الدرس الثالث

فضيلة الشيخ أ.د. علي بن عبدالعزيز الشبل

إحصائية السلسلة

7303 9
الدرس الثالث

الأرجوزة المئية

{بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، حياكم الله معاشر طلاب العلم، في سلسلة جديدة من برنامج (جادة المتعلم) نشرح فيها نظم الأرجوزة الميئية في ذكر حال أشرف البرية، للعلامة/ علي بن أبي العز الحنفي -رحمه الله تعالى- يشرحها لنا فضيلة الشيخ/ عليِ الشبل.
باسمكم جميعا نرحب بفضيلة الشيخ، حياكم الله شيخنا}.
وأنا كذلك أجدد الترحيب بك وبإخواني أينما بلغ إليه هذا الأثير، سائلا ربي -جل وعلا- أن يجعله مجلسًا من مجالس العلم والذكر والخير، وأن ينفعنا ويرفعنا الله -عز وجل- بها في هذه الدنيا وفي الدار الآخرة، إنه سبحانه جواد كريم.
{قال -رحمه الله تعالى-: (
فَكَانَ فِيهِ عَقْدُهُ عَلَيْهَا ... وَبَعْدَهُ إِفْضَاؤُهُ إِلَيْهَا
)
}.
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن سلف من إخوانه المرسلين، قال الناظم علي بن أبي العز الحنفي في الأرجوزة الميئية في ذكر حال أشرف البرية : (فَكَانَ فِيهِ) أي في مرجعه تلك السنة من تجارته بمال خديجة، وعمره خمس وعشرون سنة، (كَانَ فِيهِ عَقْدُهُ عَلَيْهَا)، كما سبقت الإشارة إلى أن خديجة خطبت النبي تعريضًا بها، لَمَّا أرسلت مولاتها إلى رسول الله تقرب هذا وتعرض نفسها عليه، فأنزلها النبي منزلتها، وَقَدِمَ إليها خاطبًا بصحبة أعمامه.
(وَبَعْدَهُ) أي بعد هذه الخطبة، (إِفْضَاؤُهُ إِلَيْهَا)، والإفضاء هو الوطء والجماع، وهو مقصود النكاح الأول، فإنَّ النكاح له مقاصدٌ شريفة عظيمة، أعظمها ثلاثة:
الأول: قضاء الوطر، ولهذا قال : «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»[1].
المقصد الثاني من مقاصد النكاح -من هذا الإفضاء-: حصول النسل والولد، وبالمناسبة خديجة هي أم ولده، وقد أنتجت منه ثمانية وقيل سبعة كما يأتي.
أولهم: القاسمُ وبه كان يُكنَى ، فهي أمُّ ولده، وبهذا كان يذكرُها ويشيدُ بها، حتى لَمَّا غارت منها بعض أمّهات المؤمنين -رضي الله عن الجميع- قال: «هي أمُّ ولدي، وهي التي آوَتني ونصَرتني» تميزًا لخصيصتها وفضيلتها -أعني خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها-.
تقول عائشة: «كان إذا ذَبَحَ الشَّاةَ يقولُ: أرْسِلوا بها إلى أصْدقاءِ خَديجةَ» وفاءً وبراءً ومروءةً وأصالةً في جنابه الشريف ، ألا فلا نامت أعين اللئام.
إفضاؤه إليها كان بعد العقد، وعقدهم على ما كان عليه بالخطبة والموافقة والرضى والقبول، وجاءت الشريعة بأركان العقد وشروطه، وهي الأركان الثلاثة:
الزوجان الخاليان من الموانع، والإيجاب، والقبول.
والموانع: كأن يكون بينهما رضاعة أو نسب محرم على التأبيد أو على التوقيت.
وشرائط النكاح أربعة: "تعيين الزوجين، ورضاهما، والوليّ، والشهود".
(فَكَانَ فِيهِ) أي في هذه السن، (عَقْدُهُ عَلَيْهَا) وبالمناسبة نكَح النبي خديجة وهي أسن منه بخمس عشرة سنة، عمرها أربعون، وعمره خمس وعشرون، ما الذي فرق بهذا العمر؟
وفاؤها وعقلها، وشرفها وسيادتها -رضي الله عنها-بان ذلك لَمَّا بُعث به، فإنها أول من آمن به، وجاء فزعًا هلعًا مما لقيه في غاره، فكانت هي الخدن له، وهي الستر عليه، وهي الأنس والفرح والمسلية له.
قالت له كما جاء في الصحيحين، لَمَّا قال: «قدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي، فَقالَتْ له: كَلَّا فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا»، وعللت ذلك بخمس خصائص وشمائل، فقالت: «إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الدهر» وكل نائبة حق النبي إليها، وحلف الفضول دل على ذلك قبل بعثته بنحو خمس سنين، فالله لا يخزيك.
ولذا فمن كانت هذه شمائله، وهذه صفاته، فالله لا يخزيه أبدًا، كيف عرفت خديجة ذلك؟
من عقلها وعلمها وفضلها، أن هذه سنة الله الدارجة لسنته الكونية، أن الله لا يخزي من كانت هذه صفاته.
