{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله معاشر طلاب العلم في حلقة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نشرح فيها نظم (الأرجوزة الميئية في ذكر حال أشرف البرية) للعلامة/ "علي بن أبي العز الحنفي" -رحمه الله تعالى- يشرحها لنا فضيلة الشيخ الدكتور/ عليِّ الشبل.
باسمكم جميعًا نرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله فضيلة الشيخ}.
الله يحييكم، ويناسب إذا جاء ذكره أن يصلى ويسلم عليه، ويقال: (الأرجوزة الميئية في ذكر حال أشرف البرية ﷺ).
قاعدة عند أهل العلم، وقد ربانا عليها مشايخنا أنه يصلى على النبي عند ورود ذكره، كتب أو لم يكتب، يصلى ويسلم عليه، ويترضى على الصحابة عند ورود ذلك، كتب ذلك أو لم يكتب، وهذا فيه القرب إلى الله بذلك، وفيه إظهار محبتهم، والثناء عليهم بما لهم من الثناء من غير تزيّد، أصلي وأسلِّم عليه.
{أحسن الله إليكم. قال -رحمه الله تعالى-: (
وَبَعْدَ عَامَيْنِ غَدَا فَطِيمَا ... جَاءَتْ بِهِ مُرضِعُهُ سَلِيمَا
)}.
الحمد لله وحده، وصلي الله وسلَّم على نبينا محمدٍ، وعلى آله وصحبه، ومن سلف من إخوانه من رسل ربي وأنبيائه، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
النبي ﷺ ولد يتيمًا؛ لأن أباه توفي وهو حمل في بطن أمه، وأمه من هي؟ هي: "آمنة بنت وهب" من بني زهرة، من قبائل قريش، وقريش بالمناسبة تتفرع إلى ثلاث عشرة قبيلة، منهم بنو زهرة، وهم أكفاء وأحساب.
أمه "آمنة بنت وهب"، ولدته ﷺ وكان من عادة العرب أنهم يسترضعون أولادهم في البوادي، تأتي المرضعات إلى أحياء العرب في مكة وحواضرها، كالطائف، والمدينة، ويأخذون الطفل تسترضعه المرضعة، وينشأ في البادية، وهذه عادة درجوا عليها، وصارت في الشريعة أصلها؛ لأن الاسترضاع اكتفاء هذا المولود بلبن الرضاعة، لا سيما إذا كان في أمه اللبن قليلا، وهو طعامه الذي به قِوام حياته. (وَبَعْدَ عَامَيْنِ غَدَا فَطِيمَا) استرضعته حليمة السعدية من بني سعد، وهي قبيلة من هوازن، القبيلة القيسية العدنانية وكانوا يسكنون في جنوب الطائف، في ديارهم المعروفة يتنقلون فيها.
وفي قصة استرضاع النبي ﷺ عند حليمة قصة لطيفة، فإن حليمة ومن معها لَمَّا جاءوا يسترضعون يطلبون عِلية القوم، من له أبٌ وأم؛ ليغدقوا عليهم العطاء والبذل في استرضاع ابنهم، فلمَّا لم تجد حليمة إلا هذا الغلام الذي أبوه ميت، إذن ستفتقِد بعض ما تُأمِّلُه من العطاء.
رجعت به لَمَّا رجعت صويحباتها المسترضعات بالأطفال، رجعت به لأنها لم تجد غيره، وجعل الله -عز وجل- في ذلك البركة، وهذا فيه أصلٌ أن الإنسان لا يعلم الغيب، فيرضى ويقنع بما يختار الله -عز وجل- له في أمور الدنيا وفي أمور الدين، ورضي الله لنا هذا الدين، أي: دين الإسلام.
أخذته حليمة واسترضعته مع أولادها، أي: أرضعته في قومها في بني سعد، ورجعت به إلى أمه بعد عامين فطيمًا؛ لأنَّ الفطم هو استغناء المولود الرضيع عن الحليب بالطعام، والله -جل وعلا- يقول: ﴿وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾ [الأحقاف:15]، وفي الآية الأخرى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة:233]، فأقل الحمل ستة أشهر، مع عامين وهما أربعة وعشرون شهرا، صح المجموع ثلاثون شهرا.
جاءت به بعد العامين -بعد الأربعة والعشرين شهرا- فطيمًا، وفي يده خُبزة جاءت به مُرضعه -أي المرأة التي أرضعته وهي حليمة السعدية-، وقيل: السعدية؛ لأنها من بني سعد، وبنو سعد المشهور أنهم من هَوازن، وقيل: إنهم فرع من هذيل، في كلام يطول ليس هذا محل البحث فيه. (جَاءَتْ بِهِ مُرضِعُهُ سَلِيمَا) أي: قويًا نشيطًا، نفع فيه هذا الاسترضاع، والبقاء هذه المدة الطويلة عند مسترضعته، من هذه المسترضعة؟
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (
حَلِيمَةٌ لِأُمِّهِ وَعَادَتْ ... بِهِ لِأَهْلِهَا كَمَا أَرَادَتْ
)}.
