الدرس الأول

فضيلة الشيخ أ.د. علي بن عبدالعزيز الشبل

إحصائية السلسلة

9168 9
الدرس الأول

الأرجوزة المئية

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. حياكم الله معاشر طلاب العلم، في سلسلة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نشرح فيها نظم (الأرجوزة الميئية في ذكر حال أشرف البرية)، للعلامة علي بن أبي العز الحنفي -رحمه الله تعالى- يشرحها لنا فضيلة الشيخ/ الأستاذ الدكتور علي الشبل.
باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، حيّاكم الله فضيلة الشيخ}.
وأنا كذلك أُجدد الترحيب بكم عبر الأثير بإخواني وأخواتي من طلبة العلم، ومن ورائهم من عموم المسلمين والمسلمات، وأسأل الله -جل وعلا- أن يجعله لقاء طيبًا مباركًا نافعًا، ينفعنا ويرفعنا الله -عز وجل- به في الدنيا والآخرة، إنه سبحانه جواد كريم.
{اللهم آمين.
لو أكرمتمونا فضيلة الشيخ بين يدي الكتاب بمقدمة، تكون مدخلا وتوطئة لهذا الشرح}.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، سيد الأولين، وخاتم المرسلين، وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثرهم، وأحبهم وذبَّ عنهم إلى يوم الدين، وَسَلَّم تسليمًا كثيرًا، أمَّا بعد، فإنَّ علم سيرة النبي واستحثاث دراستها هو مقصودٌ لغيره، وهو التأسي به ، والاهتداء بهديه، والاقتداء بدلّه، سيّما ومرَّ عليه من أنواع وصنوف البلاء، وعظيم المجاهدة في إبلاغ دين الله، ما رفعه الله -عز وجل- به في الدنيا والآخرة، وجعله للمؤمنين أسوة، ومقصدًا مُحتذى، ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ﴾ [الأحزاب:21].
وسيرته ليس كما في المعنى الدارج أنها خاصة بقصص هذه السيرة، وما مرَّ عليه من المواقف والأحوال، والملاحم والعبر، وإنما المقصود منها الاهتداء بهديه، والاقتداء بسنته، والسير على منهاجه ومنواله، والتسلي بما كان من المواقف كما سلاه الله -جل وعلا- بقصص الأنبياء -عليهم السلام- من قبله، فالمؤمن إذا قرأ في سيرة النبي وطالع فيها، وتفقد أحواله، وتدبر فيها، عَرَفَ عظيم هذا المنصب الذي وجهه الله إليه، وازداد حبًا وإجلالًا وتوقيرًا وتعزيرًا للنبي ، وكان في قلبه أيضًا من الشغف بدينه، والاعتزاز به، ومحبة نبينا، ومحبة سنته، ما تزداد مع هذه السيرة، وهذا يتأكد في هذه الأزمان التي نعيشها وما يأتي بعدها، فالسنين لا يُقال عامٌ خيرٌ من عام، ولكن السُّنَّة الجارية في الأعوام أنها إلى نقص، وأهلها إلى تردٍ، إلا من رحم ربي.
فهذه الأزمان الناس فيها بحاجة عظيمة إلى القدوات، وإلى الأنموذج الذي يُحتَذَى فيُقتَدَى بهم، ونرى من شبيبة المسلمين رجالًا ونساء، صغارًا وكبارًا، من يرفعون بأبصارهم إلى قدوات تافهة وضعيفة، لا تستحق أن تكون بهذه المكانة، تأثّروا بأهل المجون، ومنهم من تأثّر واقتدى وجعل أهل العهر والفهارة والكفر، محلّ التأسي ومحلّ الإعجاب الذي يُورث التأسي، وأعظم من أُمرنا شرعًا ودينًا لا خِيرَةَ لنا فيه أن نتأسى بهم هم رُسل الله ، ولهذا قال الله -جل وعلا-  في آي قَصصه في غير موضع ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ﴾.
إذن ليس المقصود القصة، وإنما العبرة والائتساء والاقتداء، والسير على ما ساروا عليه، وفي هؤلاء كلهم كوكبتهم ونجمهم وإمامهم نبينا محمد بن عبد الله ، وبهذا شرفت معرفة سيرته بهذا المقام.
ثم أيضا فيه التأسي بأحواله وأقواله وأفعاله، مع التأسي بمحض القول، فهذا منحى آخر من مناحي الاعتزاز بهذا الدين، والعمل له والقيام به.
فيه منحى ثالث في أهمية هذه السيرة، فقد سئلت عائشة -رضي الله عنها- عن خلقه ، والخلق مجموع الحال مع القول والفعل، فسئلت عن خلقه ، سألها عن ذلك ابن أختها عروة بن الزبير -رضي الله عن الجميع- فقالت: «أَلَستَ تَقرَأُ القُرآنَ؟» قال: بَلَى. قَالَت: «كَانَ خُلُقُ النَبِيّ القُرآنَ»[1]؛ لأن الذي أدّبه وعلمه ووجّهه وهداه ودلّه هو ربنا سبحانه وتعالى.