وخديجة -رضي الله عنها- ما انتظرت حتى يجيء النبي بمعجزة فتؤمن به، بل استدلَّت بحاله على شرفه وصدق مقاله، وآمنت به، فهي أول من آمن به على الإطلاق، ولهذا جاء التمييز أن أول من آمن به: خديجة -رضي الله عنها-، وهي أول من آمنت من النساء.
وأما من الرجال، فأول من آمن به الصديق أبو بكر، ومن الأطفال أول من آمن به علي بن أبي طالب لأنه في كفالة النبي ، ردًا لمعروف كفالة أبي طالب -عمه له- والله أعلم.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (
وَوِلْدُهُ مِنْهَا خَلاَ إِبْرَاهِيمْ ... فَالْأَوَّلُ الْقَاسِمُ حَازَ التَّكْرِيـمْ
)
}.
(وَوِلْدُهُ) أَيْ: أَوْلَادُهُ، وإنما قال: (وِلْدُهُ) لأجل النظم في الرجز، وأولاد النبي أي: أبناؤه الذكور وبناته الإناث، فإن اسم الولد يشمل هذا وهذا، ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ﴾ فالولد اسم يشمل الذكر والأنثى. وَوَلده منه: أي ولدت منه أولاده الأربعة أو الثلاثة، كما يأتي في الخلاف، وبناته الأربع، والذي يظهر -والله أعلم- أنهم ثمان، وإن كان بعض أهل العلم يرجح أنهن سبع، أن أولاده وبناته مجموعهم سبع.
وأولاد النبي كلهم من خديجة، إلا إبراهيم، مَنْ أُم إبراهيم؟
مارية القبطية التي أهداها له المقوقِس زعيم القبط بالإسكندرية، فهي الاسكندرية وفيها النصارى الأرثوذكس، أتباع الكنيسة الشرقية.
(فَالْأَوَّلُ الْقَاسِمُ حَازَ التَّكْرِيـمْ) ما التكريم؟ أن النبي كان يُكنى به، فكنيته أبو القاسم، وهذه الكنية إشارة إلى ما عند العرب، وجاءت الشريعة مُقِرة لها من مكارم الخُلق، أن الرجل يُكْنى بأكبر أبنائه، فالقاسم هو أكبر أبناء إبراهيم، وحاز التكريم بماذا؟ بأن النبي تكنَّى به.
وقد نهى النبي عن التكني بأبي القاسم كنا في الصحيحين عنه أنه قال: «تسمَّو باسمي ولا تكتنُوا بكُنيتي»[2]، وذلك في النهي عن التكني بكنيته حال حياته على الصحيح لا بعد موته، لأن سبب النهي حتى لا يُكنَّى أحدٌ بأبي القاسم فيلتبس بالنبي نداءً، أو إشارةً، أو ذكرًا، فإنه في إحدى سفراته نادى رجلٌ وقال: "يا أبا القاسم" فالتفت النبي إليه؟ فقال الرجل: لست أنت أعني يا رسول الله، إنما أعني فلانًا، فقال قولته المشهورة: «تسمَّو باسمي ولا تكتنُوا بكُنيتي»، وهذا في حياته فقط؛ لأن بعد موته أُمِنَ هذا اللبس.
فالقاسم أكبر أولاده من خديجة، وبه كان يُكنى، وهو التكريم المشار إليه بنظم الناظم (فَالْأَوَّلُ الْقَاسِمُ حَازَ التَّكْرِيـمْ).
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (
وَزَيْنَبٌ رُقَيَّةٌ وَفَاطِمَةْ ... وَأُمُّ كُلْثُومٍ لَهُنَّ خَاتِمَةْ
)
}.
بناته من خديجة أربعة، رتبهن حسب سنيهن، أكبرهن زينب، وزينبُ كان النبيُّ يرى فيها خديجة، أنها شبيهةٌ بأمها، خَلقًا وخُلقًا وأَدبًا، وقد تزوجها ابن خالتها، أبو العاص بن الربيع، وماتت في حياة النبي ، وهي التي فدت زوجها لَمَّا كان من ضمن الأسارى في بدر بعقد كان لأمها، أهدته لها ليوم زفافها على زوجها.
ولَمَّا رأى النبي فداء أهل مكة لَمَّا جاء رأى هذا العقد، فنظر فيه وتذكر خديجة وبكى ، وعرف أن زينب ساقته فداءً لزوجها من الأسر، وهكذا بنات الكرام، ولا أكرم أحد من رسول الله .
فشاور الصحابة ورغبت وفاحت بذلك أنفسهم رضًا، «إن رأيتُمْ أن تُطلقوا لَها أسيرَها، وتردُّوا علَيها الَّذي لَها»، فقالوا: نفعل يا رسول الله، وكانت هذه أول مراحل وأسباب إيمان زوجها أبي العاص بن الربيع، بوفاء بنت رسول الله معه، وهي زوجه إكرام النبي له، ولهذا لَمَّا رجع استأذنته أن تلحق بأبيها فلحقت به، وبقي مدة لم يطلقها ولم يتزوج عليها، في قصة مشهورة، أُرجع إخوتي طلبة العلم إلى قراءتها وتأملها في مطولات السيرة.
وإننا لنحتاج إلى هذه النماذج في القدوات والتعامل مع الأزواج والزوجات مما كان من آل بيته، فنساؤه وبناته أول من يدخل في آل بيته.
