الدرس الخامس
فضيلة الشيخ أ.د. علي بن عبدالعزيز الشبل
إحصائية السلسلة
{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله الذي شرح صدور أوليائه بالإيمان، وفتح لهم أبواب النصوص بقواعد البيان، وصلى الله على من أنزل الله عليه الكتاب والميزان، وعلى آله وصحابته ومن تبعهم بإحسان.
مرحبًا بطلاب العلم، حياكم الله وبياكم، وجعلنا الجنة مثوانا ومثواكم، وأسعد الله أيامكم وأوقاتكم بالبركات والخيرات، نرحب بكم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) والذين نتدارس فيه نظم الأرجوزة الميئية في ذكر حال أشرف البريّة، للعلامة ابن أبي العز الحنفي -رحمه الله تبارك وتعالى- يصطحبنا بشرحه فضيلة الشيخ الدكتور/ علي بن عبد العزيز الشبل، باسمي وباسمكم جميعاً نرحب بشيخنا المبارك.
حياك الله فضيلة الشيخ}.
وأنا كذلك أجدد الترحيب بكم وبإخواني وأخواتي أينما بلغ إليه هذا الأثير، سائلا الله -جل وعلا- أن يجعله لقاء موفقا طيباً، ينفعنا ويرفعنا الله به في الدنيا والآخرة، إنه سبحانه جواد كريم.
{أحسن الله إليكم، ورضي عنكم.
نستأذنكم شيخنا في البدء}.
نعم، استعن بالله.
{بسم الله.
قال المؤلف -رحمه الله-: (
ثُمَّ عَلَى سَوْدَةَ أَمْضَى عَقْدَهْ ... فِي رَمَضَانَ ثُمَّ كَانَ بَعْدَهْ
)}.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد، سيد الأولين وخاتم المرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
إن العيش مع سيرته ﷺ حياةٌ لقلوب المؤمنين، وأُنسٌ لها، وسلوانٌ على ما تلاقيه في الدنيا من أنواع الأقدار والكروب، عليه من ربنا أكمل صلاةٍ وأزكى سلام، نتسلَّى بها، ونعرف ونعلم ما لحقه بسبب هذه المهمة العظيمة في دعوته لتوحيد الله من أنواع البلاء وصنوف الأذى.
قال -رحمه الله-: (ثم) أي: بعد موت أبي طالب، وموت خديجة، وإيمان الجن من أهل نصيبين، لَمَّا لاقوه في وادي نخلة.
(ثُمَّ عَلَى سَوْدَةَ أَمْضَى عَقْدَهْ ... فِي رَمَضَانَ ثُمَّ كَانَ بَعْدَهْ) أي كان بعده عقد ابنة الصديق في شوال، وبعد خمسين عقد ﷺ على سودة بنت زمعة المخزومية القرشية لَمَّا ماتت خديجة؛ لأن الرجل يحتاج إلى امرأة، كيف ورسول الله ﷺ بهذه المكانة من الفحولة والرجولة، وسودة بنت زمعة كبيرة في سنها، وهي أسنُّ نسائه ﷺ، بل هي أكبرُ منه في سنِّها.
عقدَ عليها في رمضان ودخلَ بها، فهي ثاني زوجاته بعد خديجة، وهذا شرفٌ لبني زمعَة ولبني مخزوم، أن يصاهرهم رسولُ الله ﷺ.
وفي شوّال بعد رمضان، عقد على عائشة وهي بنت ست سنين، ابنة الصديق، وعقده عليها وهي صغيرة، زوجه إياها أبوها أبو بكر، وهو خليل رسول الله، وإن كان رسول الله خليل الرحمن سبحانه وتعالى، زوجه إياها، ودخل بها النبي ﷺ بعدما هاجر إلى المدينة في السنة الثانية من الهجرة، يعني: بعد ثلاث سنوات من عقده عليها، وليس في هذا منقصة أن يعقد على ثنتين بينهما شهر، وإن كان أهل الزمان قد يعيبون ذلك ويستكثرونه ويستعظمونه، الشأن لكمال رجولة من مضى، وكمال إيمانهم ووفور عقلهم، رضي الله عنهم، وصلاة وسلامًا على نبينا وعلى آله.
تزوج سودة بنت زمعة، وهي امرأة كبيرة، وهي ثاني زوجاته، ثم عقد على عائشة -رضي الله عنها- وهي بنت ست سنين، بنيّة صغيرة جارية، ودخل عليها وهي بنتُ تسع سنين.
وفيه جواز أن يزوج الأب موليته لمن هو كفءٌ لها، ولا أكفأ أحد من رسول الله ﷺ.
وزواجه من عائشة -رضي الله عنها- في شوال، وليس معنى ذلك فضلُ النكاح في شوال كما قد اشتهر عند كثيرٍ من الجهال، فليس لشوال ميزة، وإنما هو شهرٌ كغيره من الشهور من حيث عقد النكاح، أو باعتقاد بعض الناس البركة فيه، فقد وافق عقد النبي على عائشة في شوال، وعقده على سودة بنت زمعة في رمضان، وشوّال هو من أشهر الحج التي قال الله -جل وعلا- فيها في ميقات الحج الزماني، في أول الآيات من سورة البقرة: ﴿الحج أشهرٌ معلومات فمن فرض فيهن الحجَّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجَّ﴾.
