنات النبي الطاهرات، وكلُّ بناته وكلُّ نسائه هن طاهرات -رضي الله عنهن، ورفع منازلهن- فلا يكون تحت نبي غيرُ طاهرة، وإنما الخيانة التي جانت في امرأة نوح وامرأة لوط، فهي خيانة الدين لا خيانة العرض والنسب، ﴿فَخَانَتَاهُمَا﴾ أي: خيانة الدِّين بأنهما كانا على دين قومهم، وفسادهم وشرِّهم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
فَاطِمَةٍ عَلَى عَلِيِّ الْقَدْرِ ... وَأَسْلَمَ الْعَبَّاسُ بَعْدَ الأَسْرِ
)}.
من بناته ﷺ لَمَّا ذكر غُرسَ الطُّهرِ قال: (فَاطِمَةٍ عَلَى عَلِيِّ الْقَدْرِ) يعني: زوجة عليٍّ الذي رفع الله قدره، وهي رفع الله قدرها بابن عمِّها، وبكونها بنت رسول الله، وهي عنوان العفاف، وعنوان الطُّهر، ولهذا لقبها الزَّهراء، ولقبها الثاني عند أهل السنة بالبَتُول. قال القحطاني في نظمه:
أكرم بفاطمة البَتُول وزوجها ... ومن هما لمحمدٍ غُصنان
سبطان أصلهما بروضة أحمدٍ ... لله درّ الأصل والغصنان
وكونها بتول من: "التبتل" وهو الطُّهر والعفاف، (فَاطِمَةٍ عَلَى عَلِيِّ الْقَدْرِ) يعني أنَّ قدرها مرتفع وشأنها عظيم، وهي على علي بمعنى أنّها زوجته؛ لأنّ حروف الجر تتعاقب، وأنّها على عُلا الطُّهر من جهة أنها بَتُول وطاهرة وحصان.
(وَأَسْلَمَ الْعَبَّاسُ بَعْدَ الأَسْرِ) هذه مسألة خلاف، أي: متى أسلم العباس بن عبد المطلب عم النبي ﷺ؟ والصحيح أنه لم يؤسر. العباس لم يُأسر، وإنما الذي أُسر غيره من أبناء عمومته ﷺ، وممن أُسر أبو العاص بن الربيع زوج زينب، وفدته زينب بعقد أمها الذي أهدته لها؛ لأن زينب هي الكبرى من بنات النبي ﷺ، ولَمَّا تزوجت ابن خالتها أهدتها أمها خديجة -رضي الله عنها- عقدها، فلما أُسِرَ زوجها مع الأسارى وهم سبعون، وكان القتلى من المشركين أيضاً سبعين، فادى النبي الأسارى على ما اختاره واستشار به أبا بكر، وكان عمر يَرى قتلهم لا مُفاداتهم، ومضى أمر النبي ﷺ، ثم جاء القرآنُ مُؤيداً لعمر، ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
بعثت زينب بعقدها، فلما رآه النبي ﷺ مُفاديةً به زوجها بكَى، تذكَّر خديجة، وتذكَّر أنها هي التي أهدت ابنتها في زفافها هذا العقد، فقال: إن رأيتم أن تتركوا لها عقدها، وكان هذا أصل دخول الإيمان في قلب زوجها أبي العاص بن الربيع.
من الأسارى رجلٌ من بني نوفل، وهو الجبير بن المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وأبوه المطعم بن عدي، الذي دخل النبي ﷺ في جواره مرجعه من الطائف، أي: مرجعه ﷺ من الطائف لَمّا آذوه وحصبوه وأدموا عقبه الشريف ﷺ، فما دَخَلَ مكة إلا بوجه عزيز، وكان ذلك في جوار المطعم بن عدي، حتى ضعف المطعم عن استمرار إجارته للنبي ﷺ تحت ضغوط المشركين، أننا لا نريد أن نخفر جوارك، فَمُرْهُ فليسكت عنّا.
فجاء المطعم للنبي ﷺ بذلك، فقال: بل أرد عليك جوارك حتى لا يَلحقك الملامة، وأرضى بجوار ربي، لم ينسىها ﷺ، وهو أهل لكمال المروءة، وحُسن الجزاء، وجميل المعروف، في زمان اشتهر فيه اللؤم واللئام، وتناقصوا فيه عن الشيم وعن فِعل الكرام، ولا حول ولا قوة إلا بالملك العلام.