(رُقَيَّةٌ) هي الثانية بعد زينب من خديجة، ورقية زَوَّجَها النبي لأحد أبناء عمومته. من هو؟ عثمان بن عفّان -رضي الله عنه-، كيف صار عُثمانُ ابن عٍم للنبي ؟
يظهر ذلك بنسب عُثمان مع نسب رسول الله ، حيث يجتمعان في خامس كما يُقال، فنبيُّنا هو: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وعُثمان هو ابن عفّان، ابن أميّة، بن عبد شمس، بن عبد مناف، فهو في طبقَة نسب النبي .
زَوَّجَه رقية، وهي أول من مات من بناته ، وماتت في رجوع النبي من غزوة بدر الكبرى، أي: في السنة الثانية من الهجرة، فَزَوَّجَه النبي من أم كلثوم، وهي بالمناسبة أصغر بناته ، وماتت في السنة التاسعة من الهجرة.
الثالثة من بناته أو الرابعة بحسب المجموع، وهي الثالثة في الترتيب: (فاطمة) إذًا زينب فرقيّة، ففاطمة، فأم كلثوم، وفاطمة زَوَّجها النبي لابن عمّه عليّ بن أبي طالب، وهي الوحيدة التي تأخّرت، فماتت بعد النبي بستة أشهر، جاء في الصحيحين من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النبي جمع نساءه في مرضه الذي مات فيه، واستأذن في أن يُمرض عند عائشة في بيتها، فَأَذِنَّ له بذلك. دلَّ على أن القَسْمَ حقٌ للمرأة على زوجها.
تقول عائشة -رضي الله عنها-: فدخلت عليه فاطمة، فَعُرِفَ الفرح في وجهه، دخلت تعوده، فاستدناها وسارها فغبطتها عائشة على هذه المسارة، فبكت فاطمة في أول الأمر، ثم سارها ثانية فضحكت، ولَمَّا قامت سألتها عائشة -رضي الله عنه- ما قال لك النبي ؟
قالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله ؛ لأنه سارها حتى مات ، فأخبرت بعد ذلك أنه سارها أولًا فبكت، فأخبرها أنه لاحق في مرضه هذا بالرفيق الأعلى، أي: ميت في مرضه ذلك، فبكت، عاطفة البنوة على الأبوة، فكيف وأبوها أشرف الخلق وأكرمهم .
ثم سارها ثانيًا فتبسمت وضحكت، فأخبرها أنها أول أهله لحوقًا به. وأين تلحق به؟
في الرفيق الأعلى، وفي هذا البشارة الضمنية لها بالجنة، ولهذا جاء في الصحيحين قوله : «كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ: إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَمَرْيَمُ بنْتُ عِمْرَانَ، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة» أي: بنت .
ثم قال: «وإنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ علَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ علَى سَائِرِ الطَّعَامِ»[3]، والثريد هو خبز البر مخلوط باللحم ومرقه، أطعم طعام عند العرض، يُكرمون به الأضياف، يسمى عندنا "قرصان"، يسمى "فتة" في بعض الجهات، ويسمى "مهبش" في جنوب المملكة، وهو أطعم طعام عند العرب.
وقال في فاطمة: إنها «سيدة نسَاء الْعَالمين».
أكرم بفاطمة البتول وبعلها ... ومن هما لمحمد سبطان
غصنان أصلهما بروضة أحمد ... لله در الأصل والغصنان
وقال:
أكرم بعائشة الرضا من حرة ... بكر مطهرة الإزار حصان
 
رضي الله عنهم وأرضاهم، يا سعدهم في أبوة رسول الله لهم، وفي نكاح النبي لأمهات المؤمنين، يا سعدهن بذلك.
(وَأُمُّ كُلْثُومٍ لَهُنَّ خَاتِمَةْ) بمعنى أنَّها أصغر بناته، وإن تقدَّمت وفاتُها في السنة التاسعة، وقد زوجَها عُثمان، وزوجَ قبلَها رُقيَّة، فصار عُثمان بن عفَّان بن أميّة بن عبدِ شمس بن عبدِ مناف صار يُلقب بذي النورين، ببنتيه اللاتي كُنَّ تحته.
وفيه أنه لا يجوز أن يُجمع بين الأختين إلا ما قد سلَف، فهذا من عقود التحريم على التوقيت، إما بموت الأولى أو بطلاقها وخروجها من عدتها.
هؤلاء بناته، وقد جاء في السنة الغراء، والسيرة العطرة، شأنه معهنَّ، في هشاشته بهنَّ، وكرامته لهنَّ، كانت إذا دخلت عليه فاطمة قام إليها، وقبَّل ما بين عينيها ، هذا طَرَفٌ من شأنه وحاله في بيته وهو أشرف البرية.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (
والطَّيِّبُ الطَّاهِرُ عَبْدُ اللهِ ... وَقِيلَ كُلُّ اسْمٍ لِفَرْدٍ زَاهِي
)
}.
والطَّيِّبُ الطَّاهِرُ عَبْدُ اللهِ ... وَقِيلَ) هذا القول الثاني، كل اسم لفردٍ زاهي أن الطَّيِّب ابن، والطاهر ابن، وعبد الله ابن، والأول منه القاسم، وهذا هو الأظهر والله أعلم، أن أبناءه أربعة، وبناته أربعٌ، فمجموعهن ثمانٍ كلهن من خديجة رضي الله عنها.