وأشهر الحجَّ هي: شوّال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، فينتهي الحجُّ -أن يفوت الحجُّ- بطلوع فجر يوم النحر، حيث فاتَ أعظم أركان الحجُّ وهو الوقوف بعرفة.
عقد النبي ﷺ على عائشة ولم يدخل بها حتى هاجر إلى المدينة، فدخل بها في المدينة، ومكث معها عشر سنين تقريبًا، ومات عنها ولها ثماني عشرة سنة في أولها.
سودة بنت زمعة -رضي الله عنها- مكثت مع النبي ﷺ، فهمّ النبي أن يُطلقها حيث طابت نفسه منها من جهة الجبلة البشرية، رسول الله بشر ﷺ، فكأنها أحسّت أو علمت بذلك فأهدت ليلتها لمن؟ لعائشة إبقاءً لعقد الزوجية لها على رسول الله ﷺ، وهذا من توفيق الله لها ومن حظها؛ لأن زوجاته في الدنيا زوجاته في الآخرة، وهن أمهات المؤمنين، وخصَّت عائشة -رضي الله عنها- بأن أعطتها ليلتها لِمَا علمت، بل نحن علمنا ذلك في القرون المتأخرة، من عظيم حب نبينا ﷺ لهذه المرأة الحميراء، الحبيبة، الصديقة بنت الصديقة.
أكرم بفاطمة البتول وزوجها ... وبمن هما لمحمد سبطان
غصنان أصلهما بروضة أحمد ... لله در الأصل والغصنان
أكْرِمْ بعائشة الرّضا مِن حُرّةٍ ... بِكْرٍ مُطهَّرةِ الإزارِ حَصَانِ
رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (
عَقْدُ ابْنَةِ الصِّدِّيقِ فِي شَوَّالِ ... وَبَعْدَ خَمْسِينَ وَعَامٍ تَالِ
أُسْرِيْ بِهِ وَالصَّلَوَاتُ فُرِضَتْ ... خَمْسًا بِخَمْسِينَ كَمَا قَدْ حُفِظَتْ
)}.
بعد سنة واحد وخمسين من سنه، وبعد إحدى عشرة سنة على المشهور من بعثته، أُسري به بعد عام تال، أي من نكاحه لسوده، وعقده على عائشة -رضي الله عنهما- أُسري به ﷺ.
تأمل في مسيرة حياته تجد فيها محطات فاصلة، مثل: البعثة، نزول الوحي، ثم الدعوة السرية، ثم الدعوة العلنية، ثم الهجرتين إلى الحبشة، ثم موت أبي طالب وخديجة، وقد خرج ﷺ إلى الطائف يَبتغي مناصراً، وأذوه وسلطوا عليه سفهاءهم، فرموه بالحجارة فأدموه، أدموا عقبه الشريف، وبعث الله له جبرائيل ومعه ملك الجبال، كما في الحديث الذي رواه ابن إسحاق وغيره، وإن كان فيه عنعنة، ولكنه يُحتمل في باب الأخبار، وفيه ضاقت الوسيعة -هذه الدنيا- برسول الله ﷺ، فلجأ إلى الله، يعلمنا توحيد الله باللجوء إليه، وطلب كشف الكُرب منه، «اللّهُمّ إلَيْك أَشْكُو ضَعْفَ قُوّتِي، وَقِلّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاسِ، يَا أَرْحَمَ الرّاحِمِينَ! أَنْتَ رَبّ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَأَنْتَ رَبّي، إلَى مَنْ تَكِلُنِي؟ إلَى بَعِيدٍ يَتَجَهّمُنِي؟ أَمْ إلَى عَدُوّ مَلّكْتَهُ أَمْرِي؟ إنْ لَمْ يَكُنْ بِك عَلَيّ غَضَبٌ فَلَا أُبَالِي، وَلَكِنّ عَافِيَتَك هِيَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك» بمن طلب العياذة واللياذة؟ بالله عز وجل. «أَعُوذُ بِنُورِ وَجْهِك الّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ الظّلُمَاتُ، وَصَلُحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ مِنْ أَنْ تُنْزِلَ بِي غَضَبَك، أَوْ يَحِلّ عَلَيّ سُخْطُكَ، لَك الْعُتْبَى حَتّى تَرْضَى، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوّةَ إلّا بِك»[1]
بعث الله له جبرائيل ومعه ملك الجبال، فرفع رأسه ﷺ وليس معه إلا زيد بن حارثة مولاه، وأهل مكة يتوعدونه، وقد مات مُناصِراه، مات أبو طالب وخديجة، وهؤلاء سلطوا عليه السفهاء، وكان فيها قصة عَدْس ذلك النصراني الذي كان يخدم في مزرعة عُتبه وشيبه ابني ربيعة، وآمن في ذلك المقام بنبينا ﷺ لِمَا عنده من علم بأن عيسى بَشَّرَ به، ﴿وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ﴾ رفع رأسه وإذا جبريل ومعه ملك الجبال، قال: «يا محمَّدُ، إنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وما ردُّوا عليكَ ، وقد بعثَ اللَّهُ ملَكَ الجبالِ لتأمرَهُ بما شئتَ فيهِم، قالَ: فَناداني ملَكُ الجبالِ: فسلَّمَ عليَّ ، ثمَّ قالَ: يا محمَّدُ إنَّ اللَّهَ -عزَّ وجلَّ- قد سمِعَ قولَ قومِكَ لَكَ، وأَنا ملَكُ الجبالِ، وقد بعثَني ربُّكَ إليكَ لتأمرَني أمرَكَ، وبما شئتَ، إن شئتَ أن أُطْبِقَ عليهِمُ الأخشبَينِ فعلتُ» ما الأخشبان؟
جبل أبي قبيس الذي في حُضن جبل الصفا، يُقابِله جبل قُعيقِعان، يسمَّى الآن جبل الشاميَّة الذي في حُضنه جبل المروة، يطبق عليهم الأخشبين، فقال ﷺ في هذا الموضع -موضع الكرب والشدَّة-: «لا! بل أرجو» إذن النبي فعل الدعاء والاستعاذة واللياذة، وها هو الآن رجا، قال: «لا! بل أرجو أن يُخْرِجَ اللَّهُ مِن أصلابِهِم» أي: من أصلاب المُشركين، «مَن يعبدُ اللَّهَ، لا يشرِكُ بِهِ شيئًا».