منحى رابع: وهو محبة الناس لعموم القصص وسرحيان الخيال فيه، أولى من يتداوله ذلك هو الأُسوة القدوة محمد ، كان في تضاعيف وثنايا حياته في الجملة قبل البِعثة وبعدها، في حال العهد المكّي والعهد المدني، كم فيها من الدل، كم فيها من العبر والأحوال التي هي محل تأثر، ومحل اقتداء، ومحل توقف للمؤمن معها.
منحى خامس في أهمية ذلك: أنَّ في درس سيرته ترقيق قلوب محبّيه من المؤمنين المخلصين، فإن من مناحي ترقيق قسوة القلوب وإذهابها: النظر، والتأمل، والدراسة في سيرته ، وكما في سير أصحابه الذين رباهم رسول الله وعلمهم، وكما في سير أمهات المؤمنين والصحابيات، ذلك الجيل الذي ما وُجِدَ من المكلفين البشر ما وجد جيلٌ أعبد لله منه، وأصلحها لعبادة الله والقيام بعمارة الدنيا منه، ففي صحيح البخاري، من حديث عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: «كُنَّا نُخَيِّرُ بيْنَ النَّاسِ في زَمَنِ النَّبيِّ ؛ فَنُخَيِّرُ أبَا بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ، ثُمَّ عُثْمَانَ بنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عنْهمْ»[2].
والشاهد من ذلك: أنَّ الخيرية هنا لعموم الناس، لعموم المكلفين، ففيه أنَّ هذا الجيل، جيل الصحابة بمن فيهمُ القرابة -رضي الله عنهم وأرضاهم- الذي رباهم وعلمهم ووجههم محمد ، صاروا بهذه المثابة للأسوة، فكيف برسول الله الذي فِعله تشريع، وَدَلُّه تشريع، وأحواله كذلك، فكيف بقوله ؟
منحى سادس في أهمية تعلم هذه السيرة، وأنا لم أقصد الاستيعاب، هذا المنحى يكمن في أنه بهذا نورث لغيرنا من الأمم وليغيرنا من الناس ولمن معنا هذا التمثل الحقيقي لديننا قولًا وفعلًا، حالًا ودلاً، وبمثل ذلك فشا وانتشر هذا الدين حتى بلغ الأفاق، مشارق الأرض ومغاربها، ففي سنن ابن ماجه و غيره، يقول : «ليبلغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهارُ، ولا يتركُ اللهُ بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله اللهُ هذا الدينَ، بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليلٍ، عزًّا يعزُّ اللهُ به الإسلامَ وأهلَه، وذلًّا يذلُّ اللهُ به الكفرَ وأهله»[3].
كيف مشى ومضى دين الله في الأفاق؟
بهذه القدوات لا بمجرد الجهاد بضرب السيوف والرماح والسهام، وإنما في أكثر من 90% في أنحاء البسيطة ظهر دين الله بهذه القدوات، التي هذه السيرة هي مكمن الخير فيها، وهي الأنموذج والأسوة في تحصيلها.
فهذه جملة من أهمية تناول ودراسة السيرة حتى صارت عند أهل العلم بمثابة العلم الأصلي لا علم الوسائل الذي يوصل إلى غيره.
{أحسن الله إليكم.
قال المصنف -رحمه الله تعالى-: (
اَلْحَمْدُ للهِ الْقَدِيم الْبَارِي ... ثُمَّ صَلاَتُهُ عَلَى الْمُخْتَارِ
)
}.
المصنف لهذا الرجز، وهي القصيدة التي تسمى بالأرجوزة الميئية؛ لأنها في مئة بيت ونيّف، هو العلامة/ علي بن علي بن أبي العز، الحنفي مذهبًا، الدمشقي موطنًا ووفاةً، وهو من عُلماء القرن الثامن الهجري، حيث تُوفي -رحمه الله- في سنة سبعمائة وثنتين وتسعين من الهجرة، وبالمناسبة هو من معاصري الحافظ ابن كثير ومن أصحابه، ومن معاصري ابن القيم في أوائل حياته، وكان مُعاصرًا للحافظ ابن رجب الحنبلي، فهو عالم نفع الله بعلومه.
ومن مؤلفاته الشهيرة التي اشتهر به شرحه لمتن (العقيدة الطحاوية)، هذا الشرح الذي سبق غيره من الشروح فصار فارقًا متقدمًا عليها، ومكمن ذلك أنه لخص في شرحه هذا كلام الشيخين العالمين، شيخ الإسلام أبي العباس بن تيمية، وتلميذه العلامة ابن قيم الجوزية، رحمهم الله جميعًا، فصار شرحه أوعب الشروح، وهو أشر تصانيفه.
ومنها هذه الأرجوزة التي اشتهرت واعتنى بها العلماء درسًا وحفظًا وتحشيةً وشرحًا، ولسنا في هذا المقام شُرَّاح لها، وإنما نتفيأ معك ومع إخواني ظلال هذه السيرة من خلال مقاصدها ومضامينها الرئيسة، وإلا فأنا لست أهلًا لشرحها، هذا من جهة.
وليس المقام هذا مقام لبسطٍ الشرح فيها، إنما هي تذكير لنفسي ولإخواني، ومذاكرة معكم وتدارس لمضامين السيرة النبويّة الكبار من خلال نظم الناظم علي بن أبي العز الحنفي.