رجح بعض أهل العلم أن أبناءه وبناته سبعٌ، القاسم الكبير، والطيب وكان يلق بالطاهر، والثالث عبد الله، والبنات أربع: زينب، ورقية، وفاطمة، وأم كلثوم، وإبراهيم هو الثامن لأولاده، والذي يظهر لي هو الأول.
مات أولاده وبناته كلهم في حياته إلا فاطمة بعد موته بستة أشهر، ولهذا قال:
(وَالْكُلُّ فِي حَيَاتِهِ ذَاقُوا الْحُمَامْ) ما الحُمامُ؟ الموت، ولهذا حوض المنايا، وحوض الحُمام هو الموت.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (
وَالْكُلُّ فِي حَيَاتِهِ ذَاقُوا الْحُمَامْ ... وَبَعْدَهُ فَاطِمَةٌ بِنِصْفِ عَامْ
)
}.
المشهور الحُمام بالضم، وتحتاج إلى المراجعة، هل يكون بالكسر، يعني: الحِمام؟ الله أعلم.
كل أبنائه وبناته ماتوا في حياته ، وفاطمة وهي الثالثة من بناته -بعد زينب ورقية وقبل أم كلثوم- عاشت بعده وحزنت عليه، وصبرت لَمَّا بشرها النبيُّ بأنّها تلحقُ بهِ بعد موته، أول أهلِهِ لحوقًا بهِ، متى ذلك؟ لا يعلم؛ لأنّ نبيّنا لا يعلمُ الغيب، ومواردُ السيرة كلّها تدلُّ على أنّه لا يعلمُ الغيب، وفي القرآن في (ألم) الأعراف، يقولُ الله -جل وعلا-: ﴿وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ﴾، فإن هذا ممن يزعم ويكذب ويفتري على الله أولًا، ثم على رسوله محمد ثانيًا أنه يعلم الغيب، وهذا بحد ذاته كفر مخرج لصاحبه من الملة، إذ عِلمُ الغيب لا يكون إلا لله، ﴿قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ﴾، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾.
لحقت فاطمة -أم الحسن والحسين وأم كلثوم-، وحليلة عليٍّ ابن عمها رضي الله عنهم جميعًا، وهي ابنة رسول الله ، لحقت به بعد موته بستة أشهر، فما زال المرض فيها بعد النبي يزداد إلى ماتَت بعد ستة أشهر وعلي يمرّضُها، وكان لها من عليٍّ ثلاثةٌ من الولد:
الحسن وهو الكبير، وقد مات النبي وله ست سنين ونيف، ثم الحسين، ثم أم كلثوم، ويزيد أهل الأهواء أن لها ابن رابعًا كما تقوله الرافضة وهو محسن، وهذا غير ثابت، وإنما هو من افتراءاتهم التي ليست قليلة على جناب النبوة، وعلى آل بيته .
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (
وَبَعْدَ خَمْسٍ وَثَلاَثِينَ حَضَرْ ... بُنْيَانَ بَيْتِ اللهِ لَمَّا اندَثَرْ
)
}.
هذه ما ذكرناها في اللقاء السابق، (حَضَرْ بُنْيَانَ بَيْتِ اللهِ لَمَّا اندثَرْ) أي انهدم بالسيل العرمرم، فإنه لَمَّا حضر حضره مع أعمامه، يبنون البيت، فلما اختلفت قريش من يرفع الحجر الأسود في موضعه؟ اصطلحوا على أن أول داخل المسجد يتولى ذلك، فوفق الله أن يكون نبينا محمد هو أول داخل، وهذا قبل بعثته بخمس سنين، فرضيته قريش أن يكون هو الذي يتناول هذا الحجر، فيجعله في مكانه، بعد رفعه.
فكان منه الاختيار الموفق أن انتدب من كل بطن من قريش رجلًا، حملوا الحجر في كساء فناوله النبي الحجر من الكساء إلى موضعه الذي هو فيه، وكان في هذا الصلح، وكان الصلح من مكارم أخلاقه وسعيه في هديه ودلّه ، وهو كلُّ ما يُبعِد الشقاق والنزاع، أو يسبِّب الهلكة والقتال.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (
وَحَكَّمُوهُ وَرَضُوا بِمَا حَكَمْ ... فِي وَضْعِ ذَاكَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ثَمْ
)
}.
حكَّموه أنه يضع الحجر في موضعه، أول داخل يرضون أن يكون هو الذي يضع الحجر في موضعه، وحكموه ورضوا بما حكم؛ لأنه حكم بالأمر الذي فيه الشرف تناله قريش، انتدب من كل قبيلة وبطن من بطونها رجلًا، ووضع الحجر بيده في الكسا ثم رفعوه، ثم وضع الحجر من الكساء بعد رفعه في موضعه، وقوله: (فِي وَضْعِ ذَاكَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ثَمْ) أي: في موضعه الآن، وهو ليس كما ابتدعوا في باب الكعبة رفعوه فلا يدخل الكعبة إلا من أرادوا، بل الحجر يستلمه كل مستلم.