رجَا ذلك من الله لا منهم، ولا من جِدَّته وتحمُّله وقوَّته في دعوته إلى الله.
إِذَا لم يَكُنْ عَونٌ مِنَ اللهِ لِلفَتى ... فَأَوَّلُ مَا يَجنِي عَلَيهِ اجتِهَادُهُ
فحقَّق الله لنبيينا عياذته، ولياذته به، وفرج همَّه، وحقَّق رجاءه فيه، فأخرج من صلب أبي جهل: عكرمة من فرسان الصحابة الذين فتحوا بلاد الشام، ومن صلب أمية: صفوان بن أمية، وغيرهم، حقق الله هذه النعمة.
كان الإسراء والمعراج بعد إحدى عرة سنة من البعثة، ونبينا له واحد وخمسون سنة، وهي مرحلة فاصلة في دعوته إلى الله.
أسرى به في ليلة من مكة إلى بيت المقدس، ثم عُرجَ به في تلك الليلة إلى السماوات العُلَى، إلى أن بلغ الجبار -جل وعلا-، وهو في علوه فوق سبع سماوات، فوق عرشه، بائناً من خلقه.
في الإسراء إلى بيت المقدس، جاءت أول سورة الإسراء، بسم الله الرحمن الرحيم ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ [الإسراء:1]، وفي معراجه نزلت سورة والنجم إذا هوى.
وكون الإسراء أول إلى بيت المقدس له حِكَمٌ:
أولاً: ليُكذبَ من كذبوه، حيث نعت لهم بيت المقدس وهم يعلمون أنه لم يره، ولم ينزل به.
ثانياً: فيه إظهار شرفه ومكانته على الأنبياء، حيث صلَّى بهم إماماً، لَمَّا ربطَ البراق بحلقة باب مسجد الأقصى.
ثالثًا: فيها تأليفٌ لأهل الكتابين قبلنا من اليهود والنصارى، إذ بيت المقدس قبلتهم، والمسرى إلى قبلتهم تأليفٌ لهم، أنه جاء بما جاء به الأنبياء والرسل قبله، وهو بشارة عيسى به، وقد أُخِذ على الأمم كلها الميثاق من أنبيائهم ورسلهم أن إذا بَعَثَ الله محمداً ليؤمنن به ولينصرنه.
أُسري به ﷺ إلى بيت المقدس، ثم عُرجَ به إلى السماء، الإسراء على البراق، والمعراج بآلة الله أعلم بكيفيتها، إنما صعود، صاحبه في هاتين السفرتين العظيمتين جبرائيل، ولَمَّا عَرجَ به إلى السماء لا يمرون على سماءٍ إلا ويستفتح له جبريل، فتقول الملائكة حراس كل سماء: من معك؟ فيقول: معي محمد. فتقول: أو قد بُعث له؟ فيقول: نعم، فيُؤذن له، فلقي في السماء الأولى آدم، فأشار عليه جبريل أن اذهب فسلّم عليه، فسلّم عليه، وقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح.
ثم إلى السماء الثانية، واستأذن فأُذن لهم، ولقي فيها ابنا الخالة، عيسى ويحيى، عيسى ابن مريم، ويحيى بن زكريا، وقالا: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح.
ثم إلى السماء الثالثة فاستؤذِن له فأُذِن له، ولقيا فيها: يوسف الصديق ابن الصديق ابن الصديق، فسلَّم عليه وقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح.
ثم إلى السماء الرابعة فاستُؤذِن له فأُذِن، فلقي فيها إدريس، فرحبَّ به وقال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح.
قالوا: وهذا قول الله -جل وعلا-: ﴿وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا﴾.
ثم إلى السماء الخامسة فاستؤذن له فأذن له، فلقي فيها هارون أخا موسى -عليه الصلاة والسلام- فسلم عليه وقال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح.
ثم إلى السماء السادسة فاستؤذن له فأذن له، فلقي فيها موسى بن عمران، فسلَّم عليه وقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، فلما جاوزه بكى موسى، قيل: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما يبعث من بعدي يدخل من أمته الجنة أكثر ممن يدخل من أمتي!
وهذا البكاء ليس بكاء حسد، وتمني زوال هذه النعمة التي أولى الله بها نبينا، وأولاها أمته، وإنما بكاء غِبطة، يتمني مثل هذه النعمة لأمته، ولكن أمته أمة بهتان، وجدل، وعناد، وممن يشابههم هم كُثُر، لا كثرهم ربي.