وفيها أيضًا عناية بأن ما أَرَّثه علماء المسلمين مما ينفع ويُفيد هو محل الحفاوة، ومحل العناية عند طلاب العلم، على أي مشرب كان هذا العالم من حيث مذهبه الفقهي، فهذا حنفي، والعلامة ابن كثير شيخه شافعي، ونحن على متحد مذهب الإمام أحمد، وغيرنا على طريقة الإمام مالك؛ لأن دين الله واحد، وتنوع هؤلاء المذاهب هو للوصول إلى هذا الدين.
واعلم يا طالب العلم أنَّ الممنوع والمذموم، ومحل التحفظ والتنبيه والتحرز هو: التعصب المذموم.
الأرجوزة هي بحر من بحور النظم، أو بحور الشعر، أيسرها وأهونها؛ لأنه أيسرها في تراكيبه، وفي بحره، وفي صوغه، ولهذا اعتنى به العلماء خصوصًا الأجيال المتأخرة؛ لتسهيل العلم وتقريبه للناس، وليسهل أيضًا حفظ أصوله، فاعتنوا بهذه الأراجيز من خلال هذه المناظيم والمنظومات، وهذا كثر في المغاربة من المتأخرين أكثر من المشارقة، على أن من متون أهل العلم ما ضبطت بنظم الرجز، سارت مسار الليل والنهار، منها ما هو رجز، ومنها ما هو متن منثور، فـ "رحبية" موفق بن الرحب الشافعي ضربت للناس ...، وكذلك حائية ابن أبي داود، عبدالله بن الإمام سليمان بن أشعث السجستاني، وهي في العقيدة، صارت عند أهل العلم وأهل السنة في هذه المكانة، وأمثالها كثير.
فهذه الأرجوزة من هذا الباب، لَخَّصَ فيها راجزها العلامة/ علي بن علي بن أبي العز الحنفي الدمشقي، أهم مراحل ومضامين سيرة النبي ، ولم يستوعب -ولا معيب عليه في ذلك- وإنما بذل وعمل فجزاه الله خيرًا، ونفع بما كتب، وتُلقيت عند العلماء بالحفاوة والعناية.
وثمة مواضع فيها مُؤاخذه؛ لأن الكلام فيها محتمل، وإن فتح الله -عز وجل- علينا أشرنا إلى هذه المواضع، وإن كان الرجز هو النظم له دواعيه وله سبكه وصيغاته.
وتُسمَّى بالأرجوزة "الميئية" نسبةً إلى المئة، وهي عدد أبياتها، على تفاوت في النسخ زيادةً قليلة، فعرفت بهذا وسارت عند الناس بهذا الاسم، ولهذا عُنِي بها الناس حِفظًا لها، وتذكيرًا بها لمضامين سيرته ودله ، والذي يقسم عنده في العموم إلى أقسام ثلاثة:
-      سيرة نبينا قبل بعثته.
-      سيرته بعد بعثته في العهد المكي.
-      سيرته بعد بعثته في العهد المدني إلى أن توفاه الله والحقه بالرفيق الأعلى.
ولكل مرحلة ميزات وخصائص، يمر في أثناء ذلك الإشارة إلى بعضها؛ لأن المقصود هو الاستيعاب، وهي موافِقة ومطابِقة لحياة الناس، في حال الضعف والقوة، وفي حال الظهور وفي حال الخفاء، وفي حال التسلط من الأعداء -أعداء دينهم خارجا وداخلا- مع حال العز والانتصار واجتماع الكلمة وقوة الحق مع ولي الأمر في مراحل أخرى.
المقصود من هذا كله أن سيرته منهج حياة، وهي معالم لهذا السائر والمهاجر والمسافر إلى ربه -سبحانه وتعالى-، ولا أحسن دليلًا، ولا خير معين في هذا السير إلى الله من نبيه ، من خلال سيرته التي هي فرع من دعوته وسنته، اللهم صل وسلم عليه.
{أحسن الله عليكم.
قال ابن أبي العز -رحمه الله تعالى-: (
اَلْحَمْدُ للهِ الْقَدِيم الْبَارِي ... ثُمَّ صَلاَتُهُ عَلَى الْمُخْتَارِ
)
}.
في هذا البيت وهو أول نظمه، بدأه بقوله: (اَلْحَمْدُ للهِ الْقَدِيم الْبَارِي) فبدأ بحمد الله -جل وعلا-، وهو الثناء عليه بما له من الكمال في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي أفعاله، فإن الله حمد نفسه، ولنا في القرآن تأس، فأعظم سوره وهي "الفاتحة" -أم الكتاب- بدئت بـ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، وفي الأنعام: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ﴾، وفي الكهف: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا﴾، وفي سورة فاطر: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وغيرها.
وحمد الله -جل وعلا- هو من ذِكْرِه، ويُبدأُ به في كل أمرٍ، ويُستأنس في هذا بالتأسي بالكتاب العزيز، فإنَّ الله بدأه بالبسملة في كل سوره، ولهذا فالصحيح أنَّ البسملة آية في مفتتح كل سورة ما عدا سورة "براءة".