رأى الجبير بن مطعم، فمرَّ به وهو يرفل في قيوده، قال: جبير؟ قال: لبيك، قال: فكّوا وثاق جبير، ففكّوا وثاقه. ثم قال ﷺ مُعلنًا الوفاء: يا جُبير لو كان المطعم حيًّا ثم كلَّمَني في هؤلاء النَّتْنَى، أي: الأسارى، لتركتهم له. يعلمنا الوفاء والمروءة، وهو صاحبها، وأخلق الناس بها ﷺ.
والعبَّاس أسلم في الصحيح قبل فتح مكة، في الفترة بين الحديبية وبين فتح مكة، وقيل: إنه كان قد أسلم سرًا، وهذا الذي مضى عليه المُصنِّف في أرجوزته، أن العباس أسلم بعد الأسر.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
وَقَيْنُقَاعُ غَزْوُهُمْ فِي الْإِثْرِ ... وبَعْدُ ضُحَى يَوْمِ عِيدِ النَّحْرِ
)}.
مرجع النبي ﷺ من بدر، وكانَ لَمَّا قَدِمَ المدينة مما عمل بعد المؤاخاة أنه تعاهد وتعاقد مع يهود المدينة، وهم ثلاث قبائل، "بنُو قينقاع، وبنو النضير، وبنُو قُريظة". على ماذا تعاقد معهم وتعاهد؟! على أن يحموا المدينة؛ لأن الجميع يتعايشون ويسكنونها، فتكون هذه مشتركة، ولكن اليهود قوم خُلف، وقوم بُهت، لا عهد ولا ذمة ولا أمان، ولاحظ أنَّ هذه القبائل الثلاث كلها نكثت بعد معركة شريفة من المعارك. لماذا؟
لأن هذه المعارك أظهرت مكنوناتهم، وأظهرت حقدهم، وأظهرت حسدهم وبغضهم للإسلام ونبيه وأهله ﷺ.
مرجع نبينا من غزوة بدرن الكبرى، الفاصلة يوم الفرقان العظيم، أثارهم فغدرت بنو قينقاع، غذرت هذه القبيلة فأجلاهم النبي ﷺ من المدينة، وذهب أكثرهم إلى خيبر.
(قَيْنُقَاعُ غَزْوُهُمْ فِي الْإِثْرِ) يعني كأنها غزوة، لَمَّا أجلاهم بها وأخرجهم من المدينة خاسئين ذليلين.
(وبَعْدُ ضُحَى يَوْمِ عِيدِ النَّحْرِ) أي بَعدُ إجلائهم، جاء يوم النحر، وهو يوم العاشر من ذي الحجة، يوم العاشر من ذي الحجة هو يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر، الذي قال الله فيه في فاتحة براءة: ﴿وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ﴾، ويوم النحر هو يوم الحج الأكبر لأمور أربعة، فإنَّ فيه أربعة أعمال هي: أعمال الحج، ففيه رمي جمرة العقبة، وفيه الحلق أو التقصير، وفيه نحر الهدي، ويشاركهم الآفاق أهل البلدان بذبح الأضاحي، وفيه طواف الإفاضة، فلهذا سمّي بيوم الحجّ الأكبر، وهو يوم النحر، وهو أفضل أيام الله. وفي الأثر أفضل أيام الله يوم النحر، ويوم الفطر، ويوم عرفة، وأيام.
نسأل الله -جل وعلا- أن يُلهمنا وإياكم رشدنا، وأن يرزقنا حُسن الاقتداء بنبينا، وأن يجعلنا من أهل سنته، وأهل ولايته، وممن يَرِدُونَ حوضه، ويحشرون في زمرته، وينالون شفاعته، إنه سبحانه جواد كريم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
{جزاكم الله خير شيخنا، وجزاكم حسن الجزاء وأوفاه، ونفع بكم وزادكم من فضله، وأسبغ عليكم من خيراته.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، نلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
سلاسل أخرى للشيخ
-
8864 9
-
20861 9