ولهذا من أثر موسى علينا ما يأتي، أنه سبب في تخيف الصلاة.
(أُسْرِيْ بِهِ وَالصَّلَوَاتُ فُرِضَتْ ... خَمْسًا بِخَمْسِينَ كَمَا قَدْ حُفِظَتْ) جاوزه إلى السماء السابعة فاستؤذن له فأُذِن، فلقي فيها إبراهيم، فسلَّم عليه وقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح
آدم في الأولى، وإبراهيم في السابعة، يصفانه بالنبوة والبنوة، والأنبياء في السماء الثانية، والثالثة، والرابعة، والخامسة، والسادسة، يصفانه بماذا؟ بالنبوة والأخوة.
ثم عُرجَ به بعدها إلى أن أدرك سدرة المنتهى، ثم عُرجَ به فغشيه من ألوانها ما غشيه، ثم ما زال في صعودٍ وعلو إلى أن بلغ ﷺ مستوى سمع فيه صريف الأقلام، ما صريفها؟ احتكاك الأقلام بالصحف، تنقل من اللوح المحفوظ، تنقل القلم العُمُرِي، والقلمَ اليومِي، والقلمَ الحَوْلِي، واللهُ -جلَّ وعلاَ- تمدَّح بقولهِ: ﴿مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾، وفي قولهِ: ﴿يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ فما زال في علو إلى أن بلغ مستوى وقف فيه جبريل، فالتفت النبيُ إليه، فقال جبريل: تقدَّم هذا حدِّي.
وفي هذا دليلٌ على فضلِ نبيِّنا على غيره من الأنبياء والمرسلين، ومن الملائكة المقرّبين، عليهم جميعاً من ربي أكمل صلاة وأفضل تسليم.
في هذه افترضَ الله عليه خمسين صلاة، كلَّمَ الله نبيَّنا بغيرِ واسطةِ ملك، ولم يرَ نبيُّنا ربَّه، ففي صحيحِ مسلم من حديثِ أبي ذر -رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ ﷺ: «رأيتُ نورًا»، وفي رواية: «نُورٌ أَنَّى أراه»[2]، والنور الذي رآه نور الحجب؛ لأنَّ اللهَ حِجابُه وحُجبُه النُّور والنّار.
فرَضَ عليه خمسين صلاة، فرجع النبي ﷺ نازلاً، فلقِيَ موسى في السماء السادسة، قال: ماذا فرَضَ عليكَ ربُّك؟ أَمرُ نبيِنا صال وجال في السماوات، عرَفوا أنَّهُ بُعِثَ إليه فاهتمُّوا لأمرِه، واهتموا لهذه المكانة التي نالها نبينا بهذا الإسراء والمعراج، وهي شرفٌ له، وشرفٌ لأمته من بعده إن استقاموا على دينه وسنته وطريقته ﷺ.
قال: افترض عليه خمسين صلاة، فأشار عليه موسى الكليم، وله علينا أمة الإسلام هذه النعمة والمنة، قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك، وقد جربت الناس قبلك. التفت ﷺ إلى جبرائيل كالمستشير، فأشار أي نعمـ فرجع النبي صعودًا مرةً ثانية إلى الله وسأله التخفيف، فوضع الله عنه خمسة. كم صارت؟ خمس وأربعين.
فنزل حتى لقي موسى في السادسة، فقال: ارجع إلى ربك فسأله التخفيف، فرجع صعودًا فوضع عنه خمسة، وهكذا إلى أن بلغت خمس صلوات.
إذاً تردد بين الله في علوه وبين موسى في السماء السادسة تسع مرات، يقول العلماء -ومنهم ابن القيم-: وفي الإسراء والمعراج إثبات لعلو الله -جل وعلا- من وجوه كثيرة لمن تأمله؛ لأنه ما زال في علو وينزل إلى موسى، وهو في صعود ﷺ، فصارت خمسا بخمسين؛ لأنه لما قال: ارجع إلى ربك في الخمس واسأله التخفيف، قال ﷺ: «إني قد استحييت من ربي» اللهم صلِّ وسلم عليه؛ لأنه أشد حياءً من العذراء في خُدرها، فالعذار أي: البنات الأبكار يستحين.
فنادى مناد من السماء، قد أمضيت فريضتي في الصلاة، وخففت عن عبادي، يعني: أنهن خمس في العدد، ولكنَّها خمسون في الأجر؛ لأنَّ أقلَّ المضاعفة للحسنات فضلاً من ربنا علينا، أنَّ الحسنة بعشر أضعافها.
وفي هذا شأن الصَّلَاة أنَّ الله افترضَها عن نبيِّه بغير واسطة، بل في معراجه، وهذا يجعل لهذه الصَّلَاة مكانةً ورُتبةً تتميَّز بها بين فرائض الله في أركان الدين.
أُسرِي به والصَّلَواتُ فُرِضَت خمسًا، وهي: الفجرُ، والظهرُ، والعصرُ، والمغربُ، والعشاء، خمسًا بخمسين كما قد حُفِظَت، حُفِظَت في وحي الله، واستقرَّت عليها شريعة الله جل وعلاً.
{أحسن الله عليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (
وَالْبَيْعَةُ الْأُولَى مَعَ اثْنَيْ عَشَرَا ... مِنْ أَهْلِ طَيْبَةَ كَمَا قَدْ ذُكِرَا
)}.