والنبي يبتدئ خطبه ومواعظه ودروسه بحمد الله والثناء عليه، وفي كتبه للملوك وإلى الأطراف بدأها بالبسملة وبحمد الله، واستئناسًا بما روي من وجوه وإن كان فيها ضعف «كُلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدَأُ فيهِ ببسم الله»، وفي رواية: «بِالحَمدِ»، وفي رواية ثالثة: «بذكر الله فهو أجذم»، وفي روية: «فهو أبتر»، وفي رواية: «فهو أقطع».
(اَلْحَمْدُ للهِ الْقَدِيم الْبَارِي) القديم ليس من أسماء الله الحسنى، ولكن مما يُخطر به عن الله، والأسماء الحسنى والصفات العلا مبناها عندنا أهل الإسلام وعلماء الإسلام على التوقيف، ما جاءت في الأدلة أثبت لله فيها الاسم الحسن أو الصفة أثبتناها من الكتاب أو السنة.
والقديم ليس من الأسماء التي جاءت بها الأدلة، وخير من اسم (القديم) اسم (الأول)؛ لأنَّ القديم اسم يحتمل معانٍ، منها: المتقدم على غيره، الذي أقدم من غيره، بينما الذي جاء في القرآن في أول سورة الحديد ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [الحديد:3].
وكما قلنا: إن "الباقي" ليس من أسماء الله، ولكن ثَمَّة قاعدة أوسع من قاعدة الاسم والوصف، وهي قاعدة: الإخبار عن الله بكل معنى صحيح، فيُخبر عن الله إخبارًا لا وصفًا وتسميًا بالمعنى الصحيح، مثل: يا سابق الصوت، ويا كاسي العظام لحما بعد الموت، فهذا يخبر به عن الله؛ لأنها معانٍ صحيحة، ولكن لا يقال: إن من أسمائه الحسنى سابق الصوت.
(القديم) نعم، لأن الله "أزلي وقديم" من باب الخبر، وليس الأزلي ولا القديم ولا الموجود ولا الباقي على الصحيح من أسمائه الحسنى، وإنما الاسم الصحيح الذي يشمل هذا المعنى المراد وأكمل منه، هو: اسم الله (الأول)، وهو الذي ليس قبله شيء، كما فسّره به النبي ، كما جاء في صحيح مسلم، في حديث أذكار النوم.
(البارئ) هذا من أسماء الله الحسنى التي جاءت في القرآن، ففي آخر سورة الحشر الآيات الثلاثة التي اشتملت على جملة من أسماء الله الحسنى هو: ﴿هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ﴾ [الحشر:24]، و (البارئ) معناه: الذي برأ النسمة فأوجدها من العدم ورباها بالنعم، فالله هو ا(لبارئ) هو الباري لخلقه، والباري لما سواه.
(اَلْحَمْدُ للهِ الْقَدِيم الْبَارِي ... ثُمَّ صَلاَتُهُ عَلَى الْمُخْتَارِ) وقوله: (ثم) أي: بعد حمد الله الصلاة على النبي ، وقُدّم حمد الله على غيره؛ لأن الله أجلُّ وأكرم وأعظم من يُثنى عليه بالكمال ويُحمد ويُعبد ويُشكر ويُمدح.
ثم نبيُّنا له حقٌ على أمته بأن يُصلوا ويُسلِّموا عليه، وذلك لِمَا جاء في الأدلة المتكاثرة المُستفيضة من شرف وفضل عبادة الصلاة والسلام على نبينا، وعلى أنبياء الله جميعًا.
والصلاة هي ثناءٌ من الله على عبده، تدعو بأن يُثني الله على رسوله في الملأ الأعلى، فهذه صلاة الله على عبده -نبيًّا كان أو وليًّا-.
وصلاة الملائكة كما في صلاة المؤمنين هو دعاؤهم الله أن يُثني عليه وأن يمدحه في الملأ الأعلى.
(والسلام) تسليم ودعاءٌ بالسلامة، وشعار نبيّنا الصلاة والسلام، وهذا شعارٌ له وللأنبياء، ولا يجوز أن يكون الشعار لغيرهم.
وأمَّا من باب الدعاة فيجوز أن تُصلي وأن تُسلِّم على غيرهم، ولهذا قال: «اللَّهُمَّ صَلِّ علَى آلِ أبِي أوْفَى»[4].
وصلاة الله: أي: دعاؤك أن يُثني الله عليه في الملأ الأعلى، ﴿هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ﴾ [الأحزاب:43] أي: يُثني عليكم ويمدحكم في الملأ الأعلى، على النبي، والنبي بـ "أل" العهدية يعني: على محمد بن عبد الله، الذي هو نبينا، والذي هذه الأرجوزة الميئية في مضامين سيرته الكبرى.
(النبي الْمُخْتَارِ) المختار كلمة خُتِمَ بها هذا الشطر في عَجز هذه البيت للسجع في نظم الرجز؛ لأن الرجز من بيتين، وكل عَجُزٍ يختم بنفس الحرف.