والحجر الأسود هو أشرف أركان الكعبة، ولهذا كان للنبي في هديه في استلامه عدة سنن، مجموعها ست أو سبع سنن، جاءت في أحاديث أبي هريرة، وابن عمر، وابن عباس، رضي الله عنهم، وفي حديث جابر أنه طاف بالبيت طواف الإفاضة وَاِسْتَلَمَهُ بِمِحْجن وقبَّل المِحْجن؛ لأنه على راحتله.
وجاء أنه استلمه بيده وقبله وسجد عليه، أَيْ: وَضَعَ عَلَيْهِ جَبِينَهُ.
وَجَاء ثَالِثًا أَنَّهُ قَبَّلَهُ ووَضَعَ عَلَيْهِ خَدَّهُ.
وَجَاء رابعًا: أَنَّهُ قَبَّلَهُ.
وَجَاء خامسًا: أنه استلمه بيده، ولكنه لم يقبل يده كما يفعل العوام، فهذا تزيد وزيادة محدثة بسنة استلام الحجر.
وجاء أيضًا سادسًا: أنه أشار إليه إذا لم يتيسّر استلامه.
فهذه عدة سنن ثبتت عن النبي في الحجر الذي هو أشرف جهات الكعبة، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته اللامية:
وَبِالحَجَرِ المُسوَدِّ إِذ يَمسَحونَهُ
أي: يتمسّحون فيه، فهي مما بقي عندهم من آثار الأنبياء.
والحجر جاء في الحديث «نزلَ الحجرُ الأسوَدُ منَ الجنَّةِ وَهوَ أشدُّ بياضًا منَ اللَّبنِ فسَوَّدَتهُ خطايا بَني آدمَ»[4]، وجاء أيضًا قول النبي في الحجر الأسود: «والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق». من الحق؟
أن يستلمه طاعة لله واتباعًا لسنة نبيه، لا اعتقادًا أن الحجر ينفع، أو يضر، أو يمنح البركة، أو يمنح الشفاء، لا. إنما تستلمه طاعة لله، تبدأ به طوافك واتباعًا واقتداءً بسيدنا رسول الله، ففي صحيح البخاري أن عمر -رضي الله عنه- وقف على الحجر، وقال مخاطبًا له: «واللَّهِ، إنِّي لَأَعْلَمُ أنَّكَ حَجَرٌ لا تَضُرُّ ولَا تَنْفَعُ، ولَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسولَ اللهِ قَبَّلَكَ ما قَبَّلْتُكَ»[5].
فتقبيل الحجر، واستلامه، ووضع الخد عليه، والسجود عليه بالجبهة، والإشارة إليه اقتداءً وتأسيًا بنبينا ، لا أنه ينفع، أو يضر، أو يمنح بركة، أو يشفي مريضًا، أو يروي غليلا، وكما كان هذا الحجر أيضا في جميع البيت، فالبيت لا يشفي مريضًا، ولا يقضي حاجةً، ولا يمنح بركةً، إنما البركة في عبادة الله، وتعبُّده بالطواف به، والصلاة إليه، والاقتداء بالنبي فيما فعله في هذا البيت، من غير غلوٍ فيه، ومن غير إسفافٍ وتفريطٍ في حقه.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (
وَبَعْدَ عَامِ أَرْبَعِينَ أُرْسِلاَ ... فِي يَوْمِ الاِثْنَيْنِ يَقِينًا فَانْقُلاَ
)
}.
 باقي شيء بين الخمس والثلاثين سنة وبين الأربعين ما هو؟ حِلف الفضول، ما هذا الحِلف؟ الذي أقره النبي قبل بِعثته، وزاد بعد بعثته أنه لو دُعي إليه في الإسلام لأجابه.
حِلف الفضول هو حِلفٌ تولى أمره في جمعه سيدٌ من سادات قريشٌ، ومن سادات العرب ومن كُرمائهم، ومن بطن بني تيم رهط أبي بكر الصديق، وهو عبدالله بن زيد بن جدعان التيمي، هو ابن عم أبي قحافة والد أبي بكر، وذلك أن رجلًا من كنده، عاملَ سيدًا شريفًا من أشراف مكة، وهو العاص بن وائل السهمي على المشتهر، وهو: أبو عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فجحد العاص بن وائل السهمي هذا الكندي حقه، وأبى أن يُعطيه رُكُّونًا إلى شرفه وإلى مكانته في قريش، فحاول الكنديُّ حتى عجز، فرقى على جبل "أبي قبيس" أعظم الجبال قُربًا إلى الكعبة، الذي في حُضنه الآن جبل الصفا، الجبيل الأسود الصغير.
فصاح واظلمتاه، فسمعته قريش، وكان أشرافهم في دار الندوة، فسمعه عبد الله بن زيد بن جدعان، فقال: والله ما لهذا مترك؟ أي: ما يترك هذا.
فجمع الناس على جفنته المشهورة -وليمة- وحضر فيها أشراف قريش، وحضرها النبي وعمره يومئذٍ ستٌ وثلاثون سنة، حضرها مع أعمامه، فتحالف حلفًا سمي عند العرب بحلف الفضول، ما مؤداه ومضمونه؟
ألا يأتي أحد إلى أهل مكة مظلومًا بظلامة من أهل مكة أو من غيرهم، يتحققون أنه مظلوم فيها إلا تعاونوا وردُّوا عليه ظلامته ممن ظلمه كائنًا من كان.
إذن هو حلفٌ عظيم، فيه ردُّ المظالم، وهو من كرائم العرب التي جاء الدين وجاءت السنة الغراء البيضاء، وجاء الإسلام بإتمامها، «إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاقِ»[6].
وجاء في صحيح مسلم من حديث عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أنها سالت النبي عن ابن عم جدِّها أبي قُحافة، عن عبد الله بن زيد بن جدعان التيمي، قال : «هو في النار» فتعجبت عائشة، وهو صاحب الجفنة، كريمٌ من كرائم العرب، وصاحب هذا الحلف الذي دعا إليه، قال : «لَقَدْ شَهِدْت فِي دَارِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جُدْعَانَ حِلْفًا مَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهِ حُمْرَ النّعَمِ وَلَوْ أُدْعَى بِهِ فِي الْإِسْلَامِ لَأَجَبْت»[7] إقرارا له، ولكنه لم ينفعه، قال لعائشة: «لا يَنْفَعُهُ، إنَّه لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتي يَومَ الدِّينِ»[8].
إذن العمل الصالح في الدنيا إذا لم يكن متأسسًا على تأسيس الإيمان والتوحيد، فلا قيمة له ولا نفع له في الآخرة وإن نفع في الدنيا.
من كرائم العرب من؟ حاتم الطائي، ما رأيك؟ أحاتم أكرم أم رسول الله أكرم؟
رسول الله أكرم من حاتم، حتى إن سفَّانة بنت حاتم أختي عدي الكبيرة -عَدَي وليس عُدَي- أخته الكبيرة شهدت بأن النبي أكرم من أبيها، كرم نبينا جبلي، وكرم حاتم لأجل الدنيا، قد روى البيهقي وغيره، أنَّ النبي لَمَّا سأله عدي بن حاتم عن أبيه، فقال: «إنَّ أباكَ أرادَ شيئًا فأدرَكَه» طلب شيئًا فأدركه، طلب الذكر والمدح والثناء وأدركه في الدنيا، والله لا يظلم أحدا، وفي آية سورة هود -في أوائلها- يقول الله -جل وعلا-: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا﴾ أي: في الدنيا ﴿وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ﴾ لا يلحقهم ضيم ولا نقص ﴿أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ إذا كان فعلهم هذا لغير الله، أو تقربًا لغير الله، أو فيه شائبة الرياء والسمعة.
فنبيُّنا إلى الخير والفضائل مُسابق، ولهذا جاء بالإسلام متممًا لمكارم الأخلاق، الكرم، نصرة المظلوم، عون المكلوب، إغاثة الملهوف، الكرم، الشجاعة، القيام بنوائب الحق، كل نائبة الحق يقوم بها، جاء ديننا بإتمامها وإكمالها، لا بنفيها ولا بإسفافها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (
وَبَعْدَ عَامِ أَرْبَعِينَ أُرْسِلاَ ... فِي يَوْمِ الاِثْنَيْنِ يَقِينًا فَانْقُلاَ
)
}.
بعد الأربعين، لَمَّا تم له أربعون سنة، أرسله الله -جل وعلا- إلى الناس بهذه الرسالة الغراء، بأشرف دين وأكمله، بأعظم رسالة وأتمها، بالدّين الذي رضيّه الله لنا أن نتعبده به، ولهذا قال في آية سورة المائدة: الذي أنزلها على نبينا يوم عرفة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ هذه واحدة ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ هذه الثانية: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ أي تتعبدوني فيه، وتتدينون إليّ به.
بَعَثَهُ اللَّهُ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ، لَمَّا تَمَّ أَرْبَعِينَ بَعَثَهُ، وفيها إلماعة أنَّ سنَّ الأَرْبَعِينَ سِنَّ الأَشُدِّ، ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيَ﴾ وهو مُفارقة لسني الشَّباب وفورانه، وإقبال لسن العقل ووفوره، وأوجي القوة قبل ضعف أركانه وأدواته وأعضائه، وكان قبل بِعثته بالأربعين يأنف مما عليه أهل مكة من الشرك، وتعظيم الأصنام، واتخاذ الشفع والوسائط إلى الله في العبادات، يأنف من ذلك، يصف الكاتبون لسيرته وسنته، أنه كان يخرج مع مولاه زيد بن حارثة -الحب- وأنه خرجَ هو وإياه مرةً إلى جهة التنعيم، مبتعدين عن عمل أهل مكة في شركهم، وكان رسول الله ومولاه زيد يشتوون شواءً، يعني كشته بريّة، رحلة إلى البر، فمر بهم "زيد بن عمرو بن نفيل"، أبو الصحابي الجليل: "سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل"، وكان "زيد بن عمرو بن نفيل" مُناكفًا لأهل مكة في شركهم، يرفض اتخاذهم الشفعاء والوسطاء مع الله، فأقبل والرسول ومولاه زيد يشتوون الشواء، فقال لمولاه زيد: قم إلى هذا الرجل، إلى زيد بن عمرو، وادعه يطعم معنا، كريم نفس، كريم يد .
فقام إليه يدعوه -مولاه زيد بن حارثة-، فعرف أنه من أهل مكة، وظنَّ زيد عمرو بن نفيل أنَّ زيد بن حارثة والنبي على طريقة أهل مكة. قال: أنا لا أطعم مما تطعموه؛ لأنهم كانوا يذبحون على النصب، وظنَّ أن رسول الله ذبح على النصب مثلهم، هذا مما كان من هذا الأمر.
كان قبيل البعثة وهذا من إرهاصات بعثته حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يخلُ ويذهب إلى غار بعيد عن مكة يرى منه الكعبة، وهو في مكانه، في جبل سمي بجبل النور شرقي الكعبة، والغار غار حراء، وكانت خديجة -رضي الله عنها- تُعينه، وتزوده لمثلها، فيبقى الليالي ذوات العدد يتحنث ويتعبد في هذا الغار، بعيدا عن أهل مكة وشركهم ومظاهر إشراكهم بالله. ومظاهر الشرك كانت كثيرة، والأصنام منها، والدعاء واللجأ إلى غير الله منها، الطواف بالبيت عريانا منها، يطفون بالبيت تعظيمًا لله ويشركون معه غيره، ابتعد عنهم ، ويتحنث في هذا الغار.
وكلما نفد ما عنده نزل، فهيئته خديجة لمثلها، فيرجع إلى غاره الليالي ذوات العدد، حتى أراد الله أمره، وشرف نبيه وشرف أمته، وبعث إليه جبرائيل، فضمه في الغار، حتى خشي النبي على نفسه، ضمه وقال: اقرأ. فقال النبي : ما أنا بقارئ، فأرسله ثم ضمه ثانية فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ. لأن نبينا لا يقرأ ولا يحسب، ولا يكتب، ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (49) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ﴾.
فضمه الثالثة فقال: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، فأنزل الله عليه: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾، ثم أرسله وارتفع عنه، فنزل النبي خائفًا مرتعبًا، خشي على نفسيه، حتى ذهب إلى أُنسه، ذهب إلى بيته، إلى خديجة، إلى زوجه، ورأت الرعب والخوف الشديدين في مُحياه الشريف، في جبينه الأزهر ، فأخبرها الخبر، وهكذا يظهر الرجل مهما كان في فحولته ورجولته سره وخوفه إلى أحب الناس له.
فقصَّ عليها ما جرى له في الغار، فقالت -رضي الله عنها- مُوثِّقةً شأن النبي رابطة من جأشه، مستدلة بأن الله -عز وجل- لا يضره، بل ينفعه ولا يخزيه أبدا، فَقالَتْ له: «كَلَّا، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ»[9]، استدلت بهذه الخمس أنَّ النبي لا يخزيه ربه، لبث ما لبث وسكنت نفسه.
ثم جاءه مرة أخرى، الأولى منبئا له بـ (اقرأ) ثم جاءه مُرسلا له (بالمدثر) ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾؛ لأنه نزل فقال: «زملوني زملوني، دثروني دثروني» مما فيه من الخوف والشدّة، ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ﴾ أي: فعظِّم ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ﴾ أي: الشرك والأصنام ﴿فَاهْجُرْ﴾ فقامت هذه المهمة العظيمة، مهمة الدعوة إلى الله من نبيه محمد بهذه الحال.
لو غير نبينا لسقط مغشيًا عليه من الأمر العظيم الذي لا يُطيقه، وربما انخلع قلبه، أو طار عقله، أو مات، ولكن ربي ربط عليه، ومن أسباب ربط الله على نبيه وهدايته وحفاوته به: أمنا خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (
فِي رَمَضَانَ أَوْ رَبِيعِ الْأَوَّلِ ... وَسُورةُ اقْرَأْ أَوَّلُ الْمُنَزَّلِ
)
}.
قال: (وَبَعْدَ عَامِ أَرْبَعِينَ أُرْسِلاَ) أي: أرسل بالمدثر، ونبئ بـ (اقرأ)، بالمدثر فيها الأمر بالدعوة، ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾، والنبوة: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾، أُرسلَ وكان الإرسال في يوم الاثنين (يقينًا فانقُلَه)، من أين الدِّلِيل على أنَّه كان في يوم الاثنين؟
لما سبقَ أن أورَدناه في حديث أبي قتادة الأنصاري -رضي الله عنه- الطَّويل، والذي خرجه الإمام مسلم في الصحيح، أن النَّبيَّ سُئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: «ذاك يومُ ولدت فيهِ، وبُعِثتُ أو أُنزلَ عليَّ فيهِ» فخصيصة هذا اليوم في أنه يوم الميلاد، ميلاد النبي ، وأنه يوم ابتداء البعثة والرسالة له.
(أنزل عليه) أي: الوحي، (وبُعث فيه) كما جاء في اللفظين في صحيح مسلم.
وهل كان ذلك في رمضان أو في ربيع الأول؟
قولان شهيران عند أهل السيرة، ورمضان ليس شهر صيام ذاك الوقت؛ لأنه لم يشرع صيام رمضان دينًا إلا في السنة الثانية من مهاجره إلى المدينة ، والله يقول: شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وهذا أظهر القولين؛ لأنه قال:
(فِي رَمَضَانَ أَوْ رَبِيعِ الْأَوَّلِ ... وَسُورةُ اقْرَأْ أَوَّلُ الْمُنَزَّلِ)
{أحسن الله إليكم.
قال -رحمه الله تعالى-: (
ثُمَّ الْوُضُوءَ وَالصَّلاَةَ عَلَّمَهْ ... جِبْرِيلُ وَهْيَ رَكْعَتَانِ مُحْكَمَةْ
)
}.
لَمَّا أنزل الله عليه هذا القرآن، ابتدأ نبوته بـ (اقرأ) ثم بالرسالة بـ (المدّثر) فبقي ما شاء الله على هذا الأمر، يدعو عشر سنين إلى توحيد الله، ودعوته إلى توحيد الله، أي: إلى قول: "لا إله إلا الله" بدأت سرية، حتى تكاثر أصحابه شيئًا فشيئًا.
أول من دعا أبا بكرٍ فآمن، ودعا عليًّا فآمن، ثم دعا عثمان فكان رابع أربعة، وابن مسعود، وتتابع هؤلاء في السابقة.
يقول ابن سعود -رضي الله عنه- فيما رواه الإمام البخاري في صحيحه، كنا مع النبي في غار في منى -هذ في حال الدعوة السرية- وأظن ذلك قبل أن يكثروا في دار الأرقم ابن أبي الأرقم، فأنزل الله عليه سورةً، فقرأها علينا وإني أتتبع فاه في قراءتها، ﴿والمرسلات عُرفًا﴾. إذًا كانوا يختفون في الغيران في الشعاب.
ثم بعد هذه العشر سنين، كلها دعوة إلى التوحيد، سرية ما شاء الله، ثم نزل الأمر بأن يجهر ويصدح بدعوته ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾، فأعلنها ذلك الإعلان المهيب العظيم، لَمَّا رقى على الصفاء، وهو أقرب الجبال إلى الكعبة، فنادى قريشًا بطنًا بطنًا، يا بني فلان، يا بني فلان، ثم نادى قومه ورهطه في بني عبد المطلب، يا صفية بنت عبد المطلب -عمته-، يا عباس بن عبد المطلب، يا فاطمة بنت محمد، اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، لو أخبرتكم أن وراء هذا الجبل عِيرا تريدكم أمصدقيَّ أنتم؟
قالوا: ما عهدنا عليك كذبا، قال: «أنا النذير العُريان» قُولُوا: "لا إله إلا الله تُفلِحُوا". فقال عمه عبد العزَّى أبو لهب: تبًّا لك ألهذا جمعتنا؟ كانت قريشا سمعت بهذه الدعوة، ولكنها لم تتبيّنها، وأنزل الله فيه ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾.
ثم بعد التوحيد نزل الأمر بالوضوء؛ لأن الله قال: ﴿وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ﴾ تطهير للشرك، فتطهير الظاهر دلالة على طاهرة الباطن.
(ثُمَّ الْوُضُوءَ وَالصَّلاَةَ عَلَّمَهْ) جبريل علم نبينا الصلاة، كيف يُصلِي، والصلاة في أول الأمر كانت ركعتين في الغدو وفي العشي، حتى نزل فرض الصلاة، بل لم ينزل فرض الصلاة، ارتفع النبي في معراجه إلى ربه، فافترض عليه هناك في العلو، ﴿إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى﴾، وبلغ إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام، وخاطبه ربه بغير واسطة، من غير أن يرى نبينا ربه؛ فرض عليه الصلوات الخمس، فيما يأتي الإشارة إليها في قصة الإسراء والمعراج.
علَّمَه فيها جبريل وهي: ركعتان مُحكَمة في أول الأمر، قبل أن تُشرع صلاة الفجر، ثم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء، فكانت ركعتان مُحكَمة، ثِنتان في أول النهار، وثِنتان في آخره صلوات الله وسلامه عليه.
{أحسن الله إليكم.
نستأذِنكم في الوقوف على هذا الموضع}.
لا بأس، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد، صلاة وسلامًا أبدين دائمين، تُنعِمُ بها علينا بشفاعته لنا، وتُوردنا حوضه، وتحشرنا في زمرته، وتسقينا من يده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبدًا، وتجعله قائدنا إلى عوال جنانك، إلى فردوسك الأعلى، لنا ولكم ولوالدينا ووالديكم ومشايخنا وولاتنا وذرارينا ولجميع المسلمين والمسلمات. اللهم صلِّ وسلِّم على خير الرسل، وأشرف البريات، .
{اللهم أمين. شكر الله لكم فضيلة الشيخ، وبذلك نكون قد انتهينا من حلقة اليوم، ونستودعكم الله تعالى إلى حلقة قادمة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
-----------------------
[1] متفق عليه.
[2] أخرجه البخاري (110)، ومسلم (2134).
[3] أخرجه البخاري (3411)، ومسلم (2431).
[4] أخرجه الترمذي (877)، والنسائي (2935)، وأحمد (2796)، وابن خزيمة (2733).
[5] رواه البخاري ومسلم.
[6] أخرجه أحمد (8939)، والبخاري في (الأدب المفرد) (273).
[7] ابن هشام: 1/133
[8] أخرجه مسلم (214).
[9] أخرجه البخاري (6982).

المزيد إظهار أقل
تبليــــغ

اكتب المشكلة التي تواجهك