مرضعه حتى تتبين هي: "حَلِيمَةٌ"، أي: السعدية، وقد أعادت النبي ﷺ لأمه: "آمنة بنت وهب" القرشية الزهرية. (لِأُمِّهِ وَعَادَتْ بِهِ لِأَهْلِهَا) هذا الاسترضاع الثاني، حتى كاد أن يبلغ التمييز ﷺ، أي: إلى خمس أو ست سنين، وكانوا يحبون أن ينشأ الصغار في البوادي ليكون هذا أنطق لهم وأعمق وأحسن لنشأتهم.
وعادت به مرة ثانية لأهلها في بني سعد -كما أرادت-؛ لأنَّ الله -جل وعلا- جعل في استرضاع النبي لها بركات وخيرات وفتوحات، فتعلق قلب حليمة بالنبي ﷺ، حتى قالوا: إنها أحبته أكثر من أولادها، لِمَا جعله الله في قلبها من الحنان والحنو عليه وهو يتيم، مع أنها أول ما أخذته كانت كارهة، لكنها كانت به بعد ذلك حافيةً بتدبير الله ذلك.
وعادت به لأهلها كما أرادت حليمة وأراد أيضا جده وأمه في إتمام استرضاعه ونشأته في البادية ﷺ.
وفي رجوعه الثاني وقعت حادثة عظيمة، كل من تكلم على السيرة يذكرها، وهي حادثة شق الصدر، صدر النبي ﷺ، في كمال عناية الله ورعايته لخليله محمد ﷺ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (
فَبَعْدَ شَهْرَيْنِ انْشِقَاقُ بَطْنِهِ ... وَقِيلَ بَعْدَ أَرْبَعٍ مِنْ سِنِّهِ
)}.
اللهم صلِّ وسلِّم على محمد.
حادثة شق صدره ﷺ أمر بها ربي، ونفَّذها كبير ملائكته، ووزيرهم، ورئيسهم، ومقدمهم عند الله -جبرائيل- فبينما النبي ﷺ مسترضعًا في بني سعد، ما فجأ نبينا وهو صغير، قيل: له سنتان، وقيل: له أربع، كما أشار الماتن والناظم.
جاءه جبريل على هيئة بشر، فأخذه وشق صدره وهو حي ينظر، فراع ذلك إخوته من الرضاعة، فذهبوا مسرعين إلى أمه يخبرونها بالخبر، ونبينا بلا بنج ولا غير ذلك؛ لأن هذا تقدير أحكم الحاكمين، وعنايته وحفاوته به عليه من ربنا أكمل صلاة وأتم تسليم.
جبريل معه طست، قيل: من ذهب، فأخرج قلبه وغسله بهذا الطست، وقيل: غسله بماء زمزم حتى نقاه من علائق الدنس، فكان قلب نبينا طاهرًا مُطهَّرًا بتغسيل جبريل له لَمَّا شُقَّ صدره، ولهذا عمره الله -عز وجل- توحيدًا وإخلاصًا، ونورًا وحكمةً، هذا من التهيء والتهيئة له للبعثة.
ولهذا حادث شق الصدر من الآيات التي تقع للأنبياء، ونبيُّنا آياته شيءٌ سابقٌ لولادته، وشيءٌ بعد ولادته، وجلُّ آياته التي أيَّده الله بها بعد بِعثته.
رأت أمُّه ﷺ أنه خرج منها نورٌ أضاء المشرق والمشرق، وهذا رؤيا منام؛ لأن الذي في رحمها به غَيَّرَ الله الدنيا، من ضلالة وجهالة مُحكِمَة، إلى هداية وإيمان وتوحيد مُستقِر.
قيل: إن هذه الحادثة كانت بعد شهرين من رجوعها -الرجوع الثاني- به بعد السنتين، وقيل: بعد أربع من سنه، يعني بعد السنة الرابعة من عمره ﷺ، وهذا محتمل وهذا محتمل، والأكثر الذي رأيت أهل السير عليه أنه في السنة الرابعة، وهو ما رجحه العلامة ابن القيم في زاد المعاد وغيرهم رحمهم الله
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (
وَبَعْدَ سِتٍّ مَعَ شَهْرٍ جَاءِ ... وَفَاةُ أُمِّهِ عَلَى الْأَبْوَاءِ
)}.