(المختارِ)؛ لأن النبوة اصطفاء واختيار، وليست اكتساب وطلب كما عند غالية المتصوفة، حتى جعلوا الولاية أكرم وأرفع درجة من النبوة. هذا عند "الغنوصية" و "باطنية المتصوفة"، وكما عند الفلاسفة الذين يزعمون أنَّ النبوة هي "اكتساب"، والله -جل وعلا- يُكذب هؤلاء بقوله: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج:75]، ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ [الأنعام:124]، فنبينا المختار قد اختاره الله لمهمتين عظيمتين، وهما:
-      مهمة النبوة والرسالة.
-      مهمة ختم الرسالات والنبوات.
أمَّا المهمة الأولى، فقد اختاره الله كما اختار الأنبياء ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ﴾ [فاطر:1] فهم رسل، ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ﴾ [الحج:75].
المنة الثانية: أنَّ الله جعل محمدًا خاتم النبيين، واختاره لختم الرسالات فلا نبي بعده، «أنا مُحَمَّدٌ، وأَحْمَدُ، وأنا الماحِي الذي يَمْحُو اللَّهُ بي الكُفْرَ، وأنا الحاشِرُ الذي يُحْشَرُ النَّاسُ علَى قَدَمِي، وأنا العاقِبُ»[5]، والعاقب هو أخر الأنبياء، والحاشر يُحشر الناس على عقبه ليس بعده إلا قيام الساعة، ولهذا اختاره الله واصطفاه لهذه الرسالة.
فعندنا في شأنه أمران: الأول هو العبوديّة، فهو عبد الله، ومن حقق لله العبوديّة حقق الشرف الذي ما بعده شرف، وهذه العبوديّة تكتسب.
الثانية: ليست اكتسابًا وإنما اصطفاء واختيار؛ لأنّ الله اختاره للنبوة ولختم النبوات والرسالات، فهو النبي المختار .
وقال العلماء في النبي: إذا أُطلق دخل فيه الرسول، كما إذا أطلق الرسول دخل فيه النبي، كما يقال في الإسلام والإيمان، والنبي والرسول، والفسوق والعصيان، والفقير والمسكين، والتوبة والاستغفار، في اثني عشر لفظًا إذا ذُكِرَ أحدهم دخل فيه الثاني، وإذا ذُكِرَ جميعا انفرق كل منهما بمعناه.
ومحمد له النبوة وله الرسالة، وهي مرتبة أخص من عموم النبوة، ولهذا الرسل أفضل من جنس الأنبياء، وأفضل الرسل: الخمسة أولي العزم، وأفضل الخمسة: الخليلان، وأفضل الخليلين: محمد .
{أحسن الله إليكم. قال -رحمه الله تعالى-:
(وَبَعْدُ فهَاكَ سِيرَةَ الرَّسُولِ ... مَنْظُومَةً مُوجَزَةَ الْفُصُولِ)}.
قوله: (وبعد) أي: بعد حمد الله والثناء عليه بما له من الثناء والكمال، والصلاة على رسوله ، وأصلها: (أمَّا بعد) وقد ثبتت بها السنة في خطب النبي المتكاثرة، حتى ترجم عليها البخاري في جامعه الصحيح "باب قول: أما بعد"، وهي كلمة فاصلة عند العرب، أصلها: (أمَّا بعد ذلك)، فحُذفت "ذلك"، وأبدل بدلها "الضمة"، فصارت (أمَّا بعدُ).
وهنا قال: (وبعد) لأجل ضرورة النظم في الرجز.
 (فهَاكَ) أي: فخذ.
(سِيرَةَ الرَّسُولِ) سيرة مفعول (هكا)، وهنا الأولى أن يفهم أنه قال: وبعد فهاك مختصر أو مُوجز أو مضامين سيرة الرسول، وَهُوَ لَمْ يَسْتَوْعِبْهَا وإنما اختصرها في هذه المضامين الكبار، في هذه المائة بيت.
(مُوجزة) فهذا تقديم بأنه أوجزها ولم يُطنب، وإنما من الإيجاز أنه اكتفى بمضامينها الكبار التي دارت على ثلاثة العهود، عهده قبل بِعثته، حيث بُعث وهو ابن أربعين، وعهده المكي، أي: قبل مُهاجره، ثم عهده بعد هجرته إلى المدينة.
(في سيرة الرسول) يعني: هذا الإيجاز هو في هذه السيرة، بمعنى في تعريفكم -يا أمة الإسلام- بنبي الإسلام وعظيمه، محمد بن عبد الله ، لتعرفوا منه ما يجعلكم تحبونه وتُجلُّونه وتُعزِّرونه وتُوقِّرونه وتقتدوا به وتتأسّوا بسيرته ودعوته وسنته، اللهم صلِّ وسلِّم عليه.
{أحسن الله إليكم. قال -رحمه الله تعالى-:
(مَوْلِدُهُ فِي عَاشِرِ الْفَضِيلِ ... رَبِيعٍ الأَوَّلِ عَامَ الْفِيلِ)}.
العادة المضطردة في التعريف بأحد، أنه يعرف بـ "متى ولد"؟ ومن التعريف بموعد ميلاده، أو وقت ميلاده، التعريف بالظروف التي كان فيها.
(مولده) الإشارة إلى النبي المختار والرسول الذي هذه موجز سيرته.