قوله: (وَالْبَيْعَةُ الْأُولَى مَعَ اثْنَيْ عَشَرَا ... مِنْ أَهْلِ طَيْبَةَ كَمَا قَدْ ذُكِرَا) أي: كما ذكره علماء السير، كموسى بن عقبة، ومحمد بن إسحاق، الذي روا سيرته ابن هشام، وغير هؤلاء، كما جاءت في الصِّحاح، في الصَّحيحين وغيره، كانت البيعة الأولى بيعة العقبة، وهي على الصحيح بعد ثلاث عشر سنة من بعثته، أي: بعد الإسراء بسنةٍ وثمانية أشهر تقريباً، وبيعة العقبة الأولى، بايعه فيها اثنا عشر من الأوس والخزرج، منهم: أسعد بن زرارة، هذا الذي كان له الموقف العجيب في البيعة، ولعلنا أن ننوه عنه في موضعه، فإن نسيتُ فذكِّرني.
(مِنْ أَهْلِ طَيْبَةَ) يعني: من أهل المدينة، وهذا من فقه الناظم لهذه الأرجوزة، العلامة عليّ ابن علي بن أبي العز الحنفي، أنه لم يذكر يثرب؛ لأن النبي نهانا عن تسمية يثرب، وسماها باسمها الذي سماها به النبي ﷺ، طيبة، وطابة، ودار الهجرة، والحبيبة، وأم القرى.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-:
(وَبَعْدَ ثِنْتَيْنِ وَخَمْسِينَ أَتَى ... سَبْعُونَ فِي الْمَوْسِمِ هَذَا ثَبَتَا
)}.
كانت بيعة العقبة الأولى كأنها في شوال، ورجعوا وتواصوا مع قومهم؛ لأنَّ الله أراد بالأوس والخزرج خيرًا، فقد كان نبيُّنا ﷺ على مدى ثلاث عشرة سنة يعرض نفسه على القبائل في موسم الحج أن ينصروه ويؤووه وَيَمْنَعُونَهُ مِنْ عَدُوِّهِ. لِمَاذَا؟ مَا السَّبَبْ؟
قال: لأن قريشًا منعوني أَنْ أُبَلِّغَ دين ربي، وكانت القبائل تتلكَأ لموضع قُرَيْشٍ من قبائل العرب في موضع السيادة والريادة، وهم أهل الحرم، وخدام الكعبة وسدنتها، حتى أراد الله بهذا الحي في الأوس والخزرج خيرا، فدخل منهم من دخل في هذا الدين، وأثَّروا في أقوامهم، وبايعُوا النَّبي ﷺ.
ثمَّ جاءت البيعةُ الثانية بعدَ ثِنتين وخمسين ليلة، بيعة العقبة الثانية في موسم الحج، (سَبْعُونَ فِي الْمَوْسِمِ) أي: في موسم الحج (ثَبَتَا)، أي: ثبتت هذه البيعة الثانية التي هي مفصلٌ في تاريخ هذه البعثة، بعثة النبي ﷺ، فإن الأوس والخزرج ممن آمنوا، فتح الله قلوبهم للإيمان والتوحيد، ولنصرة النبي ﷺ وإيوائه، وأن يكون مهاجره عندهم.
أخبر النبي ﷺ عَمَّه العباس بذلك، وكانت الليلة ليلة العقبة، والعقبة هي الجمرة الكبرى، وراءها جبل استخفوا فيه عن الناس، فحضرها هؤلاء السبعون، وانتدب منهم النبي ﷺ النقباء يأخذ عليهم البيعة وهم يبايعون عمًّا وراءهم، وقد أخذ عليهم العهد أن ينصروه ويؤوه بما ينصرون به أنفسهم وأهليهم وأولادهم، أي: في المدينة. لماذا؟ ما الغاية وما الغرض؟
ليبلّغ دين الله، وعمه العباس معه ولم يسلم بعد، إنما حمية على نبي الله أن يخرج بينهم من مكة إلى قوم يقومون بمقام نصرته، بعدما كان من قريش ما كان، ومن التواطؤ على قتله وإزهاق روحه ﷺ بما فعلوا، فثبت هؤلاء المبايعون على البيعة، فقاموا ليبايعوا، فقام دونهم أسعد بن زرارة، وكان أحدثهم سنًا، أي: أصغرهم. قال: يا قوم مهلاً! اعلموا أنكم بهذه البيعة ستواجهون العرب، وستقذفكم العرب عن بكرة أبيها، فإما أن تكونوا صُدقًا عند اللقاء، وإلا فأقيلوا البيعة الآن حتى ما تلحقكم ملامة من الله -عز وجل-، أنكم تخذلوا وتسلموا رسوله.
فقال هؤلاء المبايعون: إليك عنا يا أسعد، والله إننا صدقٌ عند اللقاء، فتهلهلت أسارير وجه النبي ﷺ، فبايعهم بيعة العقبة، بيعة ثانية لهؤلاء، أي: لنقباء بيعة العقبة، وهم بايعوا من وراءهم، معاهدة وموافقة على النُّصرة والإِيواء، ولهذا كانت المُعاهدة على المدينة.
فلما خرج بهم إلى بدر يعترض بهم عير قُرَيش كما سيأتي، استشارهم النبي ﷺ لأن النُّصرة الآن صارت خارج المدينة.
هذه البيعة هي منقبةٌ ومشرفةٌ ومكرمةٌ للمبايعين بيعة العقبة الأولى وعددهم اثنا عشر، وفي السبعين في بيعة العقبة الثانية، ولهذا يشاد بهؤلاء السابقة من الأنصار، أنه كان من النقباء، أنه من كان أهل بيعة العقبة.
كما يشاد بذكر المهاجرين الأوائل الذين هاجروا إلى الحبشة الهجرتين، أو الهجرة الثانية.
اللهم صلِّ وسلِّم على رسول الله.
{أحسنَّ الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (
مِنْ طَيْبَةٍ فَبَايَعُوا ثُمَّ هَجَرْ ... مَكَّةَ يَوْمَ اثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ صَفَرْ
)}.
(مِنْ طَيْبَةٍ) أي: ثبتت البيعة الثانية للعقبة في الموسم لأهل طيبة، (ثُمَّ هَجَرْ) أي: هاجر من (مَكَّةَ يَوْمَ اثْنَيْنِ مِنْ شَهْرِ صَفَرْ) هذا على الأرجح، وإلا قيل فيها أقوال، أي: بعد البيعة بكم شهر؟ إذا قلنا إن البيعة كانت في الربع عشر، أو الخامس عشر، أو السادس عشر من ذي الحجة، فشهر ونصف.
ثم هاجر النبي ﷺ الهجرة التي غيرت وجه الدنيا من مكة قد هجر، يعني: هجر منها إلى المدينة، ولم يكن يعلم الناس إلى أين كان متجها، إنما كان يعلمه العباس، ويعلمه أهل المدينة، حتى أبو بكر ما كان يدري إلى أين الوجه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله-: (
فَجَاءَ طَيْبَةَ الرِّضَا يَقِينَا ... إِذْ كَمَّلَ الثَّلاَثَ وَالْخَمْسِينَا
)}.
في هجرته من مكة إلى المدينة لا بدَّ أن نقف هذه الوقفة، وإن كانت الحلقة والحلقات لا تفيها، ولكن العذر من الله ثم منكم ومن طلبة العلم، أن المقام لا يحتمل كثيراً من التفصيل والاستيعاب، ولست أهلاً لذلك.
أراد أبو بكر أن يهاجر للحبشة، فقال له النبي ﷺ: تمهل وتريث يا أبا بكر، فلعلي أن أؤمر بالهجرة فنهاجر سوياً، فكانت منقبة لأبي بكر أن يكون رفيق النبي في هجرته.
اشتدَّ أذى أهل مكة على رسول الله، وجاءهم الشيطان على هيئة شيخٍ أعرابيٍ قدم من جهة نجد، فأشار عليهم أن ينتدبوا من كل قبيلةٍ شابًا جذعًا، ويتعاونوا على قتل محمد فيتفرَّق دمه بين قبائل قريش، وعدَّتها أربع عشرة قبيلة من النسب ومن الحلف.
لَمَّا أشار عليهم بهذا الرأي استحسنوه جدًّا، فكان في تلك الليلة التي أذن الله لنبيه بالهجرة، وكان قبلها استعدَّ، فلما أُذن وأُمر بالهجرة أتى أبا بكر في ساعة لم يكن يأتيها به في قائلة النهار، طرق عليه الباب، فإذا رسول الله بالباب، تقول عائشة -رضي الله عنها-: طرقنا النبي ﷺ في ساعة لم يكن يأتينا بمثلها، في القائلة، فقال: أبو بكر حاضر؟ قالوا: هو قائل، أي: نائم نوم القيلولة قبل الظهر. قال ﷺ: أيقظوه. فأيقظناه فقلنا: هذا رسول الله في الباب، فقام فزعاً، وقال: والله ما جاء برسول الله في هذه الساعة إلا أمرٌ جلل، فخرج أبو بكر وأدخل رسول الله بيته، فتلفَّت رسول الله يمنةً ويسرة، قال: أثمَّ أحدٌ يا أبا بكر؟ قال: ما ثمَّ إلا أهلك، لأنه قد ملَّكه وعقد له على ابنته عائشة، فقال: «اللهم نعم».
ثم قال: يا أبا بكر، إني أُمِرْتُ بالهِجرة، قال أبو بكر مباشرةً: الصحبة يا رسول الله، لم يتردد، ولم ينظر إلى علائق الدنيا، لم ينظر إلى والديه وحب الوالدين فطرة، لم ينظر إلى ولده وحب الولد عليقة، لم ينظر إلى أهله وزوجه، لم ينظر إلى ماله وكان من أثرياء الصحابة، لم ينظر إلى وطنه، ووطنه هي مكة، سيغادرها وقد لا يرجع إليها، يعني: هذه الخمس كلها لم تقم في قلبه، ما قام في قلبه من صحبة النبي ﷺ، هذه الصديقية وقد نالها أبو بكر بعد الإسراء والمعراج، حيث كذبته قريش، وفرحوا أن يأتوا بهذا الأمر الذي يخذلون به من آمن بالنبي، فأتوا إلى قريش، قالوا: يا أبا بكر، أسمعت ما قال صاحبك؟ قال: وما قال؟ قالوا: إنه في ليلة أسرى به إلى بيت المقدس.
قال: إني أصدّقه بما هو أعظم من ذلك، يقول: يأتيني بخبر السماء وأنا أصدّقه بذلك، ولهذا لقب بالصديق، وأبو بكر -رضي الله عنه- من أكمل بل أفضل الصديقين، وهم أفضل رتبة بعد الأنبياء، ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء:69].
قال: الصُّحبة يا رسول الله، قال: نعم. فيا الله كم هي الفرحة في رسول الله حيث وافقه أبو بكر، وفي أبي بكر حيث أذن له النبي بهذه الصُّحبة، وهذا أمر الله وهذا تقدير الله، ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ من هم الاثنان؟ رسول الله وأبو بكر.
فقال أبو بكر وقتها: دعني يا رسول الله أهيئ الأمر، فاشترى راحلتين من ماله، ركائب الهجرة، وواعد رجلًا خِرِّيتًا، وهو عبد الله بن أريقط الليثي، وأمر مولاه: عامر بن فهيرة أن يجلب غنمه في طريقهم لَمَّا مكثوا وكنوا في غار جبل ثور ثلاث ليال، وكانت أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين تروح عليهم بالعَشاء، وكان عبد الله بن أبي بكر يروح عليهم بأخبار قريش، في النهار مع أهل مكة، وفي العشي وفي المساء يأتيهم فيخبرهم، حتى كانت هذه السفرة العظيمة سفرة الهجرة.
خرج من بيته منيباً على فراشه ابن عمه عليّ بن أبي طالب، هذا الشجاع، هذا الغضنفر، هذا الذي لا يخاف ولا يهاب إلا من ربه العزيز الوهاب سبحانه، أخذ حصبةً من التراب فأثارها على أهل مكة، شاهت الوجوه، فما من عينٍ إلا أصابها هذا التراب.
سمعت قريش بخروج النبي وانهبلت وفزعت ورتبوا الجوائز والعظائم مئة ناقة على من يأتي برسول الله أو بأبي بكر.
شاع الخبر ومضى النبي ﷺ يمشي بعدما كان من غار جبل ثور ما كان، يمشيان حتى سمع بهم سراقة بن مالك بن جعشم، وهو سيد قومه، فأدركهم أثناء سيرهم، وكان من إدراكه لهم الأمر العجيب، ساخت أقدام فرسه في التراب، فعلم أنهما مباركين.
يقول أبو بكر: كنت أمشي مرة أمامه، ومرة خلفه، وعن يمينه، وعن يساره، ورسول الله يمشي يقرأ القرآن، فقراءة القرآن لأهله سكنٌ لنفوسهم، وراحةٌ لخواطرهم، وطمأنينةٌ لهم ولإيمانهم، ولم يكن خوف أبي على نفسه، بل على رسول الله ﷺ، فكان من ذلك أن واعد النبي سراقة ابن مالك بسواري كسرى إن رد الناس عنه، صَدَّقَ سراقة لِمَا رأى من الآيات المباركات في هذا النبي، ثم ردَّ الناس وقال: كفيتكم هذه الجهة.
مضيا حتى أقبلا على خيمة أم معبد السلمية رضي الله عنها، وكان الزمان زمان جدب وقحط، ولأبي معبد شويهات خرج يرعى بهنّ الأرض، فرأى رسول الله وأبو بكر خيمتين قريبتين صغيرتين شراعين في جهة وادي قديد، فمال إليها وليس في طرف البيت إلا شاة عجفاء يابسة مريضة هزيلة من الجدب والقحط. فقالت: ما عندنا والله من شيء، فقال ﷺ لأم معبد: وهذه الشاة؟ قالت ما تُسمِن ولا تُغني. فقال: ائتيني بقدح! فاستغربت وطارت عيناها، ثم أتت بالقدح، واستلم النبي الشاة، فمسح على ظهرها وعلى ضريها، وذكر الله ودعا، فبدأ الضرع ينتفخ باللبن، فحلبه النبي ﷺ، فأعطى صاحبيه أبا بكر والدليل عبد الله بن أريقط وكان مشركًا ولم يكن من اليهود، فهو من مشركي العرب من بني ليث.
فشرب حتى ارتوى، فشرب النبي ﷺ فضلتهما، أي ما بقي منهما لحسن دله، وكريم شمائله، وعظيم تواضعه.
ثم حلبه ثانيا حتى ملأ القدح ووضعه، ثم أكملوا سفرهم إلى اتجاه المدينة، وقريش لا تدري أين وجه النبي، والناس لا يدرون أين وجه النبي ﷺ صاحبه.
جاء أبو معبد في آخر النهار، وإذا الأمر مختلف عليه، رأى هذه الشاة ورأى حليبها، فسأل من أين لكم هذا؟ قالت مرَّ رجلان مباركان، كان من شأنهما كيت وكيت وكيت، وبالمناسبة من أعظم من وَصَفَ من الصحابة نبيّنا ﷺ في صفة خلقته، هي: أم مَعْبَدٍ -رضي الله عنها-.
قال: هذا الرجل الذي تطلبه قريش، هذا محمدٌ الهاشمي.
تقول أسماء بنت أبي بكر، لا ندري أين وجه النبي ﷺ؟
بالمناسبة موضع وادي قديد عن مكة أربع ليال، أربعة أيام، أربع مراحل، وهو أفيح الأودية الهابطة من الحرار إلى البحر.
تقول أسماء بنت أبي بكر: لا أدري أين وجه النبي ﷺ وأبو بكر؟ هل وجهوا جنوباً لليمن؟ أو غرباً جهة البحر؟ أو شمالاً جهة الشام؟ أو شرقاً جهة نجد؟ تقول: حتى سمعنا منشداً -وهو من الجن- نسمع صوته، ولا يرى الناس مكانه، يتبعون الصوت ولا يرونه، وهو يقول في قصيدته:
جزى اللهُ ربُّ الناسِ خيرَ جزائِـهِ ... رفيقيـنِ حلا خيمتِـيْ أُمّ معبَـدِ
هما نَزَلاها بالبرِّ وبه ارتحلا ... فجزى الله مَنْ أمْسَى رَفيـقَ مُحَمـدِ
فَيَا لقُصـيٍّ ............ ... ...........................
يريد قصي بن كلاب، الذي يقال إنه من أسماء قريش، والصواب أنه مالك بن النضر، وقيل: ابن فهر
فَيَا لقُصـيٍّ مـاذا واللهُ عنْكُـمُ ... من ملك عظيم وسؤددِ
سَلُوا أُخْتكُمْ عَن شائها وإنائِهـا ... فإنّكُمُ إنْ تَسْألـوا الشّـاةَ تَنطقِ
تقول أسماء: جاء الصوت من أعلى مكة وخرج من أسفلها والناس يتبعون الصوت ولا يرونه، فعرفوا أنه إنما وجَّه إلى المدينة، فما زال يمشي وأهل طيبة من الأوس والخزرج يخرجون كل صباح يترقَّبونه إلى جهة جنوب المدينة، حتى إذا ارتفعت عليهم الشمس وحرَّهم حرُّها وصليُّها رجعوا، كان الوقت وقت قيظٍ، فما فجأهم إلا يهودي على رأس نخلة يخرف منها ويرى السواد من بعيد، فقال: يا بني قيلة هذا صاحبكم الذي تنتظرونه، ففرحوا فرحًا عظيمًا، وخرج النساء والصغار والكبار ينظرون إلى النبي ﷺ فرحين بمقدمه عليهم، فنزل ﷺ بضع عشرة ليلة في قُباء وبنى مسجدها. اللهم صلِّ وسلِّم عليه.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (
فِي يَوْمِ الاِثْنَيْنِ وَدَامَ فِيهَا ... عَشْرَ سِنِينَ كُمِّلَ نَحْكِيهَا
)}.
(فِي يَوْمِ الاِثْنَيْنِ) قدوم مُهاجره من مكة، ومكث فيها عشر سنين ﷺ، كذا حكاه ويحكيه المؤرخون لسيرته وسنته، إذًا مدّة بقائه في المدينة عشر سنين وأشهر، إلى شهر أو شهرين، وفي مكة ثلاث عشرة سنة. مجموعهما كم؟ ثلاثا وعشرون سنة هي مدّة بِعثته الشريفة التي أنار الله -عز وجل- بها الدنيا، وأنار الكون بالإيمان، وبتوحيد الرحمن، وبطمس معالم الأوثان والشرك وعبادة غير الله سبحانه الرحمن.
{أحسن الله إليكم.
ثم قال -رحمه الله-: (
أَكْمَلَ فِي الْأُولَى صَلاَةَ الْحَضَرِ ... مِنْ بَعْدِ مَا جَمَّعَ فَاسْمَعْ خَبَرِي
)}.
(أَكْمَلَ فِي الْأُولَى صَلاَةَ الْحَضَرِ) بأنها كانت ركعتين ثم أُتمَّت صلاة الحضر أربع ركعات، واستمرَّت صلاة السَّفر قصرًا ركعتين، كما جاء ذلك في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- شرعت الصلاة، فأُتمَّت صلاة الحضر، والحضر بمعنى الإقامة، وبقيت مقصورة صلاة السَّفر.
(أَكْمَلَ فِي الْأُولَى صَلاَةَ الْحَضَرِ ... مِنْ بَعْدِ مَا جَمَّعَ) ويجوز (جَمَعَ)، أي: يجوز هذا وهذا، (فَاسْمَعْ خَبَرِي) جمعاً، أي كان يجمع الصلاتين في السفر من بعد ما كان يقصر الصلاة الرباعية فصارت في الحضر تامة غير مجموعة، ولا يجمع بين الصلاتين في الحضر إلا لعذر، كعذر المطر، جمعًا من غير قصر، والمطر الذي يبل الثياب، وعذر المرض، وعذر الخوف، فهذه الأعذار وما كان في معناها، يُجمع فيها بين الصَّلاتين من غير قصر.
أما السَّفَر ففيه عذر الجمع وفيه عذر القصر، يعني: يجوز فيه الجمع والقصر. فالقصر سنة، والجمع بين الصَّلاتين عزيمة.
{اللهم صلِّ وسلِّم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
جزاكم الله خيرا شيخنا، فالحديث معكم له شجون في سيرة النبي ﷺ}.
الشأن في سيرته، فهو الذي يحي الله به القلوب، ويجلوا بها صدأها ورانها وهمها وحزنها، عليه الصلاة والسلام.
{أحسن الله إليكم شيخنا المبارك، ورضي الله عنكم، وزادكم من فضله، ونكمل -بإذن الله تعالى- اللقاء القادم.
والشكر موصول لكم مشاهدينا الكرام على طيب وحسن المتابعة، ونلتقي بكم -بعون الله تبارك وتعالى- في اللقاء القادم.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------
[1] ابن هشام 1/ 420
[2] رواه مسلم (261).
سلاسل أخرى للشيخ
-
8864 9
-
20861 9