اللهم صلِّ وسلِّم على محمد. (وَبَعْدَ سِتٍّ مَعَ شَهْرٍ جَاءِ) يعني: دخلوا في ست سنين وشهر، وقيل: وأشهر، ماتت أمه "أمنة بنت وهب". (وَفَاةُ أُمِّهِ عَلَى الْأَبْوَاءِ) أي: في موضع الأبواء، وهذا الموضع معروف قريب من الجُحفة والآن هو قريب من المدينة المعروفة "رابغ"، وذلك أن أمه "آمنة بنت وهب" ذهبت بالنبي ﷺ تزور أخوال أبيه، من أخوال أبيه يا ترى؟
بنو النجار من الخزرج من الأنصار، والعجيب أن بني النجار أخوال لعبد الله، وأخوال لجده عبد المطالب، فإن عبد المطالب واسمه شيبة الحمد، وعبد المطلب هذا لقب، وذلك أنه لَمَّا مات أبوه هاشم، كان عبد المطلب رجع مع أمه إلى أخواله في بني النجار في المدينة فنشأ عندهم، فلمَّا اشتد ذهب أخوه المطلب بن هاشم، ليجيء بأخيه ليعيش بين أهله في وطنه في مكة، فاحتمله أخوه المطلب على بعيرٍ خلفه، ومع طول المسافة وشعثاء الطريق ووعثائها وحرها، اسمرَّ عبد المطلب من الشمس والغبار والشهابة واللهابة، فدخل مكة المطلب ووراءه أخوه، ولكنه مع تغير أحواله في السفر صار كالعبد.
فقالوا: من هذا يَردِفُ المطلب؟ قالوا: هذا عبدٌ للمطلب، فذهبت عليه اسم عبد المطلب، فصار الوصف اسمًا، وإلا فهو: "شيبة الحمد".
زارت "آمنة" أخوال أبيه -أخوال عبد الله-؛ لأن المطلب تزوج من بني النجار.
زارتهم في المدينة، وفي مرتجعها من المدينة إلى مكة، ومعها بركة الحبشية -أم أيمن- مولاتها، مرضت فماتت في الطريق بين المدينة ومكة، في موضعٍ يسمى بالأبواء، والنبي صغير، فكفلته "بركة الحبشية -أم أيمن-"، وهي بالمناسبة "أم أسامة بن زيد"؛ لأنَّ النبي زوج "زيد بن حارثة" مولاه من: "أم أيمن" كافلته ومربيته.
وقد ثبت أنَّ النبي ﷺ وهو في غزواته مَرَّ قريبًا من الأبواء، فاستأذن ربه أن يستغفر لأمه، فلم يأذن له؛ لأنها على غير دينه، واستأذن ربه أن يزور قبرها فأذن الله له بذلك، فلم يشد الرحل لزيارة قبر أمه، ولم يسافر، وإنما لَمَّا كان قريبًا منها.
قالوا: الفرق بين الأمرين: أن في الاستغفار طلب المغفرة لغير المؤمن، وهذا لا يصح، ﴿مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ﴾ [التوبة:113].
وأمَّا زيارة القبر ولو كان على غير دينه، ففيها منفعة للزائر بالعظة والتذكر والاعتبار.
فزار النبي ﷺ قبرها بالأبواء، وهنا سؤال: لماذا لم يجعل نبينا ﷺ قبر أمه مزارًا؟ لم يشرعه لأمته؟!
لأن زيارة القبور مشروعة لغيرها لا لذاتها، لتذكر الآخرة، «كنتُ نهيتُكم عن زيارَةِ القبورِ ألا فزورُوها، فإِنَّها تُذَكِّرُ الآخرةَ» ثم هي على غير دينه ﷺ، ولهذا لا يجوز شدُّ الرحل والسفر لزيارة المقابر والأضرحة والمقامات ولو كان أهلها من الأولياء والصالحين، لا يجوز ذلك؛ لأن هذا من وسائل الشرك بهم مع الله، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قالَ النبي ﷺ: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ»، فخصَّ بقاع التعظيم بالمساجد الثلاثة، «مَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى»[1].
{أحسن الله عليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (
وَجَدُّه لِلْأَبِ عَبْدُ الْمُطَّلِبْ ... بَعْدَ ثَمَانٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ كَذِبْ
)}.
النبي ﷺ هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب، وكان لهاشم أربعة من الولد، "المطلب، وشيبة الحمد وهو عبد المطلب، وعبد شمس، جد بني أمية، ونوفل جد المطعم بن عدي" فهؤلاء أولاده الأربعة.
أمَّا بنو عبد المطلب وبنو المطلب فكانوا كالشيء الواحد، لَمَّا حَصَر المشركون هذين الفرعين في شعب أبي طالب، ولهذا قال ﷺ في حديث: «إِنَّمَا بَنُو المُطَّلِبِ، وَبَنُو هَاشِمٍ شَيْءٌ وَاحِدٌ»[2].
خالفهم فدخل في معاهدة المقاطعة الآتي ذكرها بنو عبد شمس وبنو نوفل، وفيهم يُعَرِّض أبو طالب في قصيدته اللاميّة المشهورة، التي هي من عيون الشعر، وحقّ لها أن تكون من المعلقات، لَمَّا قال:
وأبيَضَ يُسْتسقَى الغَمامُ بوَجهِه ... ثِمالُ اليَتامى عِصْمةٌ للأرامِلِ
إلى قوله:
جَزى اللَهُ عَنّا عَبدَ شَمسٍ وَنَوفَلاً ... عُقوبَةَ شَرٍّ عاجِلاً غَيرَ آجِلِ
لأنهم حالفوا أهلَ مكة في معاهدتهم الجائرة الظالمة في مقاطعة بني عبد المطلب وبني المطلب حتى يُسلموا لهم رسول الله ﷺ فيقتلوه بعد دعوته الآتي بيانها.
نبيُّنا لَمَّا مات أبوه كفله جده عبد المطلب، وتولى رعايته -بتوفيق الله وحفظه لنبيه- حتى كان جده يجعله مع أولاده لمكانة أبيه عبد الله منه، ورحمة منه بـ "ابن ابنه" الذي مات.
بقي عبد المطلب إلى سن النبي الثامنة وهو يحوط رسول الله ويرعاه، وحضرت عبد المطلب الوفاة، فأوصى عند وفاته أبا طالب، وهو بالمناسبة شقيق لعبد الله وأكبر أولاده، أوصاه جدًا بـ "ابن أخيه" بنبينا محمد ﷺ.
هذه الوصية العظيمة تولاها أبو طالب، وأحاط بعنايته وكفالته نبينا قبل البعثة وبعدها، في مدة كم تتوقعها من السنين؟
{قرابة ثلاثين سنة}.
في ثلاث وأربعين السنة، فقد مات عبد المطلب ونبينا له ثمان سنين في أولها، وكفله أبو طالب في السنة الثامنة إلى أن مات أبو طالب ونبينا له خمسون سنة. كم سنة؟ ثلاث وأربعين سنة وأبو طالب حادب ظهره على نبينا، كفله قبل بعثته، وكفله بعدها.
ووالله ما نالَ العربُ، ولا نالت قريش من رسول الله ﷺ ما نالت حتى مات عضيده وظهره ومعينه وحاميه، عمه أبو طالب.
تأمل: يموت أبوه وهو حمل في بطن أمه، ثم تموت أمه وهو في السادسة، ثم يموت جده وألطاف ربي -جل وعلا- وحفاوته وعنايته تُحيط به ﷺ، وفيها قول الناس المشهور: كلُّ ضَعفٍ له لُطف، ولطف ربي لا يلحقه لطف، كما أن مَدَّةَ ربي لا يُعادلها مَدة، وإعطاؤه لا يماثله عطاء، كيف ويمينه -جل وعلا- ملأَى، سحَّاءُ باللَّيلِ والنَّهارِ، لا يَغيضُها نفقةً.
في هذه النشأة نشأ نبينا، والله يحوطه، والله يحفظه، والله يُؤيده، ويُهيئ له من خلقه من يقومون عليه.
وفي هذا أنه ليس العِبرة بمن له أبوان يرعيانه، ولكن العِبرة جُلَّ العِبرَة بحفاوة الله ورعايته لعبده، كلُّنا رعانا أبوانا، وهذا النبي اليتيم، يتيم الأبوين، وأصل اليُتم في الشرع فقد الأب، «ولا يُتم بعد بلوغ» كما روى البيهقي وغيره، وعليه إجماع العلماء، فإذا بلغ ما يسمى يتيمًا، وإلا لصار أبناء الثمانية والتسعين أيتامًا!
واليُتم الحقيقي في شرعنا وفي ديننا، هو من فقد الأب، فإذا فقد الاثنان تحقق فيه اليُتم؛ لأنّ الحنو إلى دون البلوغ للأم، وأمَّا بعد ذلك فللأب فهو الذي يحوط ولده، وهو الذي يُربيه وينشيه.
كفله جده ثم كفله عمه أبو طالب، وقوله: (بَعْدَ ثَمَانٍ مَاتَ مِنْ غَيْرِ كَذِبْ) ومن غير كذب أي بالاتفاق، وجاء بكلمة كذب ولم يُكذبُّ بذلك أحد لأجل أن يستقيم عجز هذا الرجز. اللهم صلِّ وسلِّم عليه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (
أَبُو طَالِبٍ الْعَمُّ كَفَلْ ... خِدْمَتَهُ ثُمَّ إِلَى الشَّامِ رَحَلْ.
)}.
تكفله بعد موته عبد المطلب أبو طالب، لماذا أبو طالب؟ ذكروا لذلك ثلاثة أسباب:
الأول: وصية عبد المطلب، فإنه أوصى أبى طالب وعاهد إليه عند احتضاره برعاية النبي ﷺ وكفالته والحفاوة به.
ثانيًا: لأنَّ أبا طالب شقيقٌ لعبد الله.
ثالثًا: لأنَّ أبى طالب هو المتولي للسيادة على بني هاشم، وقد تولى أمر السقاية بعد أبيه عبد المطلب، فهو أكبر أولاده، وإلا فأولاد "عبد المطلب" عشرة، أكبرهم: "أبو طالب"، وقد ردَّ النبي ﷺ هذا الجميل على عمه في الدنيا بكفالة علي بن أبي طالب؛ لأنَّ أبا طالب كان قليل ذات اليد، فتقاسم إخوته أولاده، فكان في قَسْمِ النبي ﷺ علي بن أبي طالب.
وَرَدَّه في الآخرة -كما يأتي- في أنَّ الله جعل لنبينا خَصيصة في شفاعة خاصة في أبي طالب، يُخفف عنه العذاب، ولكن لا يخرج من النار ولا تنفعه هذه الشفاعة في خروجه من النار.
ثم أبو طالب العمُّ، أي: عم الرسول، بـ "أل" العهدية، كَفَلَ هذا الولد، فَدَلَّ على أنَّ اليتيم يُكفل حتى يغدو رجلًا، أو حتى يبلغ، وما قبل البلوغ فهو مجال الكفالة.
والكفالة بالمناسبة قد جاء فيها الفضل، «أَنَا وَكَافِلُ الْيَتيمِ فِي الْجَنَّةِ كَهَاتَين، وأشارَ بأصبُعَيْهِ السَّبَّابةَ والوسطى»[3]. الوسطى للنبي ﷺ، والسبابة لهذا الكافل.
النبي يتيم، ودليله في القرآن في سورة الضحى: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ﴾، واليتيم -كما سبق- هو يتيم الأب.
كفله: والكفالة بالمناسبة كفالة في تربيته والحنو عليه، والعطف عليه، مع تغذيته وتنشئته والإنفاق عليه، لا كما اشتهر اليوم أنَّ الكفالة خاصة فقط في الإطعام -في النفقة- هذا ضرب من الكفالة وليس كلها، بل هذه صدقة على اليتيم، وأمَّا التي جاء فيها الفضل العظيم فهي أن تأخذ اليتيم وتعوضه حنان الأب، وتربيه، وتغذيه، وتقوم عليه. (كَفَلْ خِدْمَتَهُ) أي: خدمة النبي ﷺ، أي بالعناية به وحفظه ورعايته. (ثُمَّ إِلَى الشَّامِ رَحَلْ) هذه إحدى الرحلتين الشهيرتين، بل في الحقيقة هم رحلتان لا ثالث لهما، ارتحل فيها النبي ﷺ إلى الشام. كلا الرحلتين كانت قبل بعثته، الأولى: والنبي صغير؛ لأنَّ من مُقتضى الكفالة أن لا يتركه وحده، وأبو طالب يُتاجر، له مع قريش الرحلتان المشهورتان، فالصيف إلى الشام، وفي الشتاء إلى اليمن؛ لأن الشام في الشتاء باردة لا يُطيقونها، وهي رحلة تجارة، يأخذون ما عندهم ويشترون به السلع ويأتون بها إلى مكة، والتي فيها جريان المال بقدوم الحاج والعمار والزوار لحرم الله.
رحل به عمه أبو طالب إلى الشام، كم عمر النبي ﷺ لَمَّا ارتحل به؟ اقرأ ذلك في نظمك.
{قال -رحمه الله-: (
وَذَاكَ بَعْدَ عَامِهِ الثَّانِي عَشَرْ ... وَكَانَ مِنْ أَمْرِ "بَحِيرَا" مَا اشْتَهَرْ
)}.
الرحلة الأولى الذي ارتحل بها أبو طالب برسول الله إلى الشام بعد وفاة عبد المطلب بأربع سنين، وعمر نبينا ﷺ ثنتا عشرة سنة، رحل به لأنه كافله، ولأنه غدا مَغدى الشباب الصبيان، ويطيق السفر ويتحمله، وهو في كفالة عمه.
رحل به إلى الشام، والشام اسم لِمَا حول بيت المقدس، وقد اشتمل عليه الآن أكثر من دولة، سوريا من الشام، فلسطين من الشام، تخوم الأردن من الشام، لبنان من الشام، أطراف العراق وأطراف تركيا من الشام. (بَحِيرَا) وبحيرة راهب نصراني عالم، وكان صديقًا وخِلًّا لأبي طالب، يمر عليه في تجاراته، ويُكرم بحيرا الراهب أبا طالب ومن معه.
يقول أهل السير في الحادثة المشتهرة لأنه أشار إليها الناظم، (وَكَانَ مِنْ أَمْرِ بَحِيرَا مَا اشْتَهَرْ) أن بحيرا الراهب في صومعته وحوله أتباعه وأصحابه، يعبدون الله في ديرهم، وديرهم قريب من بصرى في شرقي دمشق، حتى هي شرقي درعة الآن، ومحلها في سهل حوران، سهل منبسط، والقادم عليهم يحط من محلٍ عالٍ.
لَمَّا نزل أبو طالب أحسوا بنور قد قَدِمْ، لَفَتَ نظر بحيرة، وهو من علماء النصارى، فلما قدم أبو طالب هش فيه وبش، وعمل له وليمة، وهي قبل دخولهم حوابر الشام للبيع والشراء والتجارة، من حوابرها دمشق، من حوابرها حمص، وكان فيها أكبر حصون هرقل، المشهورة في قصة جمعه لعساكرته ودساكرته ودهاقنته وقساوسته لَمَّا أراد أن يمتحنهم في دينهم.
رأى "بحيرا الراهب" النبي ﷺ، فلفت أنظار أبي طالب شدة تحريه بالنبي وتأمله فيه، حتى رفع ثوبه ورأى الخاتم في ظهره، فقال بحيرا الراهب: يا أبا طالب من هذا؟
قال: هذا ابني. من أين جاء بحيرا بهذا العلم؟ مما ذكره ربي في كتبهم؟ من الوصف الدقيق والنَّعْت الكامل لنبينا ﷺ، وهذا في قول الله -جل وعلا-: ﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ﴾ معرفتهم بنعت النبي في كتبهم كمعرفتهم بأبنائهم، حتى قال عبد الله بن سلام -رضي الله عنه-: والله إنّي لا أعرفه أشد من معرفة ابني، فإني أخرج من أهلِي ولا أدري ما تصنع المرأة، قد تخونني في غيبتي، وأمَّا هذا فأعرفه أشد من معرفتي لإبني ﷺ.
قال بحيرا: يا أبا طالب إنه ليس ابنك، إن هذا الغلام يتيم، ففزع أبو طالب، فقال له بحيرة: ارجع بابن أخيك -لَمَّا أخبره أنه ابن أخيه الذي مات- ارجع به إلى بلدك واحفظه، فلو علمت به يهود لقتلته، وإن ابن أخيك سيكون له شأن سيكون له شأن. وقد تذكرها أبو طالب لَمَّا قام النبي ﷺ بدعوته العظيمة، التي كان من شأن أبي طالب أنه آَمَنَ بها بشعره، ولم يؤمن بها بقلبه ولسانه، على ما سيأتي التنبيه عليها إن شاء الله في موضعها.
هذه الرحلة الأولى لنبيّنا إلى الشام، وكانت مع صحبة عمّه، وبالفعل رجع به أبو طالب ولم يدخل به الشام حفظًا وخوفًا على ابن أخيه -على مكفوله- أن تصيبه اليهود بما خوفه به بحيرا الراهب.
وفيه أيضًا إلْمَاعة إلى أن النصارى أقرب إلى أهل الإسلام من اليهود -أهل الحقد والغل والمكر والحسد- مما عابهم الله به في قوله سبحانه في آية النساء: ﴿أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا﴾ حسدوا العرب، حسدوا أهل الدنيا أن لا يكون النبي الخاتم لا يكون من اليهود.
ولهذا لما خرج النبي بدعوته أطبقوا على عداوته الأبدية إلا من هداهم الله -عز وجل- منهم، من علمائهم، ومن أطرافهم.
رحل ﷺ رحلة ثانية إلى بلاد الشام للتجارة، ولكنها في تجارة مال غيره.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (
وَسَارَ نَحْوَ الشَّامِ أَشْرَفُ الْوَرَى ... فِي عَامِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ اذْكُرَا
)}. (وَسَارَ نَحْوَ الشَّامِ) أي: جهتها، في رحلة الصيف التي نوَّه الله عليها، وامتنَّ بها على أهل مكة في سورة قريش، بسم الله الرحمن الرحيم، ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ﴾ أي: ما اعتادوه وألفوه، ﴿إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾ الشتاء إلى اليمن جنوبًا، يتبضعون، ويشترون، ويبيعون، ويجلبون البضائع التي يتعيشون بها في مكة، لأن مكة ما فيها زرع، ما فيها إلا التجارة للوافد عليها.
ورحلةٌ في الصيف إلى الشام. ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾. (وَسَارَ نَحْوَ الشَّامِ أَشْرَفُ الْوَرَى) الورى هم الخلق، يشمل: الخلق من الأدميين، ومن الجنيين، ومن الأحياء، ومن الحيوان في جنسهم، ومن الجماد، ونبيُّنا أشرفهم بما شرَّفه الله به في سابق علمه أن يكون هو النبيُّ الخاتم، عليه وعلى أنبياء الله أفضل صلاة وأزكى سلام. (وَسَارَ نَحْوَ الشَّامِ أَشْرَفُ الْوَرَى ... فِي عَامِ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ اذْكُرَا) يعني: وعمره خمسٌ وعشرون سنة، وكان يتاجر في مال خديجة، وخديجة مات زوجها وترملت وكانت من ذوي المال، فعاملت النبي ﷺ معاملة، تسمى اليوم: المساهمة والمضاربة على شطر من الرِّبح، فوجدت في معاملة النبي ﷺ -وقد دفعت إليه مالها- وجدت عنده الوفاء، والصدق، وحسن التعامل، وصدق الأسوة ﷺ، هذا قبل البعثة.
وقريش كانت تسمي نبينا قبل أن يُبعث بمحمد الأمين، وقد وقعت حادثة تدل على ذلك في عهد من؟ في عهد أبي طالب.
بعد موت عبد المطلب كان نبيُّنا ﷺ في حال مراهقته وشبابه يُشهر بين أهل مكة بمحمد الأمين، يأتمنونه لأنهم عرفوا منه الوفاء وطيب السجيّة، وكريم الجبلّة، فالوفاء عنوانه، وهو شعاره ودثاره ﷺ، وقد أصاب الكعبة سيلٌ عرمرم، فانهدمت معه الكعبة، فلما أن كان ذلك وهي عز أهل مكة، عز قريش وخزاعة وبكر، عز العرب جميعًا، اهتموا لبنائها، واشترطوا أن لا يبنوها إلا بمال حلال لم تشبه شائبة الحرام، وكانت جُلُّ مكاسبه من الحرام، لا سيما من الربا، ربا الديون وربا البيوع، فقصرت بهم النفقة -حطمت بهم النفقة- فكان الحطيم وهو القوس الذي في شمال الكعبة، لم يستطيعوا إكمال البيت من مال حلال لا شبهة فيه.
اختلفت فروع قريش في بطونها لَمَّا وصلوا إلى الحجر الأسود من يضعه في مكانه، اختلافًا كادوا فيه أن يقتتلوا، وإذا اقتتلوا تفانوا، فاصطلحوا على أن أول داخل إلى البيت يتولى ذلك، فوفق الله رسوله محمدًا ﷺ فكان أول داخل للبيت، فقالوا -حيث اتفقوا على ذلك-: هذا محمد الأمين، ثم قالوا: رضينا بمحمد الأمين، وهذا قبل البعثة ﷺ.
فانتدب ﷺ وهذا من كمال عقله، ومن حوزه الشرف لبطون قريش لهذا الأمر، من كل قبيلة رجلان، فوضع كساءً فحمل الحجر عليه، وأمرهم أن يرفعوه -يعينوه في رفعه بهذا الكساء- حتى قارب موضعه فحمله فوضعه في موضعه، فأصلح الله به ما كان سببًا للنزاع والخصام بينهم، وسببًا لدفع الشر الذي كاد أن يقع بينهم ويتفانوا، ورضوه ﷺ لكريم سجيته فهو الأمين، وفيها قول أبي طالب:
............................ ... وَبِالْحَجَرِ الْمُسْوَدِّ إذْ يَمْسَحُونَهُ
إذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضُّحَى وَالْأَصَائِلِ ... وَمَوْطِئِ إبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبَةٌ
عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ نَاعِلِ ...
لَمَّا قال في قصيدته اللامية التي بدأ فيها في أطلال البيت، والصفا والمروة، وإساف ونائل، ومنى وعرفات، يُعَرِّضُ بتلك الصحيفة الجائرة الظالمة التي تعاوروها على بني عبد المطلب وبني المطلب.
قريشٌ رفعت باب الكعبة هذا المرفع، لماذا؟ لئلا يدخل البيت إلا أرادوا، ويمنعُوا عنه من أرادو، ولَمَّا فتحَ الله -عز وجل- مكة على نبيه ﷺ في رمضان من السنة الثامنة، قال ﷺ لعائشة: «لولا أنَّ قومَكِ حديثُ عهدٍ بكُفْرٍ لَهدَمْتُ الكعبةَ ثمَّ أعَدْتُها على قواعد إبراهيمَ» وأدخل فيه الحطيم، «ولجعلتُ له بابين مُلتصقين بالأرض، بابٌ يدخل منه وبابٌ يخرج منه».
من الذي منعَه؟ حداثة عهدهم بالكفر والجاهلية، فيخشى عليهم الفتنة، فدرأ المفسدة العظمى في قبوله لهذه المفسدة الدنيا.
والحطيم جزءٌ من البيت، ويُسمَّ بالحجر؛ لأن نفقة قريش احتجرَت دون إتمامه، وأما تسميته بحجر إسماعيل فهو من باب التجوز، وأما اعتقاد أن إسماعيل دفن في هذا الموضع فهذا كلام باطل لا أساس له لا في العلم ولا في التاريخ ولا في دين الإسلام، إذ لا يجوز في دين الإسلام أن يدفن نبي في مسجد أبدًا، بل عَدَّه النبي ﷺ من الأمور الشنيعة الفظيعة، التي هي من وسائل الشرك بهذه القبور مع الله.
والصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان النبي ﷺ قبل أن يموت بخمس ليال، يطرح خميصة على وجه، فإذا اغتمَّ بها -أي لسكرات الموت وحرارته- كشفها فقال وهو كذلك: «لَعْنَةُ اللَّهِ علَى اليَهُودِ والنَّصارَى؛ اتَّخَذُوا قُبُورَ أنْبِيائِهِمْ مَساجِدَ، ألا فلا تتَّخذوا القبورَ مساجدَ إني أنهاكُم عن ذلك»[4].
تقول عائشة -رضي الله عنها-: ولولا ذلك لأبرز قبره، غير أنه خشي أن يُتخذ مسجدا ﷺ.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (
لِأُمِّنَا خَدِيجَةٍ مُتَّجِرَا ... وَعَادَ فِيهِ رَابِحًا مُسْتَبْشِرَا
)}. (لِأُمِّنَا خَدِيجَةٍ مُتَّجِرَا) لأجل النظم جاءت (مُتَّجِرَا) يعني: بتجارة خديجة أم المؤمنين، وهي أم المؤمنين لأنها زوجة وحليلة رسول الله ﷺ، ولها من الفضائل والخصائص ما بَزَّت به النساء، وفضلها على نبينا وعلى هذه الأمة فضلٌ لا يُنكر، بل أشهرُ من أن يُنكر، فاللهم ارض عنها، فهي السيدة العاقلة، أول من آمن بالنبي ﷺ بالإطلاق، هي خِدنُه، هي أهلُه، هي سِترُه، هي حبُّه، وخديجةُ وعائشة شأناهما في هذه كالعينين في الرأس، هل تميز عينًا عن أخرى؟
ثبت لعائشة من الفضائل ما لم يثبت لخديجة، وثبت لخديجة من الفضائل ما لم يثبت لعائشة، ولهذا أحسن ما يُقال: هما في عيني هذه الأمة وفي جبينها كالعينين في الراس، لكل منهما فضائل.
ذهب في السنة الخامسة والعشرين من عمره مُتجرًا بمال خديجة إلى الشام، وهو ما يُسمى بالمُضاربة على نسبة من الربح، لم يكن عاملا عند خديجة، ولكن مُضارِبًا بمالها، فرأت منه الصدق والأمانة والوفاء، ورأت المرجلة وطيب التعامل حتى خطبته إلى نفسها، ومع ذلك أنزلها منزلتها ﷺ، فأخبر عمه أبا طالب ببغيته لها، وأن ينكحها وهي أيّمٌ بعد رجل، لكن مِثلُها مطمع، فقبل عمُّه، فأتى النبيُّ ﷺ ومعه أعمامه يخطبونها.
وعاد فيه -أي بمالها- رابحًا مُستبشرًا، رابحًا بهذه التجارة، مُستبشرًا بما يكون بعدها، ومنها: زواجه منها، ومنها: ما أطلعه الله عليه في الأرض لَمَّا وطِئَه.
ونلخص في هذا المقام سفرات النبي ﷺ، وهي خمس سفرات، سفرته قبل البعثة إلى الشام مرتين، مرةً وهو ابن اثني عشرة سنة مع عمه أبي طالب، لَمَّا رده الراهب بحيرا.
والثانية وعمره خمس وعشرون سنة، أي بعد تلك السفرة بثلاث عشرة سنة، متاجرًا بمال خديجة، ورجع منها بالربح الوفير، وبالوفاء والمروءة، اللتان هما من خُلُقهِ ودله ﷺ.
سفرته الثانية التي غيرت وجه الدنيا، وهي: هجرته.
سفرته الثالثة: آية الله له بسفره إلى بيت المقدس إسراءً، ثم من بيت المقدس إلى السماء مِعراجًا.
سفرته الرابع: سفراته في غزواته، وقد غزى بنفسه ثماني عشرة غزوة ﷺ، أبعدها غزو الروم في تبوك.
النوع الخامس، سفراته في حجه وعمرته، وهي أربع سفرات.
هذه سفراته ﷺ التي انتقل بها، كلها بعد البعثة في أشرف الأمور وأعظمها وأجلها، وقبل بعثته في تجارته مع عمه أولًا ثم في مال خديجة قبل أن يتزوجها ثانيًا ﷺ.
{لعلنا نقتصر على هذا}.
طيب، لا بأس بذلك.
{وبهذا نكون قد انتهينا من هذه الحلقة، ونستودعكم الله -عز وجل-، وإلى لقاء في حلقة أخرى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------
[1] خرجه البخاري (1864)، ومسلم (827).
[2] رواه البخاري.
[3] أخرجه البخاري (6005)، ومسلم (2983).
[4] أخرجه البخاري (4441)، ومسلم (529).