(مَوْلِدُهُ فِي عَاشِرِ الْفَضِيلِ) العاشر: هو اليوم العاشر، والأصل أنَّ الليل يتبع اليوم الذي بعده، إلا ليلة عرفة، فإن ليلتها بعد يومها، لِمَا جاء في حديث عُروة بن مضرس بن أوس الطائي -رضي الله عنه- الذي خرجه الخمسة وغيرهم، أنه وافى النبي في صلاة الفجر في المزدلفة، في حجة الوداع، وقال: إنِّي جئتُ يا رسول الله مِن جَبَلَي طَيِّء، -يعني: جبلي أجا وسلمى بحائل- أكْلَلْتُ راحِلَتي، وأتعَبْتُ نفسي، واللهِ ما تركْتُ مِن جَبَلٍ إلَّا وقَفْتُ عليه، فهل لي من حَجٍّ؟ فنظر إليه النبي وقال: «من أدرَكَ معَنا هذهِ الصَّلاةَ وأتى عرفاتَ قبلَ ذلِكَ ليلًا أو نَهارًا فقد تمَّ حجُّهُ وقَضى تَفثَهُ»[6].
إذًا هذا خصوص أنَّ ليلة عرفة هي الليلة التي بعد غياب شمسه إلى طلوع فجر يوم النحر، وأما وباقي الأيام فليلته سابقة له.
في مولد النبي قولان شهيران لأهل السير، وقد رجح في أول ذكره بأنه اليوم العاشر من الشهر الفضيل، وسماه شهرًا فضيلًا لاشتماله على هذا المولد لهذا النبي الذي غسل الله -عز وجل- به أدران الشرك، ومحا رسوم الضلالة، وهدى الله به الأمة، فالهادي هو الله، والماحي لرسوم الشرك والضلالة هو الله بسبب هذا الرسول، ولهذا يقال ربيع الأول، ويقال له: الشهر الفضيل.
يُذكر في بعض الكلام وبعض المصنفات "ربيع الأنور"، وهذه من حيث التجوز لا غضاضة؛ لأنَّ الدنيا استنارت ببعثة النبي ، وبعثته جاءت بعد مولده، لا أنه يُعتقد هذا النور بهذا الشهر دون غيره، فهو في عاشر الفضيل، أي: عاشر ربيع الأول، والعرب لم تكن تعتني بالتاريخ تحديدًا، وإنما تعتني بالأعوام لِمَا فيها من الأمور العظام، فالمولد الذي ولد فيه النبي هو عام الفيل، وعام الفيل هو الذي قصَّ الله -عز وجل- علينا من خبره في سورة الفيل، ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾، والقصة هذه طويلة، ومختصرها أن أبرهة  الحبشي بنا كُنيسةً في صنعاء، يريد أن يعطف الناس إليها لتجديد دين عيسى، ويحمل الناس عليها.
ولكن كان الناس في جزيرة العرب يُعظمون الكعبة، فأخبره الظلمة من مستشاريه أنه لا يتأتى له ذلك إلا بأن يهدم الكعبة، فَسَيَّرَ الجيش العرمرم تقوده الفيلة، وأكبرهم وزعيمهم فيل يقال له: محمود؛ ليهدم الكعبة، وكان في تلك السنة من الأمور العظيمة أنَّ عبد المطلب جَدَّ النبي ، وكان كبير قريش، وصاحب السقايا؛ لأنه حفر بئر زمزم، وأنَّ أبرهة الحبشي وجيشه العرمرم ومعهم من معهم ممن خان من العرب، لينال لَعاعة من الدنيا، كما هو الشأن في اللئام في كل زمان وفي كل مكان، لا كثرهم ربي.
أخذ أبرهة إبلًا لأهل مكة، ومنها إبلا لعبد المطلب، وأشار عبد المطلب للناس أن يفزعوا إلى الجبال، ينجوا بأرواحهم وأبدانهم وأولادهم، وقَدِمَ على أبرهة وكان شيخًا كبيرًا، وظن أبرهة أنَّ ما جاءه سيد مكة -لَمَّا أُخبر أنَّ هذا سيد مكة- ما جاءه إلا ليستعطفه ليرجع، فلم تُصب مَظِنته في عبد المطلب، ولم توافق هجواه في عبد المطلب، وإنما طلب منه عبد المطلب أن يُعيدَ الإبل التي أخذت.
قال: كنت أظنُّ -يقول وبينه وبينه الترجمان- أنك جئت تطلب منا ألا نهدم كعبتكم! فقال قولته المشهورة التي ذهبت مثلًا: "أنا رب الإبل، وللبيت ربٌ يحميه"، أنا رب الإبل يعني: صاحبها ومالكها، وللبيت صاحب وربٌ يحميه، فكان لأبرهة نوع مُروءة، فأمرهم أن يرجعوا إبله.
قالوا: إن عبد المطلب لَمَّا رجع ورأى تصميم هذا الملك الغاشم الأشرم؛ لأنه في شفته شَرْم "أبرهة الأشرم"، وأراد بذلك أن يتوصل بها إلى النصارى في الكنيسة الشرقية لزعامة "هرقل" في بلاد الشام، لَمَّا أن قتل شريكه، لأن تبعية اليمن للحبشة، والحبشة للكنيسة الشرقية.
قالوا: إنَّ عبد المطالب تخير من زعماء قريش ما تعلقوا عند الكعبة بأستارها، يطلبون الله ويسألونه أن يحمي بيته، فكان فيه عام الفيل؛ لأنَّ الله أرسل على هذا الجيش العرمرم الغاشم على أبرهة ومن معه الطير الأبابيل، وكل طير يحمل ثلاثة أحجار، حجر في منقاره، وحجران في مخالبه، فكانت تنزل الحجارة عليهم، فإذا نزلت على رأس من تنزل عليه ما تخرج إلا من أسفله، وإذا جاءته من صدره خرجت من ظهره وهكذا.
فأرسل الله عليهم الطير الأبابيل ﴿تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ﴾، وكان الفيل "المحمود" هذا الكبير، إذا وجهوه إلى الكعبة ربض وأبى أن يمضي، فإذا وجه إلى الجهات الأخرى توجه، وهي من حفظ الله -عز وجل- لبيته.
فسمّت العرب ذلك الزمان الذي كان فيه هذا الحدث الجلل بعام الفيل، وهو في التقدير بعد 661 سنة من ميلاد عيسى ابن مريم ، حيث كان التأريخ المشهور عند أهل الكتاب بميلاد عيسى.
(مولده في عام الفيل) وهذا محل إجماع، أو يكاد أن يكون محل إجماع عند المؤرخين لميلاده في سيرته العطرة .
والقول الثاني سيشير إليه الآن أنه يوم الثاني عشر.
{أحسن الله إليكم. قال -رحمه الله-:
(لَكِنَّمَا الْمَشْهُورُ ثَانِي عَشْرِهِ ... فِي يَوْمِ الاِثْنَيْنِ طُلُوعَ فَجْرِهِ)}.
(لَكِنَّمَا الْمَشْهُورُ) أي: المشهور عند أهل السير، كالسهيل في الروض الأنف وقد أطال فيه، وابن جرير في تاريخ الأمم والملوك، وابن كثير في البداية والنهاية، والإشراف للبلاذري، والكامل لابن الأثير وغيرهم، أنَّ المشهور في ميلاد النبي يوم الثاني عشر.
والعاشر والثاني عشر لا خلاف من هذا الشهر، إنما الذي دلَّت السنة الصحيحة عليه أن ميلاده كان يوم الاثنين، يدل عليه الحديث الطويل الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، عن أبي قتادة الأنصاري، الحارث بن ربعي -رضي الله عنه- أنَّ النبي سُئل عن صيام يوم الاثنين، فقال: «ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ، أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ»[7]، ولهذا كان يصومه .
وليس الصيام لمحض أنه يوم ميلاده، ولكن الصيام قُربة؛ لأنه يوم شريف وافق هذه الحدثين الجليلين، ولد فيه، وبُعث وأنزل عليه القرآن فيه.
وبعض الناس يتخذ من يوم الميلاد من هذا الحديث مُتكًا على تسويغ هذه المحدثات بالاحتفال بيوم الميلاد أو بليلته، وهذا مع كونه أمر خاطئ، هو أمرٌ أيضًا مخالفٌ لدينه وسُنته، فإنه الذي ذكر أنه ولد في يوم الاثنين صامه، أي: لم يتخذه عيدًا ومحتفلًا، ثم لم يشرع لأمته أن يتخذوه كذلك، وإنما صامه عبوديَّة لله -جل وعلا-، ومعلوم أنَّ يوم العيد لا يُصام، ولو كان اتخاذ يوم ميلاده عبادةً لَمَا تركها نبينا أن يُبينها وأن يُشرِّعها لنا، وأن يحثنا عليه فيه بما هو من دين الله.
ولم يكن لأصحابه أحب الناس له وأتبعهم وأطوعهم له أن يتخذوه عيدًا أو محفلًا.
المشهور أنه في يوم الثاني عشر منه، أي: في الثاني عشر من ربيع الأول، ميلاد النبي ، وهو المقطوع به في يوم الاثنين.
ويوم ميلاده تحديدًا بالتأريخ، وليلة أسري به ثم عروجه لم يأت فيها موعد محدد ثابت، بل اختلفوا في ليلة معراجه أكثر من اختلافهم في يوم ميلاده.
والقول في يوم ميلاده أقوال؛ لأنَّ العرب كانت عندها النسيئة، فتنسئ شهر المحرم إلى الصفر، كل سنة بعده وبعده حتى استدار الزمان في حجة الوداع .
أشهر الأقوال: أنه ولد في اليوم العاشر أو الثاني عشر من شهر ربيع الأول، أما القول المعتمد؛ فهو أنه ولد في يوم الاثنين غالبًا في هذا الشهر، أو في ثاني عشر.
{أحسن الله إليكم.
لَكِنَّمَا الْمَشْهُورُ ثَانِي عَشْرِهِ ... فِي يَوْمِ الاِثْنَيْنِ طُلُوعَ فَجْرِهِ)}.
أي أنه ولد في يوم الاثنين لا في ليلته، ولد بعد طلوع الفجر، أي: في النهار، واليوم الشرعي يبدأ عندنا أهل الإسلام من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، والليلة تتبعه من غروب الشمس قبلها إلى طلوع الفجر الصادق، هذه ليلة وهذا يوم.
فالمشهور والمعول أنه ولد في يوم الاثنين نهارًا ، من أبوين، فأبوه عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، بن كلاب، من أرومة قريش، بنو كنانة بن عامر، بن فهر، من ولد عدنان، من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما وعلى نبينا وسائر الأنبياء أفضل صلاة وأزكى سلام.
{أحسن الله إليكم.
(وَوَافَقَ الْعِشْرِينَ مِنْ نَيْسَانَا ... وَقْبَلَه حَيْنُ أَبِيهِ حَانَا)}.
وافق يوم ميلاده العشرين من نيسان، ونيسان من الأشهر اللاتينية، والأشهر اللاتينية لها أسماء، ولها أسماء مُغايرة لها، فإنَّ أسماءها: نيسان وهو شهر إبريل بالمناسبة، وهو الشهر الرابع من الأشهر الشمسية، ويأتي آب وهو الشهر الثامن، وهو شهر أغسطس، ويسميه العرب بـ "آب اللَّهاب"؛ لأنَّ الحر فيه شديد.
(يوافق العشرين من نيسان) ما هذا الذي يوافق العشرين؟ هل هو الثاني عشر من ربيع الأول أو العشر؟
الثاني عشر من ربيع الأول يوافق العشرين من نيسان، والقاعدة المشهورة المضطردة أنَّ الأشهر الشمسية ثابتة في مبتدأها ومنتهاها؛ لأنها متوقفة على جريان الشمس، ولهذا الأشهر الشمسية تصل نقصًا إلى 28 يوم، وتزداد إلى 31 يومًا بحسبها.
أما الأشهر القمرية فمبدأها على ولادة الفجر بعد اقترانه بالشمس.
وفي هذا العام الذي ولد فيه مات أبوه، قال: (وَقْبَلَه حَيْنُ أَبِيهِ حَانَا)، أي: قبل ميلاده (حَيْنُ أَبِيهِ حَانَا) وحينه يعني: موته، وقد حانا، أي: قد وقع، ولهذا ولد النبي بعد موت أبيه.
المشهور في سيرته أنَّ أباه عبد الله لم يشهد ولادة ابنه محمد بن عبد الله ، مات عبد الله وأخواله من بني النجار، مات والنبي حملٌ في بطن أمه، والصحيح أنه حملٌ في أواخر أشهره، قيل: في السادس، وقيل: في السابع، وقيل: في الثامن، ولهذا الذي كَفَلَه بعد ولادته: جده عبد المطلب، كما سيشير الناظم -رحمه الله-.
والنبي ثبت عنه أنه قال: «أَنا ابنُ الذَّبيحينِ» من الذبيحان؟
إسماعيل كما قصَّ الله -عز وجل- قصة ذبحه بما رأى أبوه إبراهيم -عليه السلام- في منامه أنه يذبحه، ورؤيا الأنبياء فقط لا رؤيا غيرهم وحيٌّ، ﴿قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَىٰ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىٰ﴾ الآيات في سورة الصافات، حتى فدى الله -عز وجل- ذبح إبراهيم لابنه إسماعيل بالكبش، فصارت سُنةً في بني إسماعيل، وزادتها شريعتنا تأكيدًا في شعيرة الأضحية في يوم الحج الأكبر، في يوم النحر.
والذبيح الثاني هو عبد الله؛ لأن عبد المطلب نذر إن أخرج الله لهم ماء زمزم أن يُقرب إلى الله ذبح أحد أولاده، وكان أولاده عشرةً، ويضرب القرعة، فتقع على من؟ تقع على عبد الله والد النبي ، وكان من أحب بل أحب أبنائه إليه!
فاحتار واضطرب ودلّه خبراء زمانه وكبراؤهم من الجاهليين على أنه يفتديه، فافتداه بعشرة من الإبل، فيضرب القرعة بين العشرة وبين عبد الله فتظهر على عبد الله، فيزيد عشرة إلى أن بلغت مئة، فبلغت في الإبل فجعلها فداءً لذبح ابنه، فكانت هذه سُنةً جاريةً في العرب أنَّ الدية مئة من الإبل، وجاءت شريعتنا فأقرتها في دية قتل الخطأ، وفي عموم الدية، تزداد في نوعها في قتل شبه العمد، وأمَّا قتل العمد ففيه القِصاص والقود، فصار النبي ابن الذبيحين، وهذا ما أشاد به «أَنا ابنُ الذَّبيحينِ».
وهذه مسألة في التاريخ مشهورة، أنَّ الذبيح الأول هو: إسماعيل على الصحيح، وليس هو إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، والله أعلم.
{أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، ولعلنا -بإذن الله تعالى- نقتصر في هذه الحلقة على ما أخذناه من الأبيات، ونلتقي بكم -إن شاء الله تعالى- في حلقة أخرى، وإلى ذلكم الحين نستودعكم الله، وفي أمان الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
---------------------
[1] رواه مسلم (746).
[2] رواه البخاري (3655).
[3] أخرجه أحمد (16957).
[4] رواه البخاري (6332).
[5] أخرجه البخاري (4896)، ومسلم (2354).
[6] أخرجه أبو داود (1950)، والترمذي (891)، والنسائي (3043).
[7] رواه مسلم (1162).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك